موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت

وهكذا أصبحتُُ كائنًا مهذبًا جدا


بقلم:
فاطمة ناعوت




تحملّتُ حرَّ القاهرةِ ورطوبتها. ودرّبتُ نفسي كلما واجهني تلُّ قمامة على غلقِ عينيْ وسدِّ أنفي. حفظتْ سيارتي العجوزُ تضاريسَ البلد، بعد خبرة عشرين عاما مع شوارع العاصمة، فنجحتْ في التعايش مع المطبّات والحفر ورداءة نظام المرور. ومكنتني وحدتي المزمنة من تحمّل الزحام الموغل في شوارعها. تحملّتُ، بصبر المؤمنين، تقوّض الاتحاد السوفيتي وانهيار الحلم وعوّلتُ على أملٍ بعيد في رؤية شيء من العدالة والجمال في السماء عوضًا عنه في كوكب ارتضى كل ذلك القبح الكونيّ وابتسم. ثم صبرتُ مطرقةً أيضًا على رسوب العالم أجمع أخلاقيا وجماليا بفوز بوش في الانتخابات الأخيرة. واستطعت التكيّف بيولوجيا مع وجه شارون الكريه بأن أغلق عينيّ كلما داهمني في صحيفة أو شاشة. تحملتُ سقوطَ بغداد وانهيار فكرة استعادة القدس إلى الأبد. هزمتُ عبارة "لقيَ عدة أشخاص مصرعَهم ...." التي تتصدّر كلَّ نشرات الأخبار بأن قاطعتُ التليفزيون تمامًا منذ تسع سنوات. تحملّت فساد النظام وغياب الأحزاب والغلاء وتدني قيمة الإنسان عند حكومته بأن أقنعتُ نفسي أن وضع المواطن المصريّ قدرٌ مقدور يجب أن أقبله صاغرةً مثل نوعي ولون بشرتي وعودت نفسي أن أكفَّ عن المقارنة بين المصري ونظيره في بلاد مثل سويسرا أو فرنسا. ونجحتُ تجاه ذلك في اختلاق نظرية ذاتية مفادها أن شعبا قَبِلَ كل ما حوله من فساد، بعدما أعمته الحكومة بمفردات، صارت لديه أهمَّ من ضرورات الوجود، مثل موبيل وقناة فضائية لكل مواطن، يستحق ما هو فيه، وعشت على أمل أن جيلا قادمًا سوف يحقق يوما ما الثورة التي عجزنا نحن عن الاضطلاع بها. جيلٌ يكون قد تشبّع وأصابته التخمة من تلك المغريات التي غدت مِلح يوم الشباب الراهن وزاده. تحملّت قمع المرأة العربية دينيا واجتماعيا وسياسيا وفكريًا لأنني أقنعتُ نفسي أن المرأة هي التي نسجت تلك الأنشوطة حول جيدها قبل الرجل، ومن ثم تستحق ما وصلت إليه ولا أُعفي نفسي. تعايشت مع مصيبة اهتزاز مكانة مصر بين دول العالم العربي، والمحاولة المستميتة المنظمَّة من قِبَل البعض لزحزحة مركزيتها الحضارية والثقافية التي استحقتها عن حق، ليس فقط بسبب توقيع المعاهدة الإبليسية والتطبيع، لكن أيضا بسبب سموق النموذج البترو-دولاريّ الذي جعل من المواطن المصريّ، الذي ساهم بالنصيب الأكبر في الارتقاء بالعرب والعروبة طوال الوقت، فردا عربيا من الدرجة الثانية يقف في الصفِّ بعد النموذج الأكثر ثراءً ذي العقال والشماغ. تحملّتُ موت القارئ واستبداله بمتلقٍ كسول خاملٍ يجلس طوال يومه وليله أمام الفيديو كليب والفضائيات. تحملّت انهيار المسرح المصري، الذي كان ازدهر في الستينات، وتحولّه إلى عروض بهلوانية تشبه السيرك أو الأندية الليلية. تحملّت السحابة السوداء وتلوث ماء النيل والعشوائيات وفساد الذمم واستمرار قانون الطوارئ وانهيار الجنيه المصريّ وقطع الأشجار وترويع الآمنين والتصحّر والتهديد اليوميّ بوشك نفاد مياه الشرب وانهيار الأخلاق في الشارع المصريّ والبطالة والتراخي والتواكل والبلطجة والكسل والرشوة واستشراء المدِّ الدينيّ المتطرّف والتضخم الاقتصادي وانهيار اللغة العربية حتى بين شريحة الأدباء. تحملّت الانفتاح وما أفرزه من فئة ترفع شعار القرش قبل القيمة وتحملّت ثغرات الدستور المصريّ. تحملّت غدر الأصدقاء وغياب الحب بين الناس والمراهقة الثقافية التي يحياها مثقفو مصر والعروبة. تحملّت مرض ابني عمر بعد أن وصلت إلى إحدى الراحتيْن ويئستُ من شفائه. استطعتُ بيولوجيا أو فكريًّا أن أتكيّف مع كل الكوارث التي فُرضت علينا جميعا كأمةٍ تعسة ارتضت ما آلتْ إليه بعد مجدٍ غابرٍ لم أشهده ولا دليل عندي عليه سوى ما قرأت في كتب التاريخ. إذن جعلني التكيّف الطبيعيّ، فسيولوجيًّا أو فكريًّا أنجح في ترويض حواسي على التأقلم مع الأمور رغم كل شيء. وهكذا تحولّت إلى كائن مهذب يتحمل ويقاوم. أقدر أن أغلق عيني عند اللزوم أو أحوّل فكري عن أمرٍ محزن أو حتى أستخلق نظرية، ولو عبثية (بل غالبا ما تكون عبثية)، لتبرير كل ما في الحياة من قبح ولا منطق. لكنني لم أنجح في خلق أية حيلة دفاعية إزاء أذنيْ إذ كيف يمكنني إغلاقها فجأةً عند الخطر؟ أحيانا أحاول أن أتصور كيف يعيش الصُّم. لذلك يبقى شيء واحد وحيد لم أستطع التكيّف معه بعد أربعين عامًا من الحياة هو كلاكس السيارة غير المبرر الذي يطلقه السائق جواري على حين غرّة رغم أن الشارع خاوٍ ولا سبب مطلقًا يدعوه لإطلاق سارينته هكذا بغتةً في أذني، اللهم إلا ليعلن عن وجوده. .





من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل