موسى زغيب

توبي قماش وإنتْ توبك ريشْ    إنت وأنا بصواتنا منعيشْ
وبدنا نموت وكلها
   موتي      الله يخلّي صوتك وصوتي

المستقبل - السبت 28 حزيران 2003 - العدد 1333 - ثقافة و فنون صفحة 20   

نحاور في هذه الحلقة الشاعر موسى زغيب وهو كذلك من أبرز شعراء الجيل الثاني الذين تركوا بصماتهم الواضحة سواء على المنبر الزجلي من خلال المباريات التي أحياها والجوقات التي أنشأها أو اشترك فيها أو من خلال الشعر المكتوب الذي يحتل عند زغيب مكانة موازية لذاك المرتجل.
كيف تعرّف لي الزجل اللبناني؟
ـ الزجل اللبناني هو أب جميع متفرّعات الشعر اللبناني المحكي، هو أب الأغنية اللبنانية، وكل التصنيفات الأخرى. فحين بدأت الأغنية اللبنانية مع وديع الصافي كانت زجلاً، وشعر الرحابنة كذلك هو ابن الزجل.
ماذا عن تاريخ الزجل؟
ـ لم يوجد مخطوطة بين أيدينا أقدم من مخطوطة المطران القلاعي الذي بدأ الزجل بالسريانية، وأرّخ بالزجل لفترة من تاريخ لبنان، ويعتبر ما كتبه وثيقة تاريخية اليوم. فالبداية كانت مع السريانية، ثم أصبح خليطاً من الفصحى العربية والسريانية، وصار يتصفّى إلى أن وصل إلى زمن رشيد نخله، أمير الزجل في فترة من الفترات، وصاحب النشيد الوطني، وصاحب الشعر الصافي والنقي الذي طلع من المنابر.. ثم أيضاً شحرور الوادي صاحب السبق في تنظيم الشعر الزجلي والشاعر الكبير أيضاً. نحن لدينا شعراء منابر وشعراء قلم. سعيد عقل وميشال طراد وأسعد السبعلي وأسعد سابا هؤلاء شعراء قلم والفرق بيننا وبينهم أننا "بمنرّق" أشياء كثيرة.
فلتانة
ما المقصود بذلك؟

ـ شاعر المنبر عليه أن يغني أربع ساعات في كل حفلة، وأن يرتجل، فلا بد من أن تمرّ أشياء فلتانة، بينما شاعر القلم لديه الفرصة لكي يصفّي شعره. انما يحتاج شاعر المنبر إلى مؤهلات كثيرة، أولها أن يكون شاعراً، ثم أن تكون لديه سرعة البديهة، وأن تكون خبرته معقولة، ثم أن يكون وجهه مقبولاً.. وأخيراً أن يكون لديه نوع من السيطرة على الجمهور.
هذه المواصفات تجعل من الزجل فناً أدائياً؟
ـ الزجل فن أدائي طبعاً، لكنه يمتلك الشعرية أيضاً. وينبغي أن يتوافر لدى الشاعر الحس الشعبي أيضاً. ينبغي أن تعرف كم يحتمل جمهورك من الغزل والمديح والعتابا والهجاء.. أي أن تتحوّل مع الناس لكي تستمرّ في حفلتك...
على الرغم من تاريخ الزجل العريق فهناك شبه إجماع بين الشعراء الذين حاورتهم حتى الآن على أن فترة ازدهار الزجل كانت من الستينات وحتى بداية الحرب في 1975 وهذه فترة قصيرة نسبياً بالنسبة إلى فن عريق كهذا؟
ـ المشكلة أن الزجل لم يكن مدوّناً، ولا كان يجد الرعاية الكافية قبل إنشاء المنبر الزجلي. لكنه كان حاضراً بين شرائح الشعب بصورة واسعة جداً. وقد وصل الزجل اللبناني إلى قمة أمجاده بين الخمسينات والتسعينات.. تصوّر كنا نحيي حفلة يحضرها 30 أو 40 ألفاً.. ثم جاؤوا وطلعوا بلغة جديدة، أن الشعر اللبناني شيئ والزجل شيئ آخر.. وروّجوا لهذا الموضوع.. وتبيّن لي بعد الاطلاع أن الشعر اللبناني كله زجل..
لكن الشعر المحكي أدخل نوعاً من الحداثة، حتى الشكلية، التي لم يعرفها الزجل؟
ـ لا حداثة ولا من يحزنون.. فبدلاً من أن تكتب "راح الحبيب يزور محبوبه القديم" في سطر واحد متّصل، تكتب:
"راح الحبيب

 يزور

 محبوبه القديم"
هذا صار برأيهم شعراً لبنانياً ولم يعد زجلاً.. اشتغلوا على هذه المسألة فترة ثم توقفت هذه الطريقة لأن الشعر إذا فقد الإيقاعات والأوزان لا يعود له معنى.. على الأقل ينبغي أن يكون إيقاعياً. فنزار قباني في تجديده الشعري مثلاً ظل محافظاً على الأوزان والقوافي وإن تحرّر من بعض قيودها..
نزاع
يستشف من كلامك أن هناك نزاعاً بين الزجل والشعر المحكي؟

ـ ليس هناك أي نزاع لأن الشعر المحكي هو الشعر الزجلي، وهو يأخذ أوزانه، وقد قلت لهم ابتكروا أوزاناً جديدة وقولوا إنه شعر محكي...
ألم يكتب شعراء المحكية بطريقة جديدة؟
ـ كل شعراء المحكية كتبوا الزجل.. طراد كتب الزجل وسعيد عقل والسبعلي وسابا.. أتحداهم إذا بيجيبوا قصيدة لميشال طراد غير موزونة ومقفاة ولا يمكننا نحن أن نغنيها على المنبر..
هل تتقاطع أوزان الزجل مع الشعر الفصيح؟
ـ القصيدة الفصحى تتخذ قافية واحدة عند نهاية كل بيت. أما نحن فنأخذ قافية في النصف وأخرى في نهاية البيت.. هذه التركيبة الملزمة وجدها بعضهم صعبة ومتطلبة ففككوا هذه الطريقة لكي يشتغلوا على راحتهم.. لست ضد العمل الذي يمتلك الجمال، لكن هذه الطريقة لا تفيد، وهم يعتبرون أنك حين تكتب قصيدة كبيرة وتكون ملزماً بالقوافي والأوزان تضطر إلى تمرير أشياء فائضة.. وفي مثل هذه الحالات أفضّل كتابة القصيدة القصيرة.. المهم أن طريقتهم لم تمش بدليل أن كتبهم لا تباع.. أنا نشرت كتاباً زجلياً بعت منه 7000 نسخة في الطبعة الأولى فقط.. أفضل شاعر منهم يبيع 400 أو 500 نسخة.. فما قاموا به ليس تطويراً ولا تغييراً.. ومع ذلك فهم لديهم ممسك على شعراء المنابر لأن الأخيرين نقلوا كل ما يقولونه على المنبر ونشروه في كتبهم.. لكنني شخصياً استدركت هذه المسألة وعمدت إلى الاختزال وحذفت ما لا يناسب النشر..
بداية
كيف تعرّفت على شعر الزجل؟

