آخر حوار مع شاعر سيدة التفاحات الاربع

يوسف الصائغ ينتظر موته قبل ان يموت

 

حسين سرمك حسن \ بغداد 

أمتص الموت رحيق أنفاس شاعر سيدة التفاحات الاربع يوسف الصائغ في العاصمة السورية دمشق عن عمر يناهز الثانية والسبعين بعد وعكة صحية المت به الاسبوع الحالي دون ان تمهله طويلاً

 

تم تسليم أسئلة القسم الاول من هذا اللقاء الى المبدع((يوسف الصائغ))،في بيته،في نهاية عام 2002م،لتكون اجاباته اغناءً أونفياً أو توكيداً للتحليلات الواردة في الجزء الأول من كتابي عنه وعنوانه (القديس المعصوب)(وهي لا تؤثر في مسار التحليل وطبيعته في الحالتين الأخيرتين بحكم عدم تخطيط ومعرفة المبدع بمكنونات لا شعوره في كثير من الحالات) من ناحية ولتشكل،أي الاجابات،الفصل الخامس من الكتاب من ناحية اخرى.

وقد تعطّل اكمال الكتاب وبالتالي صدوره بسبب هذا الامر وما ارتبط به من آليات نفسية دفاعية ومقاومات من قبل الطرفين:المبدع والناقد:مرّة تحت غطاء الوضع الصحّي الحرج للصائغ وهو أمر فعلي ومؤثر،وثانية بسبب عدم تواصل الناقد مع المبدع لكون المؤلف كان عسكرياً في منطقة(مجنون)من الجبهة(يمكنه زيارة المبدع في الاجازات الدورية)،وثالثة لان الأسئلة كاشفة وفضائحية حسب وصف الصائغ(يمكنه الاجابة بطريقة لا فضائحية أو اهمال بعضها)،ورابعة لعدم القدرة على الكتابة(يمكن استخدام جهاز تسجيل أو املاء الاجوبة على زوجة أو صديق..)، وخامسة..وهكذا مرّ اكثر من سنة ونصف السنة والجزء الاول من هذا المشروع معطل لاسباب هي نفسية في واقع الامر.

  كان السبب الذي الهب حماستي لمعاودة اكمال اللقاء والكتاب ونشره هو انتشار شائعة (موت)يوسف الصائغ والتي سيجد القارئ ملابساتها وردود فعل الصائغ عليها في مجريات القسم الثاني من هذا اللقاء.اتصلت بالصائغ،وفجأة،وجدته،وقبل ان اتطرق الى موضوع الاجوبة متحمساً للقاء ومتعللاً،في الوقت نفسه،وهوعلى حق،بوضعه الصحي المتدهور. ارسلت جهاز تسجيل واشرطة بيد الزميل(د.باهر سامي بطي)،وبعد اسابيع وجدت ان الصائغ لم يقم باي شئ(هل هذه مقاومة نفسية ام مزاجية مبدع؟).ذهبنا،انا ود.باهر،ذات يوم الى بيت الصائغ حسب موعد مسبق فوجدناه،وهو الذي لا يستطيع الخروج من الدار،قد خرج بصحبة الشاعر(دينار السامرائي) الى اتحاد الادباء وكان السبب الظاهر هو انه كان يامل بان يلتقي بي في قاعة الاتحاد بدلاً من البيت!!وقال لي مازحاً:تقديراً لتعبك اليوم سوف اجيبك اجابات اكثر فضائحية من اسئلتك.كنت قد اخذت الاشرطة وآلة التسجيل ساخطاً وانقطع اتصالنا.

 ذات ضحىً رنّ جرس الهاتف ورفعت السماعة وكان صوت الصائغ على الطرف الآخر يطلب مني الحضور في  الوقت نفسه لاجراء اللقاء ويبشرني بانّه كتب لي ما يقارب الـ(17)صفحة من الاجوبة:- هل هذا يكفي؟.

  حملت جهاز التسجيل وانطلقت في عزّ الظهيرة متلهفاً لتحقيق فرصة من فرص العمر النقدي والانساني النادرة.جلسنا بدفء وبساطة متقابلين على الاريكة نفسه وسط حرّ لاهب سببه انقطاع الكهرباء الذي يؤثر بشدة في صحّة هذا المبدع الذي تتطلب حالته الصحيّة طقساً قريباًمن طقس باريس أو لندن اللتين عاش فيهما زملاؤه(المنفيون)من مبدعين وسياسيين..أجواء أصبحت متأخرة ولا جدوى منها وقد أصبحت الدنيا كلها على حافة (بعد فوات الاوان).وبين سؤال وآخر كان الصائغ يشهق ويجر نفساً عميقاً من بخّاخة مضادة(للربو).وكلّما أعلنت خشيتي عليه وقلقي من انهاكه كان يصرّ،بنبل وأخلاقية المبدع الكبير المعطاء،على المواصلة..التقينا مرتين وشكلت الاسئلة والاجوبة القسم الثاني من هذا اللقاء حيث عددت الاجوبة الخطية على الـ(25)سؤالاً،مع بعض التعديلات من المبدع،القسم الاول من الحوار.

  القسم الاول في معظمه تحليلي ويتعلق بما ورد من تحليلات وفروض في الفصول الاربعة التي يتألف منها الكتاب.أما القسم الثاني فيتعلق بامور حاضرة وماضية ملتهبة وحسّاسة..وفي كلا القسمين يثبت الصائغ بمصداقية خارقة انه قد اختار،أو ان قدره الشخصي قد اختاره كي يبقى،والى الابد،على صليب المعاناة.

القسم الأول

تلك اللحظة التي قادتك أمك فيها وكأنها تدلك وتعلمك المشي بعد سنوات السجن المدمرة،أما زالت تلاحقك حتى الآن؟يعتقد بعض النقاد أن تلك التجربة الرهيبة هي سبب سيطرة أجواء الموت والخراب على عوالمك الأبداعية؟

((خيطٌ من نمل أحمر

يتحرك بين سريري..والباب

أنهض من نومي

أسحق خيط النمل بأقدامي

وأعود

وأذا استيقظ ثانية

ألقى، بين سريري والباب

خيطاً آخر يكبر ))

يقول هؤلاء النقاد أنك لن تنعم بالنوم لليلة ولن ينتهي خيط نمل الذكريات السوداء ما دمت لم تغلق أبواب تلك الزنزانة اللّعينة المظلمة بعد ؟

أنا لا أتفق مع هؤلاء النقاد، فجذر الأحساس بالموت الوشيك والشعور الممض بالذنب يمتد بعيداً غائراً في تربة طفولتك، وألا كيف نفسّر خوفك، وأنت طفل غرّ، من(عيون القديسين)، من الجنون وأن تربط بالسلاسل مثل جاركم (وديع) المجنون، من(لسان الشيطان) الذي تخفيه الأخت(ماري لويز ) في جيبها وعصافير الوشاية التي تعمل لصالحها، خوفك من أن تشنق كقطة مثلما فعلت زوجة أخيك بقطتكم المسكينة، الخوف من حيّة البيت، وغيرها ؟

ثم أنك قلت في سيرتك ((هناك دائماً أعين تراقبنا)) وكان هذا هاجسك وأنت طفل،فكيف تفسّر كلّ ذلك ؟.

-حين كانت((السيدة))..تأخذ بيدي، لتقودني من السجن الى البيت..كنت، أنا،ابنها الوحيد،افتش في خبرتي،عن أشواق ذاك الأسيرـ هملت، حين ناشد،التي ولدته،كما ولدتني،أن تعطيه الفرصة في أن يعود اليها الى(الرحم)!

حسناً..كيف يمكن لمثلي فهم أشواق من هذا النوع،بحيث تمكن المغامرة،بكتابة مسرحية جديدة،أو إضافة فصل جديد الى سيرتي، قبل أن أموت..

والحق، إنني حاولت،وكنت كريماً،بحيث لم امانع في أن يسرق أصدقائي(كلمة السر) تلك التي بدونها،تغدو الألقاب والصفات،نوعا من الخزعبلات!!..واكثر...اذا ما التبس منصب الوالد،بمهمات الوالدة..وواجباتها!.انني مدين لمجمل هذا التناقض..ومحكوم بكل احتمالاته:أن اولد،وانا مؤمن،بانني حين احتاج،فسأعيد ولادتي!في القصيدة في الأقل..

((. فمازلت الى هذي الساعة..

اذكر دفء جدار الرحم..

ورائحة الحبل السري..

واذكر..

انني في لحظة ميلادي..

قبّلت، أصابع قابلتي..

فأحتضنتني.. باكية..

آهٍ يا امرأة،

 اعطتني، في منتصف الليل.

 شهادة ميلادي..

 أي امرأة، يمكن أن تعطيني

 الساعة، اوراق استشهادي..

أو تسمح لي،

أن اتحسس دفء مشيمتها..

  وأشم عبير بلادي!!..

    (قصيدة استيقظ يا يوسف)

ترى؟ الا يستطيع هذا ، أن يهدينا الى تفسير الكثير من التفاصيل، واحتوائها ضمن إطار التصدي لاوجاع التناقض؟

 

قصائدي تزدريني

فوق ذلك، لقد ظهرت نزعة الموت والتشاؤم والخواء والخراب بصورة صارخة في مطوّلتك: (( شمّة أفيون)) في عام 1956، أي قبل سجنك ؟بالمناسبة هل تعتقد أنّ هذه المطوّلة التي سمّمت أجواء الشعر العراقي الحديث قد حصلت على الأهتمام والتحليل النقدي الكافي ؟

وفق ماتقدم يبدو لي أنني استطيع أن اقرأ قصيدة(شمة أفيون)محكومة بالنفوذ نفسه..نفوذ الحاجة الى العودة للرحم _ القبر _ الغرفة.لقد اخترع الشاعر رغبته، بأن (اغلق الباب) لكي يصير(وحده)..في قرارةٍ،يمكن ان تستدعي فيها بعض انواع التناقضات..اذكر انني كنت أفخر في كتابة هذه التجربة،وفي اعماقي،احساس كافٍ بالنجاح..وبانني اجرب نمطاً من التعبير عن الذات لم اجربه من قبل..ولن استطيع الحصول عليه في المستقبل حين أريد..لم اكن واهماً،وماحاول احد من اصدقائي أن يخدعني..حتى(يوسف الخال) و(ادونيس)ومجلة(شعر) كيف تجاسرت على الأستهانة بقيمة تلك الرسائل؟

..لتنقضي سنوات، يسقط خلالها الكثير من الغبار على(شمة افيون) وعلى تجربتي..ويكثر الحديث عن القصيدة الجديدة..وقصائد النثر..و(فرسان) البيان الشعري ثم يدور الزمن دورة أخرى..فأذا بقصائدي تزدريني على عتبات السجن،متجهاً الى قرارة ذاك الرحم الحجري الكبير..الذي يدعى السجن..واذا بي عند تلك الاسوار،أسير تجربتي الجديدة،وسطوة غروري..بالمناسبة فأن ادونيس هو الذي غيّر إسم القصيدة من(بصقة أفيون)الى(شمّة أفيون)وحيّاني في رسالة عام1957..الآن لاأحب شعره فقد أصبح ذهنياً.

هل أستطيع الآن القول بأنّ تجربة السجن القاسية صبّت الزيت على جمرة العذاب الكامنة فجعلتك تحيا مرصوداً أبداً ؟

(( أتوقع أن يحدث شئ ما

   أن يقرع بابي، شرطي مثلاً

   يسأل عن رجل مجهول

   أو أن أنظر تحت سريري

   فأرى ثمة إنسان مقتول ))

{ لقد كان السجن..ولعله مازال..(أحبّ اليّ مما يدعونني اليه..)وسابادر فأدّعي انني حين أقول((السجن)) انا بالذات، كما كان، وكما ينبغي عليه أن يكون.. والقصيدة في اوائل الخريف عام 1968..هكذا موجهة الى سجن(نقرة السلمان): بعد أن مضى على اطلاق سراحي بضعة اشهر..

(لاشئ يااحباب في وطني،

سوى القدّاح..

أزهر مرةً أخرى،

وعاتبني الحنين،

- نسيت؟

- بل عمي الفؤاد إذا نسيتë..

بيتي هناك..

سكنته خمساً..

وغربت الرياح..

وحملت عنه:

-اين يا وطني.. أبيت..

- مسّا المسا..

قلبي غريب الدار في وطني..

طرقت ديار اهلي،

ماارتضِيت..

ولا ارتُضيت..)

ويمسك الطريق بي من يدي،ويقودني الى غرفة قرب كنيسة الّلاتين،عارية موحشة اكتشف فيها كم انا مهمل خارج حدود السجن..كم أنا وحيد وسأجلس قرب النافذة المطلة على المقبرة،وأروح أرتّب مسوّدات قصائدي..تلك القصائد السرّية المحرمة خارج السجن..لفرط ما تنطوي عليه من شذوذ أسميتها(ثلاثة فصول ليوسف بن يعقوب):

الفصل الأول.. يوسف في الحب.. يتلهى.. بكتابة اشعار الحب !

الفصل الثاني.. يوسف في قصر زليخة..  يخفي تحت قميصه.. تاريخه..

الفصل الثالث .. يوسف بين يدي فرعون. محتار.. كيف يبرر أخطاء الكون..واقرأ القصيدة من جديد..فاحس أنها لا تكفيني..وانني بحاجة الى قصيدة تستطيع أن تطفئ كل ما يقرع في جمجمتي من نواقيس!

كنت قد حاولت،منذ البداية، فحص هواجسي ازاء مطلق فعل التعذيب،ومدلوله..

إستعنت اول ما استعنت بتجربة طفولتي ومن ثم مراهقتي..بالعناد..والمطاولة.. وتدريب ارادتي على الانخراط في الرهان الى اقصى ما اريد وما استطيع..كنت أحمل وانا في الطريق الى رهاني المقدار الكافي من الخوف، بحيث اطمئن الى انني لن ابول على نفسي..ثم بعد ذاك مباشرة. ان اكون واثقاً من أنني لن اصرخ..(وهو لعمري مزاج خاص كلفني وسيكلفني الكثير..)

- اصرخ يا ابن الـ..

ولا اصرخ.. واسمع صوتاً قرب وجهي يهمس

- اصرخ.. يا ولدي.. لكي نخفف عنك..

واحسست انني اوشك أن ازغرد..وانا استقبل المزيد من الضربات..واشم رائحة الدم الذي راح ينزف من أنفي..كان ذاك طوال تلك الامسية والايام التي تلتها مهرجاني فهي المرة الاولى - منذ الانقلاب - التي اتعرض فيها لـ(التعذيب)..هل كان تعذيباً ؟

أجل.. وبشكل (دامٍ) و(مشهود)..وصبراً حتى تنتشر الحكاية،ويشهد الحرس في المعتقل بموقفي

-        لقد تحدى الآمر..

-        وماذا يعني ذلك؟

-        يعني ان هناك فرقاً بين(عذاب..وعذاب)وبين معذَّب ومعذَّب..وكل ما يندرج تحت ذلك من تفاصيل..لقد حاولت أن أتأمل تجربتي اتصالاً،بما اتيح لي التعرف عليه من تجارب(وبعضها رهيب)..ونجم عن محاولتي تلك روايـةاسميتها(المسافة) صدرت عن اتحاد الأدباء في سوريا،كنت اتوهم،ولعلي ما ازال _ انني قلت فيها كل ما اردت قوله.. لولا أن(الرواية)لم تنل رضا الحزب ولا هذا أوذاك من اصدقائي،ممن اخطأهم (التعذيب) كما أخطأني..وكان علينا من جديد الانتظار،حتى يجري اعتقالي، أواخر السبعينيات(من القرن الماضي)..لأجد نفسي مشدود العينين..ملقى على ارض الزنزانة،وقد نزعوا عني سروالي،وشدوا ساقي..ورفعوا قدمي بمعونة لعبة خشبية..سرعان ما اعرف أنها (الفلقة)..وسرعان ما ستبدأ المهزلة..فأروح استقبل عذابي..في قلبي..وفمي..وقدمّي..لقد حاولت استعادة تلك التجربة،بما يكفيني من الاحساس بالدعابة حتى الاهانة..فاشرت اليها في احد فصول الجزء الاول من(الاعتراف الاخير)..وكان في نيتي أن اعود الى الموضوع لكشف تجربة(مناضل) او قديس يسعى للحصول عما يستحقه من العذاب..مفتشاً عن المكان والصيغة والزمان، الذي يصح فيه هوانه وعذابه..

كيف يمكن بعد هذا،القفز فوق لذائذ الجلاد والاتصال ببهجة الضحية..حين يلوح لنا أنهما متصلان..وأنهما في عمق المعاناة، كانا وما يزالان محتاجين الى(متفرجين)  هذا ماحاولت(المسافة) أن تقترب منه أيضاً، بحيث كان اسمها في البداية: (..ومع ذلك، فالمسرحية بحاجة الى متفرجين)

لقد لفت انتباهي الى هذا الجانب، التقليد الذي تتمسك به العائلات الملكية عند ولادة ولي العهد.. انها توجب على الملكة ان تلد ولادة تامة ومريحة ولي العهد على مرأى ومسمع من كل(المعنيين) في الدولة والمملكة..من أجل ان يكونوا واثقين من صدق الولاية، وأصالتها!!        

عندما كنتَ تسير نحو غرفة أمر المعتقل حيث سيعذبونك ويسلخون جلدك لأنك رفضت الوشاية بزميلك(مصطفى) الذي شتم آمر المعتقل.. كنت تسير بهدوء مفزع.. تقول (( في الخارج كان الليل جميلاً.. وكانت رائحة خضار تفوح على طول الممر المؤدي الى غرفة الآمر..)).. هل كنت تسير واثقاً نحو موقف(فداء) و(إنقاذ) زرعته في أعماقك ثقافتك الدينيّة ؟ هل كنت تفكّر عن ندم وشعور بالخطيئة زرعه في وجدانك ذاك الكاهن الذي أسمعته أول إعتراف مكره في طفولتك ؟..

 هل يكفي هذا لتفسير تماهيك مع (يوسف) المغدور ورغبتك في أن يغدر بك أخوتك فعلاً ؟ ويبيعونك للنجار ؟ ومع صورة الراهب المعلقة في صدر غرفة الضيوف والذي كان ذاهلاً بصوفية عن ثلاثة خناجر قاتلة موجهة نحوه ؟

- كانت قصة((يوسف)) واحدة من القصص التي تستخدمها والدتي،لكي استسلم، وانا بين ذراعيها.. للنوم..واقول الحق؟ ان القصة، ماكانت تعجبني ولا كان((يوسف)) يستهويني..بل لقد ضايقني، وسيبقى يضايقني، ان أسمّى((يوسف))..وليس أي اسم آخر، ذا دلالة خاصة أو امتياز..بلى..بلى..كان في(يوسف) وقصته الكثير من الاستفزاز والالتباسات..خذوا قصة(الجب).. وقصة(العزيز) أو(فوطيفار) ..خذوا قصة(زليخة)..وتاملوا(موقف)يوسف من هذه السيدة.. وحاولوا اعادة النظر في قميص هذا الافاق العبراني،وقياس نوازعه؟وهو يقطع الطريق من منزل(قائد الجيش)الى قصر(فرعون)..الا ترون ؟هذا الرجل لا اشبهه..ولا يشبهني.. ولقد عرفه فرعون،فأسلمه مسؤولية أن يعصر له الخمرة ويفسّر الاحلام..أو أية مهمات أخرى سكت عنها الكتاب لقد عالجت هذه(الشكوك)،في رسالة مطولة بعثت بها الى سيدة،تعجبها صداقتي فما زادت في معرض الاجابة غير قولها((يوسف.. اعرض عن هذا..))والساعة يهمني التأكيد انني(لم اعرض)..وقبلت الدخول في(التجربة)فهل تحسبني خيبت لك ظنك،من أجل ان انال رضا امرأة العزيز؟ أو أي امرأة ذات ذكاء!!

  هل بنيت مسرحية( الباب) على نفس روح( الفداء) و (النزول) هذه، وهل صمّمت إستسلام(ديزديمونة) لخنجر(عطيل) الظالم وفق نفس الرؤية ؟

والآن..من قصر العزيز..حتى المقبرة في مسرحية(الباب..)هذا استفزاز جميل..والمتعة في اتقان ربط الاطراف..واللعب بالتفاصيل..فاذا كان ذلك ممكناً _ وهو غير ممكن طبعاً، فهل يسمح لي رجل مثلك،بالعودة الى بيت(ديزيدمونة)لأجراء تصحيح بسيط على الختام..ستقرأ الممثلة السطور الاخيرة من دورها..ثم ترفع مديةً وتحاول طعن نفسها، عند موضع القلب..عند هذه اللحظة ينبغي ان ينتبه الجميع الى أن ديزديمونة لم تطعن موضع القلب،بل اهوت بالمدية على موضع بكارتها..ليسيل دم يكفي لاغراق الكون واطلاق المزيد من غبار الالتباس!

لامكان انتظر فيه قصيدتي

كنت تقول أيام تألقك الشعري: (( أنا على الصليب)) هل كان ترجلك عن صليب المعاناة هو سبب إعلانك، منذ سنوات، بأنك ما عدت صالحاً للشعر؟.. المشكلة أنك كتبت شعراً ونشرته بعد الأعلان ؟ هل يذكرك حنثك  بأعلانك هذا بمخالفتك لعهدك بأن لاتقسم برأس أبيك كذباً والذي خالفته مرّتين كما معلن في سيرتك ؟

ما من مكان بعينه، انتظر فيه قصيدتي..مامن زمان..وهي، قد تأتي،أو لا تأتي..بل لعلها لن تأتي أبداً..فماذا يعني ذلك؟هل يعني أننا نلتقي صدفةً..لم لا ؟سيكون ذلك أجمل..أقول ذلك وانا مرتبك..فانا اعرف جيداً ماذا يمكن أن يعانيه،شخص ينتظر.. ليس في يده ساعة،ولا موعد، ولا عنوان..سيمر به،وهو غارق في انتظاره،كثيرون، ولكن أحداً من هؤلاء(المارة)لا يعنيه،فهو لا يعرفه،ولا يستطيع استقباله..ويدعوه للاشتراك في قصة حب

- هل ينطبق ذلك على العلاقة بالشعر؟

- أجل وقد جربت ذلك في ملاحظة أتنبّأ فيها للحبيبة أنها ستزورني(هكذا فجأة،كالقصيدة)بل كأجمل القصائد..ليس الشعر ضرورياً..

(اني اكفر بالشعر..وبالشعراء..

..اريد صراخاً يكفيني..

غضباً يصعد من كعبيّ..

الى قدميّ..الى رئتيّ..  

ويدفع حنجرتي،

ملء فمي..

فاقئ..صراخاً.. ودماً وبقايا انسان

لكن..وا أسفاه..

حنجرتي ما عادت تصلح..)

يا للنفاق..!!كان يبدو لي أحياناً،أنني فقدت ايماني..وشهوتي..وقدرتي على مزج الخمرة بالماء..لولا أن(عادات الشعر السرية) ظلت وستظل لصيقة بي،ربما..حتى أموت..

{ ولأكن أكثر دقّة وجرأة يحيلني هذا الى المشهد الذي يلح فيه(رافع) على(غادة) في(لعبته)الغريبة بأن تشرب كأساً وعندما تثمل،وهي الطاهرة، يقول لنفسه بأنه أكبر سخيف!!.. كم من روح هذا الموقف الأندفاعي _ الفعل يليه التفكير _ إمتد في أحشاء مواقفك السياسية والأجتماعية(المعقلنة) ؟ كم ساهم في تأجيج فعلك الأبداعي ؟

- أما أنا.. فقد كانت اللعبة - لعبتي..كنت قد اهتديت اليها عام 1965،يوم كنت معتقلاً في(سجن الموقف ببغداد)كان أول ما اكتشفته في(اللعبة)هو قدرتها على السماح لي بمغادرة المعتقل،الى حيث اريد،ثم العودة اليه،وأنا اخفي تحت ملابسي،نواياي ومشاريعي للمقبل من الايام..

وهكذا صار زمن الاستسلام اليومي للعبة،زمناً ثرياً ومفعماً بالحياة.. الى حد،أنني اصبحت اخاف التفكير،باحتمال أن يطلق سراحي،قبل أن انتهي من لعبتي، التي ماعادت مجرد لعبة..قلت لنفسي: يمكن للعبة أن تصير مختبراً لعلاقة رجل بعينه يشبهني بامرأة ما التقيتها في حلمي..أو لعلها علاقة زوج بزوجته،محكومة بقوانين القدرة على الاستمرار..أو..كان ينبغي أن يمر وقت كاف يطلق خلاله سراحي،وأن التقي بالعديد من الاصدقاء،من بينهم فؤاد التكرلي وعلي الشوك..وقد احتكمت عندهما طالباً رأياً مخلصاً في لعبتي..فشجعاني..بما جعلني اعيد القراءة من جديد - اعيد الكتابة..ليس بطل(اللعبة)شاعراً..انه في افكاره ومواقفه أقرب الى بطل رواية..أو كاتب رواية..أنه يصغي الى هواجسه ويتصرف..وينتقل بين(شخصين)مكلفين بكشف ما عنده من اسرار وهو وفق هذا الاعتبار مريض..لقد جعلته تجربته مرتاباً ومريباً في آن واحد..واسقطته شكوكه في التناقض،بين ما يريد وبين ما يستطيع الوصول اليه،دون اعتبار النتائج.. حيث لاندم..والتعليق في القصيدة ليس اكثر من قوله( خجلت لكم.. يا قساة القلوب.. خجلت لطيبة قلبي..)وهو قول له دلالاته.حيث ترتكب الخطايا ببراءة وطيبة قلب.. وحيث تقدّم(افعال الندامة)ما يتوجب عليها من.. تفاسير واعتذارات..

ماالذي أضفته الى ثيمة(اللعبة) الذي إعتقد البعض بأنّها مقتبسة ؟ هل تتفق مع البعض الذين يعدّونها من جنس(مسرواية) إذا جاز التعبير ؟ ثم مالذي يجنيه(رافع) من لعبته التي ستنتهي بتلويث(غادة _ غلواء) ؟. هذا التساؤل وغيره لم يجب عليه الناقد(غالب هلسا) في قرائته للرواية ؟

(اللعبة)رواية مهمة..لايبدل من ذلك أن النقادعندنا اهملوها..لأنهم اعتادوا قراءة النصوص المتقنة بعين واحدة الم تر كيف قرأها، ذاك الراحل العزيز غالب هلسا ؟

ترى الى اين انتهت..أو ستنتهي علاقة رافع بزوجته،بعد انكشاف(لعبة)التليفون؟ الى التصالح والمغفرة،وفق مزاج من(الرومانسية)كما يرى هلسا؟ام الى (المواجهة)..والسعي مع الصراع حتى نهايته،كما تحاول(اللعبة)الالتزام بقوانينها،حتى يتوجب انزال العقاب بالمذنبين؟..عند هذا الحد،يصبح السؤال عن المذنب والبرئ ضرورياًلاقتناص اكبر قدر من المتعة،تستطيع اللعبة تقديمها حتى اللحظة الاخيرة،حين تتخذ شكل خشبة مسرح أو آلة اعدام!!.

