عودةالى الصفحة الرئيسية 

 

الاستاذ السيّد حسن الابطحىّ عالم الارواح العجيب ترجمة
ناصر النجفى

المقدّمة

كانت تراودنى - منذ كنت فى سنّ الخامسة عشرة والى الا ن ، ومنذ مسكت القلم لابدا بكتابة هذه السطور - فكرة هى مـن اهـمّ الامـور الّتـى صـرفـت فـيـهـا عـنـايـتـى ، وبـذلت مـافـى وسـعـى ، وحـقّقت بصددها فى النوادى العلمية والمحافل الدينيّة ومظانّ البحث ، الا وهى فكرة الرّوح والا حاطة بها .

وخـلال هـذه الحـقبة المديدة لم آل جهدا فى الاطّلاع على آراء الفلاسفة المثاليين والمادّيين ، والوقوف على فحوى كـلام عـلمـاء المـدارس المـخـتلفة ، وبحث اقوال علماء الرّوح فى هذا المضمار بدقّة متناهية . وقد افترّ الامر لى عن حـقـيـقـة انّ مـعـرفـة الرّوح وكـيـفـيـّة مـعـيـشـتـهـا وبـيـان صـفـاتـهـا ، تـنـجـلى مـن خـلال احـاديـث الرّواد الاوائل للاديان والمذاهب السماوية واقوال الاولياء وآراء من زكّى نفسه ، وطهّر روحه من لوث الشـيـطـان ، واعـرض عـن هـمـزاتـه ولمـزاتـه . اجـل ، يـنـبـغـى رؤ يـة الرّوح خلال مرآة آثار وتجارب اولئك الّذين اصفوا اذهانهم تماما من الفلسفة الّتى تمحّلها علماء الرّوح .

وقـد خـطـوت خـطـوات حثيثة فى هذا الدرب لمتابعة هذه الغاية ، فبلغت - بعون اللّه - الغرض الاقصى ؛ إ ذ رايت جـمـال الرّوح الرائق وحـسـنـهـا الفـائق ، مـن خـلال مرآة شفّافة ، وساءصفها لك - عزيزى القارى - فى طيّات هذا الكـتـاب ، ضـمـن ثـلاثـة فـصـول ، هـى مـنـازل الرّوح الثـلاثـة الّتـى عـاشـت ولا زالت تـعـيـش فـيـهـا وهـذه الفصول هى :
1 - الرّوح قبل هذا العالم .

2 - الرّوح فى هذا العالم .

3 - الرّوح بعد هذا العالم .

وساءتغاضى عمّا دوّن وقيل حول كلّ من هذه المراحل الثلاث ، واركّز خلالها على المرآة الشفّافة الّتى توصّلت إ ليـهـا طـيلة هذه المدّة ، ورايت بها صورة الرّوح الرائعة وماهيتها الناصعة ؛ لتنعكس على شاشة فكرك القويم ، وصفحة عقلك السليم ، ايّها القارى الكريم .

فـإ نـّك حـيـنـمـا تـرى وجـهـك فـى المـرآة تـسـتـغـنـى عـمـّن يـصـفـه لك ، فامل ان تعرف روحك من آثارها ، وتستغنى ايضا عن شرح العلماء والفلاسفة ، وتضرب عن تفسيرهم صفحا حينما تطالع هذا الكتاب .

واودّ ان اشـيـر هـنـا الى انّ فـريـقـا مـن القـرّاء بـعـثـوا الىّ رسـائل تـفـصـح عـن امـور عـجـيـبـة حـول الرّوح إ بـّان نـشـر كـتـبـى الثـلاثـة :
" مـعـراج الرّوح " و" بـيـن يـدى الاسـتـاذ " و" سـيـر الى اللّه " .

