الطفل والمحيط

من المبادي الاساسية التي لايمكن تجاهلها أو التغافل عنها، هو أثر المحيط القوي والفعال في تكوين شخصية الفرد. فالطفل في بداية ولادته يأخذ بالتأثر والانفعال بالمحيط، ويبدأ بالتفاعل معه والاكتساب منه... فيقتبس مختلف انماط السلوك والمعتقد وأساليب العيش والانحراف، فللوالدين وسلوك العائلة ووضع الطفل فيها مثلاً دور كبير في بلورة شخصية الطفل وتحديد معالمها، كما للمعلم وأصدقاء الطفل وللمجتمع ووسائله الفكرية والاعلامية وعاداته وأسلوب حياته سلطان كبير على سلوك الطفل وتفكيره، غير أن من الامور المهمة التي يجب أن نلاحظها هنا، وانطلاقاً من فلسفة الاسلام العامة، هي أن العالم الخارجي بالنسبة للانسان وبمختلف مصادره، ومع شدة تأثيره لايقرر كلياً وبصورة حاسمة والى الابد مواقف الانسان وشخصيته، بل الارادة والقوة الذاتية سيكون لهما الدور الفعال في تحديد السلوك والمعتقد. ذلك لان الانسان في نظر الاسلام حُر مختار يمكن أن يتصرف في اختيار المواقف وتحديد أنماط السلوك، ولكن هذه الارادة كما هو واضح تنمو مع الطفل وتقوى كلما نما وقوي حتى تكتمل وتنضج مُواكِبة نمو واكتمال شخصيته العامة، وأما في مرحلة الطفولة فسيكون للعالم الخارجي ولموضوعاته الاثر الاكبر والبالغ الاهمية في تشكيل الذات وتكوينها، لانعدام الارادة والقدرة أو ضعفها عن التمييز والاختيار في هذه المرحلة.
ومن الواضح أن تأثير العالم الخارجي ـ البيت والمدرسة والمجتمع ـ لايقف عند مرحلة الطفولة، بل إنّ مايشاهده الطفل، أو ينفعل به، أو يسمعه، أو يعاينه، يبقى ذا مغزى ومدلول عميق مترسباً في أعماق العقل الباطن، يفعل ويؤثر، وينازع الارادة في المستقبل ويقلقها ويثير المتاعب أمامها، أو على العكس من ذلك إذا كان مما يوافقها.
وإذن فقد يعين العالم الخارجي الانسان على السلوك الخيِّر البناء، وقد يحرفه نحو سلوك شرِّير هدّام.
من هنا جاء التأكيد في التربية الاسلامية على القيم والاخلاق والمبادي كحقائـق مستقلـة متعاليـة على تأثيـرات الواقع لتسلـم من انحرافاتـه واثاره.
ولذا أيضاً صار الاهتمام بالغاً بتربية الارادة، لما لها من دور وفاعلية في حياة الفرد والشعوب والامم. فبالارادة المنفصلة عن تأثيرات المحيط والملتزمة بالقيم والمبادي المتعالية على واقع العالم المحيط بالانسان برز القادة والمفكرون والمصلحون، ونادوا بالثورة على الواقع وتغييره، بعد أن اكتشفوا مواطن الداء والانحراف فيه، واستطاعوا أن يصنعوا موضوعاً اجتماعياً جديداً بواسطة الارادة والفكرة المجردة.
وهذا التقويم الواقعي المسنود من قبل منطق التأريخ ومردود حركته، والذي يعطي الانسان القيمة الحقيقية في هذا الكون، ويضعه موضع الايجابية والفاعلية، هو تقويم الاسلام الذي جاء صريحاً بقول الله الحق: (بل الانسان على نفسه بصيرة* ولو ألقى معاذيره).
ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله) : (لاتكن إمعة تقول أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، بل وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم)(13).