 هكذا يمكن ان تشير(اللعبة)الى صنف(المسرواية)كما سبق واشارت الى(مسروفيلم)في الفيلم الذي قدمته دائرة السينما والمسرح من اخراج محمد شكري جميل لقد جرب المخرج بتشجيع مني الكشف عن بعض اسرار اللعبة من ذلك اختيار الممثل(مقداد عبد الرضا)بدور رائع،واستخدام مشهد التـــظاهرة في مطلع الفيلم..لكشف احدى العقد التي يعاني منها..البطل، بحيث صار ممكن اعادة السؤال من جديد..الى ماذا كان رافع يسعى من خلال بحثه عن موقف زوجته .

 

{ هل كانت مصادفة أن(رافع) يدعو(غادة) الى مشاهدة فلم(عطيل) الذي عالجتَ محنته الشكسبيرّية في مسرحيتك(ديزديمونة) وأحلتها الى محنة مريرة لديزديمونة ؟ أم أنّ البدايات المعصوبة تحكم النهايات الأبداعية ؟.

{:هل كانت جرأة أن يتحول منديل(عطيل) الأسطوري، على يديك، الى(مئزر نسوي) ؟ أم أنّها الدوافع(التبصصّية) المكتوبة ؟.

- في فيلم ما،شاهدته قبل عشرات السنين،يقتل عطيل ديزديمونة بقبلة..يخنقها،مستخدما شفتيه الغليظتين يمنع عنها الهواء(لا ادري ان كان هذا ممكناً أيضاً من حيث ما هو واقعي،أو مفتعل.. على انني قبلت(الصورة).. واختزنتها..في انتظار ان تلجئني الحاجة الى الافادة منه..وقد طال انتظاري..ولعله سيطول..ما دمت قد استطعت الأفادة من جرأة الكاتب في موضوع المنديل..متسائلاً عن الحالة النفسية التي سيجد فيها رافع نفسه حين يرى(قطعة القماش)تلك التي تنتمي الى زوجته(انثاه)..في يد مساعده الحقير(ياكَو)..وياكَو بالذات...قلت لنفسي..ان عطيل يستحق هذا النوع من العقاب ويستحقه حتى أقصى ما يتضمنه من أذى وعلى جميع الجهات..وهكذا(لباس) ديزديمونة(الداخلي) وليس منديلها..لماذا لم يخطر ذلك ببال السيد الداعر شكسبير..

{سأسألك سؤالاً(فنيّاً) إجرائياً وأرجو أن لايزعجك. هل تعتقد أنّ على الطبيب الشرعي فحص غشاء بكارة أيّ إمرأة متزوجة يخنقها زوجها ولا تموت؟. هل كانت غلطة(فنية)، أم أنها الدوافع التبصّصية، أم السادية ؟..

-بكارة ديزديمونة لست ادري،ان كان من واجب الطبيب الشرعي التحرّي عن بكارة فتاة في مثل حالة ديزديمونة..ولكني متأكد، ان ذاك من بعض مشاغل(عطيل)..ثم بعد لحظة من بعض هموم الكاتب..اعتباره محكوماً بالابداع ومعالجة اللاّممكن،وفق ما تقتضيه الحال..ان بكارة ديزديمونة هي مرتكز..ينبغي الأفادة منه،في تصوير اعماق ديزديمونة جسدياً ونفسياً على حد سواء،وليذهب كل الاطباء الى الحجيم..وسارافقهم ان شاء الله..لاأدافع عن ضرورة ان تكون ديزديمونة،رغم زواجها من عطيل، ما تزال تحتفظ ببكارتها..ديزديمونة أو كاتب المسرحية..أو مخرجها..أو الطبيب النفسي وليس الشرعي..ان جزءاً من هذا يرتبط بالمجموعة من الحيثيات..والاسئلة..والاجابات الناقصة..خذوا مثلاً وجهة نظر اميليا في (عجز)عطيل وقصوره عن توفير(الفعل)الكافي لمعالجة بكارة زوجته..

صحيح..يمكن انني لم اعالج الموضوع من حيث هو واقعي وفني بما فيه الكفاية..الا ان هذا لا يلغي واجبات القارئ والمخرج والنقاد..ما دام من مصلحة المسرحية ان تظل ديزديمونة محتفظة ببكارتها..حتى لحظة المشهد الاخير..عندما تطعن البطلة نفسها في موضع تلك البكارة المراهن عليها..

{ ( موسيقى العصر المضطرب) الذي ختمت به المشهد الأخير من مسرحيتك(ديزديمونة) لم أستطع فهمه، وقد أكون مخطئاً، وفي ضوء مراجعتي لمنجزك الأبداعي الثر، سوى أنها(موسيقى عصرك النفسي المضطرب) ؟ وبشكل خاص(عصرك) الذي عشته مع المرأة _ الأم _ الحبيبة والذي حكمه (التضاد العاطفي).. نساؤك دائماً هنّ(جثث فوق سرير المحبّة)؟.. اللقاء معطّل.. أخرس الى آخر الدنيا ؟ ولايقتصر هذا الأمر على مجموعة(سيّدة التفّاحات الأربع) كما حاولت تسويغ ذلك في لقاء منشور لك في مجلة(ألف باء) العراقيّة بل يمتد الى جوانب عديدة من إنجازك الروائي والمسرحي والشعري والسيري.. فما هو ردّك؟..

- اسمح لي يا حسين أن أعود الى رأي غالب هلسا الذي طرحته علي في سؤال سابق حول رأيه في نهاية رواية(اللعبة)يعتقد الصديق الراحل الناقد غالب هلسا،ان العلاقة في ختام اللعبة،بين رافع وغادة عادت الى سابق عهدها،وأن غادة سامحت رافع على(لعبته)..تحت تأثير مزاج رومانسي ليس هناك في الواقع ما يسوغه..

أما أنا فقد تابعت(الصراع)بين الحبيبين،ورأيت(بأم عيني)ان صح التعبير كيف راحت هذه العلاقة تتعثر وتضطرب،كاشفة عن هشاشة ناجمة عن الشك،وضعف الثقة في الذات،وفي الآخر..حتى لحظات الحوار الاخير عبر التليفون...حين نسمع جميعاًصدى شئ(يسقط..)واذ ننتظر لعل ثمة ما يكشف عن مصدر هذا السقوط، واسبابه..تروح تتشكل في تجربتنا خلاصة عن ما يحيط بنا من حقائق ماثلة،لكنها منسية..وما نواجهة من حقائق غير مفحوصة..بحيث يمكن التسامح مع ادعاء شاعر،لن يلبث ان يعلن بعد تجربة مريرة:(كل الحقائق صالحة للشكوك..)

{ قلت ذات مرّة بأنك إكتشفت أنّ ما كتبته من قصائد عن موت(السيّدة) ماكان إحتجاجاً على الموت.. بل كان نوعاً من محاولة التآلف معه.. لكي نسلبه ماينطوي عليه من قسوة ولا معقول..إلخ.. لكن المشكلة، وقد تكون هذه مشكلتي في التحليل العميق، أنني لمست نبرة(إرتياح) في تلك القصائد.. هل مردّ ذلك أنك(مارست) الموت فيها كثيراً، الأمر الذي منحك سيطرة وحصانة بوجه الموت _ المثكِل ؟ وهذا في قصائد أخرى مثل صمت وإعتياد وزيارة وموت كرسي والسلحفاة.. إلخ .

- قال لي الملاك،وأنا أخلع عني قميص مراهقتي:

-      من الآن فصاعداً..سيكون عقابك هو موت الذين تحبهم،وتتوهم انك،لن تستطيع الحياة بعيداً عنهم..

-      سيموت أبي.. وستموت امي..و..

-      بل ستموت(تكفيراً عن خطاياك) ((سيدتك ذات التفاحات)) تلك..وسيكون أقسى ما في عقوبتك،أن اكتشاف حبك لها،لن يتحقق،الا بعد ان تراها في ذراعيك جثة هامدة.كيف لا تلفت هذه الحقيقة،انتباه الناقد عند فحص العلاقة بين موقف الزوج في سيدة التفاحات وموقف الزوج في مسرحية الباب ؟

الزوج في الباب،اكتشف بعد موت زوجته،أنه ما عاد يحبها،وانها خذلته حين لم تستجب لما بذله من(جهد)، لكي يعيدها الى الحياة..

انه ليتوقف عند هذا الجهد،بروح من الحقد والادانة منحازاً الى حقيقة أن المحبين لا يموتون..وتلك، عنده،بديهة،خارقة جعلت الزوج في(السيدة)يكتشف حبه لزوجته،حين رآها ميتة شبه عارية أمام الموت الغجري،الذي قسم التفاحة قسمين..وصب الخمرة في كاسين..لقد راقبت المشهد جيداً، بوصفي المسؤول عن كتابة قصائدي وسألت ملاكي،عن الخطيئة التي بسببها انزل حكم الموت بسيدة التفاحات فهل كان الملاك يستطيع أن يبوح لي بالسبب..ويصارحني،إن كان العقاب قد نزل بالسيدة،بسبب خطأ ارتكبه الزوج.. أم زوجته ذات التفاحات..

