موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
"في محبة الأدب"
جابر عصفور
بقلم :
فاطمة ناعــوت
ثمة منطلقان ينتهج أيهما الناقد الأدبيّ في مقاربته الثقافة الأدبية - سواء بالمرور الإشاريّ السريع أو بالدراسة السابرة الغور.فإما انطلاقا من الوعي بالأهمية الثقافية والأكاديمية للناقد الأدبيّ ودوره التاريخي في تعديل مسار الحراك الأدبي بإعمال أدوات التشريح الفنيّ المحصّلة من الدرس والتحصيل الأكاديمي ، وإما انطلاقا من المحبة الحقيقية للأدب بوصفه القيمة المعادلة لقبح الواقع و فرشاة في يد المبدع يتحايل بها على الرماديّ الناجم عن منطقية ورتابة الحياة.
الناقد من هذا النمط الأخير هو في زعمي مبدع صامت أحبّ الإبداع إلى الحد الذي دفعه غرامه بالأدب إلى توسيع مخروط الرؤية إلى 360ْ بدلا من 60ْ ، فرفض الكتابة الإبداعية التي ستحد السبيل أو السبل واستبدل بها الكتابة الأشمل التي تسمح بالرصد الكامل للمسقط الأفقي للمشهد الإبداعي و تمهيد وتعبيد الطرقات لموكب الإبداع في مسيرة آمنة نحو التقدم.
الناقد من النمط الأول بوسعه أن يفند العمل الإبداعي ويشرّحه بمباضع الدرس الأكاديمي وقد يقدم رؤية نقدية قيّمة مهمة لكنها لن تخلو من جفاف المصطلح وبرودة عتمة المدارس النقدية ،وهو ما يلمسه القارئ والمبدع حين يطالع نموذجا نقديا مثل هذا .
يباغتني إحساس قلق حين أقرأ مثل كهذا نقد بأن الناقد قد نجح في شد القطعة الأدبية من فضاء ورحابة الشعرية والفنية إلى إسفلت العلم بكل قسوته وجفافه. في حين بوسع الناقد من النمط الثاني أن يقدم لنا دراسة نقدية في صورة قطعة أدبية موازية للقطعة موضوع الدرس بكل رهافة الشعرية والفنية المحلقة ، لأن الناقد في هذه الحالة يمارس دوره المفترض كمبدع رفض الإبداع وانتهج النقد.
يمكننا أن نكتشف هذا الأمر بسهولة في كتاب جابر عصفور "في محبة الأدب" الصادر حديثا عن مكتبة الأسرة ، لنرصد أن كل كتابة فكرية قام بها على مدار مسيرته النقدية المكثفة حتى تلك التي تناولت قضايا غير أدبية – ظاهريا - مثل السياسة والاجتماع والثقافة وحتى الدين، إنما انطلقت ، واعيًا أو غير واعٍ – من انشغاله بالهم الأدبي واشتبكت بشكل أو بآخر مع قصة الأدب وقضايا الدفاع عن الاستنارة و التحديث لأنها إنما كُتبت بقلم ناقد أدبي لم يتوقف عن محبة الأدب يوما كقارئ أو كناقد أو كمفكر أو أخيرا كمبدع صامت كما أسلفت.
ينقسم الكتاب إلى أقسامٍ ثلاثة. الأول هو "الحوارات" وفيه يلعب جابر عصفور لعبة العصف-الذهني-الأثيني حيث يستحضر"أنا " أخرى مقابلة أو موازية فيخلق لنا محاورًا مشاكسا يجدل معه حوارًا خلافيا لا يخلو من طرافة ومكر لعرض الفكرة والفكرة المضادة في جدلية فكرية من شأنها استنفار طاقات ذهن المتلقي لاستعراض القضية وتشريحها من زاويتيّ الأنا والآخر.
