موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
حجارةٌ في الجيوب وفي العقول
بقلم :حلمي سالم
جريدة"أخبار الأدب" -مصر 11 سبتمبر 2005
"هذا كتاب يقدم للقارئ متعة ثلاثية: فهناك أولا فن فرجينيا وولف القصصي الذي يمتاز بتقمصه دخائل النفس وقصده في التعبير وخلوه من الحواشي والزوائد. وهناك ثانيا تقدمه فاطمة ناعوت الجامعة بين سعة المعرفة بموضوعها والقدرة علي تقمص خبرة الكاتبة علي نحو يجعل من التقدمة أثرا فنيا بحقه الخاص ليس فيه دوجماطية النقاد الأكاديميين ولا سطحية النقاد الانطباعيين، وهناك ثالثا قصة فرجينيا وولف في ثوبها العربي الراهن، حيث جاورت المترجمة بين أمانة النقل وطلاقة الأداء".
هكذا تحدث المترجم والأكاديمي المصري المعروف د.ماهر شفيق فريد في تصديره لكتاب 'جيوب مثقلة الحجارة' الصادر مؤخرا عن المجلس الأعلى للثقافة، بالقاهرة، من ترجمة وتحرير الشاعرة والمترجمة المصرية فاطمة ناعوت، محتويا علي رواية قصيرة لفرجينيا وولف 1882 ¬ 1941 وعنوانها 'رواية لم تكتب بعد'
أظنها تنشر بالعربية لأول مرة'، وعلي حوار متخيل معها مصدره شبكة المعلومات الدولية 'وفيه يقوم مجموعة من نقاد وولف وشُراحها بتأليف حوار معها بعد سنوات عديدة من رحيلها يتضمن إجابات لها مستفادة من نصوصها ومقالاتها وأفكارها وسيرتها الأدبية والحياتية والفكرية'. وتسبق ذلك كله مقدمة قصيرة للمترجمة عنوانها 'جيوب مثقلة بالحجارة' 'وهو العنوان الذي اقتنصه الكتاب كله' تختص بالخصائص الفنية الفارقة التي تميز هذه الأدبية الفارقة وبالمكانة النوعية التي تحتلها وولف في خريطة الأديب الانجليزي الحديث ثم دراسة مطولة للشاعرة المترجمة بعنوان 'وولف النشأة والمأساة' تتعرض لمناخ الحياة الاجتماعية الأولي عند فرجينيا، وجماعة 'بلومزبيري' الأدبية التي كونتها مع زوجها ليونارد وولف وشقيقيها ثوبي وفينيسا وأدباء آخرين، ثم بدايات الكتابة، والملامح النوبة في كتابات وولف، لتعرج بعد ذلك علي شبح الموت في أيام فرجينيا الأخيرة، قبل أن تضع حجارة ثقيلة كثيرة في جيوب ثوبها وتهبط إلى النهر: وحيدة، هادئة، مغادرة.
***
فرجينيا وولف هي 'الثورة الهادئة' بتعبير مايكل بننجهام 'الذي كتب عنها فيما بعد رواية: الساعات'، وهي بتعبير المترجمة.. احدي أهم القامات في الأدب الانجليزي ورواده في حركة التحديث، حيث صنعت إسهاما مهما في تغيير شكل الرواية الانجليزية، إذ نجح حسها التجريبي في تطوير الأسلوب الشعري خلال السرد القصصي والروائي عبر اعتماده التقنيات التجريبية مثل المونولوج الداخلي، الانطباعية الشعرية، السرد غير المباشر، المنظور التعددي، ثم تيار الوعي.
وتلخص ناعوت الملمح الأساسي لعبقرية وولف منذ بداية مشروعها الأدبي في 'إصرارها علي تأكيد مراوغة العالم بوصفه أوسع وأكثر تعقيدا من أن نضع اشتباكاته تحت بؤرة النقد من خلال أية حياة فردية'.
أما رواية 'رواية لم تكتب بعد' ففيها ¬ كما تشير المترجمة ¬ ترصد وولف حالات التخلق الذهني لجنين رواية في طريقها إلى التكون عن طريق أخذ القارئ عبر بدايات رواية لم تكتمل بعد، راصدة كيف يمكن أن تكتمل علي أنحاء متباينة.
تتحرك القصة أماما وخلفا بين حائطين من الخيال والواقع كل يسهم في احتماليان الرواية ليحفر نهرا من الاقتراحات والاقتراحات البديلة، كذلك يتم داخل ذهن الرواية التي تختبر وتعالج كل الرؤى الممكنة اتكاء علي مراقبتها شخصية امرأة معينة تجلس أمامها في احدي كبائن القطار عبر رحلة إلى جنوب لندن.
قدمت وولف لحداثة الأدب الانجليزي ست روايات ومجموعتين قصصيتين الروايات هي: الخروج في رحلة بحرية '1915'، الليل والنهار '1919' غرفة يعقوب '1922' الأمواج "1931" أورلاندو '1928'، السنوات '1937' والمجموعتان هما: الاثنين أو الثلاثاء، بيت مسكون بالأشباح '1943'.
لا حدث يحدث بالفعل إذا لم يدون' هكذا كتبت مرة فرجينيا وولف ولعلها جسدت مصداقا لهذه المقولة حينما 'دونت' انتحارها الأليم في رسالة لزوجها ليونارد وولف ، تركتها له ثم مضت إلى النهر هادئة، بعد أن ملأت يجوب معطفها بالحجارة.
قالت الرسالة: 'أيها الأعز، لدي يقين أنني اقترب من الجنون ثانية وأشعر أننا لن نستطيع الصمود أمام تلك الأوقات الرهيبة مجددا. فلن أشفي هذه المرة.. أعرف أنني أفسدت حياتك، لكنك في غيابي سيمكنك العمل أنت تري أنني حتي لا يمكنني كتابة هذه الرسالة علي نحو سليم لم أعد أستطيع القراءة ما أود أن أقول هو أنني أدين لك بكل سعادة مرت في حياتي لقد كنت صبورا إلى أقصي حد، وطيبا علي نحو لا يصدق اذا كان ثمة من أنقذني فقد كان أنت كل شيء ضاع مني إلا يقيني بطيبتك لا أستطيع أن استمر في افساد حياتك أكثر'.
***
تلفت انتباهي في 'جيوب مثقلة بالحجارة' ثلاث سمات بارزة:
الأولي: وجوه الشبه العديدة بين الشاعرة المترجمة 'ناعوت' والروائية المترجم عنها 'وولف': من حيث المأزق الوجودي غير المحلول، ومن حيث التمزق بين الواقع والمثال، ومن حيث ضعف القدرة علي التكيف مع 'عالم يموج بالتخليط والقمامة' ¬ حسب صلاح عبد الصبور ¬ ومن حيث العيش الدائم 'علي الحافة'.
وظني أن الشاعرة المترجمة تتبع هذا النهج في معظم ما تترجمه إلى العربية 'وقد صرحت بذلك مرارا' فهي تترجم ما تحب وما تجد فيه نفسها " إنسانة أو شاعرة'.
ولذلك فقد اختارت أن تنأي عن الترجمة الحرفية الجافة، لتذهب إلى الترجمة الخلاقة المتفاعلة ، ولعل ذلك ما قصدته في تقديمي ¬ منذ عامين ¬ لكتابها "مشجوج بفأس: مختارات من الشعر الانجليزي والأمريكي المعاصر" الذي ترجمت فيه كذلك القصائد التي وجدت نفسها فيها، إنسانة وشاعرة، حينما أشرت إلى أن " فاطمة ناعوت اختارت الخيانة الأعمق فلم تلتصق بالنص الأصلي التصاق العبيد أو التابعين أو الحمالين، بل جاوزته إلى التحرر منه والتحرر فيه والتحرر به، لتخلق نصا أصليا مواجها للنص وقريبا له".
وقد أشار ماهر شفيق فريد إلى بعض من ذلك في تصديره المحتفل 'بجيوب مثقلة بالحجارة'.
الثانية: هي المغامرة الجريئة في الذهاب إلى ترجمة رواية هي من أصعب أعمال وولف وأعقدها، بسبب ما فيها من تداخل مضطرب في الأزمنة والأمكنة، ومن فراغات شاغرة لم تملأ، ومن تقطيعات وقطعات وانقطاعات مفاجئة مبتورة ليس لها سياق حلي مفهوم، ومن جمل غير مكتملة. وغير ذلك كثير، ما يقتضي من المترجم ملء الفجوات، أو خلق سياق ، أو المجازفة بتأويل، أو وصل انقطاع، أو حتي جعل الفراغ دالا. والمترجم في كل ذلك عليه أن يستند إلى معرفته العميقة بأجواء الأديب الذي يترجم عنه وبالمناخ الأشمل للثقافة التي نبع فيها النص، ثم إلى حسه الأدبي الرهيف، وأخيرا إلى المقامرة 'المحسوبة' وهكذا فعلت الشاعرة المترجمة.
الثالثة: هي أن هذا الكتاب القيم يسد فراغا كبيرا في المكتبة العربية من ناحيتين أساسيتين: الأولي معرفة القاريء العربي بأدب فرجينيا وولف، التي لم يترجم لها قبل هذه الرواية سوي 'الأمواج' و 'غرفة تخص المرء وحده' و'مسز دالاوي' ولعل ذلك هو جعل مترجمتنا تنهض حاليا بترجمة مجموعة قصص قصيرة أخري لوولف من بين مجموعتها الأولي 'الاثنين أو الثلاثاء' ومجموعتها الثانية 'بيت مسكون بالأشباح' ضمن المشروع القومي للترجمة بالمجلس الأعلي للثقافة بمصر والثانية معرفة القارئ العربي بالأرضية الثقافية والأدبية التي أنتجت أدب وولف، فضلا عن الملامح الأدبية والفنية لأعمالها وعناصر مساهمتها الجمالية في تحولات الأدب الانجليزي بين روائي النصف الأول من القرن العشرين.
إن أغلب القراء العرب لا يعرفون عن فرجينيا وولف أكثر من كونها السيدة المضطربة التي صنع عنها فيلم 'من يخاف فرجينيا وولف' ومثلته اليزابيث تايلور مع ريتشارد بيرتون، أو السيدة المضطربة التي مثلت نيكول كيدمان شخصيتها في فيلم 'الساعات' ولهذا فإن كتاب فاطمة ناعوت 'جيوب مثقلة بالحجارة' يصحح حضور وولف في ثقافاتنا العربية الراهنة: مبدعة متفردة ورائدة من رواد التحديث الروائي المعاصر وذلك بفعل النص الغريب 'رواية لم تكتب بعد' وبفعل الدراسة الوافية التي رصدت مسيرة وولف الأدبية والنقدية والحياتية، ضمن سياق أعم هو سياق الأدب الإنجليزي الحديث.
كل ذلك في ترجمة وصفها ماهر شفيق فريد بأنها 'تجمع بين أمانة النقل وطلاقة الأداء' لتنضاف إلى اللغة العربية 'جوهرة صغيرة محكمة الصنع'.

|
|