ولعـّل كـثـيـرا مـن مـحتويّات هذا الكتاب مستقاة من هذه الرّسائل ؛ ولكن ممّا يؤ سف له هو انّى لا استطيع ان افصح عن حقيقة محتوى بعض الرّسائل ، لانّ اغلب اصحابها إ لتمسوا منّى كتمان اسرارهم ، وإ ضمار حالاتهم الروحية تماما . ولهـذا تـصـرّفـت فـيـهـا تـصـرّفـا ما ، الامر الّذى حدابى الى ان انصرف عن تاءليف هذا الكتاب ، ولكنّ بعض اصـحـاب الفـضـيـلة اخبرنى باءنّه لاضير من إ ماطة اللثام عن هذه الاسرار إ ن كنت آمن بمحتواها وعظيم اثرها فى نـفـوس القـرّاء ؛ إ ذ تـجـب المـبـادرة الى بـثّ مـواضـيـع كـهـذه بـهـذا الاسلوب ، تلبية لمطالبهم إ ن كانت تترك بصماتها على نفوسهم ، وإ ن لم يكن هناك حافز كهذه الرّسائل .

وإ نـيّ اضـع الكـتـاب بـيـن يـديـك عـزيـزى القـارى ، راجـيـا مـنـك ان تـضـع نـصـب عـيـنـيـك المـثـل المـعـروف " الخـيـل تـجـرى عـلى مـسـاويـهـا 

فـى جـمـيـع فصول الكتاب ؛ حتّى اكون فى حلّ من تهذيب الفاظه وتشذيب اوابده . وان تصبّ جلّ اهتمامك فى مطالبه العلمية ؛ لكى تسبر غور الرّوح وكنهها من آثارها الوجوديّة .

ومـن الجـدير بالذكر انّى شحذت نيّتى ، واكّدت همّتى فى هذا الموضوع ، وكذا فى كتبى الاخرى ، ممّا اقتضى عدم الاعتماد على ما يكتبه القرّاء إ لىّ ؛ إ ذ إ نّ ذاكرتى لا تسعفنى فى حفظ النصوص الواردة فى كتبى وتذكّر مـواضـيـعها ، فاءضطرّ مرغما الى التسليم بهذا الامر - اى عدم الاعتماد على الا خرين - لابرّى ذمّتى امام اللّه ولا اقـول الاّ الحـقّ . بـيـد انـّى بـذلت وسـعـى وطـاقـتـى ، وحـاولت جـهـد اسـتـطـاعـتـى ان اذكـر المـسـائل العـقـائدية والقضايا العلمية لكتبى بشكل سليم تماما لاشائبة فيها . واعدّ ذلك حجّة بينى وبين اللّه ، وانّى لم اكتب قط ولا اكتب ابدا فى كتبى شيئا ولو يسيرا خلاف ما اعتقد به ، وقد دعمت جميع ما كتبته باءدلّة دينية وبراهين علمية .

الرّوح قبل هذا العالم

انّ اكـثـر الدراسـات إ ثـارة للجـدل هـى تـلك المـتـعـلّقـة بـالرّوح قـبـل هذا العالم ، وانّى ارى انّها كانت فى ذلك العالم وعاشت فيه . وهناك فريق من الفلاسفة وعلماء الرّوح الذي يـقول بحياتها آنذاك يعتقد بالتّناسخ ، فهم يقولون :
انّ روح الانسان فى العوالم الماضية قد حلّت باءجسام مـخـتـلفـة حـيـنـمـا اقـامـت فـى الدّنـيـا ورحـلت عـنـهـا ، واسـتـمـرّت عـلى هـذا المـنـوال مـرارا وتـكـرارا حـتـّى وصـلت الى الكـمـال ، ومـن ثـمّ تـحـرّرت . وليـس لهـؤ لاء اىّ دليـل يـؤ يـّد مـدّعـاهـم سـوى مـا تـوصـّلوا اليـه بـواسطة التنويم المغناطيسى ( Hypnotism ) الّذى تحوطه الشكوك ، والحال انّ ادّعاء بحجم كهذا ينبغى ان يكون اقوى استدلالا وحجّة .