وإذن الى جانب الاعتناء بالارادة، أو بذاتية الانسان الداخلية وقوة اختياره يلجأ الاسلام الى الاهتمام بالبيئة الخارجية، لانها الاداة التي تمد الذات بألوان من الصور والانفعالات، وتعمل على ملء محتوى الانسان عن طريق الحس، لذا كان الاعتناء بما يغذي الانسان من معلومات خارجية ـ بيئية ـ تساهم في بناء ذاته أمراً ضرورياً واسلوباً من اساليب حماية الشخصية وتنقيحها.
من هنا كان واجباً على التربية أن تبعد الطفل عن كل ماله تأثير سيّىء وضار في نفسه، وأن تحيطه بجو يساعده على النمو السليم، ويحفظه من التعقيد والانحراف، وسواء في المحيط الاجتماعي أو الطبيعي وذلك لان للظواهر الطبيعية أثراً فعالاً ومؤثراً في نفسية الطفل، كما للظروف الاجتماعية تأثيرها ـ وبصماتها على شخصيته وعلاقاته ـ.
ولزيادة الايضاح فلنستوضح تأثير كل من المحيطين ـ الطبيعي والاجتماعي ـ على شخصية الطفل وسلوكه.
ولنفرد لكل موضوع من هذه المواضيع بحثاً به:
1 ـ المحيط الطبيعي: إن القاعدة الاساسية في تربية الطفل في هذا المجال هي أن تكون العلاقة بين الطفل والطبيعة قائمة على أساس من التّفهم والطمأنينة والاهتمام بالطبيعة، وأن نعمل على إبعاد المخاوف عنه، ونلفت نظره الى مواطن السرور والامان في هذا العالم، لنصونه من ردود الفعل النفسية المؤلمة والضارة من جهة، ونجعله يتجه نحو الطبيعة يستلهم منها معاني الحب والبهجة والجمال ويتشوق الى البحث والتعرف والاكتشاف من جهة أخرى.
قال تعالى:
(أولم ينظروا في ملكوت السماوات والارض وما خلق الله من شيء).
ومن الواضح لدينا أن الطفل يتأثر بالمحيط، وينفعل به، فيتوجه الينا بتساؤلات كثيرة عن هذا العالم الذي يثير إعجابه فيستهويه، ويستجلب نظره.. فالرعد والحيوان الغريب، ونباح الكلب ودوي الريح ومياهُ النهر والبحر والظلام..الخ، كلها أمور تثير مخاوف الطفل وتبعث في نفسه القلق وتجعله ينظر اليها بحذر وخوف، ويعدّها في عداد الخطر، فيتطور هذا الخوف، ويأخذ أشكالاً مختلفة، وتحوّلات مناسبة لنمو الانسان، فتترسّب حالات الخوف في اللاشعور فتنشأ شخصيته على القلق والتردد والتهيب والشعور بالخوف.
وكما تفعل الظواهر الطبيعية هذا الفعل السلبي الخطر في نفسية الطفل، فانها تؤثر أيضاً إيجابياً نافعاً في نفسه. فالطفل يفرح ويُسر بمنظر المطر، وتمتلىء نفسه سروراً وارتياحاً بمناظر الحقول والحدائق الجميلة، ويأنس بصوت الطيور ومشاهدة الازهار، فواجب المربي إذن ـ المعلم والابوين ـ أن يعملا على إيجاد علاقة وديّة ومُسرّة بين الطفل والطبيعة، لندربه على مواجهة الامور التي يخافها ونطمئنه ونحيطه بالثقة والعطف، فنزيح من نفسه الخوف وروح الانطواء والحزن، أو نستصحبه معنا الى النزهة فنشعره بمظاهر البهجة والسرور، ونعطيه القدر الكافي من الحرية، ونجيب عن تساؤلاته التي يثيرها حول المطر والشمس والنجوم والقمر والرعد والظلام...الخ، فننمي فيه روح الاستطلاع، وحبّ الطبيعة بما فيها من آيات بارعة مثيرة للاعجاب، لينشدّ اليها، ويعرف مكانه فيها، وعلاقته بها، ويدرك عظمة خالقه، ومواطن القدرة والابداع، فيتجه نحوها مطمئناً متواضعاً، يملا قلبه الحب والخير. ويتركز في نفسه مفهوم هام علمي وعقيدي، وهو أن الطبيعة بما فيها وضعت وخلقت للانسان ليتصرف فيها، ويستفيد منها، ويكيِّف طاقاتها لصالحه، معززاً ذلك بالتوجيه القرآني القائل:
(هو الذي خلق لكم مافي الارض جميعاً).(14)
وهذا التسخير هو تمكين الانسان من تكييف قوى الطبيعة، واستخدام مخزونها لصالح الانسان، ووفق الاسس والمفاهيم الانسانية التي كوَّنها من خلال علاقته بعالم الطبيعة: مفاهيم الحب والخير والجمال والسلام. والعلم هو الاداة الفعالة في هذا المجال لاكتشاف مافي الطبيعة من قوى وقوانين كونية تسخر لصالح الانسان.
2 ـ تأثير البيئة الاجتماعية: البيئة الاجتماعية هي تلك الصيغة الحياتية والعلاقات الانسانية المختلفة التي تتكون نتيجة التفاعل والتعامل الانساني القائم بين الافراد، وهذه الوضعية الاجتماعية تؤثر بلا شك في أفرادها القادمين اليها بعد الولادة، وهي غالباً ما تطبعهم بطابعها وتمنحهم صفاتها، وحينما نتكلم على البيئة الاجتماعية للطفل نقصد بها الاجواء الاجتماعية التي تحتضنه، وتؤثر عليه في أدوار نموه وتكامله، كالعقائد والاعراف والتقاليد وطريقة التفكير...الخ.
ويمكن تلخيص البيئة الاجتماعية بالمجالات الاتية:
أ ـ الاسرة.
ب ـ المجتمع.
ج ـ المدرسة.
د ـ الدولة.
أ ـ الاسرة: الاسرة هي المحيط الاجتماعي الاول الذي يحتضن الطفل، فينمو ويترعرع في أوساطه، ويتأثر بأخلاقه، ويكتسب صفاته وعاداته وتقاليده، سواء بالقدوة أو بالخبرة والسلوك العملي الذي يعامل به، أو بما يسمعه ويشاهده، أو يستوحيه من ظروف أسرته.
فالطفل يرى في أبويه ـ وخصوصاً في والده ـ الكيان الاعظم، والوجود المقدس، والصورة المثالية لكل شيء، ولذا فان علاقته به تكون علاقة تقدير وإعجاب واحترام من جهة، وعلاقة خوف وتصاغر من جهة آخرى; ولذا أيضاً فانه يسعى دائماً الى الاكتساب منه وتقمص شخصيته وتقليده والمحافظة على رضاه، في حين يرى في الام مصدراً لارضاء واشباع نزعاته الوجدانية والنفسية من حب وعطف وحنان وعناية ورعاية; ولذا فان شخصية الام تؤثر تأثيراً بالغاً في نفس الطفل وسلوكه في المستقبل. ولذلك كله كان لاوضاع الاسرة وظروفها الاجتماعية والعقيدية والاخلاقية والاقتصادية..الخ، طابعها واثارها الاساسية في تكوين شخصية الطفل، ونمو ذاته. فالطفل يتأثر بذلك كله، وينعكس على تفكيره وعواطفه ووجدانه وسلوكه. فعلاقة الوالدين مع بعضهما، أو تعامل أفراد الاسرة من إخوة وأقارب في مابينهم، يوحي للطفل بنوعية السلوك الذي يسلكه في المستقبل، ويزرع في نفسه مفاهيم عن كيفية التعامل وطبيعة العلاقة مع الاخرين. فحينما يرى هذه العلاقة قائمة على الود والعطف والاحترام والتعاون يألف هذا السلوك، ويتأثر به، فتكون علاقته بوالديه وأخوته وبقية أفراد أسرته قائمة على هذا الاساس، وعندما يخرج الى المجتمع يبقى يتعامل معه على هذا الاساس أيضا. أما إذا كان يعيش وسط أسرة منهارة متفككة، تقوم علاقاتها على الشجار والخلاف وعدم التعاون والاحترام فانّه يتأثر بذلك السلوك أيضاً، ويبني علاقاته بالاخرين على هذا الاساس. والطفل الذي يُعامل بقسوة ويلاقي من أبويه أو أخوته الاهانة، وعدم التقدير، ولايحصل على