موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
اللعبة المركبة في اعتمار قناع الموت
بقلم :
فاطمة ناعوت
المفتتحاتُ أو التصديراتُ التي عادةً ما يبدأُ بها الشاعرُ كلمتَه ، إمّا اقتباسًا من شاعرٍ آخر أو من قولٍ مقدس أو مأثورٍ ، وإما كانت نسجًا خالصًا للشاعر ذاته.تلك الكلماتُ المِفتاحية ،العتبةُ الثانية بتعبير النقاد ،غالبًا ما يرمي الشاعرُ من وراءها أمرًا. قد تكون حجرَ الأساسِ لمجموعةِ نصوصٍ تالية ، كأن يضع فيها فصلَ القولِ، أو بؤرةَ الحالةِ الشعوريةِ التي سيشتبُك معها القارئُ بعد قليل، وأحيانًا يكتبها الشاعرُ بهدفٍ تضليليٍّ ، فيهيئُ للقارئ أرضًا، ليضبطَ موجاتِ التقاطاتِه على نغمتِها ، ويرتّبَ ذهنَه للولوج إلى الحالةِ عن طريق بعض مفرداتٍ يصوغُ منها الشاعرُ مفتتحَه ، وما أن يدخلَ المتلقي التجربةَ حتى يظلُّ في حالِ بحثٍ عن تلك الحال وتلك الأجواء التي أُعِدَّ لها من قِبَل الشاعر ، وعند نهاية النصِّ الأخير ، وربما بعد إعادةِ القراءة ، يفطنُ القارئُ إلى الشَّرَك الذي نصبَه له الشاعرُ ، إذ يكتشفُ كونَه ضحيةَ مؤامرةٍ خلاصُها الوحيد هو التأويلُ و إعادةِ التأويلِ، فينفتحُ النصُّ ويتحقق هدفُ الشاعر.
في ديوان "على سبيل التمويه " ٌ للشاعر المصريّ "على عطا" الصادرٌ حديثًا عن مكتبة الأسرة ، ينسجُ الشاعرُ تلك الأحبولةَ في مفتتحاتِه الثلاثة.
ففي مفتتح 1 ، ينشدُ الشاعرُ غفرانَ القارئِ مسبقًا على ما سيقول و يكتب ، بل ويرفضُ الاعتذارَ عن وقاحةٍ محتملةٍ قد تحملُها الكلماتُ متشفِّعًا بكونِه ميّتًا من العلامةِ الأولى فيقول: هل أبدو وقحًا حين أكتب/هل يستوجبُ ذلك الاعتذار/أم سيغفرُ لي كوني ميّتًا/ منذ العلامةِ الأولى.
تحيلنا العلامةُ الأولى إلى العتبةِ الأولى للديوان : العنوان "على سبيل التمويه " . نجد الشاعر متلبّسًا بارتكابِ اللعبةِ المركّبة ،بعدما قرر أن يخدعَ القارئَ ويموِّه عليه الدلالات مرتين. في مفتتحه الأول سرَّبَ لقارئِه حِسًّا عدميًا بريئًا لرجلٍ ميّتٍ لا يُحاسَب على ما يفعل ، ثم نكتشف بعد قراءةِ النصوصِ التاليةِ لهذا المفتتح أن الذات الشاعرة هي عينٌ راصدةٌ موغلةٌ في الحياة تتأمل بعض بشرٍ يفقدون ذويهم ،و فور اكتشاف تلك الخدعة ، تستدعي آلياتُ الذهن فورًا عنوان الديوان لنفكرَ أن ثمةَ تمويهًا يتم الآن.هذا الاعتراف في العنوان هو ما جعل اللعبة مركبةً كما أسلفتْ.
