موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
العمـارة والشعـر
بقلم: فاطمة ناعوت
مجلة "الثقافة الجديدة - يناير 2005

عمارةٌ مشطورةٌ رأسيًّا، كأن سكينًا عملاقًا شقَّتها من أعلى إلى أسفل، لتنقسمََ طوليًّا، كاشفةً عن غرفٍ غير مكتملة الجدران، غرفٍ ذات حوائط ثلاثة. سقوط الحائط الرابع يكرّس عينًا ترصد وتراقب حيواتٍ كانت تنبضُ داخل تلك البيوت، التي لم يعد يدلُّ على ساكنيها غير قطعِ أثاثٍ منتثرة هنا وهناك. مشاجبُ حزينة، أسرّة وطاولات، مقاعد فارغة، شراشف وثياب مرميّة على عجل، كؤوس وكتب ومرايا متصدعّة، تحملُ جميعها ذاكرة المكان والشخوص الراحلين.
الحائط الرابع الذي تنحّى عن موقعه المنذور له من قِبَل المهندس المعماريّ، يحيلُنا إلى ستار المسرح؛ الحائط الرابع الوهميّ المفترض الذي أسقطه "بريخت"؛ الحاجز الذي يقسّم العالمَ إلى قسمين: عينٌ تمتلك جغرافيا وتاريخ اللحظة (النظَّارة)، وعالم يبحرُ في جغرافيا وزمانٍ افتراضييْن (الممثلون).

انشطار البناية على هذا النحو، يسميه المعماريون " قطاعًا طوليًّا"، وهو يختلف عن "القطاع العرضيّ أو الأفقي". الأول يمرُّ فيه " خطُّ القطع أو مستوى القطْع" خلال الأدوار جميعها، كاشفًا عن غرف البناية في الأدوار المتكررة، بينما في الثاني يمرُّ مستوى القطع عبر دورٍ واحد متكرر، فتنكشفَ شقة أو شقق هذا الدور وكأن عينًا تراها من أعلى، وهو ما يسمى " المسقط الأفقي". الكتلة المحذوفة هنا في القطاع العرضي هي السقف، فيما ظلّت حوائط الغرف الأربعة مكتملة.
  
كان مشهد عمارة متصدّعة وشيكة الانهيار هو إرهاصةَ رواية " عمارة يعقوبيان"، بعدما استوقف علاء الأسواني منظرُ عمارة منشطرة رأسيًا. شطرٌ منها انهار وسقط بينما ظلّ الآخر سامقًا يبكي نصفه. توقفت عين الكاميرا داخل الأديب لتنصت إلى بكاء قطع الأثاث المهجورة على الطلل، هنا كان المكان عامرًا بالبشر، هنا كانت مفردات الحياة كاملة، جمالها وقبحها، تمردّها وضعفها، لحظات ميلادٍ موت، عرسٍ وفراق، تأمل وانهزامٍ وربما قتل. قطع الأثاث التي أُعْتِقَت من العبودية بزوال المالك وانتفاء سبب الملكية، تحمل ذاكرة المكان، وتحكي بمرارةٍ بانوراما أنثروبولوجية، تتقاطع معها الجغرافيا والتاريخ.
تلك التقنية استثمرها كتّابٌ كثيرون، أعني القبض على بقعةٍ صغيرة فوق المعمورة، وتشريح الإنسان الذي استعمرها حقبةً من الزمن، من خلال سبْرِ مناطق النور والظلام داخله ومناطق القوة والضعف عبر الحدث وأمثلة ذلك كثيرة، مثل "سفينة" جبرا إبراهيم جبرا و "أمواج" فرجينيا وولف"، وسكّة سلامة" سعد الدين وهبة، و "فضيلة" المنفلوطي وغيرها.
يسعى الكاتبُ دائما في كل عمل إبداعيّ إلى استخلاص نقاط النور من العتمة، ورصد البقع السوداء في الثلج. وتذهب بعض الرؤى الفلسفية أن للأشياء الجامدة ذاكرةً وطاقة تُختزنان داخل ذرّاتها الصامتة. بل تتجاوز ذلك بعض الدراسات التي تحاول إثبات أن كل كلمة وهمسة وزفرة تمت فوق الكوكب منذ نشأته لم تتلاشَ ولم تندثر، انطلاقا من قانون نيوتن "الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من عدم"، والصوت طاقة ولذا فهده الأصوات مازالت تهوّم في الفضاء ويمكن تجميعها عن طريق ضبط أجهزة استقبال خاصة على نفس طول موجات تلك الأصوات ومن ثم التقاطها من الفضاء واستعادتها وتسجيلها، وحين يتم ذلك سيمكننا الاستماع لحوار اللجان التي خططت للحربين العالميتيْن مثلا أو سماع خطاب موسى لربه فوق الجبل.