فيقدم في حواره الأول رأيه في حتمية وجود " الرديء الأدبي" لنرصد الجميل ، بل وينادي بأهمية دراسة هذا الرديء نقديا وفلسفيا ، وهي الدراسة الأصعب ، لا كقيمة مناقضة للجمال حيث هو الوجه الآخر له و حيث هو الأداة التي بها يمكن لأعيننا رصد الجمال واستخلاصه ، حيث الحسنُ يُظهر حسنَه الضدُّ ، لكن كقيمة مستقلة غير مستندة إلى على ذاتها . ويحدثنا جابر عصفور عن كتاب آي إيه ريتشاردز " مبادئ النقد الأدبي" الذي ترجمه د. مصطفي بدوي عام 63 وقرأه جابر عصفور في أولى سني الجامعة . وفي فصل الكتاب الخامس والعشرين عن الشعر الرديء ما يجعله ينتبه لتلك القيمة الهامة ووجوب التوقف عندها بالدرس والتحليل.
ثم يتكلم عن نجوم الرداءة إما عن فقر في قيمة المضمون أو تعطلّ في آلية التوصيل أو عن كليهما معا.
وإذ يتوقَف صاحب "المرايا المتجاورة" عند قيمة القبح أو الرداءة بوصفهما القيمة المقابلة للجمال ، فإنه يعرض في حوارٍ آخر توَقُف عبد العزيز الأهوانيّ عند ظاهرة العقم بوصفها الظاهرة المقابلة للإبداع في كتابه التأسيسيّ " ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر" ، حيث ينتهج المنهج نفسه في دراسة أسباب تشكّل العقم في شعر ابن سناء الملك، متجاهلا ما درج عليه النقاد من درسٍ لجماليات الشعرية التي غالبا لا تؤدي لجديد.واستكمالا لقضية الشعر، يستعرض صاحب" مفهوم الشعر "- مع صاحبه الافتراضيّ تيمات ومناهج بعض المدارس النقدية مثل التعبيرية والانطباعية والتأثيرية من خلال درس شعرية محمد مصطفى بدوى بوصفها شعرية واقفة على حافة حرجة بين الكلاسيكية و الرومانتيكية على نحوٍ منزعيٍّ لا مذهبيّ . مستعرضا منهجي طه حسين و محمد حسين هيكل المتناقضين في النقد الأدبي ، مفنِّدًا أسلوبيّ النقد سواء القائم على التأثر المباشر أو ذلك القائم على الاستقراء العلميّ الإمبريكالي البحت.
في حوار "التمرد على الأب" يؤكد "المدافع عن التنوير" على قيمة الحداثة أو التحديث والانفلات من فلك التقليد والتصنيم السلفيّ بردِّه فكرةَ التمرد الأوديبيّ عند فرويد إلى مرجعيّة عربية ظهرت في تراثنا الشعري ، ورصَدَ تزامنَها مع إحساس الشعراء بوجوب صنع تغيير في الحياة وفي نظرة الإنسان إليها ، الأمر الذي يدفع بهم إلى عصيان الطرائق القديمة في تعاطي مفردات الوجود. وتجلّت تلك الظاهرة بوضوح في عَجُزِ بيت أبي تمام " ودَعْني من قديمِ أبِ " بما يؤكد رغبة الشاعر السرمدية في إعلان حضوره الذاتيّ وإخفات صورة وثن الأب المهيمنة.كما أوضحَ المؤلفُ أن رمزية القتل الأبوي تتأتى عن طريق العقل والابتداع ونبذ النقل و الاتباع ، ذلك الحراك الذي عادة ما يحدث في لحظات التاريخ المفصلية التي عادة ما يتولد التجديد أو الرغبة فيه من شروطها.ويستطرد المؤلف حول التأكيد على (رمزية) القتل بمعنى التخلص من الهيمنة السلفية، فيفرد حوارا حول "معنى التمرد على الأب" ،كي لا يقع خلطٌ بين القتل الفعليّ بصورته السلبية وبين القتل الرمزي على النحو المفترض ، مميزًّا بين نوعيّ الأب (السلف):الحاني النازع عنه صفة السلطوية ، والطاغي الذي يعوّق التطور. والواقع أنني لم أر مبررا لذاك الاستطراد ، لأن مفهوم قتل الأب ، وموت المؤلف وكل تلك (الجرائم) الاصطلاحية قد استقرت دلالاتُها في الأذهان بما ينفي ضرورة إعادة التعريف بها.و بالفعل فنّد المؤلف عبر عدة حوارات ظاهرة السلطة الأبوية بشقيّها الصحيّ والمرضيّ تاريخيا على جميع الأصعدة فكريا وسياسيا وأدبيا على النحو الذي جعلها بمثابة دراسة شاملة تغطي فكرة السلفية .