فنحن حين نقررُ أن نخدعَ ، نجتهدُ أن نخفيَ التآمريةَ في سلوكياتنا، لكن الفخَّ العميقَ يستوجبُ استراتيجياتٍ مركبّةً ، مثلما فعل "موريس لبلان" في رواياتِه حين جعل لصَّه الأشهرَ "آرسين لوبين" يترك فوق جريمتِه بطاقةَ ممهورةٍ بتوقيعِه. فعلَها "على عطا" ،إذ اعترفَ بالمؤامرةِ قبل البدءِ فيها، لا عن حسٍّ اعترافيّ ، لكن لتكتملَ الأحبولةُ بحيث يطمئنُ القارئُ أنه أمامَ شاعرٍ تطهريٍّ بسيط الطويّة فيأمن ويقع في الفخِّ على نحوٍ تام.
الموتُ إذًا هو الملاذُ الذي نقصدُه هروبًا من المساءلة ،فالموتى لا يُحاسَبون في الأرض. لكن الشاعرَ يقترحُ للموتِ شكلاً آخرَ غير هذا القاتم الغامض، الذي لم ندر كنهَه بعد.واقفًا على بابِ أبيه المحتضر ، يجتهدُ أن يرى كيان هذا الموت الذي يحاول استضافة أبيه على مائدتِه على مرأى ومسمع من الشاعر الذي يقف مكتوفَ اليد عاجزًا عن نجدةِ أبيه ،وحين يؤمن بفشلِه في رؤية هذا العدو الصموت ، يفعل كما فعل ثعلبُ ديدبة ، فزعم مرارةَ العنبِ لمّا فشل في الحصولِ عليه.يحاول الشاعرُ أن يقترحَ صورًا للموت أكثر أُلفةً و طيبةً من تلك الراسخةِ في أذهاننا ، صورةً أجملَ ، تروق للموت ذاتِه ، علّه يترفق بنا إذا ما تملقناه. يقول الشاعرُ:في قصيدة "على بابِ أبي"
إذا كان الموتُ يأتي/على كيفيةٍ لا نعلمُها/فلماذا ننشغلُ بتصوّره/على نحوٍ قد لا يروقُ له؟
أقنعنا الشاعرُ إذًا أنه ماتَ قبل الشروعِ في الكتابةِ في مفتتحه الأول .ثم إذا به يتحورُ في مفتتح 2 إلى خيطِ ضوءٍ أو طاقةٍ لا ماديّةٍ أو كيانٍ يتحولُ تحت "الميتامورفوزيس " إلى مادةٍ تتسرب من ثقبِ الباب ، يتم استنشاقُه وتقيؤه أيضًا.
دائمًا هناك بابٌ/والبابُ له ثقبٌ/والثقبُ ينطبعُ على جلدي/ينحفرُ في اللحم/انسكبُ منه/فتستنشقني/ثم تتقيأني/من اللحظة الأولى.
نلاحظ الزمنَ هنا " منذ اللحظة الأولى" ،يحيلُنا إلى " منذ العلامةِ الأولى" في مفتتح(1) الشاعرُ ينفي الوجودَ عن ذاتِه منذ لحظةِ الميلاد ، يتحول روحًا لا تُسأل عما ترتكب ، أو طاقةِ فعلٍ بغير جسدٍ للقصاص.
يقترحُ الشاعرُ في نهاية الحياة/الديوان ، محاولةً جديدة للعبةِ الحياة ، فيقول صراحةً "لا بأس من تكرار المحاولة" وهو عنوان الجزء الثالث بعد جزأين هما " وجوه" و إطلالة" . حيث الوجوه الأولى تولدُ موءودةً لا تحملُ تبعةً ما . وخلال تجربة الحياة تطلُّ إطلالتَها على الوجودِ متخذةً لنفسِها هيئةَ كيانٍ غير ماديّ متحررٍ من الأبعادِ الثلاثة. ثم في نهاية الرحلة يقررُ الشاعرُ تجربةَ صيغةٍ جديدة للحياة ، هذه الصيغة هي الصيغة التقليدية الشائعة للبشر.جسدٌ ذو وظائفَ ، روحٌ تشعر وتقيّم. تلك العينُ التي ظنَّ تعطلِّها كانت ترقب الحبيبةَ طوال الوقت ، ربما في حالته الأولى كميّت أو في حالته الوسطى ككائنٍ غير ماديّ . حان الوقت إذًا ليستعيدَ الجسدُ ماديتَه ، يستعيد عينَه ليرصدَ الجمالََ بها . يقول علي عطا في "مفتتحٍ أخير"
لو أنها/مجردُ عينٍ محبةٍ/تلك التي كانت تراكِ من قبل/فلماذا لازلتُ إلى الآن أرى أنكِ الأجمل؟
هذا الديوان الذي يحتوى على ثلاثة أقسام تضمُّ حوالي ستٍ وثلاثين قصيدة ، نلاحظ ملاحظاتٍ عدّة نجملُها فيما يلي :
- خط الزمن طيّع في يدِ الشاعر. فنراه يرتب الأحداثَ على النحو الذي يوحي بامتلاكه دراما الحياة عند انتهائها. في قصيدة" هناك بين اليقظة والنوم"، يعمدُ الشاعرُ إلى السرد المستقبليّ/الماضويّ/ الفانتازيّ . ثمةُ أحداثٌ تخيليّةٌ لم تحدثْ أبدًا ، يسردها الشاعرُ في صيغةِ الماضي أو في صيغة الاستفهام ، ليخلقَ حياةً كاملةً لم تحدث ، بتفاصيِلها و أسماءِ شخوصِها وصفاتِهم الفيزيقية. وإن كنت أرى أن العنوانَ الكاشفَ للقصيدة قد أضعفَ اللعبةَ إذ أفصح أن الحدوتَة تلك إن هي ابنةُ الحلمِ أو خيال حافة اليقظة.
- سمة الالتفات في الضمائر ، التي نرصدها بكثرةٍ في القرآن الكريم ، فتبدأُ القصيدةُ أحيانا بضميرِ الغائبِ ثم يتحول في آخر النصِّ ليحدد الدلالةِ عن طريقِ التحدثِ بضمير المتكلِم. تلك التقنية هي أحد أدواتِ اللعب عند الشعراء ، لكنها السلاحُ مزدوجُ الحدِّ ، في حينٍ ، قد تُثري النصَّ إذا ما أُجيدَ استغلالُها ، وفي آخر، قد توقع المتلقي في الارتباكِ والالتباس إذا ما استخدمتْ بعفوية الشِّعر الأولى.
- السخريةُ ، التي نلمحُها تُطلُّ أحيانًا بين النصوص لتعمّق المفارقةَ وترمي الدلالة بقوةٍ إلى المنطقة المسكوت عنها في النص . كهذا الذي يسخرُ من غريمِه الذي فاز بمحبوبتِه عوضًا عنه ، يحنقُ عليه فيرميه بالطمع في بضع سنتيمتراتٍ من طولِها لتعويض قِصَرِه.
هو الشعر إذًا ، هذا الساحرُ الذي من خلالِه نوهمُ أنفسَنا بامتلاكِ مفاتيحِ الوجود، نفكك أزماتِنا ومأساةِ وجودِنا فوق الأوراقِ شعرًا ، نموّه على عقولِنا أنّا حللنا لغز الحياة. هاهو الشاعر بعد أن لعبَ لُعبةَ التمويهِ طويلا ظانًّا أنْ قد خدعَ الجميع ، في نهاية الأمر وبعد أن تكتشف محبوبتُه الخدعَةَ فتكاد تفقد ثقتَها فيه ، ينبهُها إن هي إلا لعبة للتحايل على الحياة التعسة ، وإنه يستعدُ للشروعِ في لُعبةِ جديدة بالرغم من نفاد فخاخِه ، عساها تفطن للأحبولة بل ربما شاركته اللعبة.يقول في آخر مقطعٍ بالديوان:
ها أنت تعرفينني الآن/أكثر من أيِّ وقت مضى/بدليل بلوغِك حد انهيار الثقة/و ها أنا ذا/برغم نفادِ ما في جعبتي من حيل/أستعدُّ /لتكرار المحاولة.
فاطمة ناعوت
القاهرة، 2004

|
|