ـ أنا من بلد فيها 40 شاعراً هي حراجل. كان جدّي لأمي شاعراً مهماً وأبي وأخوالي يقولون الشعر. وقد خرّجت حراجل الكثير من الشعراء المهمّين وكان لدينا شاعر اسمه طانيوس ديب كان محط الآمال بعد شحرور الوادي لكنه توفي باكراً في السابعة والعشرين. بدأت بغناء الزجل باكراً وفي سن السادسة عشرة ترأست أول جوقة وكانت باسم "باز الجبل" وكان معي شعراء لا زالوا يقولون الشعر.. عدت بعد ذلك وغنّيت مع الشاعر حنا موسى، ثم مع طانيوس الحملاوي في "المنتخب الفني" ثم غنيت مع زغلول الدامور سنة وقمت بلقاء مع خليل روكز في جبيل وغنيت معه حتى وفاته فألفت جوقة "خليل روكز" تخليداً لاسمه وكانت هذه الجوقة التي أنجزت المباريات الكبرى في لبنان.. ثم ألفت جوقة "القلعة" التي اشترك فيها 25 شاعراً والآن نحاول أن نساعد الجيل الجديد المثقف.
تمارس الزجل منذ عقود... ما الذي يجعل شاعر الزجل يستمر بالغناء برأيك؟
ـ أغني منذ خمسين سنة.. كل يوم أجلس أربع أو خمس ساعات وأكتب.. تحتاج أن يعطيك الله الصبر والقناعة لكي تكتب وتنتج بشكل جيد.. ولكي يحضرني الناس طوال هذه المدة لا بدّ أنني أقدّم أشياء جديدة باستمرار.. هناك شعراء غنوا زمنهم وحين شاخوا قليلاً صاروا خارج الزمن. أهم شيئ أن يتمكن الشاعر من مواكبة الزمن ومن الالتصاق بحاضره. أنا كنت آخذ 15 ليرة على الحفلة، أما اليوم فأجري 2500 دولار.
ما الذي تعنيه بمواكبة الزمن وكيف؟
ـ في الخمسينات مثلاً كنا نغنّي لأناس أميين في القرى والأرياف. لكن الزمن تطور وزادت نسبة المتعلمين والمثقفين، لم يكن في السابق إذاعة أو تلفزيون.. كان الزجل سيد الساحة وكان الناس يتقبلون كل ما يقدّم لهم.. دخلنا في الزمن الآخر. اليوم لا تؤاخذني شعراء الزجل الكبار غير مثقفين إلا القلة القليلة منهم. لا تجد عند الواحد منهم مكتبة مثلاً. وليس المهم وجود مكتبة أصلاً، لكن المواظبة على قراءة الكتب.. ينبغي أن يحافظ الشاعر على خزانه الداخلي لكي يتحدّى الزمن.. حين بدأت بالكتابة كنت أقول مثلاً "يا رايحة ع العين تا تملّي الابريق" هذا النوع من الشعر لم يعد ملائماً اليوم، واليوم صرنا نغنّي لبنات الجامعات، والمرأة عنصر مهم في حفلاتنا لأنها تستطيع أن تجلب الناس إلى الحفلات ولذلك نركّز عليها كثيراً.. على سبيل التطوير أيضاً قمت بإدخال الآلات الموسيقية من دف ودربكة وعود وأورغ وكورال من الفتيات.. أنا الوحيد الذي قمت بتبديل في المنبر الزجلي سواء بالمشهد (الكورال والموسيقى) أو بالمضمون.. فمنعت الحوارات العنترية التي بلا معنى، وصرت أعالج القضايا الإنسانية والاجتماعية والوطنية التي تعني الجميع. لم يعد وارداً كتابة أشياء من نوع "تا صار مهري يدعس جبين القمر"...
هذه العنتريات شكّلت أساساً للمنبر الزجلي في مرحلة من المراحل؟
ـ لكن جيلنا نقل الزجل من العنترية إلى الواقعية، وتبيّن لي لاحقاً أنه حين ترهق الناس بالحوار الفكري عليك أن تريحه قليلاً.. فأدخلت ألألوان التراثية كالدلعونا والله الله يا جملو ورمّانك يا حبيبي.. لكنني أدخلتها جديدة من حيث الحوارات.. وهناك نوع اسمه "الشروقي" كان يقوله النور في البقاع وقد نقلت هذا التراث إلى المآتم ثم إلى المنابر وصار الجميع يردّدونه في الحفلات ففرضت هذه الطريقة على كل شعراء الزجل في لبنان.. أنا لدي أكثر من 500 شروقية، ومرة ذهبت إلى استراليا فوجدت محامية شابة تحفظ كل شروقياتي.. وكل قرى لبنان تغني شروقياتي...
يقال إن طلال حيدر هو أكثر من اشتغل على تراث البدو والنور؟
ـ هذا لا أحد يستطيع الادعاء فيه لأنه فن موجود منذ القدم لكن كانت لدينا إمكانية نشره.. والشروقي فن صعب لأنك تشتغله قطبة قطبة.. وأكثر من 10 أبيات منه تحرقك..
ماذا عن الدور الذي لعبه التلفزيون في نشر الزجل؟
ـ بدأت أغني في مطلع الستينات مع خليل روكز في التلفزيون وكنا نحيي أسبوعاً وجوقة الزغول أسبوعاً آخر.. كنا أسياد ذلك الزمن.. مشكلتنا أنه بدأت الوسائط تتدخل حتى في الفن فتوقف البرنامج، وتكرر الأمر نفسه في الإذاعة اللبنانية... مرة أعطونا برنامجاً في تلفزيون لبنان فصار كل الشعراء المنتسبين إلى النقابة يريدون الغناء في هذا البرنامج مع أن شعراء المنابر معروفون، فلم ينجح البرنامج.. ومع ذلك ساهم التلفزيون إلى حدّ بعيد في نشر الزجل لأنه كان سلوى الناس الوحيدة في فترة من الفترات..
طائفية؟
هل يمكن القول إن هناك صبغة طائفية لشعر الزجل؟

