موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
كتاب جديد يؤكد:
الإسلام دين وأمة لا دين ودولة
جمال البنا
بقلم: فاطمة ناعوت
إن السلطة إذا دخلت عقيدة أهلكتها. تلك فكرة استقرت في ذهني بعد انتهائي من قراءة هذا الكتاب الصادر مؤخراً (2003) عن دار الفكر الإسلامي "الإسلام دين وأمه، وليس ديناً ودولة". الكاتب هو المفكر الإسلامي جمال البنّا، الذي أصدر أكثر من مائة كتاباً وحوالي ست عشرة مترجمةً. وهو أحد الدعاة الإسلاميين من أصحاب الفكر المستنير المعتدل الذين تركوا بصمةً واضحةً في تناول القضايا الدينية بروح العصر وبوعي يشي بمقدرةٍ على استكناه جوهرِ الدين واستجلاء ثراءِ دلالات النص على النحو الذي يثبت أن القرآنَ معاصرٌ لكل زمن. هذا الكاتب، سليل حسن البنّا، أحد أبناء ثورة 19 الذين تشربوا الليبراليةَ المصرية في مهدِها الأول بعد دستور 23. جمال البنّا إذاً هو صورة من سلفه أكثر استنارةً وتوائمًا مع العصر.
من أهم الإلماحات التي نخلص إليها في هذا الكتاب المهم أن القرآنَ الكريم، بوصفه كتاب "الحكمة" قد أمرنا بالسير في الأرض ودراسة السلف والتعلم من عاقبة أمرهم. إن تأمّل التاريخ، على نحو موضوعي خالٍ من القولبة الشعارية الجاهزة، التي أطلقها مفكرون إسلاميون سلفيون - مع تسليمنا برفعتهم الفكرية - يسمح لنا برصد الحقيقة الدامغة على مدار الزمن وهي أن السلطة ،أحد أهم أركان نظام أي دولة، قد أهلكتْ روحَ العقائد دائمًا روح العقائد دائماً وفرّغتها من جوهرِها الأصل الذي هو بؤرة فكرتها. لنا أن نتأمل كيف أفسدت السلطةُ الأوروبية العقيدةَ المسيحية المتسامحة وحولتها إلى محاكم تفتيش تكفِّر العلماءَ وتحل دمهم.} وهنا أحب أن أذكرَ – بأسفٍ -كيف تراجعَ ديكارت عن طبع كتابه الرائع "العالَم" بعدما رأى ماذا فعلت محاكم التفتيش مع جاليليو الذي اتُهمَ بالمروق من الدين لقوله إن الأرض تدور. ولم يطبع كتاب ديكارت إلا بعد موته{. السلطة ذاتها هي التي جعلت من اليهودية فكرًا صهيونياً، كما أنها أفسدت جوهر معنى الخلافة الراشدة فاستحال مُلكاً عضوضًا غارقًا في الاستزادة من مباهج الدنيا، كما حدث ابتداءً من عهد معاوية ثم يزيد بن معاوية ومن تلاهما. ثم المثال الأشهر وهو الفكر الشيعي الذي نجح أو كاد في إقامة دولة حقيقية على منطقة فسيحة من العالم غنية بالثروات ولا تخلو من الشواهد التي تبشر بوشك دخول منظومة الدولة المتقدمة، غير إننا نلمح بوادر الانهيار بعد استيلاء الصفويين على الحكم وإفسادهم الفكرة بالسلطة بعدما مثّل التشييع العلوي/ الحسيني إضافةً هامة وأصيلة في الفكر الإسلاميّ كان من شأنها إثراء المجتمع والقيام بدور حيوي فيها.
