موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
الستار الأخير في مسرح ميللر
اقتراح متواضع لتهدئة الغليان العام
بقلم :فاطمة ناعوت
جريدة"الأهالي" -مصر 3 مارس2005
أُسدل الستارُ على رجل المسرح الأشهر آرثر ميلر. الذي تميزت أعماله في مجملها برفض قيم القبح والخواء في الحياة. ناهض فكرة اللا انتماء وفكرة زرع بذور الشر واللا إنسانية في الوجود. وناقش ضمن أعماله سلبيات التفكك الاجتماعي وعدم الاستقرار. وقال في مقابلة تلفزيونية عام 1988 "الكثير من أعمالي تناقش مفهوم الانتماء فالعائلة اليوم أضحت مفككة.
من ابرز الكتّاب المسرحيين الأمريكيين في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت مسرحياته هي الأكثر قراءةً ومشاهدةً منذئذ وحتى الآن، سواء في أمريكا، موطنه، أو عبر العالم. إذ أنبأت الإحصاءات أن يومًا واحدًا لا يمر دون أن تُعرض له مسرحيةٌ في أحد أربعة أركان الأرض. وربما يعود نجاح مسرحياته الفارق إلى تناولها الوجه القبيح للحلم الأمريكي.
كرست مسرحياته فكرةً وجودية أو اجتماعية أو سياسية ما، ربما على نحو مثالي، لكن ينبغي ألا نغفل المرحلة الزمنية التي أنتجت هذه الأعمال كي نعي أنها واكبت زمانها بامتياز على المستويين المضموني والفنيّ. ويذهب بعض النقاد أن ميللر هو حلقة الوصل ما بين التراث القومي الجاد الذي أسس له أونيل وأوديتس وبين التراث العالمي الممثل بإبسن وتشيكوف وبرناردشو.
في مسرحية "كلهم أبنائي All my Sons " تناول حياة البسطاء التعسين الذين يرزحون تحت خط الفاقة بلا معين ولا سند ولا دعم. وفيها بوسعنا أن نلمس نزعته (المساواتية) egalitarianism في معظم أعماله. وقال عن مسرحية: "مصرع بائع متجول"
"of a Salesman Death " إنه حاول أن يرصد ما يحدث حين يخضع البشر لسيطرة قوى خارجية تتحكم في مصائرهم، ما قد يدفع بهم إلى الموت الاختياري من أجل أن يحيا ذووهم. وهي المسرحية الأكثر شهرة بين أعماله والتي نال عنها جائزة بوليتزر رفيعة المستوى. بينما تناول مأساة الديمقراطية في ظل نظام استبدادي في مسرحية " عدو الشعب An Enemy of the People ". أما "البوتقة، أو المحنة، "The Crucible" فهي المسرحية التي جاءت كرد مباشر منه على محاولات النظام المتلاحقة من أجل تحظيره وقمع صوته. وتناول فيها سياسة "المكارثية" التي عانى منها ويلات مريرة في خمسينيات القرن الماضي بسبب مناهضته الدائمة، قولا وكتابةً وفنًّا، للفكر الأمريكي التسلطي الذي اتسم بالبوليسية ومصادرة الرأي فاتهم بالشيوعية ومناهضة الحلم الأمريكي الأشهر. وحين طُلب ليدلي بشهادته أمام لجنة من الكونجرس رفض أن يصرح بأسماء أصدقائه وزملائه الذين كان يشتبه في كونهم شيوعيين. سُجن بتهمة ازدراء الجلسة. ثم منعت الحكومة الأمريكية سفره إلي بلجيكا لحضور حفل افتتاحها هناك، لما تحويه المسرحية من فكر يساري رأى فيه النظام خطرًا على وعي الشعب وتوجهه. وعلي أثر ذلك قام ميللر بنشر مقالة ساخرة في مجلة The Nation بعنوان "اقتراح متواضع لتهدئة الغليان العام" جاء فيها :"أقترحُ أن يقدم كل مواطن أمريكي نفسه إلي السلطات كي يخضع للاعتقال الوطني. فإذا ما دخل المواطن السجن يتم تصنيفه وتحديد مدي خيانته لوطنه. فإمّا أنه خائن نظري أي اشترك في محادثات تمس دفاع الأمة ضد العدو، أو عجز عن إظهار النفور العلني أو المرئي أو المسموع من هذه المحادثات، وإمّا أنه خائن عامل أي حضر اجتماعات الهيئات التي حددها النائب العام، أو هو ينتمي إلي فئة ثالثة صغيرة من المواطنين غير المصنفين، وهي تتكوّن أساسا ممّن دخلوا مؤسسات الأمراض العقلية أو مصحات العجزة والمسنين وأعضاء مكتب التحقيق الفيدرالي، وكذلك ممن لم يسجلوا أسماءهم في أيّة مكتبة عامة كمستعيرين للكتب، وممن خاضوا الحرب الأهلية، وأخيرا غالبية الأطفال! . وفي حالة وجود مثل هذه المادة في الدستور سيقدم المواطن الأمريكي نفسه إلي المسئولين عن السجن بلا نقص في حريته، لأنه يقدّم نفسه والحب يغمر قلبه، والرغبة تتأجج في صدره كي يثبت لجميع مواطنيه أنه أمريكي، وأنه توّاق لأن يعرف الجميع كل تصرّف يأتيه في حياته وما يكون لهذا التصرّف من دلالة وطنية. ويمكن أن يقال كذلك إنه إذا كان الصبي الأمريكي صالحا لكي يشترك في حرب، فإنه يكون صالحا تماما للذهاب إلي السجن من أجل أن يُرفرف السلام علي بلده".
عالجت مسرحية "ذكري يوميْ اثنين A Memory of two Mondays" أيضا موضوع الفاقة والاحتياج. أما "مشهد من الجسر
from the Bridge View "A فتناولت خضوع الإنسان لأسر رغباته الحسية غير السوية إلى أن ينجح في قمعها وترويض حيوانيته لصالح اكتشاف جوهره الإنساني العميق .
ثم جاءت مسرحية " After the Fall "التي اشتهرَتْ بـ" بعد السقوط "(ربما الترجمة الأدق برأيي: بعد الخريف) التي صدرت عام 1964، أي بعد انفصاله عن مارلين مونرو بأربع سنوات، ما دفع بعض النقاد السطحيين للربط بين أحداثها وبين سيرة حياة ميللر الذاتية مع مونرو وإخفاقهما في المواصلة. غير إنها ناقشت مفهوم المعرفة: قيمتها ومدى جدواها وكيفية تحصيل السعادة عبرها، وماذا لو حصلّناها بعد فوات الوقت؟ ماذا لو جمعنا ثمار جنة عدن بعد الخريف، أو السقوط أو الموت؟
تلك المسرحية اعتبرها معظم النقاد أعظم حدث في تاريخ المسرح الأمريكي على الإطلاق.
ظل ميللر حتى يومه الأخير مناهضا لسياسة بوش السيادية الاستعمارية، وراح يعلن عن مواقفه الحادة ضد القمع والحروب ومنعته نزعته الليبرالية من قبول الحلم الأمريكي بشكله وقيمه الظاهرية.
عارض الحرب علي أفغانستان وعلي العراق، ونادى دائما بالعدالة الاجتماعية واحترام حقوق الإنسان وآدميته. وبوسعنا أن نلمس بجلاء أن معظم أعمال ميللر عملت على إثارة علامات السؤال بذهن المتلقي، قارئا كان أو مشاهدًا، حول المجتمع والسلطة وطبيعة السياسية الأمريكية نحو شعبها ونحو العالم. ما يؤكد أنه كاتب من طراز عضوي تحمِلُ كتاباتُه همَّ المواطن وفي متنها رسالة جلية لا يخطئها المتلقي الذكي.
وبعد عدة أعوام، انقطع ميللر عن العمل في أمريكا، وقال إنه يرى أن الكتّاب يعاملون كأدوات للتسلية والترفيه وليس باعتبارهم مفكرين ومعلمين للأخلاق. شن حملة ضد ما وصفه بتجارية برودواي التي ركزت فقط على الربح. وفي عام 1995 فازت مسرحيته "الزجاج المكسور" بجائزة أوليفر لأفضل مسرحية. وبعد أحداث 11 سبتمبر قال ميللر إن تلك الهجمات هي "حرب ضد الإنسانية " .وأضاف "منذ ستالين والنازيين، أثبت الواقع أنه تفوّق على الخيال"، كما أعلن شكوكه في مقدرة بوش على معالجة الأزمة. وحذر من أن الإجراءات الطارئة التي نفذتها الإدارة الأمريكية بعد الهجمات سوف يكون لها مردود سلبي على الحريات.
ولد ميللر في نيويورك عام 1915، ورحل في 11 فبراير 2005. وخلال سيرته التي امتدت نصف قرن كانت أعمال ميللر سجلا حيًّا للتغييرات المضطربة التي عاشتها الولايات المتحدة آنذاك. وهكذا أخمد السرطانُ صوتَ عملاق المسرح بعد أن أخفق النظام الأمريكي في كبحه على مدى نصف قرن.

|
|