المرأة موضوع لغوى ، وليست ذاتا لغوية، هذا هو المؤدى الثقافى التاريخى العالمى للمرأة،
وفى كل ثقافات العالم تظهر المرأة على أنها مجرد (معنى) من معانى اللغة، نجدها فى الأمثال والحكايات وفى المجازات والكنايات . ولم تتكلم المرأة من قبل على أنها فاعل لغوى ، أو كائن قائم بذاته. ومن هنا بدأت الشاعرة فى الكشف عن ذاتها الأنثوية ,
وبدأت تتلمس خطاها فى لعبة استكناه اللغة الأنثى , للتعبير عن حالتها هى ، ومن ذاتها هى , لا من ذات مذكرة.
تقول , فى قصيدة بعنوان " فلتكن إذا رقصتنا الأخيرة ":
حسنا
فلتكن إذا رقصتنا الأخيرة
لكنى لن أعدك بالتألق
فأنا لا أجيد الرقص
- على كل حال –
مثلا قد لا أتزامن والإيقاع
فأؤلم قدمك بكعب حذائى
فى محاولة لضبط الحركة
كذا لن أجيد شبك أناملى
حول جيدك
فأصابعى دائما
لم تتقن غير التحاور مع قلم . ص45 فالضمير السارد يكشف فى تحولاته عن ذات أنثوية ساردة , إن النص برمته حالة من حالات تجلى الأنثى ومكاشفتها لذاتها .
فطرح الأنوثة , والدعوة المقدمة إليها للرقص , والإعلان عن نية استباء الأنوثة , التى ترفضها الشاعرة من داخلها , لا تنتج إلا من أنثى , إن
الشعرية هنا أنتجت تعبيرا عن هموم الأنثى التى لم يكن فى إمكان الشاعر المذكر أن يعبر عنها بأى حال من الأحوال , إن فاطمة ناعوت هنا تحيا حالة تمرد ضد صورة الأنوثة المشوهة التى تحياها , وترفض هذه الصورة , وإن كانت لا ترفض الأنوثة فى حد ذاتها .
إلا أنه يلاحظ – بشكل عام – على الشاعرة أنها
لا تجعل من نفسها – على المستوى النصى – مادة للأنين والفجيعة الوجدانية ولا مادة للغزل ، وإنما سعت للتعبير عن حالة من التوازن العاطفى , والتعبير عن عقلانية هذا التوازن فى بعده الفلسفى ومردود ذلك على العاطفة الإنسانية ، ومن ثم على بناء النص.
التنافر :
إن
الحداثة حالة من حالات الوعى أو الإدراك المغاير، تفضى بدورها – على مستوى الفعالية الجمالية – إلى حالة متميزة من التغير الواعى، هذا التغير الواعى نوع من إعادة الصياغة للعالم، أو إعادة إنتاج الحياة، وكل رؤية جديدة للعالم وللحياة لابد وأن تتضمن
صيغة جديدة للكتابة ، تتجلى أوضح ما تتجلى فى نمط التنافر.
"إن إبهام العلاقات اللغوية فى النص الشعرى الحداثى لا يقتصر على إبهام علاقة مفردة بأخرى، أو تنافر بينهما، وإنما يتجاوزه إلى
إبهام علاقة الجمل أو الأسطر الشعرية بعضها ببعض، أو تنافرها بحيث تصبح أمام جمل أو أبيات من الصعب العثور على سياق ينتظمها، فهى غائمة العلامة. غائمة الدلالة."وهو ما يمكن أن نطلق عليه التشويش.
نتأمل مثلا قصيدة للشاعرة
"هزيمة جديدة", تقول :
هل كان ضروريا كسر الحقيبة تلك
لتضيف إلى رصيدك هزيمة أخرى
ماذا بها ؟
أشيائى الخاصة
هناك سر كذلك .
أبدا .
افتحيها الآن
ليس قبل أن تعدنى بالاعتذار
.....................
لن يحدث إذن .
هزمُه تكوينُه من جديد
والتقطَ بعضَ الأدوات الحادة . صـ 65 – 66 إن قراءة نص كهذا تنتج نوعا من "التشويش" – "الإيهام" ، إذ يقف هذا الإيهام دون شهوة اللغة لإنتاج المعنى، وفى الوقت نفسه يطلق قدرة "المفردات" على إنتاج العلاقات داخل النص، خاصة فى ظل غيبة السياق.
فالعلاقة بين الجمل غير واضحة الدلالة، فهى تبدى من التفكك وعدم التماسك والانتظام الصياغى ما يدفع إلى القول بأن هذا التوجه فى شعر الحداثة العربية المعاصرة، ربما يكون فى أحد أبعاده، إشارة إلى واقع يحس الشاعر بعدم تلاحمه وترابطه ، وبعدم استقراره نحو توجه حضارى محدد المعالم ، وإشارة فى الوقت نفسه، إلى
إحساسه بالقلق والتوتر فى هذا الواقع وبعدم الاستقرار النفسى فيه، فى هذا الواقع غير المتوازن ، قد يبدو الشاعر أقل توازنا فى نفسيته ورؤيته فينعكس هذا على شعره.
الجمل تتداعى فى هذا النص ، ولا تتجانس إلا من خلال تأويل قرائى يفرغ ويتفرغ لها. فنحن لا نجد مبرراً للربط بين :
افتحيها الأن
ليس قبل أن تعدنى بالاعتذار لا نجد مبرراً اللهم إلا إذا كانت تسقط
تهميش دور الأنثى فى المجتمع على هذه الجمادات.
ثم يزداد الأمر تعقيدا فى الجمل الشعرية التالية لهذا المقطع، فما العلاقة بين :
لن يحدث إذن .
هزمُه تكوينُه من جديد
والتقطَ بعضَ الأدوات الحادة وعلى أية حال فإن الجمل المنفصلة – إلا فى حس الشاعر – تؤكد أن غياب العلاقات وإيهامها بهذا الربط غير المتجانس بين الكلمات او الأشياء، أو بهذا التنافر, يعد من أبرز خصائص الشعرية لديها .
السرد الشعرى : وهو يمثل نمطا فى شعرية الشاعرة ، وإذا كان السرد
“Narrative” نشأ أول ما نشأ داخل جنس "الرواية" الأدبى فإنه مع تطور واتساع الخطاب النقدى قد اتسع عن حدود هذا الجنس، لتصبح السردية “Narration” مبدأ منظما لكل خطاب.
إن السرد الشعرى – اختصارًا – آلية من آليات إنتاج شعرية , تعد واسطة بين التشكيل اللغوى والبنية النصية ، وهذا تمييز للسرد الشعرى من السرد الروائى الذى يكون هو ذاته البنية النصية.
ومن هذه التقنية
دخلت الشاعرة عالم الكتابة الشعرية وهى تحمل بداخلها بذرة التمرد على واقع الأنثى , تقول فى "
رقصة الحب":
أحاول أن أحسب فروقا
بين لحظتين متشابهتين
بينهما فاصل ربما صـ79 , وما بعدها (النص كله ) يمثل النص هنا منفذًا مهما للسخرية من الذات, أو التعبير عن الغربة, والوحدة , فى أحيان أخرى .
السرد فى هذه الطريقة يأخذ طريقا واحدًا ، وصف واقع يومى تعيشه إمرأة تشعر بالوحدة وبالنمطية الحياتية ، وهى تعبر عن توترها ورؤيتها للعالم عن طريق مفردات تنامت فى ظل خط الحكى الذى ينحدر من أعلى (محاولة رصد لحظتين متشابهتين بينهما فاصل) إلى أسفل (محاولة رصد الفرق بين زئير الأسد ورقصة الحب لمالك الحزين) مع الوضع فى الاعتبار دلالة وصف مالك الحزين الذى تخرج مفردة الحزين هنا من كونها وصفا لمالك إلى كونها إخبارا عن دلالة الحزين لتعبر بها عن توترها وعن تشوش العالم من حولها.
السرد الداخلى (سرد الذات) : مطولة الشاعرة "
على بعد سنتيمتر واحد من الأرض" تمثل نمطا من أنماط شعريتها , وهى نص واحد ، على تنويعات متعددة ، فيما يمكن تسميته بقصيدة الحالة , وهو نص مفتوح المواجع والمسارب ، وقد يكون ملتبس المتعرجات ، ولكنه يقوم على نواة محورية غائرة , هى مساءلة الأشياء من حولها .
تقول :
نظارتى زرقاء العدسات
تعالى سريعا
ليس صحيحا أن الأزرق
مجرد لون
الأزرق صفحة تكوينى . 92 .............
عندما تذكرتنى القصيدة
كان قد بدأ
يلملم أشياءه
يحكم عباءته
يقبض عصاه
ويستعد للرحيل
عمر نسى أن يولد 95 .............
حكايا الطفولة
كم أنت بعيدة
لا تنامين بين يدى
كهرة صغيرة . 97 ليست فى هذا النص حكاية تحكى على النحو المألوف فى ذلك، حتى لو كانت تقنيات الحكاية هى تقنيات "الحساسية الجديدة"
من تشابك الواقعى والحلمى ، وتداخل الأزمنة، وشاعرية اللغة الرؤية، والتباس الأسئلة ، وكسر النمطية، وتفتيت الشخوص والأحداث إلى آخر ما كرسته كتابات "الحساسية الجديدة" من تقنيات وطرائق للسرد.
لكن كثيرا من المقاطع الشعرية تعتبر بمثابة الإضاءة النصية التى تعين على الفهم – الجزئى –. فالقصيدة كلها تبحث عن الذات داخل هذه الإطارات ، صحيح أن هذه الذات منقسمة ومشتتة ومراوغة ، لكنها فى النهاية تحيا ألمها , تقول :
سرقت لغتنا حرفا
وخبأته داخل قصيدة
لم تكتب بعد . 99 يتبقى ملمح أخير يمكن أن نتحدث عنه , وهو :
التناص الموضوعى : أى
توظيف الشخصية داخل النص الشعرى ( بالاسم – بالقول – بالفعل ) . حيث تطالعك نصوص فاطمة ناعوت الشعرية بزخم من الشخصيات التى يتم استحضارها من الخارج باسمها, أو باستيراد مقولة مشهورة لها , أو باستدعاء فعل اختصت به.
وهذا النوع من التناص يكاد لا يخلو منه شاعر عبر مشروعه الشعرى , فهو الأكثر ورودا واستعمالا , إذ
ما من شاعر إلا وله علاقة ما بشخصيات تراثية ودينية رأى فيها ما يعبر عن تساؤلاته هو تجاه الكون والحياة والمصير, ورأى فيه نموذج تبنى القضية التى تشغله أو جملة القضايا , ومن هنا أيضا يكون الحديث عن مقطوعة لشاعر تناص فيها مع شخصية غير كاف للتعبير عن تناوله ونصوصيته مع هذه الشخصية , وبخاصة إذا كان قد تعامل معها أو استدعاها عبر مراحل متتالية, أو أعمال متنوعة , ففى الغالب الأعم فإن الشاعر عندما يستدعى شخصية فإنه يكون على صلة قوية بها , من خلال دراسته لها دراسة مستفيضة عبر تزامنها التراثى والفعلى, ومن ثم فعلى المتلقى أن يكون على دراية بملامح هذه الشخصية , ذلك لأن الشاعر عادة ما يراوغ فى تقديمها عبر نصه الشعرى , فقد يضيف إليها أعمالا , ويستنطقها أقوالا لم تكن لها , ولا لغيرها , ومن ثم فإن مرجعية تعرف هذه الشخصية لا يمكن بحال أن تكون إلى الشعر , فما يقدمه الشاعر إنما هو ما يراه أو يريد للمتلقى أن يراه فى هذه الشخصية .
وبالجملة فهناك شخصيات بعينها يكثر تناولها لدى الشاعرة , ويكثر استدعاؤها , ومنها: البدويون – الهنود – فيرمينا داثا – بيتهوفن – ماركيز – ستاسينوس- شكسبير – نورسا – موسى – إيزيس – بلقيس .
حيث يرد شغل الشخصية لجزء من المساحة النصية , تطول وتقصر تبعا للبناء النصى , إذ كثير ما يحتاج النص لأن يستدعى شخصية ما تعضد المقول الشعرى أو تنفيه أو تستعير حالته .
والآن ..
ماذا عن واقع يتنفس بكل مفرداته
منذ عشر
وبعض بشر استحدثوا
بمعرفة " فلورينتينوا أريثا " الجديد
خائن ماركيز
نعم صديقى
علينا فقط
أن نلبس الأمور أحجامها
والشخوص مذاقهم
ونناظر الصورة من جديد
أن نعى أن النهاية الأسطورية
- التى سوف أقرأها بعد قليل –
ليس من مكان لها
سوى فى خيال روائى ثمل
من القرن التاسع عشر
أو بين ضفتى " الحب فى زمن الكوليرا " ( ص 17 , 18 )