لو كوربوازييه
يقول "لو كوربوازييه" Le Corbusier، أحد رواد ما بعد الحداثة في العمارة: إن البيتَ هو آلةٌ نحيا داخلَها "A house is a machine to live in "، ولم يعجبني التعريف أبدًا، وإن كنت أفهم ما يرمي إليه، إذ هو صاحب مدرسة " Form follows function"، بمعنى أن الشكل يتبع الوظيفة، فلابد أن تتحقق الوظيفة (الموضوع) أولا، ثم يتلو ذلك شكل البناية. لماذا مثلا لا نصمم غرفًا لها ثلاثة جدران فقط، أي على هيئة مثلث عوضًا عن المربع ؟ لأننا سنحصل على زوايا حادة، وفضلا عن التوتر النفسي الذي سيصيب مستعملي هذه الغرفة ذات الأضلاع الثلاثة، فإننا لن نقدر على إعمارها بالأثاث وقطع الموبيليا، إذ يستلزم ذلك زوايا قائمة( 90ْ) أو أكثر. وهكذا كانت الوظيفة هي الفيصل والمرجع الأول في العمارة، وفي كل العلوم أو الفنون التطبيقية، لكن هذا المبدأ لم يدفع المعماريين إلى التخلي عن مراعاة الشكل والاجتهاد من أجل الوصول إلى ما يُدهش من طُرزٍ معمارية حققت أرفع ملامح الفن التشكيليّ وجموحه.
حاولتُ أن أنحتَ تعريفًا آخرَ لـ"العمارة"، حتى ابتكرتُ مفهومًا يخصني: إنها اللوحة التشكيلية الوحيدة التي لا تكتفي بأن تشاهدها وحسب، لكن بوسعك اختراقها والتعامل مع دواخلها والحياة داخل نسيجها. فاللوحة التشكيلية المرسومة تدخلك وتصيب مكامن الدهشة والتأمل في غورك، فيما الإنسان يدخل البناء المعماريّ ليصبح أحد مفردات نبضه وأحد مكوناته العضوية، العمارة هي القصيدة التي يخترق القارئُ حروفَها ويشتجر مع نسيج بنائها وموسيقاها، فيقرأ كلماتها: أي يشاهد ( الكتلة)، وتحتلُّ كتلتُه الفيزيقية المسكوت عنه فيها: أي يسكن ( الفراغ).
العمارة هي الفن الأول للإنسان. فالبشريّ الأول فطِن إلى ضرورة بناء مأوىً يمنحه الخصوصية ويحجبُ عنه عوامل الطبيعة غير الرحيمة. فكانت بيوته الأولى من سعاف النخيل وجذوع الشجر، وظلّت عينُ البشريّ – الباحثة عن الجمال دومًا – تتمرد وترفض الانصياع لضرورة الوظيفة وحدها بعيدًا عن مكامن الجمال، فراح يطوّر الشكل والمضمون سويًا حتى غدا المأوى البدائيُّ قصرًا وهرمًا وقلعةً وناطحة سحاب إلخ، عبر سلاسل من المدارس المعمارية، كلاسيكية وحداثية وما بعد-حداثية.
ويمكن أن نلمسَ كيف أن العمارة لم تسبق الفنون الأخرى طوال الوقت فحسب، بل كانت منطلقا لها لتحديث مدارس تلك الفنون. لو راجعنا، مثالا لا حصرًا، بعض المدارس القديمة في العمارة مثل طُرُز عصر الباروك تلك المدرسة المعمارية المثقلة بالزخارف والحليّات التي تخدم الشكل ولا تؤثر في المضمون كثيرا، لوجدنا ترجمة ذلك في الأدب والشعر متمثلا في إثقال النصِّ بالمحسنات البديعية واللغوية والجناسات والسجع وغيرها من الزخارف اللغوية ونرى هذا جليًّا في الأدب المملوكي المثقل بسيماء البلاغة التي تشبه في العمارة تلك التماثيل والنقوش والحليات الجبسية التي تزدان بها واجهات الكنائس وبنايات الطراز الباروكي، وكذا الطراز "القوطيّ"Gothic style الرفيع الرشيق الذي بُنيت عليه كنيسة نوتردام في باريس، وهي واحدة من أجمل المنجزات المعمارية التي صنعها الإنسان، وهو ما ينعكس في الأدب باستخدام اللغة الرفيعة والعناية بالشكل والصياغة وحسن التراكيب الأنيقة.. وعلى ذلك فإن المتتبع للمدارس المعمارية سيجد انعكاساتها على كل ألوان الفنون الأخرى في ذات الحقب الزمنية.
وهكذا توالت المدارس المعمارية عبر تحولات مفصليّة جذرية كان الإنسان دومًا مرجعَها الأول. الإنسان وأيديولوجياه وطبيعة حياته الآنيّة وفكرته وتطوّر مفهومه عن الحياة والوجود وكذلك المؤثرات السياسية والعقائدية والبيئية في كل مرحلة. الكونُ الذي بدأ بسيطًا متمحورًا حول الوظيفة والمضمون، ثم راح يرتقي ويبحث عن الشكل والقيمة الجمالية التي تعزز الوظيفة، إلى أن أسره الشكل والزخرف وتملكه تماما كما في بعض طرز العمارة الكلاسيكية التي تلتها "الكلاسيكية الحديثة مثل "الأرابيزانس "Arabisance في أواسط القرن ال19 في بعض المناطق العربية والتي تميزت بالعقلانية المحلية وقد شاعت ضمن حركات معمارية تروم الإحياء من خلال ثنايا التراث العمائري العربي.
والشاهد أن عودة الانتباه إلى خطورة هيمنة الشكل على المضمون، أو على نحو يزيد عما تحتمل الحاجة، بدأ حين تشبع الإنسان من "إسفكسيا الزخرف" إن جاز التعبير، الذي نرى انعكاسه الأدبيّ في الأدب المملوكي مثلا، فراح بعد مرحلة التنوير يجنح نحو التجريد الشديد والاقتصاد والتكثيف إلى حد التقطير الفج في الشكل لصالح الوظيفة والمضمون وحسب. فكانت مرحلة الواقعية والتجريد في العمارة التي وصفها النقاد المعماريون بأن أبنيتها تشبه علب الكبريت المتراصة. فكانت المجاورات السكنية تنشأ على نظام البروتوتايب Prototype ، الذي تتشابه فيه الأبنية وتتراص متجاورة بحيث لا يمكن للمرء تمييز بنايته الخاصة إلا عن طريق الرقم المثبت فوقها. ثم عاد الحنين إلى جماليات الشكل ثانيةً، فكان الإيمان بأن الحلَّ يكمنُ في الموازنة الواعية والمحسوبة بين الشكل والمضمون، وكانت الحداثة.
كانت العمارةُ دائما هي الرائدةَ في تدشين المدارس الفنيّة الجديدة تبعا لروح العصر، ومن بعدها تأخذ بقية الفنون الخطوة. وليس خفيًّا أن العمارةَ هي فاتحةُ اتجاه ما-بعد-الحداثة ؛Postmodernism ، ثم دخلتها الفنون الأخرى بعدها. ذاك الاتجاه الذي تبنى انعكاس مفردات الحياة الراهنة على العمارة والأدب من تشظي العالم وسقوط السلطات والقوالب وتحقيق الموسيقا الشعرية عن طريق التنافر والإيقاع عوضا عن التناغم الظاهر القوالبيّ التفعيليّ القديم إلى آخر تلك المعاني الجديدة التي تبنتها ما بعد الحداثة والتي رصدنا تجلياتها الواضحة في العمارة ومن بعدها بقية الفنون. والسبب في هذا واضح لو نظرنا إلى الحقيقة التي بدأتُ بها المقال عن كون العمارة هي فن الإنسان الأول وشاغله الأساسي والمرآة العاكسة لطبيعة العصر ومفرداته. وربما كان هذا وراء تسميتها " أم الفنون"، فهذه الكنية ليست مجانية، ليس فقط لكونها أولى الفنون وجذرها الرئيس، وليس لأنها الأسبق إلى التطور، لكن كذلك لأن الفنون جميعها تلتقي في باحتها. لندلل على ذلك يكفي أن نعرف كيف يحلّل المعماريُّ المصممُ واجهةَ بنايةٍ ما، إذ سنجده يتراسل مع كل معاجم الفنون الأخرى في تقريره. فالواجهة المعمارية حين تقرأها تستخلص منها نسبًا تشكيلية، وترصد إيقاعها الموسيقي من خلال حساب الكتلة والفراغ، ومناطق الظلال والنور، ويمكنك تعيين (الانتظام -التنافر -الثماثل – السيمتري والمونوتوني- الإيقاع- التناغم اللوني والكتليّ - التجريد –الاتزان – الحركة والسكون – الظلال والنور-الاستاتيكية والديناميكية- البنية-الهيكل- التماسك الترهل –الهيراركي - التراتب.... وغيرها)، لاحظ كمَّ المصطلحات التشكيلية/الموسيقية/الشعرية التي استخدمناها في التعامل مع واجهة معمارية.
الفنون على ألوانها تشتجر وتتماهى في لحنٍ أبديّ يبرر جدلية الحياة . العمارة والشعر تحديدًا هما كيانٌ واحد وأضيف إليهما الموسيقى والفنَّ التشكيليّ والنحت. ولا أتجاوز إذا قلت أن العلوم أيضًا تتقاطع بقوة، النظريّ منها والتطبيقيّ، فمثلا، تجد مفردات الرياضيات، كعلمٍ نظريّ وتطبيقيّ، ماثلةً في كل مفردات الحياة فوق الأرض وخارجها في الفضاء، والكلام في هذا الأمر قد يستغرق كتابات لا نهاية لها يضيق عنها المجال هنا. فحين تمد يدك كي تتناول كأس الماء، تكون قد حققتَ عدّة معادلات تخضع للرياضيات من حساب المثلثات وعلوم التفاضل والتكامل، وتكون قد رسمت بيدك منحنيات من الدرجة الثانية والثالثة. وحين تناقش نظرية فلسفية مجردة، فأنت تستخدم آليات هندسية ومنطقية واستقراءً رياضيًّا من مقدمات وتوالٍ وحساب فرضياتٍ واحتمالات ونتائج. والمتتبع للحوارات الإغريقية القديمة يجد ذلك جليًّا. حين قرأت حوارات أفلاطون الأربعة لأول مرة، اندهشت كثيرا لأنني لاحظت أن آلية الحوار وتسلسله خطوةً خطوة ، وصولا إلى النتائج والنظريات، تتطابق مع آلية تحقيق نظريات الهندسة الفراغية ونظريات الجبر والمنطق الرياضيّ. في الفلسفة نجد المحاوِر يبدأ بفرضية بديهية منطقية أو غير منطقية، ثم يتصاعد بها جدليًا رويدًا رويدًا حتى يستقطبُ المحاوِرُ محاوريه من خانة الواضح الملموس إلى أفق الغامض المجرد النظريّ الذي سعى إلى إثباته. وهذا بالضبط ما يفعله الرياضيُّ في إثبات نظريةٍ ما حيث يبدأ بـمعطيات وفرضيات ثم يطورها وصولا إلى إثبات النظرية أو هدمها فيقول: ( بما إن كذا وكذا (معطيات).... هذا يؤدي إلى كذا وكذا(نتائج). إذن كذا (النظرية).... هـ.ط.ث؛ أي: هـو المـطلوب إثـباته). وهذا ما تنبه له الرياضيون المحدثون فأنشئوا فرعا من الرياضيات يسمى "المنطق والاستقراء الرياضي"، وهو ما كانت تفتقر إليه الرياضيات الإقليديسية القديمة التي كانت تقوم على الحسابات والمعادلات وحسب، في حين ضمت الرياضة الحديثة التي ظهرت في أوائل السبعينات علوم المنطق والاستقراء التي تتقاطع مع الفلسفة بقوة. ولعل هذا يفسّر أن معظم الفلاسفة القدامى والمحدثين كانوا رياضيين في الأساس، مثل فيثاغورث وإقليدس، وهيباثيا، وديكارت، وابن رشد والفارابي وابن حيان والفارابي، وغيرهم. وربما هذا ما جعل ديكارت يفصل الهندسة عن الجبر لإيمانه بأن الهندسة أكثر شمولية من وضعها في خانة العلم النظري البحت غير التطبيقي، إنما هي عالَم واسع ينهل من العلوم والفنون الأخرى ويصب فيها أيضًا.
فهل كان صدفةً أن يسمّي العربُ الأقدمون الوحدة التي تتألفُ منها القصيدة "بيتًا" ؟

|
|