ـ كل الذين يحكون بالوحدة الوطنية لم يحققوها أكثر من شعراء الزجل.. خلال 20 سنة حرب كان في جوقتي السني والماروني والشيعي والدرزي والأرثوذوكسي.. وكنا نترافق إلى كل الأمكنة والمناطق وكان الجمهور يصفق للجميع.. ما نفتخر فيه أن الوحدة الوطنية ظلت باقية في شعرنا حتى في أقسى المراحل وأكثرها تمزّقاً..
على الرغم من ذلك بقي الزجل بحسب كثيرين خارج الوجدان الوطني بمعنى أنه لم يساهم في صوغ هذا الوجدان بقدر ما بقي في الإطار الخارجي؟
ـ هذا خطأ كبير. وإلا لماذا يعتبر الزجل أهم عنصر يربط اللبنانيين بالوطن الأم. أنا أسافر إلى أرجاء العالم وأجد أشرطة الزجل وكتبه منتشرة في كل مكان، وقد كان له الفضل في إعادة عدد كبير من المغتربين.. في أيام الفتنة كنا الداعين إلى الوحدة.. ثم خذ كل ما كتب من مقالات عن مجزرة "قانا" مثلاً فهي لا تساوي رباعية واحدة كتبتها عنها. أقول:
" يا أولبرايت لا تحقّروا الإنسان لمّا الزمان بيجبروا يركع
انتبهوا من عشبة بتنبت بلبناال ورقة رفيعة والخصر أرفع
بنحدل عليها الزفت بالأطنان ومنقول راحت ما بقا ترجع
ولما بيسري بدمها نيسان بتشق زفت الدرب وبتطلع"
كان الخطيب المعروف لويس أبو شرف يقول أن الذي يريد أن يتكلم على المنبر قبل شاعر الزجل أو بعده يحترق...
دور ومسؤولية
ترى إذاً أن شعراء الزجل يؤدون واجباتهم على أفضل نحو؟