بيد أني أودُّ أن أضيفَ على ما تقدّم به د.جابر سببًا آخر للتبعية الماضوية غير ناشئٍ عن استبدادٍ بطريركيٍّ سلفيّ أو عن انقيادٍ أعمى للقديم ، إنما يعود إلى نزعة إنسانية أو حيلة ذهنية يلجأ إليها المرء بحثًا عن الأمن ، وهو ما نطلق عليه أحيانا النوستالجيا الزمانية، حيث أننا لو حاولنا أن نقسم خط الزمن بمراحل ثلاث ، نجد المستقبلَ مخيفًا بما يحمل من غموض ووعيد بخطر نجهله ؛ والحاضرَ قَلقًا مشبعًا بالاستغراق في المسؤولية والنتائج الفورية للعمل مما يجعل منه خصما في ساحة نزال و يضفي عليه مسحةً من العداء و يطرح عنه وضوح الرؤية ولذا يقول البعض "المعاصرة حجاب" ؛ ثم الماضي الواضح والمحتوى بكامله داخل مساحة الرؤية والاستقراء والخالي من المسؤولية وحتمية الضلوع ، مما يضفي عليه مسحةً من المحبة والأمان من قِبل الإنسان ، ولذا كثيرا ما ننعته بالزمن الجميل ، حيث كل ماضٍ هو زمن جميل، الأمر الذي يجعلنا نأتسر في فلكه على نحوٍ إرادي نشدانًا للجمال النابع من الأمن ووضوح الرؤية و التخفف من التبعة.
يمضي بنا صاحب "بلاغة المقموعين" إلى حوارٍ آخرَ مع صديقه المشاكس ليناقشا " النكتة" بمعناها المعجميّ والاصطلاحيّ ويرصدا كيف كان للسخرية دورٌ تاريخيٌّ في تهذيب أظافر الطغاة وتمرير النقد اللاذع لطاغوتهم عبر نكاتٍ ظاهرها البراءة وباطنها العذاب و الاقتصاص من الاستبداد من قِبَل المقهورين. وفي الحوار ذاته يبين أن السخرية ملمح يخصُّ العقل المتمرد على المطلق والرافض للمسلمات ، الرائي لسيادة النسبية سيادة مطلقة لا في الفيزيقا فقط كما أثبت العلم لكن فيما يخص المجرد والمعرفي و ما يخصُّ اليقين ذاته.حيث السخرية والتنكيت في عمقهما يشيان بالتحرر من الجمود والميل إلى شحذ الذهن لكسر المألوف والولوج إلى الحقيقة أو مشارفتها عن طريق تحطيم سقف المنطق والمنطقيّ.