{ قصائدك عن(السيّدة)، فاضت نرجسيتك وأنت تتحدث عنها فطرحت سؤالاً:- ماالذي يجعل(المعلقات) مثلاً وعذراً لوقاحتي _ قصائد خوالد ؟ ماالذي تنطوي عليه لتستحق الخلود ويرسبون وينجحون.. في حين نهمل ذكر ملحمة رائعة كملحمة كلكامش؟..هل أدغدغ نرجسيتك لو قلت أنّ رأيك صحيح تماماً ؟ وأنّ لا أدب عالمياً عظيماً بدون الموت: مدام بوفاري، الأخوة كرامازوف، الأحمر والأسود، مئة عام من العزلة، الرجع البعيد.. ألخ ؟

 هذه النرجسية نفسها إستفزها الناقد الذي قال عن شعرك ((أنّ إمتياز قصيدة يوسف الصائغ بجماهيريتها وموطن ضعفها في الوقت نفسه)).. بعيداً عن (قسوتك) في وصف الناقد بأنه أديب فاشل.. هل تعتقد أنّ(مسرحة) الحدث هو عامل رئيسي في (وضوح) وبالتالي (جماهيرية) قصيدتك ؟ بأعتبار أنّك تتحدث عن(مضمون) ولا تصنع (شكلاً) ؟ لا مجاملة إذا قلت لك أنني رأيت أشخاصاً يبكون عند سماعك وأنت تلقي قصائدك ؟ وهذا ما شاهدته على شريط عن أمسية لك في (عمان) وأنت تتغنى بالعراق العظيم ؟.

 يقول السيد المسيح (ع): ((حين تسيرون عراة من جديد ولا تشعرون من عريكم بالخجل، عندها تعرفون ملكوت الله)).. الى أي حد طهرّك السير عارياً في (السيرة) أو((أعترافات مالك بن الريب)) ؟..

والى أي حد أغاظ هذا الصدق بعض الأدباء من ذوي الشعور (المرهف) والأحتشام السريع الذين يفضلون ألاّ يروا من العظماء إلا نصفهم الأعلى.. كما يقول (أندريه جيد) ؟

 سيرتك في رأيي الشخصي المتواضع هي أفضل وأجرأ سيرة عربية (مهذبة) كتبت لحد الآن، ولو توفرت لها الترجمة لنالت موقعاً لا يضاهى بين السير الشخصية العالميّة:

-      لاأعرف لم وضعت مقارنة مباشرة بين كعكة بروست وبطيخة الصائغ ؟ على يديك الطبيعة تحاكي الفن ؟.

-ولا الأندهاش الصارخ أمام حديثك عن الشيطان ومعاصيه الجميلة ؟

- ولا الصدمة الأوديبية لمراهق يموت أبوه ولا يستطيع مقاومة الضحك عند دفن جثمان أبيه ولأنّ حب الشباب - وبشكل خاصة حبّة كبيرة قرب أُذنه - تؤلمه؟

{في قصيدتك القصيرة ((فجأة)) تقول:

    ((كنت مستلقياً في سريري والى جانبي إمرأة عارية

       فجأة .. فُتح الباب

       جاء رجال ثلاثة.. فأخذوا إمرأتي

       وخلّوا الى جانبي إمرأة ثانية

       عندما أخذوها ..

       تبقت أصابعها في يدي..))

وأرى أن فنك القصصي وقدرتك المسرحية وبراعتك الشعرية وتأريخك السيري يتلخص في: تغريب موضوع الحب،أنفصال العاطفة عن الفكرة (لعبة المراقب الخارجي)، الروح السادو-مازوخية، التعمية على الصلة المحرمّية للتخفف من الشعور بالذنب، ثم وأخيراً: الموت..الموت..الموت..

الى أي حدّ يضعك هذا الرأي النقدي على سرير التحليل النفسي ؟ والى أي مدى يشكل هذا الرأي النقدي في هيئة نهائية هي كتاب ((يوسف الصائغ..القديس المعصوب)) إعادة كتابة سيرة محايثة ؟

{ أخيراً..لديك لوحة رائعة بريشتك صوّرت فيها وجهك منقسماً..

الآن وبعد أنّ بلغت من العمر عتيا..أمازال هذا الأنقسام (الأنفصام نفسياً) يتعبك؟ برغم أنهُ يؤجج أبداعك ؟..

ملاحظة(1):الآن وقد وقع يوسف في جبّ صراحته وقساوة أسئلتي وفي اللحظة التي بدأ فيها يتوسل من الله أن يمنحه شيئا من الأوكسجين.. أزرقّ.. وأختنق..وسحب عدة أنفاس مخذولة من قنينة الأوكسجين التي صارت رفيقته ومنقذته بعد أن كان رفيقاً ومنقذاً ولأول مرة في حياتي أشعر بالضيم وأخاطب الله وأقول:سبحانك تمنح الأوكسجين لمن تشاء وتمنعه عن من تشاء..هذا عبدك يوسف بين يديك..أكرمني وأكرمه بعدة أنفاس كي نكمل القسم الثاني من لقائنا هذا وهو الذي سييسر على ملك الحساب حساب سيئات يوسف وحسناتي.

{ لماذا لم تغادر العراق مثلما غادر شعراء آخرون معروفون؟

- لقد سئلت هذا السؤال مرّات عديدة.والله،أنا لاأمتلك الحيوية والقدرة على تحمّل أعباء السفر النفسية.جربت عدّة مرات ووجدت انني خارج العراق لاثقل لي وأفقد توازني وأن خطواتي على الأرض ليست في مكانها وأنّ عيني لاترى الأشياء مثلما تراها في العراق.

حين أسافر الى خارج العراق أجنح الى الشرب.الكحول يقلّل حيرتي وارتباكي وأصير(وقح)الى حدّ غير معقول بحيث تقول الناس:هل هذا يوسف الصائغ؟أحاول أن ألفت نظرهم بأي طريقة ولكن لاأحد يلتفت لي في فرنسا مثلاً. لم أسافر قط إلاّ على حساب الدولة.مرّة واحدة سافرت على حسابي الشخصي. واوقعتني هذه المرة اليتيمة في تجربة حبّ جميلة جداً تعارفنا خارج العراق وعدنا (عراقيين)..لماذا لم اغادر؟

الشعراء الذين غادروا هم نتاج شركة معينة تدعوا لمن يريد أن يلتحق بهم من وجهة نظري أن هناك شركة تجارية أسمها(شركة المنفى)، مجموعة من الشعراء شكلوا شركة المنفى..المرحوم(محمد مهدي الجواهري)قلّب الأمور وحسبها ووزنها فوجد المنفى أفضل وأغنى من اللامنفى..ثم توكل على الله وبعده توكل المتوكلون..ثم تبعه البياتي وآخرون..

هل كانت مصادفة أن(رافع) يدعو(غادة) الي مشاهدة فلم(عطيل) الذي عالجتَ محنته الشكسبيرّية في مسرحيتك(ديزديمونة) وأحلتها الي محنة مريرة لديزديمونة ؟ أم أنّ البدايات المعصوبة تحكم النهايات الأبداعية ؟.

هل كانت جرأة أن يتحول منديل(عطيل) الأسطوري، علي يديك، الي(مئزر نسوي) ؟ أم أنّها الدوافع(التبصصّية) المكتوبة ؟.

- في فيلم ما،شاهدته قبل عشرات السنين،يقتل عطيل ديزديمونة بقبلة..يخنقها،مستخدما شفتيه الغليظتين يمنع عنها الهواء(لا ادري ان كان هذا ممكناً أيضاً من حيث ما هو واقعي،أو مفتعل.. على انني قبلت(الصورة).. واختزنتها..في انتظار ان تلجئني الحاجة الى الافادة منه..وقد طال انتظاري..ولعله سيطول..ما دمت قد استطعت الأفادة من جرأة الكاتب في موضوع المنديل..متسائلاً عن الحالة النفسية التي سيجد فيها رافع نفسه حين يري(قطعة القماش)تلك التي تنتمي الى زوجته(انثاه)..في يد مساعده الحقير(ياكَو)..وياكَو بالذات...قلت لنفسي..ان عطيل يستحق هذا النوع من العقاب ويستحقه حتى أقصى ما يتضمنه من أذي وعلي جميع الجهات..وهكذا(لباس) ديزديمونة(الداخلي) وليس منديلها..لماذا لم يخطر ذلك ببال السيد الداعر شكسبير..

سأسألك سؤالاً(فنيّاً) إجرائياً وأرجو أن لايزعجك. هل تعتقد أنّ على الطبيب الشرعي فحص غشاء بكارة أيّ إمرأة متزوجة يخنقها زوجها ولا تموت؟. هل كانت غلطة(فنية)، أم أنها الدوافع التبصّصية، أم السادية ؟..