وفـى الاسـلام اطـلق على ( عالم الارواح ) - الّذى &كانت مدّته الفى عام - اسماء عديدة ، واطلق على عالم آخر ايضا اسـم ( عـالم الذّر ) . وقـد اخـذ اللّه تـعـالى فـيه العهود والمواثيق من الارواح ؛ لتبنّى العقائد السليمة وإ نجاز الاعـمـال الصـالحـة .

وتـكـلّم اقـطـاب المـسـلمـيـن عـلى اخـتـلاف فـرقـهـم مـن سـنـّة وشـيـعـة حـول تـرتـيـب هذه العوالم ، فقالوا :
خلق اللّه تعالى ارواح البشر حرّة طليقة بعدد ابناء آدم الى يوم القيامة ، وخـلق لهـذه الارواح بـعـد الفـى عـام ابـدانـا صـغـيـرة مـثـل ذرّات مـتـنـاهـيـة فـى الصـغـر ، ولكـنـّهـا بـشـكـل ابـدان الدنـيـا ، ثـمّ وضـع الارواح فـى الابـدان ، وسـمـّى العـالم الاوّل باسم " عالم الارواح " ، والعالم الثّانى باسم " عالم الذّر " و" عالم الميثاق " .

وقد نقل الفخر الرازى عند تفسير الا ية ( 172 ) من سورة الاعراف

روايتين بسند صحيح - بحسب رايه - عن الرّسول الاكرم ( صلى اللّه عليه و آله ) انّ اللّه تعالى حينما خلق آدم مسح ظهره ، فخرج جميع ذريّته بصورة ذرّات من ظهره من ذلك الوقت الى يوم القيامة .

ونقل المجلسى رحمه اللّه فى كتاب التوحيد ، الباب الحادى عـشـر ، وفـى كـتـاب الايمان والكفر ، الباب الثالث من كتاب بحارالانوار والحويزى

والبحرانى

عشرات الروايات الّتى تسند هذا الموضوع .

وطبق ما تدلّ عليه تلك الروايات وما يعتقد به جمع غفير من علماء الشيعة والسنّة فانّ اللّه تعالى قد خلق ارواح البشر قبل الفى عام من خلق الابدان الذّرية للبشر ، وكانت بعدها فى " عالم الذّر " .

وحـيـنـمـا خـلق اللّه تـعـالى آدم - او قـبـله - كـان له بـدن ذرّى كـالّذى عـليـه شـكـل الانـسان اليوم ، الاّ انّه كان صغيرا جدّا . وعاشت الرّوح بعد ذلك الحين وما تلاه بالبدن الذرّى فى " عالم الذرّ " كـمـا نـعـيـش اليـوم بـبـدن العـالم الدنـيـوى هـذا . وكـانـت الارواح - آنـذاك - تـتـعاشر بينها وتتصاحب كما نفعل اليوم ، وتعيش حرّة مختارة كما نعيش اليوم احرارا فى اختيار المسلك الّذى نرتئيه .

وتفيد الا يات والروايات المارّة الذكر انّ ارواح البشر تاءلف فى هذا العالم من صادفتهم فى ذلك العالم ، وإ ن كانت قد نسبت اين راتهم وكيف .

وقـال الشـيـخ الصـدوق ( قـدّس سـرّه ) فـى كـتـاب الاعـتـقـادات قـال الامـام الصـادق ( عـليـه السـّلام ) :
" انّ اللّه تـعـالى آخـى بـيـن الارواح فـى الاظـلّة قبل ان يخلق الابدان باءلفى عام  

وقـال النـّبـى ( صـلى اللّه عـليـه و آله ) :
" خـلق اللّه الارواح قـبـل الاجـسـاد بـاءلفـى عـالم ، ثـمّ اسـكنها الهواء ، فما تعارف منها ثَمّ ائتلف ههنا ، وما تناكر ثَمّ اختلف ههنا

امّا الحوادث والوقائع الّتى تعضد هذه النظرية فهى كثيرة ، ونكتفى هنا بسرد بعض النمادج منها .

