المعرفة الوضعية إلى تحديدها, و التحكم فيها, إن التقدم الحقيقي هو ذلك المجهود الدائب و البطيء, المخيب للأمل في غالب الأحيان, و المشجع أو المحمس أحيانا, الذي يواصله الفكر من أجل تقليص حدود المجهول, و ما هو غير معقول, و بالتالي ما هو غير متوقع, و ما لا يخضع للمراقبة. و من هذه الوجهة, يكون من الظلم السخرية من التقدم و الركون إلى خيبة للأمل - من طراز إيديولوجي – كما هو شائع في الغرب. و صحيح أن تقدم العلم قد حول خدمة مصالح طبقية, و تكتلات اقتصادية, " و نخب حاكمة". و هو غرضة لأن يتلاعب به تقنوقراطيون أجانب عن كل فكرة تاريخية أصلية ( و على الرغم من أنهم يتحدثون عن " قيم وطنية أصيلة" حسب مصطلح الإيديولوجيات الرسمية)

و ليست المجتمعات الإسلامية المعاصرة بمنجاة عن هذا التحول الإيديولوجي و الاقتصادي للعلم. بل أن المشكلة مطروحة بصورة أكثر حدة بالنسبة إلى تلك التي باغت إلى درجة من القوة النقدية لم يسبق لها نظير من تلك المجتمعات الإسلامية. إن كل خاصيات العصرانية المادية أصبحت بحيث يمكن اقتناؤها بسرعة. لكن من ذا الذي سيتساءل عن التطورات الممكنة مع انعدام أطر ثقافية و جهاز فكري ممنوحين لنمط التاريخية التي تقتضيها عصرانية مادة مستوردة ؟ و لا يهدف هذا التساؤل إلى التقليل من جهود الذين يثابرون على طرحه على الوجه الصحيح و على الإجابة عنه, و إنما يسعى – على العكس من ذلك- إلى التنبيه إلى إدراك أهميته لزيادة تصديقية الآية القائلة : " إنما يخشى الله من عباده العلماء" (الملائكة,28)

و لنذكر في الختام أنه بامكاننا أن نترسم ثلاثة خطوط تطور ممكنة:

- تخط أو تجاوز للمرحلة الاسلامية السلفية من الحضارة بفضل نجاح النمو التقني و الاقتصادي. و مثل هذا الخط ستترتب عليه أزمات بنيوية للحضارة تضاهي الأزمات التي تعيشها المجتمعات الصناعية حاليا. و عندئذ لن يكون لمشكلات النقد التاريخي المذكورة آنفا سوى أهمية تعليمية.

- انفصام متزايد بين الرجوع بالفكر و الثقافة الى حالتها السلفية.  وبين السعي المحموم الى النمو الاقتصادي. و هذه الفرضية الثانية لا يمكن تحققها بنيويا من وجهة نظر الماركسية الكلاسيكية : و من ثم يتجلى المدى النظري لبعض التجارب الجارية.

- التصميم على تغليب جانب استراتيجية تنمية متفق عليها ترمي إلى لم شتات المنحى, و الوعي و الهيئة الاجتماعية. و مثل هذه الاستراتيجية تحتم الاعتراف بأن كل تاريخية تستخدم ما هو من قبيل القيم, و ما ليس من قبيل القيم, و ان القيم هو ما يدخل في حياة حياة الناس ضمن المجتمع, و بالتالي في حياتهم الخاصة أيضا – عناصر علاقة ايجابية محفوزة. لكن ترى من الذي يقرر اختيار العناصر و حوافزها ؟ و باسم ماذا ؟ و باسم من ؟ و هتا لا نجد مفرا من الرجوع الى مسألة أساس كل تاريخية.

            مراجع و تعليقات

 

1- محمد أركون, دراسات في الفكر الاسلامي, باريس 1973 صفحة 223 و ما يليها

2- محمد عبده, رسالة التوحيد, ص 152 ( أورده ل. غاردي في الموسوعة الاسلامية, مادة الاسلام)

3- راجع م. برافمان: الخلفيلت الروحية لفجر الاسلام- ابريل 1972 ص 8.

4- ان الصفة "موجد" Existential  قد استعملها " هيدغر" على وجه الخصوص ليميز الكائن في مجموعة و بوصفه كائنا " من الوجود المعاش"

من الانسان بصفة خاصة "الموجود" و الذي نقصده من النماذج الموجدية هو النماذج البنيوية للوجود البشري التي يقترحها القران و التي تتلقى تطبيقات قي النسق الوجودي للمؤمنين.

5- راجع قراءة الفاتحة, ميلانج A.Abel , بريل, 1974

6- عن معنى عقل في القران, راجع محمد أركون : هل يمكن التحدث عن العجيب في القران ؟ في العجيب و الغريب في الحضارة الاسلامية الوسيطة, طبعة باريس 1977

                                                              7- أ. توارن : انتاج المجتمع طبعة ساى 1973 صفحة 26.

8- أ. توارن : نفس الكتاب صفحة 33

9- أزمة المفكرين العرب’ ما سييرو 1974

10- راجع موريس ويسلي M.Wesley " نحو تاريخية جديدة" برانسطون 1972

11- نهمل صيغة historisme التي هي صنو لا فائدة منه لصيغة historisme راجع كارلو أنطوني C.ANTONY جنيف  L'historisme1963

12- ان تعدد اللقاءات الوطنية و الدولية حول مشاكل التنمية لتبين الى أي حد أصبح التقدم من الاهتمامات السياسة الكبرى. إلا أنها غالبا ما تعالج باعتبارات خلقية تقليدية.

13- هناك إلى جانب فكر مكتوب, مذاع على الملأ, فكر اسلامي غير مكتوب. يتجلى في المحادثات الخصوصية و هو أكثر جرأة و نقدا و وضوحا من الاول لأنه أكثر حرية.

14- حسب صيغة ب.بارتس R.Barthes  درجة الصفر من الكتابة مطبعة ساى19.

15- عن هذا المفهوم راجم محمد أركون, دراسات, صفحة 308 و ما يليها.

16- عن مفهوم الذاكرة الجماعية, راجع هـ.دييروش : سوسيولوجية الأمل, كالمان ليفي 1973 صفحة 205 و له (م. هالبوش في الذاكرة الجماعية الطبعة 2 المطبعات الجامعية الفرنسية) يرجع له الفضل دون شك في التمييز بين ذاكرة عالمية للنوع البشري أي الذاكرة التي تنتقل عبرها صور الحوادث المطهرة و بين الذاكرة أو الذاكرات الجماعية التي تتواصل عبرها القوى. ففي الاولى ترتب أو يعاد فيها ترتيب المتابات, و في الثانية تحيا أو تبقى التقاليد...

17- للتعرف السريع على هذا المفهوم. راجع م. ايلياد – مظاهر الفكر الميثي غاليمارد 1963. لكن معرفة مؤلفات ك. ليفي- ستراوس ضرورية. و طالما لم تترجم هذه المؤلفات الى اللغة العربية فإن ترجمة كلمةMythe  بالأسطورة ( القصة الخرافية) ستظلل القارئ دائما.

18- راجع محمد أركون: من أجل لم شتات الوعي الاسلامي ميلانج هـ. كوربان طهران 1977

19- يمكن العثور على فهرسة الأعمال الحديثة في ف. روزانطال : تاريخ المؤرخين المسلمين, الطبعة 2 أبريل 1968.

20- راجع محمد أركون : مساهمة في دراسة النزعة الانسية العربية في القرن الرابع هجري, مسكوية الفيلسوف و المؤرخ. ج فران 1970.

21- راجع التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي للشرق الاسلامي في العصر الوسيط في ستوديا اسلاميكا 1955

22- راجع المرجع, صفحة 59 و ما يليها.

23- راجع ج ب ديكزنتشي : ميلتون روكاش و مفهوم الدوغماتية في وثائقيات سوسيولوجية الديانات 1970/30

24- نفس المرجع صفحة 6.

25- نفس المرجع صفحة 13.

26- صبحي الصالح, مباحث في علوم القران دمشق 1958 صفحة 93 تعليق 2.

27- الميتافيزيقا ب4. راجع أعمال ج ب . فيرنان J.P.Vernant الفكر الأسطوري و الفكر عند اليونلنيين.

28- راجع محمد أركون: هل يمكن التحدث عن العجيب ؟ المرجع المذكور.

29- راجع غولدية  M.Godelier: الميث و التاريخ: تأملات في أسس الفكر الوحشي في سجلات, 1971/3-4 صفحة 551

30- شافق شحاتة : دراسات في الفقه الاسلامي. المطبعات الجامعية الفرنسية صفحة 17.

31- إن المراجع حول هذه المفاهيم متعددة, و لنشر على الأقل الى ف. برودل: كتابات في التاريخ. فلاماريون 1959.

32- عن هذا المفهوم الهام, راجع غولدمان: الماركسية و العلوم الانسانية غاليمارد 1970 صفحة 121 و ما يليها. ان الوعي الممكن هو استباق دينامي على ضرورة الوعي الحقيقي, لكنه أيضا جملة امكانات في حالة تمخض و تكون داخل الوعي الجماعي و عاجزة عن التحين لانه ما من نبي. و لا داعية و لا مجموعة رجال ساندها بكلمته و لا بكتابته, و لا بمقدرته الاستراتيجية, أو لأنه لم يكن هناك " لقاء بين ارادة و ظرف زمني"

33- عادة جارية عند قراء القران المسيحيين.

34- ما الميتافيزيقا ؟ طبعة 12 فاليمارد 1951 صفحة 192

35- نفس المصدر صفحة 193.

36- راجع محمد أركون: الفكر العربي المطبعات الجامعية الفرنسية 1975, و كيف نتحدث عن الاسلام اليوم ؟ الاسلام أمس, و غدا. بوشى شاستل 1977.

37- هنا تتجلى بوضوح أكثر ضرورة أي تقديم اثنوغرافي و سوسيولوجي للمجتمعات الاسلامية.

38- راجع بشأن هذا المفهوم ب. بول بنيشو : تكريس الكاتب ج.كورني 1973.

39- راجع ر. أرنالديز : الانا الالهي و الانا البشري استنادا الى تفسير القران لفخر الدين الرازي في ستوديا اسلاميكا 36.