 -بكارة ديزديمونة لست ادري،ان كان من واجب الطبيب الشرعي التحرّي عن بكارة فتاة في مثل حالة ديزديمونة..ولكني متأكد، ان ذاك من بعض مشاغل(عطيل)..ثم بعد لحظة من بعض هموم الكاتب..اعتباره محكوماً بالابداع ومعالجة اللاّممكن،وفق ما تقتضيه الحال..ان بكارة ديزديمونة هي مرتكز..ينبغي الأفادة منه،في تصوير اعماق ديزديمونة جسدياً ونفسياً علي حد سواء،وليذهب كل الاطباء الي الحجيم..وسارافقهم ان شاء الله..لاأدافع عن ضرورة ان تكون ديزديمونة،رغم زواجها من عطيل، ما تزال تحتفظ ببكارتها..ديزديمونة أو كاتب المسرحية..أو مخرجها..أو الطبيب النفسي وليس الشرعي..ان جزءاً من هذا يرتبط بالمجموعة من الحيثيات..والاسئلة..والاجابات الناقصة..خذوا مثلاً وجهة نظر اميليا في (عجز)عطيل وقصوره عن توفير(الفعل)الكافي لمعالجة بكارة زوجته..

صحيح..يمكن انني لم اعالج الموضوع من حيث هو واقعي وفني بما فيه الكفاية..الا ان هذا لا يلغي واجبات القارئ والمخرج والنقاد..ما دام من مصلحة المسرحية ان تظل ديزديمونة محتفظة ببكارتها..حتي لحظة المشهد الاخير..عندما تطعن البطلة نفسها في موضع تلك البكارة المراهن عليها..

( موسيقي العصر المضطرب) الذي ختمت به المشهد الأخير من مسرحيتك(ديزديمونة) لم أستطع فهمه، وقد أكون مخطئاً، وفي ضوء مراجعتي لمنجزك الأبداعي الثر، سوى أنها(موسيقي عصرك النفسي المضطرب) ؟ وبشكل خاص(عصرك) الذي عشته مع المرأة _ الأم _ الحبيبة والذي حكمه (التضاد العاطفي).. نساؤك دائماً هنّ(جثث فوق سرير المحبّة)؟.. اللقاء معطّل.. أخرس الي آخر الدنيا ؟ ولايقتصر هذا الأمر علي مجموعة(سيّدة التفّاحات الأربع) كما حاولت تسويغ ذلك في لقاء منشور لك في مجلة(ألف باء) العراقيّة بل يمتد الى جوانب عديدة من إنجازك الروائي والمسرحي والشعري والسيري.. فما هو ردّك؟..

- اسمح لي يا حسين أن أعود الى رأي غالب هلسا الذي طرحته علي في سؤال سابق حول رأيه في نهاية رواية(اللعبة)يعتقد الصديق الراحل الناقد غالب هلسا،ان العلاقة في ختام اللعبة،بين رافع وغادة عادت الي سابق عهدها،وأن غادة سامحت رافع علي(لعبته)..تحت تأثير مزاج رومانسي ليس هناك في الواقع ما يسوغه..

أما أنا فقد تابعت(الصراع)بين الحبيبين،ورأيت(بأم عيني)ان صح التعبير كيف راحت هذه العلاقة تتعثر وتضطرب،كاشفة عن هشاشة ناجمة عن الشك،وضعف الثقة في الذات،وفي الآخر..حتي لحظات الحوار الاخير عبر التليفون...حين نسمع جميعاًصدي شئ(يسقط..)واذ ننتظر لعل ثمة ما يكشف عن مصدر هذا السقوط، واسبابه..تروح تتشكل في تجربتنا خلاصة عن ما يحيط بنا من حقائق ماثلة،لكنها منسية..وما نواجهة من حقائق غير مفحوصة..بحيث يمكن التسامح مع ادعاء شاعر،لن يلبث ان يعلن بعد تجربة مريرة:(كل الحقائق صالحة للشكوك..)

قلت ذات مرّة بأنك إكتشفت أنّ ما كتبته من قصائد عن موت(السيّدة) ماكان إحتجاجاً على الموت.. بل كان نوعاً من محاولة التآلف معه.. لكي نسلبه ماينطوي عليه من قسوة ولا معقول..إلخ.. لكن المشكلة، وقد تكون هذه مشكلتي في التحليل العميق، أنني لمست نبرة(إرتياح) في تلك القصائد.. هل مردّ ذلك أنك(مارست) الموت فيها كثيراً، الأمر الذي منحك سيطرة وحصانة بوجه الموت _ المثكِل ؟ وهذا في قصائد أخري مثل صمت وإعتياد وزيارة وموت كرسي والسلحفاة.. إلخ .

- قال لي الملاك،وأنا أخلع عني قميص مراهقتي:

- من الآن فصاعداً..سيكون عقابك هو موت الذين تحبهم،وتتوهم انك،لن تستطيع الحياة بعيداً عنهم..

- سيموت أبي.. وستموت امي..و..

- بل ستموت(تكفيراً عن خطاياك) ((سيدتك ذات التفاحات)) تلك..وسيكون أقسي ما في عقوبتك،أن اكتشاف حبك لها،لن يتحقق،الا بعد ان تراها في ذراعيك جثة هامدة.كيف لا تلفت هذه الحقيقة،انتباه الناقد عند فحص العلاقة بين موقف الزوج في سيدة التفاحات وموقف الزوج في مسرحية الباب ؟

الزوج في الباب،اكتشف بعد موت زوجته،أنه ما عاد يحبها،وانها خذلته حين لم تستجب لما بذله من(جهد)، لكي يعيدها الي الحياة..

انه ليتوقف عند هذا الجهد،بروح من الحقد والادانة منحازاً الي حقيقة أن المحبين لا يموتون..وتلك، عنده،بديهة،خارقة جعلت الزوج في(السيدة)يكتشف حبه لزوجته،حين رآها ميتة شبه عارية أمام الموت الغجري،الذي قسم التفاحة قسمين..وصب الخمرة في كاسين..لقد راقبت المشهد جيداً، بوصفي المسؤول عن كتابة قصائدي وسألت ملاكي،عن الخطيئة التي بسببها انزل حكم الموت بسيدة التفاحات فهل كان الملاك يستطيع أن يبوح لي بالسبب..ويصارحني،إن كان العقاب قد نزل بالسيدة،بسبب خطأ ارتكبه الزوج.. أم زوجته ذات التفاحات..

قصائدك عن(السيّدة)، فاضت نرجسيتك وأنت تتحدث عنها فطرحت سؤالاً:- ماالذي يجعل(المعلقات) مثلاً وعذراً لوقاحتي _ قصائد خوالد ؟ ماالذي تنطوي عليه لتستحق الخلود ويرسبون وينجحون.. في حين نهمل ذكر ملحمة رائعة كملحمة كلكامش؟..هل أدغدغ نرجسيتك لو قلت أنّ رأيك صحيح تماماً ؟ وأنّ لا أدب عالمياً عظيماً بدون الموت: مدام بوفاري، الأخوة كرامازوف، الأحمر والأسود، مئة عام من العزلة، الرجع البعيد.. ألخ ؟

هذه النرجسية نفسها إستفزها الناقد الذي قال عن شعرك ((أنّ إمتياز قصيدة يوسف الصائغ بجماهيريتها وموطن ضعفها في الوقت نفسه)).. بعيداً عن (قسوتك) في وصف الناقد بأنه أديب فاشل.. هل تعتقد أنّ(مسرحة) الحدث هو عامل رئيسي في (وضوح) وبالتالي (جماهيرية) قصيدتك ؟ بأعتبار أنّك تتحدث عن(مضمون) ولا تصنع (شكلاً) ؟ لا مجاملة إذا قلت لك أنني رأيت أشخاصاً يبكون عند سماعك وأنت تلقي قصائدك ؟ وهذا ما شاهدته علي شريط عن أمسية لك في (عمان) وأنت تتغني بالعراق العظيم ؟.

يقول السيد المسيح (ع): ((حين تسيرون عراة من جديد ولا تشعرون من عريكم بالخجل، عندها تعرفون ملكوت الله)).. الى أي حد طهرّك السير عارياً في (السيرة) أو((أعترافات مالك بن الريب)) ؟..

والى أي حد أغاظ هذا الصدق بعض الأدباء من ذوي الشعور (المرهف) والأحتشام السريع الذين يفضلون ألاّ يروا من العظماء إلا نصفهم الأعلى.. كما يقول (أندريه جيد) ؟

سيرتك في رأيي الشخصي المتواضع هي أفضل وأجرأ سيرة عربية (مهذبة) كتبت لحد الآن، ولو توفرت لها الترجمة لنالت موقعاً لا يضاهي بين السير الشخصية العالميّة:

- لاأعرف لم وضعت مقارنة مباشرة بين كعكة بروست وبطيخة الصائغ ؟ على يديك الطبيعة تحاكي الفن ؟.

