موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
فاطمة ناعوت
في ديوانين:
من "نقرة الإصبع"
إلى "سنتيمتر واحد"
 |
بقلم : حلمي سالم
فاطمة ناعوت واحدة من شاعرات الكتابة المصرية والعربية الجديدة.صدر لها في هذا العام ديوانان اثنان ، هما : "نقرةُ إصبع" (عن سلسلة كتابات جديدة بهيئة الكتاب المصرية)، و "على بعد سنتيمترَ واحدٍ من الأرض" عن دار ميريت. بعد أن ظلت سنواتٍ طويلةً تكتب وتضع كتاباتِها في الدرج.
يلفت النظر في ديوانيها – لا سيما الديوان الثاني "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض" عدد من الملامح البارزة ، نخص منها بالإشارة الملامح التالية:
1- ظهور طابع "مسيحي" ملحوظ ،سواء في الموضوعات أو في المشاهد أو في الصور، أو في بعض عناوين القصائد. ففي "نقرة إصبع" سنجد عناوين مثل: "بلا تعميد" و "من منكم بلا خطيئة"و "موريس اسكندر بشاي" . وفي "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض" سنجد :"فوق كفِّ راهبة" و "زهرة الثالوث" حيث يمتزج ذلك الحسُّ المسيحي بقصص العرب :"بلقيس النساء / ملكوت عرشك الأبديّ / يزهو بهدهدٍ ليس يضلُّ / علَّه عما قريب / يخبر البشرَ / عن نبأ سليمان".
والشاهد أن مثل هذا الطابع المسيحي هو من أعمق ملامح الديوانين،لأنه يدلنا على اتساع المرجعية الثقافية عند الشاعرة،لاسيما حين تمتد لتشمل الثقافة اليهودية والفرعونية وثقافة حضارات شبه الجزيرة العربية.الأمر الذي يمنح أفقًا رحبًا للأرض التي تتحرك عليها الشاعرة،على عكس ما ذهب إليه بعض النقاد التقليدين الذين أقلقهم هذا الطابع الديني المتسامح، حين لم يلتفتوا إلى ما يعنيه من تلامح الحضارات والثقافات والأديان والتراثات المتنوعة ،خاصة في الشعر الذي هو إنساني بطبعه.
2- الموازنة الدقيقة بين "الذات" و "الموضوع"، أو بين "الداخل " و "الخارج". ففي ديواني فاطمة ناعوت قصائد عديدة توفق فيها الشاعرة في المشي على "الخيط الرفيع" بين العالمين ،حيث نتأكد نحن القراء من أن الكتابة عن "الذات" هي كتابة في الحين نفسه عن "الموضوع"، وأن الكتابة عن "الموضوع" إنما تتم عبر "الذات" وهو ما يعني ذوبان "الثنائية"الشهيرة التي يقف فيها كل طرف في مواجهة الطرف الآخر.ولعل في قصيدة "مستعمرات ما بعد حداثية" ما يؤكد هذه الوشيجة المشتبكة بين "الداخل" و "الخارج" حيث "النباتات التي تتدلى من الطابق العاشر / احتجتُ للمسِها مرارًا / قبل أن أتأكد أنها ليست من البلاستيك / لا بد أن الهنود هؤلاء/ الذين يتوارون بالبدروم الآن / قد انتهوا توًا من رِيِّها بالماءِ المعقم".
3- "لماذا لا تقايضني الآن إذن؟ / هَبني بعض وحدتي / أمنحكَ سعادةً قد تدوم / "الدفع عند الاستلام" / في قانون كهذا / لن تخسر تجارتنا أبدًا / هل ترى الآن؟ / ديون الفقراء / التضخم / انهيارات سوق المال / انخفاض القيمة الشرائية لعملات العالم الثالث / الرواز القديم بحائط الردهة/الذي سوف يسقط بعد قليل / حتى مواء القطةِ بالمطبخ الآن / كلها خدعة كبرى / ابتكرها البنك الدولي / ولأننا لسنا بلهاء/فسوف لا يوقعنا فخٌّ كهذا / وسوف نمعن بكل اقتناعٍ في تجارتنا" .