بادئًا بالشعر ، مارًّا به ومنتهيًا إليه ، حيث الأدب شغله الشاغل ، فهو يكتب في الفكر والسياسة كي يردهما إلى انعكاساتهما الأدبية محبةً في الأدب ، يحدثنا جابر عصفور عما أطلق عليه "الكلام الرطيط" أي الترهات التي لا دلالة فكرية أو أدبية وراءها ، المفرَّغة من الطاقة الشعرية ،والتي تُحسَب على الشعر زورًا وبهتانا. ثم يناقش ظاهرة "القبح في الشعر" – وهذا العنوان الملتبس للحوار لا يخلو من مكر، فلا ندري هل يقصد عصفور تناول قيمة القبح في الشعر كمضمون ، أم أن العنوان يحمل حكما قيميا على النماذج التي استشهد بها صديقه الماكر – تلك النماذج المقصوصة من كلامٍ يتناول صراصيرَ ومراحيضَ ومجاريَ وفئرانًا إلى آخر قائمة معاجم القاذورات. ويردُّ على غضبةِ صديقِه من استشراء مثل هذا "الشعر الذي ليس بشعر" بأن الفيصلَ ليس مادةَ التناول بل كيفية التناول الفنيّ للمضمون . ثم عرّجَ الكتاب على وظيفة النقد عبر مراحله التكتيكية الثلاث من تحليلٍ وتفسيرٍ وتقييم ، مشيرا إلى أن المرحلة الأخيرة كثيرا ما يبتسرها النقاد خوفًا من غضب المبدعين. ثم يبرئ صاحبُ " أوراق ثقافية" الحداثةَ وحق التجريب من الانزلاق في الركاكة ، لأن التجريب من طبيعته إنتاج الرديء والجيد.
القسم الثاني من الكتاب والذي حمل عنوان " ملاحظات" يحتوي على سبع عشرة مقالة منطقية فلسفية أدبية متنوعة و شيّقة. في عدة منها يتوقف عصفور عند أنواع البدايات الجذرية المفصلية التي هي حدٌّ بين عهدين ،و طرائق التلقي التي تعتمد بالأساس على مدى حيوية وعي المتلقي ومن ثم القيمة المستخلصة من كل بداية.ثم يكلمنا في "رياضة الكتابة" عن الطقوس المختلفة التي يمارسها المبدعون من أجل مراودة القلم.. ثم يحدثنا صاحب "قراءة التراث النقديّ" عن الذاكرة بوصفها إحدى أدوات المبدع لشحذ مخياله الإبداعيّ ، وعن مدى حضور القارئ في وعي الكاتب و المبدع متخذا طه حسين نموذجا بوصفه كاتبا لا يكتب بل يُملي أفكاره على مسمعٍ من كاتبه ، وبوصف ذاكرته أحد أهم أدواته الكتابية .ثم يعرّج على "حديث الأربعاء" ويرصد إصداراته تاريخيا..ثم يتكلم عن عمق وجمال أسرار اللغة العربية التي يحقُّ لنا أن نفخر بانتمائنا إليها، بيد أن ذلك الفخر يجب ألا يجاوز المنطق كما فعل الأقدمون زاعمين أن للغة العربية جمالا تفتقر إليه اللغات الأخرى جميعا ، واستند صاحب "ضد التعصب" على مقدمة ابن خلدون وكتاب العقاد "اللغة الشاعر" لتأكيد فكرته مؤكدا على تميز وفرادة اللغة العربية بل وعبقريتها كذلك في ساحة اللغات والألسن مبحرا في كنوز أمهات الكتب وفرائد العقود في البلاغة والشعر، وفي المعاجم العربية مثل النفيس ، وتاج العروس ، وموسوعة الفن الإسلاميّ وغيرها . ويشير إلى بعض المفردات العربية التي أتخذت دلالات جديدة وتغيرت معانيها في وقتنا الحالي نتيجة التطور العصري. وهنا أنتهز الفرصة لأطالب د. جابر عصفور و أمثاله من رموز لغتنا الجميلة بالعمل على إنشاء معجم تحديثي يتتبع مآل المفردات منذ القديم وحتى الآن نهجًا على المعاجم الغربية التي ترصد المفردة وتطور استعمالها عبر العصور.
"في محبة الأدب" أكثر ثراءً وزخمًا من أن يتم الإبحار فيه عبر مقاربةٍ خاطفة كهذه ،ولكنني أخيرًا أنه من ذلك النوع من الكتب الذي لا يمكنك تركه قبل الانتهاء من قراءته ، لما يحمله بين دفتيه من روح حياة ومادة علم وسهولة طرح تجعل من قراءته متعةً روحية ورياضةً ذهنية محببة.

|
|