ـ أوجه طلباً إلى الجميع ألا يتسرعوا في تعميم الأحكام.. كل الفنون فيها سبّاقون ولاحقون.. لماذا إذا كان المطرب فاشلاً يقولون هذا المطرب فاشل ولا يقولون الطرب فاشل وإذا طلعت جوقة أولاد فاشلة يعمم الأمر على الزجل كله... الزجل عمره مئات السنين ونحن نحارب من أجل بقائه لأن الزجل اللبناني لا مثيل له في سائر البلدان العربية.. ذات مرة قال لي شاعر إماراتي إن دولته تمنحه جواز سفر دبلوماسياً لأنه يمثّل صورة بلده فما الذي تفعله دولتنا لنا.. في الخارج هناك تقدير كبير لنا أما في بلدنا فحقنا مهضوم..
ألا تعتقد أن شعراء الزجل ساهموا في تدهور أحواله؟
ـ لا أحد لا يخطئ في الحياة.. مشكلة شعراء الزجل أنهم لا يناصر بعضهم بعضاً.. كلمة الأنا هي الأكبر وهذا خطأ فادح.. كل واحد منهم يقول أنا أعظم شاعر في الدنيا.. حاولنا أن نجمعهم لكن هناك علة أن كل واحد منهم يريد أن يرأس جوقة.. بدلاً من أن تكون هناك جوقة واحدة تضم كبار الشعراء وهذا من شأنه أن يقوي الزجل، فتجد شاعر زجل مهماً يحضر معه عدداً من الشعراء الضعاف.. وهكذا بدأ شعراء الزجل يتفرفطون وإذا كان ينبغي أن يكون هناك رسالة فلا ينبغي أن تكون الأنا هي الغالبة.
هناك من يقول إن الزجل يعالج القضايا السياسية والاجتماعية المهمة لكننا لم نسمع عن شاعر زجل طورد أو لوحق مثلاً..
ـ هموم الوطن شيئ والسياسة والتحزّب شيئ آخر.. والسلطة تعرف جيداً أنها إذا اعتقلت شاعر زجل بسبب قصيدة فإن ذلك ليس في مصلحتها.. لكننا نحكي عن كل خلل نراه...
ماذا عن القضايا الأخرى العربية؟ هل تجد أنه لكي يستمر الزجل في الحضور عليه التطرق إلى هذه القضايا التي تهم في النهاية شرائح واسعة من الناس؟
ـ أتحدّث عن نفسي.. أول كتاب شعر لي كان عن المقاومة الفلسطينية وجاء في العام 1968 وأسميته "20 سنة ثورة شعب" وقد جوبهت وقتها في منطقتي وهذا الكتاب وزعته منظمة التحرير وقتذاك.. ومع أن ذلك لم يدر عليّ مالاً لكنني شعرت أنني كشاعر ينبغي أن يكون لي موقف مع قضية عادلة..
الراهن
هل تتابع الأحداث الراهنة.. 11 أيلول، الانتفاضة، العراق..؟
ـ أتابعها بوجع.. الأشياء الكبرى يمكننا أن ننظر إليها نحت الشعراء نظرة خاصة لأننا ندرس التاريخ ونعرف أن العواصف تهب وتخلّع الأشياء لكنني أقول أنه حتى لو انقلع البيت من جذوره فإن الأولاد سيكبرون ويعمرونه من جديد.. أتأسف كثيراً حين أقرأ عن اجتياحات الاسكندر والتتار وأننا صرنا في عصر الحضارة والديمقراطيات ومع ذلك تجد الأمور نفسها تحدث اليوم...
تظن أن شاعر الزجل يستطيع أن يحمل هموم أبعد من الجغرافيا الضيقة؟
ـ إذا لم يحمل الشاعر همّ آخر طفل حافي القدمين في الهند كما يحمل هم ابنه فليس بشاعر.. والشاعر الذي لا يحب جميع شعوب الأرض لا تصدّق أنه شاعر.. بالأمس كنت أكتب قصيدة لمناسبة وكان الكنار في قفص إلى جواري فصار "يترغل" قليلاً حتى أحضروا له حبوباً.. فتوقفت عما كنت أكتبه وأنشدت للحسون:
" إنت ونايم بهالقفص بتحلم بغابة من شجر وغصون وغير بالحلم ما بتقشع الغابي
إنت وأنا طيرين يا حسون أحلامنا بتضل كذابي
لو ما بغنّي ما كنت بنحب وإنت صورة مزغّرة عني
لو كان صوتك مش هبه من الرب وكل ما صدح بيخفّف العني
كانوا البشر ما بيشترولك حب وما بيطعموك تا تضللك تغنّي
ثوبي قماش وإنت ثوبك ريش وبدنا نموت وكلها موتي
إنت وأنا بصواتنا منعيش الله يخلّي صوتك وصوتي"
يعني على الشاعر أن يمتلك حساسية فائقة تجاه أصغر الكائنات وإلا لا يكون شاعراً..
من هو شاعر الشعب اللبناني الزجلي خلال تاريخ هذا الفن برأيك؟
ـ كل زمن له شاعره.. حين كان شحرور الوادي كانت له علاقة قوية بالمجتمع وكان شاغل الناس.. اليوم حين تقرأ ديوانه وأنا غير راض عن الطريقة التي خرج بها تجد أنه يعبّر عن زمنه.. خليل روكز كذلك كان يعبّر عن زمنه..
أحد المآخذ اليوم على جيلكم أنكم ما عدتم تحيون الحفلات الشعبية، وتكتفون غالباً بالمطاعم التي لا يستطيع المواطن العادي أن يقصدها؟
ـ صحيح أننا نقيم حفلات في المطاعم، لكن هناك أيضاً الكثير من الحفلات الشعبية، وأرخص حفلات في لبنان يفترض أن تكون حفلات الزجل لكن متعهدو المطاعم يتحكّمون كثيراً في الأسعار... نحن لا نقوم بتجارة بقدر ما نحاول أن نعيش وأن نؤدي رسالتنا أيضاً.. أنا غير مديون مثلاً لكنني لم أوفّر المال.. وقد أردت أن أوقف المنبر الزجلي أخيراً لكن تدخل كثر وطالبوني بالقاء لتدريب الصغار والجدد..
هل تتوقع أن يستمر شعر الزجل بالبقاء أم هناك علامات على أفوله؟
ـ لا أحد يستطيع التنبؤ لكنني أعرف أن الشعر الذي يعيش 500 سنة لا يموت.. ومع ذلك أخشى أن وسائل الإعلام اليوم تقتل الفنون، فهي تروّج للشعراء الصغار بطريقة غير معقولة، وهذا يحرقهم باكراً.. قديماً كان الشعراء يؤسسون طريقهم خطوة خطوة.. اليوم لا يستطيع الأولاد امتهان هذا الفن.. أنا لم أعش من المنبر الزجلي بل من أسفاري الكثيرة إلى الخارج ومن المآتم والأفراح أما المنبر الزجلي فهو رسالة بالنسبة إليّ.