تقدم هذه القطعة مثالا من أمثلة ملمح واضح آخر من تجربة ناعوت في هذين الديوانين، وهو ملمح "السخرية والتهكم" الذي يُعدُّ عنصرًا جليًا من عناصر الكتابة الشعرية الجديدة.
والسخرية في الأدب تقنية جوهرية لأنها تقوم بوظائف كثيرة: فمن ناحية،هي تخفف من وطأة المأساة أو التراجيديا المفرطة.ومن ناحية ثانية،هي تضفي لمسة من المرارة على حالة مضحكة او متقنعة بالضحك.ومن ناحية ثالثة،هي تزيد عنصر الصدقية والتأثير والإيغال في نفس القارئ.ومن ناحية أخيرة،هي تمنح طريقة غير تقليدية في المعالجة تبتعد عن التقريرية المباشرة.
4- التعامل مع اللغة بحرية تمكن الشاعرة من الذهاب بها في أكثر من مجال:فتارةً تذهب بها إلى اليومي النثري المعاشي العادي مما دَرَجَ في الكتابة الشعرية.وتارةً تذهب بها إلى التزاوج مع اللغة الأجنبية.و تارةً تذهب بها إلى حقل التكنولوجيا ومفردات الكمبيوتر والهندسة (مجال تخصص الشاعرة العلميّ،إذ هي مهندسة معمارية).
من أمثلة النوع الأول قولها "كوب شاي / وبعض شطائر / أعدتها قبل الذهاب إلى العمل"، ومن أمثلة النوع الثاني قولها: "الخطوات التي نفذناها بأرواحنا / على رقعة الزمن ذات اللونين / لا تراجع فيها / Touch Move ". ومن أمثلة النوع الثالث قولها: "خبير محاسبي" و "شكرًا لهذا الموقع" و "بينما الحاسوب ينفذ أمرًا".
والملفت ،هنا، أن الشاعرة، المهندسة المعمارية،لم تتوجه إلى إقامة نصِّها بحنكةٍ هندسية ولا إلى بناء قصيدتها بطريقة معمارية.إنها – على النقيض من ذلك - تسعى إلى الابتعاد عن الهندسة سواء في شكل النص أو وزنه التقليدي ،مؤكدةً على أن النثر هو اقتراحٌ موسيقيٌّ ، وأن التفكيك الفنيَّ اقتراحٌ في البناء.
5- الانصراف عن هوس "كتابة الجسد" الذي استغرق فيه - إلى حد الغرق –كثير من شعراء وشاعرات الكتابة الشعرية الجديدة في الأجيال الشابة الطالعة. فهذان الديوانان يُعدّان من الكتب القليلة التي لم تُنسَج على منوال التجربة الحسيَّة الصريحة الغليظة،حيث انخرط معظم المبدعين الصاعدين،تحت زعمٍ نظريٍّ يرى أن "معرفة الجسد"هي المعرفة الوحيدة الصادقة و الممكنة.
ناعوت لا تنطلق من هذا الزعم النظري ،بل تنطلق من المعاناة الوجودية الشاملة،التي تتدامج فيها الذات بالعالم والجزئي بالكلىّ والشخصيّ بالإنسانيّ.
هذا الملمح بالغ الأهمية- في اعتقادي –لأنه ينقض الافتراء الذي يكرره الكثيرون،خصومًا ومؤيدين ، بأن القصيدة الجديدة الراهنة غارقة في وهدة البورنو ،وبأن كل أيديولوجيا قد سقطت إلا أيديولوجيا الجنس.
النهل من معين الثقافة والتراث العربيين و الأجنبيين ،سواء بالتناص أو بالتضمين أو بالاتكاء أو بالنقد أو بالنقض.فأثناء سيرك في الديوانين ستقابل ماكبث والعذريين و فان جوخ و ديكارت والميتابويتري و جان دارك و المماليك و أفلاطون ومالك الحزين وعصا موسى والحب في زمن الكوليرا ،وغير ذلك من الإحالات المعرفية القديمة والمعاصرة.
والحق أن ذلك النهل الثقافي ينطوي على ميزة كبرى و على مثلبة كبرى ،في آن :
الميزة الكبرى هي التأكيد على أن الشعر أخو المعرفة حيث لا شعرًا عميقًا بدون معرفةٍ عميقةٍ ، على نحوٍ ينفي موقف بعض صغار الشعراء المزدري للثقافة المحتقر للمعرفة.والمثلبة الكبرى هي ما يسببه ذلك النهل المعرفي –لا سيما إذا كان مسرفًا ، كما في بعض نصوص ناعوت – من إثقال لكاهل النص ، على نحوٍ يبدو معه هذا الحضور المعرفي خانقًا للشعرية،مستعرضًا للعضلات الثقافية الجافة. وهذه المثلبة هي ما أنبِّه فاطمة إلي خطرها ،بينما أدعوها إلى استثمار الميزة استثمارًا خفيًّا ورهيفًا.
7 - غلبة النهايات ذات الطابع الحكيم على الكثير من القصائد في الديوانين ، على نحوٍ يشي بأن الشاعرة لا تثق في أن متن نصها قد أوفى غرضه. ولذا فإنها تلجأ إلى تلخيص قصيدتها في "خلاصة ختامية" شارحة،تنطوي- كذلك-على انعدام الثقة في القارئ.
و آفة "الخلاصة الختامية الشارحة" هي مزلق لا يقع فيه شعر فاطمة ناعوت وحده ،بل يقع فيه شعر الكثير من الشاعرات والشاعرين(من بينهم كاتب هذه السطور)، فهو مزلق مغوٍ يصعب معه أن يتخلص الشاعر من "شهوة" الشرح الطاغية، التي تجعل الشاعر حريصًا على توصيل مغازي نصه إلى قارئه"يدًا بيد".على أن مثل هذا المزلق هو "امتحان"دقيق لكاتب النص،إذ كلما انتصر الكاتب على "شهوته الشارحة" دلَّ ذلك على ثقته في أن نصه واصلٌ بغير شروح زائدة،وأن قارءه مدركٌ للنص بغير رسوم توضيحية.
بعد هذه الملامح السبعة الأساسية التي تسمُ شعر فاطمة ناعوت، أسجِّلُ ملاحظتين عامتين :
الأولى : أن جملة "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض" جملةٌ كاشفةٌ يمكن أن نقرأ على ضوئها عمل الشاعرة كلَّه ، الذي هو على بعد سنتيمتر واحد من دوائر عديدة :فهي نصوص ليست ملاصقة للأرض تمامًا ،وليست محلقةً كل التحليق، بمعنى أنها غير غارقة في الواقعية الجلفة وغير غارقة في المجاز المطلق.هي نصوصً تكاد تتماس مع اللغة التقليدية المتينة(بلا انطباق) وتكاد تتماس مع اللغة النثرية اليومية(بلا انطباق) .وهي نصوص تنأى عن "الذات" ببوصة، وتنأى عن "الموضوع " ببوصةٍ. وفي هذه المساحة الضيقة(سنتيمتر واحد) يكمن الشعر الجميل.
الثانية :أن قارئ ديوانّي ناعوت يشعر بوضوح أن هذين الكتابين قد سبقتهما دوواوين عدّة، ألقت بها الشاعرة في سلة المهملات أو حبستها في طيّ الحَجْب و الإخفاء.فما في الديوانين من نضجٍ وخبرةٍ و مُكنَةٍ (قياسًا إلى كونهما عملين أولين) يشيران إلى رصيدٍ سابقٍ منفيٍّ ، ويرهصان بشاعرة ستأخذ موقعها من خريطة الحركة الشعرية العربية الراهنة،لا سيما إذا تخلصت من بعض الثغرات الطفيفة التي ألمحنا إليها،والتي لا تقلل مما يحفل به الديوانان من جمالات ظاهرة.

|
|