-ولا الأندهاش الصارخ أمام حديثك عن الشيطان ومعاصيه الجميلة ؟

- ولا الصدمة الأوديبية لمراهق يموت أبوه ولا يستطيع مقاومة الضحك عند دفن جثمان أبيه ولأنّ حب الشباب - وبشكل خاصة حبّة كبيرة قرب أُذنه - تؤلمه؟

في قصيدتك القصيرة ((فجأة)) تقول:

((كنت مستلقياً في سريري والى جانبي إمرأة عارية

فجأة .. فُتح الباب

جاء رجال ثلاثة.. فأخذوا إمرأتي

وخلّوا الى جانبي إمرأة ثانية

عندما أخذوها ..

تبقت أصابعها في يدي..))

وأري أن فنك القصصي وقدرتك المسرحية وبراعتك الشعرية وتأريخك السيري يتلخص في: تغريب موضوع الحب،أنفصال العاطفة عن الفكرة (لعبة المراقب الخارجي)، الروح السادو-مازوخية، التعمية علي الصلة المحرمّية للتخفف من الشعور بالذنب، ثم وأخيراً: الموت..الموت..الموت..

الي أي حدّ يضعك هذا الرأي النقدي علي سرير التحليل النفسي ؟ والي أي مدي يشكل هذا الرأي النقدي في هيئة نهائية هي كتاب ((يوسف الصائغ..القديس المعصوب)) إعادة كتابة سيرة محايثة ؟

û أخيراً..لديك لوحة رائعة بريشتك صوّرت فيها وجهك منقسماً..

الآن وبعد أنّ بلغت من العمر عتيا..أمازال هذا الأنقسام (الأنفصام نفسياً) يتعبك؟ برغم أنهُ يؤجج أبداعك ؟..

ملاحظة(1):الآن وقد وقع يوسف في جبّ صراحته وقساوة أسئلتي وفي اللحظة التي بدأ فيها يتوسل من الله أن يمنحه شيئا من الأوكسجين.. أزرقّ.. وأختنق..وسحب عدة أنفاس مخذولة من قنينة الأوكسجين التي صارت رفيقته ومنقذته بعد أن كان رفيقاً ومنقذاً ولأول مرة في حياتي أشعر بالضيم وأخاطب الله وأقول:سبحانك تمنح الأوكسجين لمن تشاء وتمنعه عن من تشاء..هذا عبدك يوسف بين يديك..أكرمني وأكرمه بعدة أنفاس كي نكمل القسم الثاني من لقائنا هذا وهو الذي سييسر علي ملك الحساب حساب سيئات يوسف وحسناتي.

ملاحظة(2):إن الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها في القسم الأول سيجد القاريء الإجابة عليها ضمنياً في القسم الثاني.

 

القسم الثاني

لماذا لم تغادر العراق مثلما غادر شعراء آخرون معروفون؟

- لقد سئلت هذا السؤال مرّات عديدة.والله،أنا لاأمتلك الحيوية والقدرة على تحمّل أعباء السفر النفسية.جربت عدّة مرات ووجدت انني خارج العراق لاثقل لي وأفقد توازني وأن خطواتي على الأرض ليست في مكانها وأنّ عيني لاتري الأشياء مثلما تراها في العراق.

حين أسافر الى خارج العراق أجنح الي الشرب.الكحول يقلّل حيرتي وارتباكي وأصير(وقح)الى حدّ غير معقول بحيث تقول الناس:هل هذا يوسف الصائغ؟أحاول أن ألفت نظرهم بأي طريقة ولكن لاأحد يلتفت لي في فرنسا مثلاً. لم أسافر قط إلاّ على حساب الدولة.مرّة واحدة سافرت علي حسابي الشخصي. واوقعتني هذه المرة اليتيمة في تجربة حبّ جميلة جداً تعارفنا خارج العراق وعدنا (عراقيين)..لماذا لم اغادر؟

الشعراء الذين غادروا هم نتاج شركة معينة تدعوا لمن يريد أن يلتحق بهم من وجهة نظري أن هناك شركة تجارية أسمها(شركة المنفى)، مجموعة من الشعراء شكلوا شركة المنفى..المرحوم(محمد مهدي الجواهري)قلّب الأمور وحسبها ووزنها فوجد المنفى أفضل وأغني من اللامنفى..ثم توكل على الله وبعده توكل المتوكلون..ثم تبعه البياتي وآخرون..

أنا تلميذ سعدي يوسف لكنني لا أحب شعره

المنفى غنيمة،والذين روّجوا لفكرة المنفى لم يعيشوا في المنفي حقيقةً:مناضلون جالسون في المقاهي،وكأسهم نصف مترع،ولسانهم أطول وأجرهم مدفوع مقدّماً..حزب المنفيين هذا لا أستطيع الإنتماء إليه..المصريون هم أكثر شطارة واستحقاقاً في أن يكونوا منفيين ولكننا كعراقيين أكثر عمقاً في الشعور بوطأة المنفى..أعتقد أنني أضعت السؤال..عموماً أنا لا أحب أن أموت بعد(طريبيل)رغم انني عبرت(طريبيل)مرّات عديدة،دائماً أتذكر نشيد(فلسطين) للفنانة(فيروز):

بلادنا من يفتديها

من غيرنا يموت فيها

حسين- أتذكر الآن قولاً لماركيز(الأرض التي لايدفن فيها أجدادك ليست أرضك)

- الصائغ _ الأصح أن الأرض التي لا تدفن نفسك فيها ليست أرضك،أنا أؤمن بأنني عراقي جداً، ولا أستطيع أن أجد نفسي خارج العراق أبداً.

حسين- هل أستطيع القول أنّ من غادروا وضعوا المعادلة في صورة: الغول أم أنا؟ فحملوا حقائبهم وأنفسهم ورحلوا ليحافظوا على أنفسهم من أجل منازلة مباركة قادمة في حين أنك وضعت المعادلة على قدميها: الغول أم العراق؟ فاقفلت حقيبة روحك علي لقية اسمها(العراق) قرّرت أن تموت فيها ومن أجلها كمبدع وانسان كبير؟

- الصائغ _ هذا إدعاء لاأستطيع أن أدّعيه..ثم أنّ كلمة(كبير)لاأحبها وأتحرّج منها..المهم هو: هل يبقى الشاعر شاعراً في المنفى؟

كل الذين هربوا الى المنفى وما أكثرهم قلّ إبداعهم وقل عطاؤهم وقلّ إحساس الناس بهم.مثلاً أنا أقرأ لسعدي يوسف قصائده القديمة وهي اجمل بالنسبة لي من نتاجه الحالي..وأقول لك سرّاً قد لايعرفه الكثيرون:لاأحد يعرف أنني تلميذ(سعدي يوسف).. لكنني لاأحب شعره الآن،منذ(التونسيات)وغيرها.سعدي مدرسة كبيرة سابقاً،مدرسة فتحت نصف باب وأغلقت أبواب..

هل يتواصل معك بعض من الذين التحقوا بالمنفى؟

- الصائغ)انا لست صديقاً لـ(سعدي يوسف)..عندنا مشاكل..مشاكل اخلاقية لأن سعدي كذّاب..شاعر كذّاب..مع(مظفر)علاقتنا صامتة..صار(30)سنة لم أره..سافر وكنت الوحيد الذي ودّعني..لم يكن هناك أحد..الكل هربوا..

لكن(مظفر)صامت الآن..

- الصائغ)ليس صامتاً..لكن ماذا يقول؟..تحتاج ناسا يسمعونك..اعتقد أنّ الشعر سيندحر..وكل ماليس له علاقة بالأنترنت والكمبيوتر سيضمحل..قد يكون الحل في تداخل الأجناس..

هل تعتقد أن الشعر سيموت؟

- الصائغ)لاأعتقد..لكن سيقع في مأزق في عصر السطوة التكنولوجية هذا..يجب أن يجد الشاعر حلاًّ..

يقول الكثيرون أنّ المثقف العراقي هُزم في محنة الاحتلال الأخيرة والى الآن لم يكتب أي شاعر قصيدة مقاومة ضد الأمريكان ويطرحها علناً سوى الشاعر(سلمان داوود محمد)..

- الصائغ)المحنة أكبر من المثقف العراقي..والمثقف العراقي يتعرض للأبتزاز الآن من قبل البعض..بالمناسبة يتحدثون عن شعر المقاومة..شعر المقاومة ذهب مع المقاومة وأصبح أناشيد..

هل كتبت شيئاً بعد9/نيسان/2003بعد أن وطأت أقدام الغزاة أرض العراق الطاهرة ولوّثوا وجه بغداد المحروسة بالله ؟

- الصائغ _ نعم.. كتبت مقطعات صغيرة.. آخر ما أقوله:

لاترحموا عزيز قوم ذل

لاتعتبوا على البطل

يكفيه أنه رأى الذي رآه

ولم يمت من الخجل))

أرجو أن تسمعني الشريط من جديد..(وبعد أن إستمع الى المقطوعة التي أنشدها) قال: عفواً..

يكفيه أنه رأي الذي رآه(في فراشكم)

ولم يمت من الخجل

أرجوك أذكرها(في فراشكم).. هذه مهمة جداً

حسين-سأذكرها بالتأكيد.. هذا جهاز تسجيل ولا يضيع شيئاً.

- الصائغ(ضاحكاً) _ جهاز عادل.. مو مثل البشر..