          الارواح والاشياء النورانيّة

          

نـقـل احـد العـلمـاء والكتّاب الكبار قائلا :
ارقت ليلة من الليالى على الرغم من كونى مرهقا تعبا ، وحاولت النوم فلم افلح ، فنهضت من فراشى ومشيت الى مكتبتي لاطالع ، تضمّ مكتبتى بعض الكتب الّتى تتحدّث عن الروح ، وكنت اراجـعها فى البحث عن الرّوح وآثارها وصفاتها ؛ امعانا منّى فى القضايا الرّوحية . وفجاءة جلب انتباهى صوت خـارج الغـرفـة يـشبه صوت عصافير تتنازع بينها ! خرجت من الغرفة صوب ساحة البيت ، كان الظلام حالكا ، فـرايـت فـى شـرفة البيت الكبيرة اربعين او خمسين شيئا نورانيا تقريبا يشبه شرر النار ، تناثرت هنا وهناك على غير هدى ، ولاريب فى انّ الصوت الّذى طرق سمعى قد انبعث من هذه الاشياء .

وظـنـنـت اول وهـلة انـّى اتخيّل او ارى حلما ، فطفقت افرك عينىّ واحرّك اعضائى وتيقّنت اخيرا انّ الاّمر لم يكن على ما تـوهـّمته ، فقعدت برهة فى الشرفة وانا احدّق النظر فى هذه الاشياء . وفى هذا الاثناء رايت زوجتى تقف جنبى بغتة فجفلت ، فحينما افتقدتنى فى فراشى جاءت على اثرى ، وخصوصا انّها تعلم انّى احسّ بارهاق وحالتى ليـسـت عـلى مايرام ، فراتنى مبهوتا بهذه الاشياء ، فقلت لها :
انظرى الى هناك ! اترين ما ارى ؟ قالت :
ما هذه الاشياء النورانية المتبعثرة ؟! وفى هذا الاوان اتّجه احدها صوب زوجتى ! وهى بدورها فتحت فمها قسرا وابتلعته ، وتوارت سائرها عن انظارنا فقلت لزوجتى :
لماذا ابتلعتيه ؟! قـالت :
مـا ادرى مـا تـقـول ! إ نـّى تـثـاءبـت فـحـسـب ! إ ذ حينما فتحت عينىّ بعد التثاءب لم ارها ! قلت لها :
الم تشعرى بدخول احد هذه الاشياء النورانيّة فى فمك وابتلاعك إ يّاه ؟! قالت :
نعم لم اشعر بذلك ، سوى نفحة هواء باردة ، ونشوة طيب تضوّعت فى فمى ، ولكن احسب هذا امرا ماءلوفا .

وكنت فى تلك اليلة وفى الليالى الماضية وماتلاها منكّبا على مطالعة المواضيع الروحية ، وكانت زوجتى آنذاك حبلى ، وقد مضى على حملها اربعة اشهر . فقلت فى نفسى :
لعلّ هذا الشى النورانى هو روح الجنين الهاجع بين احشاء زوجتى ، ولابدّ لها من الالتحاق بالجنين فى هذه الايّام ؛ اذ انّ روح الجنين تحلّ فى بدنه بعد اربعة اشهر .

واصـبـح هـذا المـوضـوع شـغـلى الشـاغـل لعـدّة ايـّام ، ولم اعثر على تفسير له عند من حدّثته به من علماء الروح ، ولكنّى احدس انّ هؤ لاء يحتملون ذلك ايضا .

وبـعـد مـرور اربـعـة اشـهـر عـلى تـلك الحـادثـة رايت تلك الاشياء النورانيّة ثانية فى منامى ، وقد تجمّعت فى شـرفـة مـنـزلنـا وهـى تصدر اصواتا عجيبة ، بيد انّ اشكالها هذه المرّة كاءنّها اناس نورانيّون صغار ، وكاءنّى افـهـم كـلامـهـم

. وكان يقول احدهم للا خر :
سيؤ وب " حامد " الى جمعنا وسيفرح بذلك . وكان لى صديق اسـمـه " حـامـد " رحـل الى الرفـيـق الاعـلى عـلى اثر حادثة دهس فى سيّارة ، وكنت قد قرّرت ان اسمّى ولدى بهذا الاسم ان كان المولود ابنا ؛ احياء لذكرى صديقى " حامد " .

فهزّت هذه العبارة كيانى وانتبهت من النوم مرعوبا ، فرايت زوجتى تئنّ فى نومها ، وفجاءة وقع نظرى على ذلك الشـى النورانى يخرج من فم زوجتى وهى نائمة ويذهب نحو الشرفة ! فانطلقت مسرعا اقفو اثره ولكنّى لم ارَ شـيـئا . وفـى هـذا الحـين استيقظت زوجتى من النوم وهى تحسّ باءلم الطلق على الرغم من بقاء شهر واحد على موعد ولادتـهـا ، فـهرعت بها الى مستشفى الولادة ، فولدت فى نفس الليلة - بعد عسر شديد - ابنا ميّتا . وايقنت بعد مـشـاهـدة هاتين الحادثتين بوجود عالم للارواح قبل عالمنا هذا ؛ اذ اضحيت لا اصدّق بتاتا - بعد ما رايت باءمّ عينى - اىّ تخريج وتاءويل يغاير ما ذكرته .

          فداك ابوك يا ولدى

          

كتب الىّ السيّد الدكتور " س " استاذ احدى الجامعات الايرانية حكاية تشبه الحكاية السابقة .

رايت فى المنام انّى متزوّج ولى ابن ، وذلك حينما كنت طالبا يافعا لم يتجاوز سنّى سبعة عشر ربيعا .

وكان الولد خال كبير على خدّه الايسر ، وهو ازبّ الحاجبين اقرنهما ، غليظ الشفتين ، اقنى الانف ، دمث الخليقة . وقد تـعـلّقـت بـه تـعلّقا شديدا ؛ بحيث انّى حينما انتبهت من النوم وادركت انّ ما رايت كان حلما ولم يتسنّ بعد ذلك رايته اجهشت بالبكاء . وفى الليلة التالية رايت عين الطفل فى الحلم وهو يهتف قائلا :
بابا ، بابا ، واتّجه نحوى راكـضـا ، فـضـمـمـتـه الى صـدرى وانـا مسرور ؛ لانّى رايت ابنى ثانية . ولكن حينما استيقظت من النوم تشعّبتني الهموم وتقسّمتنى الغموم ، فجلست اذرف الدموع وانا انشج نشيجا عاليا ، حتّى استيقظ والداى من نومهما وساءلانى عـن عـلّة بـكـائى ، فـقـصـصـت عـليـهـمـا حـلمـى عـلى الرغـم مـن كـونـى اشـعـر بخجل شديد من سرد حلمى لهما ، ولكن كان يحدونى امل على ان يبادرا الى زواجى ؛ لكى انجب ذلك الولد .

الاّ انّ امـلى ذهـب ادراج الريـاح ؛ اذ اظـهـرا عدم اكتراثهما لهذا الامر وعدم مبالاة به ، وقابلانى باستهزاء وسخرية وهما يقولان :
لازال الزواج بالنّسبة اليك مبكّرا جدّا ، لاتشغل بالك بهذا الامر ابدا ، ثابر على مطالعة دروسك ، ثمّ تركانى وحيدا - متجاهلين رغبتى - وانصرفا .

