موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
نعيم عبد مهلهل
يكتب عن قصيدة
"موقف بحر"
إذا كانت سومر ذاكرة للطين . فمصر هي ذاكرة الشمس .
مصر : البلاد التي لا تفتعل غبطة الشعر، ولا تأوي المناخات التائهة وتصنع فكراً للغفلة وتأريخاً للعدم . هي واحدة من أمصار الله التي فتحت لنافذة الأمل البشري غايتها منذ أن نسج الآلة رع لفائف البردي لتدوين الحدوتة ، وحتى تسلم يوسف شاهين جائزة الشرف في مهرجان كان .
وهي الموصوفة في مدونة المقريزي : بلاد لا تفرق ديكتها عن دجاجها فكلاهما يمشيان بكبرياء ملك .
وهي الرائية رغم متاهة أزمنتها التي لا تحصى ، ومصر في تعبير الزمن هي إسطرلاب الجهات التي لا مكان لها فهي وجود يصبغ أزليته بهموم يولسيس ووشوشات ذاكرة فيثاغورس ونكهة قبلات كليوباترا ، وخصر جاريات المماليك وطربوش سعد زغلول ، وعوامة فاروق ، وقومية القلب الذي توقف من هموم أمته التي جعلت حزيران حبل مشنقة . خالدها جمال عبد الناصر .
ومصر أناقة السادات ونظارات سيد مكاوي وعذوبة مداعبات كافافيس وزجل شيخ أمام ومواعظ الشعراوي ، ودعابات الود السيد الشغال ، وهمايون بدلة ففي عبده ، وطبعتي الأهرام وارتجالية مصطفى كامل ، وما يرتديه شعبان عبد الرحيم من عبث الساعات والقلائد .
ولكي نتذكر مصر علينا أن نتذكر صوت كوكب الشرق الذي أدى لقوميتنا ما لم تؤديه الجامعة العربية منذ عهد عزام والى عهد الأمين الحالي . والى يمينه يسير صوت عبد الوهاب يترنم بحكيم عيون لوطن باتت فيه البصيرة غائبة بين شهوة العولمة واستقبال مشايخ الغردقة وكرم الشيخ ، وآخر طوابق المينا هاوس.
بلد لو جمعت رؤاي الوصل في حضارته منذ الهرم الأول وحتى آخر أفلام نادية الجندي لوجدته قارة كاملة تترنح بين سذاجة كافور وزنوجته وبين غنج الساحرة هند رستم ، ومرات يصعد عرق النبوءة فيه ليخطف بكتاب السحر الموسوم { أولاد حارتنا : جائزة نوبل ..}
مصر بلاد الكنبات والتكيات والملكات . وهي بلاد الرواية الشرقية المعطرة بتبغ الألبان وموسيقى اليونان وتخت الترك ومقامات نهاوند عمر بن العاص . وهي البلد الذي أسس فيه الفاطميون الشيعة قاهرة المعز لتصير على حد تعبير طه حسين : الضوء لكل فاقد بصيرة .
وأخيراً هي البلاد التي تكتب فيها فاطمة ناعوت قصائدها ذات اللون المزرق كجناح هدهد بلقيس حين تاه مرة عن طريق مملكة سليمان ليحط فوق رأس هرم أبي الهول وليقول لبلقيس بعد ذلك : رأيت بلاداً كأن الله خلقها قبل ساعة .
ولأني أمتلك لهذه الرائية قلباً من مودة سومر وأزليتها التي تمنح الوجود شفاه النطق . جمعت رغبة الكتابة عنها وأدخلت ذاكرتي في متاهة قصائدها لأقرأ شجناً روحياً عذباً لسيدة تقيس وعي ذاكرتها بوعي القصيدة وتفكر بغنائية الفكرة التي تجعل من جملة الشعر كياناً يقف بالضد من كل واعية للألم تريد أن تصوغ نظريتها على حساب جوعنا ومنافينا وانحناءتنا المتكررة لملوكنا الرحماء كما سيوفهم وهي تحز رقاب الحلم في واحدة من ليالي ألف ليلة وليلة .