حسين)في غرفة من بيتك السابق كانت هناك تحية بخط(صدّام حسين)معلقة في الحائط؟ أين أصبحت الآن ؟

- الصائغ _ لازالت موجودة وأعتز بها.

حسين)ليلة أمس شاهدت برنامجاً في قناة الجزيرة عن صدّام حسين عنوانه:(الصنم)..طلب فيه صدام حسين من المحتفلين عدم إطفاء شموع عيد الميلاد لأنها تعني موت المحتفى به والصحيح هو إبقاء الشموع مشتعلة،هل لديك فكرة عن هذا التناقض ؟

الصائغ _ جلاد وطفل،وهذه هي المصيبة ذات يوم أرسل(صدام حسين)مدير مكتبه وقال له(يوسف)يجلس خلف مكتبه وانت تقف امامه وتقرأ ماكتبه..ووقف الرجل مثل التلميذ أمامي رغم إحراجي..ولكي أريحك مّما في داخلك أقول:أنا مستعد للأعلان عن أني مدحت(صدام حسين) المديح حالة عربيةوعراقية..والمديح ليس شرطاً فيه أن تمدح ما في الأنسان فعلاًبل بما ليس فيه أحياناً و(يطبّه مرض)..مثل تاج يوضع على الرأس ..قد(يرهم)وقد(لايرهم)..المتنبي مدح سيف الدولة وليس كل الخصال موجودة فيه..قال عنه ماهو متخيّل ومرجو ومسقط مدحه بما هو متصورو(قشمره للرجّال)مسكين سيف الدولة ماجان مصدّك..

أنا مع العراق وضد ايران والكويت وامريكا وضد كل من يقف ضد بلدي

حسين)بعض المثقفين نفض يديه الآن من كل شئ وبدأ يدعي بأنّه كان مظلوماً ومجبراً على المديح..يحضرني هنا مثال(الجواهري)..الجواهري مدح فيصل الأول..وبكر صدقي ودعاه للأقتداء بخطي(موسوليني)وقطع رؤوس أعدائه..مدح نوري السعيد في يائيته المشهورة(أبا صباح وأنت العسكري...)..وعبد الكريم قاسم الذي سجن الجواهري ورفض إطلاق سراحه إلّا مقابل كفالة قدره خمسون فلساً للإمعان في إهانته..ثم مدح البكر..وصدّام حسين ومحمد إبن أحمد حسن البكر..وملك المغرب وملك الأردن..وحافظ الأسد..وغيرهم..

- الصائغ _ عليهم أن يقولوا الحق ولا يتردّدوا..يقولوا الحقيقة المجرّدة..المديح تقليد عربي.. المديح ليس لقول الحقيقة بل لقول ما يرضي الممدوح..قصيدة المدح موجهة للمدوح وليس للجمهور..ثم سأوسع الموضوع أكثر..كنت ولا زلت أعشق(عبد الكريم قاسم) رغم تحفظاتي عليه داخل الحزب..تصوّر نحن المثقفين والسياسين كنّا نهتف له:((سير.. سير.. كلنه وراك..إعدم..إعدم.. كلنه وياك)) هل هذا معقول..لقد أصبناه بالجنون وحمل العراقيون سيّارته علي الأكتاف..نفس الشئ حصل مع(جمال عبد الناصر )ثم حصل مع(صدّام حسين)..لقد جعل العراقيون منه إلهاً أوحد..مثل أساطير سومر..العراقيون هم أول من صنع الآلهة وأول من انقلب عليها.

حسين)أتذكر مقالة لك في جريدة(العراق)أواخر التسعينات عن أهزوجة عراقية ذات مغزي خطير هي(متعجب خالقلة بعيرة)

- الصائغ _ نعم..معانيها خطيرة جداً وتحمل مؤشرات نفسية واجتماعية على شخصيّتنا..

حسين)بالمناسبة هناك أهزوجة تقول:((شلون تموّت جارك وانت موصّى بسابع جار))..ياله من عتاب!!

- الصائغ _ المهم.. وكخلاصة نحن بحاجة الى(ديكتاتور) دائماً..بالمناسبة أعمل الآن على مسرحيّة مبنية علي أساس ثيمة فولوكلورية..

في (الموصل)كان هناك والٍ أزعج أهالي الموصل كثيراً(حقا يستاهل ويستاهلون)..كان الأهالي يحتفون به ويظهرون له مراسيم الطاعة المفرطة..ذات يوم قال لوزيره أطلق شائعة عن موتي لكي أرى ماذا سيفعل هؤلاء الكلاب..طبعاً الناس لوسمعوا أن(صدّام حسين)مات لاأعتقد أنهم سيعملون مثلما عملت رعية ذلك الوالي..هذه هي ثيمة المسرحية..

علي ذكر شائعة الموت..هل سمعت بشائعة موتك قبل أسابيع؟

- الصائغ- نعم..كنت آخر من سمع بهذه الشائعة..شائعة موتي..السبب هو إلتباس مع إسم الكاتب الفلسطيني(يوسف صائغ)..

هل اهتزت قناعتك بالحياة..بالديمومة؟

- الصائغ)كلاّ..كنت ومازلت أحّس بأنني سوف أموت قريباً.

هل اعتبرت شائعة موتك محاولة تدريب قبل مقابلة المثكل؟

- الصائغ(يضحك)_نعم..تدريب..لقد اخذوا حقوق موتي..إذا متّ من(صدك)لن يصدق احد،سيقولون مات بالغلط..ها..ها..(ضحك بشدة واختنق)

علي ذكر الحزب..رفاق الأمس يلومونك أو يدينونك أحياناً علي مواقفك السابقة؟

- الصائغ _ سأحدثك بصراحة ووضوح شديد..ماهو الموقف القديم وماهو الموقف الجديد؟..منذ البداية كان عندي موقف واحد هو أن الحزب مكان غير صالح لي ويجب أن أختلف..لقد جئت الى الحزب كي أختلف واخرّب..أنا جئت كي أختلف..هذه طبيعة شخصيتي وطبيعة نظرتي الى الأمور..انتميت بتأثير اصدقائي..وانتميت بتأثير روح المشاكسة..بصراحة جئت لأخرّب..خذ الموقف من(عبد الكريم قاسم)،كنت أقول في إجتماعات الحزب لماذا لانلغيه ونأتي ببديل عنه..ثم في عام1963 وتقويمات الشيوعيين معروفة وتدعو كلها للرثاء..وكلها حصلت وأنا في السجن..بعد أن خرجت من السجن عام1968..خرجت من(نقرة السلمان)..من الجحيم..كنت في القيادة المركزية.. كانت هناك لجنة مركزية وقيادة مركزية..أنا في القيادة المركزية(ماكو جارة..ماكو غيرها)..عندما خرجت من السجن كتبت تلك القصيدة التي أشرت إليها سابقاً((لاشئ يا أحباب في وطني سوي القدّاح.. إلخ))..كنت أبحث عن صديق..عن واحد من (ربعي).. بلا رجاء..بلا أمل..بعدها شاهدت(ربعي)..خرجوا من السجن وبدأت المشاكل من جديد..هل نقيم جبهة مع حزب البعث أم لا؟..وقتها التقيت بمظفر النواب وكان من أصدقائي المهمّين كنت أحرّم الجبهة مع البعث..بقيت في صراع..المهم قامت الجبهة وفشلت وحصل الذي حصل..ثم إنهزم رفاقي جميعاً وتركوني وحدي..واحدة من الكوارث التي تعرضت لها وقتها..كان عندي حبيبة(تسوه روسهم)..عاشت شيوعية وماتت شيوعيّة..قتلها البعثيون..لكن ارى قتلها الشيوعيون..هي صمدت وهم هربوا..هي وأمثالها من الشباب المؤمنين المتحمسين..ثم جاءت الحرب ضد إيران أنا لايدخل في عقلي حتى الموت أن يقف ماركسي مع(الملالي)..أن يصطف مناضل مع عدو متخلف وضد بلدي..هذا شئ لايدخل في عقلي..الكويت..إيران أوغيرهما..لم يكن عندي فكرة أن أكون مع(صدام حسين)بقدر ماكان عندي هم أن يكون الحزب في الموقف الذي سيحاسب عليه التاريخ.يا أخي علي الأقل مثل الأكراد..وضعوا ساقاً هنا وساقاً هناك ودبّروا حالهم..أما بالنسبة لربعي ففي البداية رفعوا شعار أن العراق هو أهم قضية ثورية في العالم الثالث ثم بعد سنتين رفعوا شعار(يسقط العراق)..هذه نكتة مضحكة.. إذا لم تقرأ(مقدمة لقصيدة حبّ فاشل)والتي نشرت في صفحة كاملة من جريدة(الثورة) آنذاك فلن تطلع علي الموضوع بحق..أنا مع العراق وضد إيران وضـد أمريكا وضد كل من يقف ضد بلدي..أنا ضد الحزب الشيوعي لأنّ موقـــفه خاطئ.انا انحني لشهداء الحزب وتاريخه،ولكن الخطأ خطأ ويجب أن أقول الحق..ما قاموا به عمل خاطئ إن لم يكن جريمة.