بيد انّ ولهى بالولد كان شديدا ، فهو لايغيب عن مخيلتى لحظة واحدة ، وما استطعت تلك الايام استيعاب دروسى ، فرسبت فى الامتحانات بعد ان كنت طالبا متفوّقا فى دروسى ؛ لانّ ما جرى لى قد صادف ايّام الامتحانات . وبعد مـضـىّ شهر واحدعلى ذينك الحلمين ، كنت اذرع ساحة البيت ذهابا وايابا فى وقت متاءخّر من احدى الليالى والهدوء يـطـبق على المكان ؛ اذ كان بيتنا بعيدا عن ضوضاء الطريق وصخب المارّة . وكان الولد ممثَّلا لناظرى ، ومتصرّفا بـيـن خـواطـرى ، وفـجـاءة سـمـعـت صـوتـه يـنـبـعـث مـن احـدى زوايـا البـيـت وهـو يـصـيـح :
بـابـا ، بابا . حسبت اوّل الامـر انـّى ارى حلما ايضا ، ولكن حينما اصخت اليه جيّدا تبيّن لى انّى يقظان ، فصرخت بدون شعور :
فداك ابوك يا ولدى ! وهرولت نحو مصدر الصوت ، الاّ انّى لم اسمع غير صدى تلاشى بسرعة . وفى صباح اليوم الثـانى عرضنى والداى على طبيب نفسي بعد ان اطّلعا على ماحدث لى الليلة البارحة ولمسا تغيّرا فى سلوكى خـلال شـهـر . وامـعـن الطـبـيـب فـى فـحـصـى سـاعـة واحـفـى فـى السـؤ ال ، ثـمّ قـال لوالدىّ :
انّ هـذا الشـابّ تعلّق بالطفل الّذى رآه فى المنام وهواه ، وانجع دواء لعلاجه هو الزواج ، رجـاء ان يـرزق طـفـلا ويـشـفـى غـليـله . فـثـلج بكلام الطبيب صدرى ، وسرى همّى ، واسلى غمّى ، وعبّرت عن ذلك بايماءة براسى ، الامر الّذى اثار امتعاض والدىّ وسخطهما علىّ ، لما ابديت جراة متناهية امام الطبيب .

واتّضح لى فيما بعد انّ ابى وامىّ قد صرفا فى هذا الامر عنايتهما ، فقرّرا ان يخطبا لى فتاة ، الاّ انهما كانا يـتـريـّثـان فـى مسيرهما ويتلبّثان فى سيرهما . والحقّ معهما ؛ لانّ الوقت لم يحسن بعد لزواجى ، لصغر سنّى وعـدم اكـمـال دراسـتـى وصـفـر يـدىّ ، كـمـا انـّى اصـبـحـت كـمـعـتـوه بـه لمـم ؛ لولعـى بالطفل وتمثيله لعينىّ دوما .

وكـنـت انـهض من فراشى واخرج من غرفتى بعد تلك الليلة عندما ياءوى والداى الى فراشهما ، واتوجّه الى نفس الزاويـة كـلّ ليـلة ، واتصوّر كيف سمعت صوته بوضوح وهو يردّد باءعلى صوته :
بابا ، بابا . وكيف اجبته بـشـوق وحـرارة :
فـداك ابـوك يـا ولدى ! وكيف ضممته الى صدرى ، واحتضنته وناغيته برهة ، كما يحتضن الاب ابـنـه ويـنـاغـيـه . وفـى ليلة من ليالى الجمع ذهب ابواى لزيارة بعض الاصدقاء ، وبقيت انا وحيدا فى البيت ؛ لكـى ازاول مـا اعـتدته بحرّية ، كما انّهما يستنكفان ان يصطحبانى معهما لما اعانيه . فخلالى الجوّ ، فذهبت على عادتى الى زاوية البيت ، واذا بصوت الطفل يشنّف اذنىّ ثانية ، مع شبح ملامحه التي رايتها فى الحلم مرتسمة عـلى الجـدار وهـو يـنـاديـنى ، فاءسرعت نحوه فى الظلام ، فارتطم راسى بالجدار بشدّة ، فسقطت على الارض مغشيّا علىّ .

وحـيـنـمـا عـاد والداىّ الى البـيـت رايـانـى مـلقـى عـلى الارض مـغـشـيـّا عـلىّ والدمـاء تـسـيل من راسى ، وانا اردّد باستمرار :
فداك ابوك يا ولدى ، فرثيا لحالى وجزعا . ولمّا افقت رايت امّى تذرف الدموع علىّ حتّى احرقت ماقيها .

فـتـاءهـّبـا بعد هذه الحادثة لزواجي باءسرع وقت ممكن ، وقرّرت ان اكبح ما استطعت جماح صبابتى بالولد ؛ لما اصابنى من الكدّ والتعب ، ونالنى من الجهد والنصب ، وعزمت على اغضاء جفنى عنه . ولكن امسى ما ازمعت عليه هواء فـى شـبـك ؛ اذ تـفـاقـم امـره واعـتلى ، واستفحل واستشرى ؛ فكنت ارى الشبح فى الزاوية كلّ ليلة ، واصغى الى صوته والاطفه حينا كما يفعل الوالد مع ولده ، وكان يطلعنى على امور مجهولة بالنسبة الىّ .

واصـبـحـت جـذلان مـبـتـهـجـا ؛ لرؤ يـة ولدى والتـقـائى بـه كـلّ ليـلة ، ومـمـّا زاد فـى سـرورى هـو عـثـور والداى خلال هذه المدّة على فتاة تكون امّالطفلى فى المستقبل ، وقد ابدى رضاه بها ، وسمّى لى اسمها ، فتزوّجت بها .

واصبحت ارى شبح الطفل عـلى صـدر زوجـتـى لا فـى زاويـة المـنـزل ، وذلك حـيـنما تخلد الى النوم ، فنتجاذب اطراف الحديث حينا ، وما ان تـسـتـيـقـظ زوجـتـى مـن نـومـهـا اثـنـاء ذلك حـتـّى يـغـيـب فـورا ولا اعـود اراه . وقـلت له ليـلة :
ارى مـن الافـضـل ان تـاءتـى مـتـاءخـّرا عـنـدمـا تـغـطّ امـّك فـى نـوم عـمـيـق ؛ كـى تـسـتـيـقـظ مـتـاءخـّرة ، فـقـال :
انـا هـنا دائما ، فلحبّك ايّاى وودّك لى ترانى حينما تهوّم امّى وتهجع ، ولكن ما ان اشبعت نهمك من رؤ يتى تواريت عنك .

واخيرا حملت زوجتى ، وما اصبحت ارى للشبح صورة ولا اسمع منه صوتا بعد ان مضى على حملها اربعة اشهر ، وايـقنت انّه حلّ بالجنين الّذى يثوى فى احشاء زوجتى ، ولم احزن لفقده ؛ لانّه قدر تعلّق بى واحبّنى ، ولاملى انّه سوف يولد والازمه ملازمة الظلّ للشاخص .

قـالت امـّى لى يـومـا :
ايـّهـا المـاكر ! انّك خدعتنا واحتلت علينا ؛ ذريعة الى بغيتك ، فجلبت لنا الاذى ، لماذا لم تصارحنى بمرادك وتحسر لثامك ؛ لكى اختار لك شريكة حياتك ؟ وعقّب ابى قائلا :
لولا مكاشرته ومداجاته مـا زوّجـنـاه بـهـذه السـرعـة الاّ بـعـد اكـمـال دراسـتـه ، ثـمّ التـفـت الىّ وقال :
انّك جرّعتنى الغصّة ، سامحك اللّه يا بنى .

فـاضـطـررت الى كـشـف الغـطـاء وحـسـر الغـمـّاء ؛ لانـّهـمـا حـسـبـانـى مـحـتـالا مـخـاتـلا ، فـوصـفـت لهـمـا مـلامـح الطـفـل كـامـلة وهـو فـى بـطـن امـّه ، واسـتـمـحـتـهـمـا ان يـصـبـرا ريـثـمـا يـولد الطفل ، وسوف يريان انى لست متخرّما ولامختلفا ؛ لانّ " الرائد لايكذب اهله "

 

Next