ولم تقتصر السلطة على إزهاق العقائد السماوية لكنها خرّبت جوهر الأيديولوجيات الفكرية فحوّلت الاشتراكية إلى حكمٍ شموليّ. الاشتراكية التي نالت ذيوعًا وانتشارًا لم تنله أية أيديولوجيا أخرى، ذلك الذيوع الذي كاد يقارب ما للأديان والعقائد. ربما كان السبب وراء ذلك هو التوقيت الذي أُعلن فيه ميلاد هذه الدعوة التي اتسمت بالحنو والحرارة ومساندة المقموعين وفقراء العمال ممن دهستهم تروس الاستغلال، في الوقت الذي تحجرت فيه الكنيسة وتقولبت رسالتها في ممارسة محض طقوس كهنوتية جافة. وربما – من وجهة نظري- ما أثرى تلك الدعوة في بدئها كونها نظرية ابنة علمٍ واحتياج لا عقيدة منزلّة، الأمر الذي فتح الباب أمام المفكرين لتغذيتها من عصف أذهانهم فتعددت تياراتها وروافدها ولم تتجمد في قفص النص المغلق، بكلمات أخرى، أرى أن دعوةً هي بنت احتياج مجتمع يمكن أن يُكتب لها النجاح أكثر من دعوة لا تستجيب لنبض مستهلكيها، لأن النظرية والقانون تتبع الفرد واحتياج المجتمع لا العكس. ولدت الاشتراكية عملاقة منذ المنايفستو الشيوعي الصادر عام 1844 الذي كتبه ماركس وإنجلز، ولم يبدأ الانهيار، كما يقول جمال البنّا، إلا حين تدخل لينين وتروتسكي بحسهما الثوري، فهما "... كانا من بناة الإمبراطوريات لا من دعاة الاشتراكيات، وكان لديهما من الحسم وإرادة والعزيمة والمقدرة والذكاء ما يجعلهمن أمثال إيفان الرهيب أو بطرس الأكبر، وكان في لينين عِرق تتريّ يقربه من جنكيز خان، كما كان لتروتسكي جذر توراتيّ يجعل منه يوشع العصر. يفعل ما فعل يوشع التوراتي من تدمير وتقتيل وتذبيح. كانا يؤمنان بالثورة، وآمنا أن الثورة هي وسيلة السلطة، وأن السلطة هي وسيلة القضاء على الرأسمالية، لكنهما نسيا أن بلاء الرأسمالية جاء من الملكية الفردية لوسائل الإنتاج، وهذه الملكية ليست إلا جزءًا صغيرًا من السلطة، التي أفسدت الرأسمالية، لأن السلطةَ مفسدةٌ، وأثبتت تجربة التاريخ أن كل واحد يستخدم السلطة لتحقيق أغراض –مهما كانت نبيلة- فإن السلطة تستخدمه وتخضعه لإفسادها، وكل واحد يريد أن يصبح سيدها لا يلبث أن يصبح عبدها لأن السلطة هي المصدر الأكبر للشرور ومن يتحراها فإنه يضع نفسه تحت رحمة هذه الشرور، بل ويعمل تبعاً لها".
ولأن الإطلاق في أي فكرة هو أمر غير علمي، فسأسمح لنفسي بالاختلاف مع الأستاذ جمال البنّا رغم اتفاقي معه في معظم ما طرحه: فسوء السلطة لا ينبع من جوهرها لكن من سوء استخدامها، وهذا ينسحب على كل أمور الحياة، لأننا وجودياً نحيا تحت شبكة معقدة من السلطات الذاتية والطبيعية والاجتماعية والأخلاقية، فاحيتاجات الإنسان الطبيعية من مال وقوت ومأوى تمثل لونًا من السلطة الضاغطة عليه، وإرادته ونزعاته وميوله وعقيدته ورؤيته للعالم هي ألوانٌ من السلطات، وقوة الطبيعة وقسوتها من زلازل ومناخ وخلافه هي أشكال أخرى من السلطة كذلك. ونحن بالتأكيد نعلم أن البنّا يتكلم عن السلطة السياسية وحسب، ولكنني أردت أن أفتح المنظور على مداه لأقول إنه لا منهجَ سيئًا في حد ذاته أو جميلاً، إنما يأتي الخطأ دوماً من التناول والممارسة.
إن الاستناد على القياس الميكانيكيّ، الذي قام به المفكرون الإسلاميون الأوَل، على تأسيس الرسول للمدينة ثم ما تلاه من أمر الخلافة الراشدة هو استناد جائرٌ وغير علميّ، إذ اختلفت وتباينت بل وتناقضت أركان المقارنة بين مفهوم الدولة –في عهد الرسول- وحديثاً في عهد الدولة العصرية التي انتظمتها ملامحُ وقوانينُ لم تكن معروفةً أو مطروحةً في تلك الحِقب مثل جيش منتظم وسجون ووزارات ورجال سلطة متبايني الاتجاهات والميول، إضافة إلى الفارق الأهم وهو أن الدولة القديمة كانت تأتمر بأمر نبيٍّ مُرسل يوحى إليه ويُصحِحُ له الوحي اجتهاداتِه ويحكم بما يزل الله.
الشاهد أن بريق وفرادة التجربة التي أنجزها الرسول في إقامته دولة المدينة هي ما دعت رائدي النهضة الإسلامية الحديثة، جمال الأفغاني وحسن البنّا إلى إطلاق دعوتهما الشهيرة "الإسلام دين ودولة" غير آخذين في اعتبارهما عمق واتساع الفوارق بين الأجواء والأوضاع التي حثت الرسول على تأسيس تلك الدولة على أن يتولى إدارتها بكامل حق السيادة، ثم تلاه أبو بكر ومن بعده عمر في السير على حكمه والاهتداء بهديه على نحو لا يخلو من طاقة القصور الذاتي الدافعة، حيث لم تكن التغيرات، الاجتماعية والسياسية والفردية التي شملت تلك الانتقالة من العهد النبوي إلى خلافة الصديق ثم عمر، اختلافات فارقة تفضي إلى تناقضٍ حتميٍّ وإعادة نظر في منهج السياسة. انتهت تلك الخلافة الأخيرة باغتيال عمر بن الخطاب فبدأ الفساد يستشري في الدولة، ولمّا حاول علي بن أبي طالب استنقاذ الأمر وإعادته إلى ما كان عليه، كان السيف قد سبق العزل، فأدرك استحالة الإصلاح مما تطلب انتهاجَ منهجٍ مخالفٍ يتفقُ وطبيعة الكيان الإسلامي الجديد.
يتجلى الفشل في الحفاظ على الكيان الإسلامي الجديد (الذي ظل قائماً حتى خلافة عمر)، في عهد معاوية بين أبي سفيان، الذي اعتمد السلطة في رمزيها: السيف والمال، عوضاً عن منهج الخلافة الراشدة السابقة. والشاهد أن فارقة التحول جاءت على يد عثمان الذي جاوز الخيزران إلى السوط، فعثمان بن عفان، كما يقول جمال البنّا" كان أول من ضرب بالسياط ظهور الناس وإنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة والخيزران، كما أنه تصرّف في أموال بيت المال في غير ما خُصصت له". ثم جاء معاوية فتمادى في سوء استخدام السلطة والسيف والسم كذلك ورشوة الزعماء بالممالك على نحو ذميم غير أنه ظل أقل سوءًا من ابنه يزيد بن معاوية الذي فاق الجميع تعسفًا، ثم من خلفه ليرتفعَ الخطُّ البيانيّ في الفساد وسوء الحكم مرورًا بالدولة العباسية وما بعدها حتى انتهاء الخلافة عام 1924. والاستثناء الوحيد كان في خلافة عمر بن عبد العزيز الذي أطلق عليه أبو جعفر المنصور "أعور بين عميان". وقد تكلم بن خلدون عن انهيار تلك الحقب في وصف لا يخلو من تهذِّب بعدما أعلن أن الإسلام قد زمَّ الملك والعصبية، ثم استدرك قائلاً إنما زمَّ السيئ فيهما وقال في معرض الكلام عن الثروات التي أمطرت العرب نتيجة الفتوح واستنكاره الاستزادة من الدنيا وبهرجها"... ثم اقتضت طبيعة المُلك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها.
الثابت أن الخلافة بالمعنى الحق قد ولّت إلى غير عودة بعد الخليفتين الأولين، ولم يبق إلا اسمها الذي بات مُلكاً بكل مفرداته الكلاسيكية من قمع سلطوي واستغراق في الشهوات والمطامع. وهكذا يخلص البنّا إلى أن التركيز ينبغي أن يكون على الأمة وليس على الدولة، مشيرًا إلى أن القرآن تحدث عن الأمة بوصفها مجمع المسلمين، ولم يتحدث أبداً عن الدولة. وعندما تؤمن الأمة بالشريعة ستطالب الدولة بها دون أن تتورط في أوزار السلطة، وعندما تنحرف الدولة ستصحح الأمة أخطاءها. وهنا ينسى مفكرنا أن الدولة حينما تنفذ مطالب الأمة المؤمنة بالشريعة، وحينما تصحح الأمة أخطاء الدولة، فإننا – مجدداً- سنكون إزاء "الإسلام كدين ودولة"، أي إزاء ما أنكره مفكرنا في البدء.
على أية حال، هذا الكتاب أكثر ثراءً من أن نوجزه في سطور قليلة كهذه، وهو في رأيي يقدم حلاً وسطاً يقف بين الآراء والتوصيات المتطرفة التي سببت الانقسامات والفتن، ولا تطرح مخرجاً من أزماتنا. أتمنى ألا يمثل هذا الكتاب مجرد إضافة كمية لرصيد مكتبتنا تزيدها كتاباً، وإنما أن يتم تناوله بالدرس والتحليل من قِبَل مفكري وعلماء الأمة المهتمين بنهضتها وتطورها، وأن يصبح مدارًا لحوار عام يستطلع آراء كافة العقول، علّنا نصل إلى صيغة تتفق وروح العصر.

|
|