حاجته الطبيعية من الحنان والعطف والاهتمام سينشأ انساناً مشرداً قاسياً وهداماً في سلوكه. يعاني من الجفوة والقسوة والشعور بالنقص، وربما كان انتقامياً حقوداً، أو سلك الواناً أُخرى من السلوك المريض الذي يضر بشخصيته ومجتمعه; لذلك كان الاعتناء بكيان الاسرة وأوضاعها وعلاقاتها القائمة بين أفرادها ونظامها أمراً حيوياً وخطيراً في حياة الاُمة. ولهذا كان اعتناء الاسلام بالاسرة بالغ الاهمية; لان الاسرة بهذا الاعتبار هي المصنع الاول الذي يمد الامة بالفرد الصالح وبالجيل السليم. فكثيراً ماتكون حياة الانسان في مرحلة الطفولة صورة انعكاسية لحياة العائلة وطبيعة الجو العائلي، ونوع المعاملة والرعاية التي كان يلقاها، فالطفل الذي يعامل معاملة خاصّة، ويميز على بعض أخوته، أو الذي يبالغ بتدليله، مثلاً، ينشأ أنانياً اتّكالياً، وقد تنمو معه روح الكبرياء، أو بالعكس إذا كان الطفل يعامل باحتقار ويفضل عليه بعض اخوته، فان هذا التعامل يزرع في نفسه الشعور بالنقص والكراهية تجاه الاخرين.
وللعائلة، وبصورة خاصة السلوك الابوي، الاثر الكبير في صنع مستقبل الطفل ومكانته، فمعاملة الطفل معاملة تشعره باحترام شخصيته تزرع فيه روح الثقة، وتعده لان يكون انساناً ذا شخصية قوية، يملك روح العزيمة وتتفجر في نفسه ينابيع العبقرية.
ان سلوك الابوين، بصورة خاصة، وسلوك الاخرين بصورة عامة، تجاه الطفل يكشف له ذاته ويُعرِّفه بحقيقة استعداداته، ويوحي له بقيمته الذاتية، فيؤثر هذا الايحاء بسلوكه وشخصيته. من هنا جاءت عناية التربية الاسلامية بالطفل والاهتمام بمعاملته. فقد جاء في الحديث الشريف عن الرسول (صلى الله عليه وآله): (أحبوا الصبيان وارحموهم)(15).
وعن الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (من قبَّل ولده كتب الله عزوجل له حسنة ومن فرَّحه فرَّحه الله يوم القيامة)(16).
وقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): (أنّه كان يصلّي يوما في فئة والحسين (عليه السلام)صغير بالقرب منه فكان النبي إذا سجد جاء الحسين (عليه السلام) فركب ظهره ثمّ حرّك رجليه فقال: (حَلْ.حَلْ) فإذا أراد رسول الله أن يرفع رأسه أخذه فوضعه إلى جانبه. فإذا سجد عاد على ظهره، وقال: (حَلْ. حَلْ) فلم يزل يفعل ذلك حتى فرغ النبي من صلاته. فقال اليهودي: يا محمد انّكم لتفعلون بالصبيان شيئاً ما نفعله نحن، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): (أما لو كنتم تؤمنون بالله ورسوله لرحمتم الصبيان). قال: انّي أؤمن بالله ورسوله فأسلم)(17).
كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
(من كان عنده صبي فليتصاب له)(18)
وهكذا نقرأ في هذه النصوص تركيز التربية الاسلامية على دور الاسرة والوالدين في تنمية روح الحب والرحمة والرعاية والحنان للطفل، وإشعاره بالتكريم والمساواة والاهتمام بشخصه، وتأديبه وتعويده على العادات الحسنة والفضائل العالية. لينشأ الطفل سليماً من التعقيد والانحراف والسلوك العدواني الهدّام.
ب ـ المجتمع: المجتمع هو المحيط الثاني الذي يتلقى الطفل ويحتضنه بعد أبويه وأسرته، ويشيع فيه روحه، وينقل اليه عاداته ومفاهيمه وسلوكه. والمجتمع هو ملتقى مايحمله وينتجه الافراد المعاصرون من أفكار وعادات وتقاليد واخلاق، كما أنه الوارث الطبيعي للاسلاف والاجيال الماضية، وهو الذي ينقل للجيل الحاضر ماكان عليه اباؤه وأجداده من أوضاع وعادات. لذا فان البيئة الاجتماعية لها بالغ الاثر في شخصية الطفل وسلوكه. ان الفرد الذي يحمل أفكاراً وسلوكاً وتقاليد اسلامية تخالف الاوضاع الاجتماعية السائدة، يعيش حالة من الحرج أو الازدواجية، كما ويكون معرضاً للذوبان مالم يتكون تيار اجتماعي جديد يتلاءم وتطلعات الافراد الاسلاميين ويحدث التغيير الاسلامي.
والفرد المسلم في المجتمع الاسلامي يجد البيئة الصالحة لنموه ونشأته واستقامة شخصيته، لتوفّر الاجواء والظروف اللازمة لنمو الشخصية الاسلامية اجتماعياً. فهذه الوسائل كلها تؤثر في الطفل ، ويكتسب منها عاداته ومفاهيمه وسلوكه، وتوجه شخصيته سلباً وايجاباً. فالصديق الذي يرافقه الطفل ويلعب معه يؤثر فيه، وينقل اليه الكثير من أنماط السلوك. ومعاملة الضيوف والاقارب وغيرهم من الكبار والاختلاط بهم تكون ايضاً لها أضرارها ومنافعها. والمؤسسات العامة كالملاعب والنوادي والجمعيات والمسارح والسينما، أو المظاهر العامة كالاعياد والمناسبات التاريخية التي يحتك بها الطفل تزرع في نفسه مفهوماً خاصاً وتوجهه توجيهاً معيناً، وكذا المثل والقصة والنكتة والحكايات الشعبية، فانها تترك في الطفل أثراً ومفهوماً. ويزيد على ذلك كله من حيث الاثر والتوجيه تأثير الدولة في الافراد وصبغهم بصبغتها الخاصّة، نتيجة لما تمتلكه من وسائل تأثير قوية وفعالة ومدروسة ومبرمجة. فالصورة التي يشاهدها الطفل على شاشة التلفزيون، والكلمة التي يسمعها والمشاعر التي يلتقي بها في المناسبات وغيرها تؤثر في نفسه، وتكوِّن جانباً من شخصيته، لذا كان الاعتناء واجباً وضرورياً بالحياة الاجتماعية ووسائل الاعلام والمظاهرات والمؤسسات الاجتماعية العامة، حرصاً على جيل المستقبل، وصيانة له. كما ينبغي الاعتناء ببرامج الاطفال ووسائل النشر الملائمة لذهنياتهم، كالمجلة ومكتبة الاطفال والملاعب الخاصة بهم.
والتربية الاسلامية تعتمد كثيراً على المحيط الاجتماعي في التوجيه والاعداد كما تعتني باصلاح الطفل وتوجيهه.
وجدير ذكره أن هناك جانباً مهماً في القضية التربوية له اثره المهم والفعّال في الشخصية الانسانية، وهو الانسجام وعدم التناقض بين حياة المجتمع والمدرسة والبيت، ليسلم الطفل من الصراع والتوزع وانقسام الشخصية.
والمجتمع الاسلامي، الذي يؤمن بالاسلام عقيدة ومنهجاً للحياة وسلوكاً ينسجم تماماً مع الاسرة والمدرسة، ويلقى الطفل فيه الحياة المتزنة المستقرة المنسجمة. كما أن الطفل اينما حوّل وجههُ في البيت أو المجتمع أو المدرسة، وجد الام والاب والاقارب والاصدقاء والمؤسسة والمظهر الاجتماعي ووسيلة الاعلام وحياة الناس العامة وسياسة الدولة كلها تجري على قاعدة فكرية وسلوكية تسعى الى الخير والاصلاح، وتجري بانسجام تام، وتتعاون بشكل دقيق ومتقن على أسس فلسفة حياتية وفكرية واحدة، من أجل بناء الفرد الصالح والمجتمع القويم والدولة القوية المهابة.
ج ـ المدرسة: والمدرسة هي الحاضنة الثالثة بعد البيت والمجتمع الذي يحتضن الطفل ويؤثر في تكوين شخصيته وصياغة فكره وسلوكه. وتشترك أربعة عناصر اساسية في اخراج الاثر المدرسي الى حيّز الوجود، وتعمل كلها مؤثرة في شخصية الطفل وسلوكه، وهي: المعلم، المنهج، المحيط الطلابي، والنظام والنشاطات والمظاهر المدرسية العامة:
1 ـ فالطفل يرى المعلم مثلاً اعلى، وينظر اليه باهتمام بالغ، وينزله في مكانة عالية من نفسه، فيعمل دائماً على التأثر والاقتداء به، والانفعال بشخصيته، ويحاول تقليده. فكلمات المعلم وثقافته وسلوكه ومظهره ومعاملته للطالب كلّها تترك أثرها الفعال في حياة الطفل، فاذا كان المعلم يعامل الطالب برفق أبوي وعناية، ويسبغ على علاقاتهما روح العطف والاحترام لشخصية الطالب، ويحبب إليه السلوك الحسن.
ثمّ يتلّقى من معلّمه النظام والنظافة والعناية والسلوك المستقيم، والكلمة الطيّبة، ويشعر بالمحاسبة من قبل معلّمه الذي يُنبهه إلى خطئه إذا أخطأ، ويُحسّن إليه المواقف الحسنة، ويشجّعه عليها إذا هو أتى بها، أو يلفت نظره إلى أمور لم ينتبه إليها، ثمّ هو يتابع مواهب الطفل واستعداداته الذاتية التي يأخذ على عاتقه اكتشافها وتنميتها لكي يساعده على استثمارها والاستفادة منها. وأخيراً فإنّ شخصية المعلّم تترك أثرها في شخصية الطفل من خلال المؤثّرات الاتية:
أ ـ إن الطفل يكتسب من معلمه عن طريق التقليد والايحاء الذي يترك أثره في نفسه، من دون أن يشعر الطالب بذلك، في غالب الاحيان.
ب ـ اكتشاف مواهب الطفل وتنميتها وتوجيهها.
ج ـ مراقبة سلوك الطفل وتصحيحه. وبذا تتعاظم مسؤولية المربي ودوره في التربية الاسلامية.
2 ـ وأما المنهج: فهو (مجموعة من العلوم والمبادي التربوية والخطط التي تساعدنا على تنمية مواهب الطفل واعداده إعداداً صالحاً للحياة). ولكي يؤدي المنهج غرضه ينبغي أن يعالج ثلاثة مبادي أساسية ويتحمل مسؤوليتها وهي:
أ ـ الجانب التربوي: ان العنصر الاساس في بناء المنهج في مراحله الاولى هو العنصر التربوي، فالمنهج هو المسؤول عن أن يزرع في ذهن الطالب ونفسه القيم والاخلاق الصالحة، ويعوِّده الحياة الاجتماعية والسلوك القويم. كالصدق والصبر وحب العلم والتعاون والشجاعة والنظافة والايمان بالله وحب الوطن والالتزام بالنظام وطاعة الوالدين..الخ، وهذا الجانب التربوي هو المسؤول عن تصحيح أخطاء البيئة الاجتماعية، وانحرافاتها، كالعادات والخرافات والتقاليد البالية..الخ.
ب ـ الجانب العلمي والثقافي: ويشمل هذا الجانب تدريس الطفل مبادي العلوم والمعارف النافعة، سواء الطبيعية منها أو الاجتماعية، والتي تؤهله لان يتعلم في المستقبل علوماً ومعارف أرقى.
ج ـ وأما الجانب الثالث من المنهج فيشمل تنمية مواهب الطفل وملكاته الادبية والفنية والجسمية والعقلية. كالكتابة والخطابة والرسم والتطريز والخياطة أو الرياضة والالعاب الكشفية والاختراع والابداع...الخ.
فاذا وضع المنهج بهذه الطريقة استطاع ان يستوعب أهداف التربية ويحقق أغراضها، ويعيننا على خلق الانسان الصالح والفرد النافع.
3 ـ المحيط الطلابي: والمحيط الطلابي هو وسط اجتماعي تتلاقى فيه مختلف الحالات والاوضاع والتقاليد، وأنماط السلوك والمشاعر التي يحملها الطلاب معهم الى المدرسة، والتي اكتسبوها من بيآتهم وأسرهم، وحملوها الى زملائهم، فتنتقل من بعضهم الى بعض عن طريق الاحتكاك والاكتساب. وطبعاً سيكون الوسط الطلابي على هذا الاساس زاخراً بالمتناقضات من أنماط السلوك والمشاعر ـ سيما إذا كان المجتمع مجتمعاً غير متجانس ـ التي يبديها الطلبة، فمنها المنحرف الضار، ومنها المستقيم الخيّر، لذا كان واجب المدرسة أن تهتم بمراقبة السلوك الطلابي وخصوصاً الطلبة الذين يسلكون سلوكاً ضاراً وتعمل على تصحيحه ومنع سريانه الى الاخرين، وتشجيع السلوك الاجتماعي النافع البنّاء، كتنمية الحياة التعاونية، والتدريب على أعمال القيادة الجماعية والرضا بالانقياد، والالتزام بمقررات الجماعة الطلابية، لينشأ اجتماعياً تعاونياً، ينضوي تحت لواء القيادة التي يقررها المجموع والتي تحقق مصلحة الجماعة. كما يتدرّب الطالب من خلال ممارسة الحياة في المحيط الطلابي على احترام حقوق الاخرين ومعرفة حقوقه عليهم.
4 ـ النظام والمظهر المدرسي العام: لما كان الطلبة يشعرون في اليوم الذي يدخلون فيه المدرسة أنّ للمدرسة نظاماً خاصّاً يختلف عن الوضع الذي ألفوه في الاسرة، فإنّهم يشعرون بضرورة الالتزام بهذا النظام والتكيف له. فاذا كان نظام المدرسة قد أقيم على أسس علمية متقنة، وشيّد على قواعد تربوية صحيحة فان الطالب سيكتسب طباعاً جديدة في مراعاة هذا النظام، والعيش في كنفه، فمثلاً إذا كان الطالب المشاكس الذي يعتدي على رفاقه والطالب الاخر الذي يُعتدى عليه يشعران بأن نظام المدرسة سيلاحق هذه القضية، وأن هذا الطالب المعتدي سوف لن يترك ليتصرف بلا ردع ولا علاج، فان الطرفين سيفهمان حقيقة مهمة في الحياة وهي أن القانون والسلطة والهيئة الاجتماعية يردعون المعتدي، وينزلون به العقاب، وأن المعتدى عليه هو في حماية القانون والسلطة والهيئة الاجتماعية، ولاضرورة للرد الشخصي واحداث المشاكل بين الافراد.
ان هذه الممارسة المدرسية تربي في الطفل احترام القانون والشعور بالعدل. والنظام المدرسي الذي يتابع مشكلة التقصير في اداء الواجبات والغياب عن الدروس، ويحاول حل هذه المشكلة، فان الطالب في هذه المدرسة سيتعود من خلال ذلك على الضبط والمواظبة والشعور بالمسؤولية...الخ.
وكما أن للنظام أثره في تكوين شخصية الطفل وتنمية مشاعره، وتكوين قيمه ومواقفه، فان للحياة العامة في المدرسة أثرها الفعال أيضاً.
فجمال بناية المدرسة ونظافتها، والتزام كل مسؤول بواجبه، أو ظهور اللافتات المدرسية، أو الحكم الاسبوعية، أو تشكيل اللجان المدرسية لمساعدة الطلبة الفقراء، أو تنظيف المدرسة، أو لجان النشاطات المختلفة التي يعمل فيها الطلبة سوية، ان كل هذه الممارسات وامثالها تزرع في نفوس الطلبة مفاهيم خاصة، وتطبع حياتهم بطابع خاص، كالمحافظة على النظافة، واحترام النظام، وعدم التدخل في شؤون الاخرين، وإشاعة الحياة التعاونية..الخ. لذلك كان علينا أن نهتم كثيراً في صيغة الحياة العامة داخل المدرسة، ونعمل على توفير جو صالح للطفل يُعوِّده الحياة الاجتماعية الصحيحة، كما علينا أن نعمل بشكل متقن ومتناسق على جعل المدرسة، بكافة عناصرها: المنهج والمعلم والنظام والحياة والجو المدرسي، متحدة الهدف، متسقة التفكير، بشكل يجعل من المدرسة بعناصرها الاربعة حياة عملية، يتعلم فيها الطفل الحياة، كما يُعد لحياة المستقبل في آن واحد، يقوم بعملية عزل عناصر الصيغة الاجتماعية وفرزها، واقرار ماهو صالح منها، واسقاط ماهو ضار ومنحرف، كي تمد المدرسة المجتمع بوحدات انسانية أساسية تدخل في بنائه الجديد، وتعمل على إحداث تغيير اجتماعي فيه وفق خطة المدرسة الاسلامية الملتزمة.
د ـ الدولة: بعد أن تطورت بنية الدولة ومهامها، وتعقّدت الحياة البشرية بمختلف مجالاتها، صارت علاقة الانسان بالدولة علاقة حيوية، فما من مجال من مجالات الحياة إلاّ وللدولة أثر أو علاقة به، بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
ويظهر أثر الدولة بشكل أكثر وضوحاً في التربية والتعليم والثقافة العامّة. فالدولة في معظم بلدان العالم اليوم تتولّى مسؤولية التربية والثقافة والتعليم، وتخطط لها مركزياً، وتنهض بادارتها وقيادتها.
أي انّ الدولة تتبنّى مسألة صياغة البناء الانساني، وتصميم نمط الشخصية والتفكير وطريقة إعداد الانسان للحياة. فهي التي تتولّى إعداد المنهج المدرسي، وترسم السياسة التربوية العامّة وتوجيه الثقافة عن طريق الاذاعة والتلفزيون ووسائل النشر التي تؤثّر بها على تكوين الانسان الفكري والنفسي والسلوكي. وبتلك الوسائل والامكانات تؤثّر الدولة على هوية الانسان التربوية وشخصيته.
والدولة الاسلامية هي دولة عقيدية فكرية لها خط فكري متميّز المعالم، وفلسفة حياتية مستقلة، لذا فهي مسؤولة عن توجيه التربية والتخطيط لكل عناصرها وأجهزتها المدرسية والاعلامية لتسير في الخط الاسلامي الملتزم.

  اطبع هذه الصفحة

المرجـــــــع:

http://www.balagh.com