وفاطمة ناعوت تبدو في شاعريتها شكلاً للمصرية التي لا تريد أن تذهب بأفريقيتها بعيداً عن السرب فهي في مشاوير القصيدة تتحكم بعاطفة واعية ، وترسم خطاً من رغبة إيصال فهم المراد بشيء من العناد والأنوثة المؤثرة ، وهي أيضاً جريئة في المحاكاة وإيصال رغبتها بجعل الشعر رسالة تجاهر بإنسانية الأنبياء والفقراء وشهداء سيناء وغرقى عبور القنال .وقصيدتها { موقف البحر } تعبر بوضوح عن قدرة الفكر والموسيقى لإيصال فكرة أن يولد الإنسان ليصل رغم عذابات الوجع اليومي الذي تصنعه التيجان والمؤسسات ودور الأزياء ، فالبحر هو الاشتغال على الدالة العظيمة ، وهو فيض من تنوع الحيوات بشتى وظائفها وأصنافها . وهو الحقيقة المتغيرة لهذا الوجود التي تريد فاطمة ناعوت أن تثبت فيه : أن الشاعر هو شاهد لكل عصر كما يقول سان جون بيرس ، لهذا سجلت القصيدة موقفها بشيء من رومانس التأمل لتلك التحولات مع أمل بأن تصبح ذات يوم شعلة . أو فنار يضئ الطريق للبلاد كلها .
أقرأ هذا النص . فيحيلني بدء القصيدة إلى رموز السريالية التي تسعى لإشهار السيف في سطوع القلب . أتذكر رنيه شار وقصائده عن البحر : "البحر .. سروال أزرق لشاعر غرق للتو "
ومن هذه الجملة المتصوفة بسريالية جمال لا يقاوم يطل وجه فاطمة ناعوت وهو يحرك شفتيه بانفعال أنثى فرعونية وقد قرر الكاهن أن تكون نذراً لطوفان النيل الغاضب . فأرى أن شحنة غضب فاطمة بدأت منذ جري النص في ساحة الورقة . بل في ساحة البحر :
" على مرمى رغبة / تخايل المرأة والرجل/ فيصدق المحلفون على قرار السيارة/ برفع مؤشر الحرارة إلى الدرجة القصوى / تمهيداً لتوقف حتمي بمحاذاة البحر "
مثل هذا البدء لوصف مشهد يقترن بسعة البحر وحركته . يعكس أفكار سريالية امرأة تعرف ما تقول ، تضيف إلى حلمها دالات وطنية تراقب من خلالها حركة اليوم ومصائر الناس وما تريده هواجس النساء القلقة ليفتعل الشجن المرئي الكامن في حدقتي هذه المرأة صورة لجانب من كواليس البلد . بلد: " تخاف فيه المرأة من تصدع المرايا " و " وضياع الحلم القديم من الأصابع"
وعلى سلم ذاكرة فاطمة ناعوت وشاعريتها المليئة بتدخلات الوجع الروحي والجسدي لأنسان ما تراه يكمل وحده مسيرة الملح . أستعيد وجه كافافي . بحسية ملامحه الإسكندرانية ، وأتذكر أغنية عبد الحليم { دقوا الشماسي عالبلاج ..دقوا الشماسي } في فلم أبي فوق الشجرة ، فأصنع تحت أجفان هذه الشاعرة عهدين من رغائب الظن المتوسطي وهو يحتفي بالحزن والكد الأممي لذاكرة المستلب وأعيد من ليل كافافي شجن العاطفة الناعوتية وأصنع من نظراته في ظلمة الجسد البض ولادات نجوم بحر الأثنية البعيدة حيث فكر الشاعر أن يجعل من مجد الشهوة مجداً لتأريخ يحسه موجوداً بكل قناصله وقياصرته وبرابرته . وحتى نابليون كان موجوداً يقف على بارجته الجميلة وهو يتطلع للبلاد التي ستطرده شر طرده .
يوقظني كافافيس ومصر وفاطمة ناعوت من هذايانات قراءاتي المتكررة لما عثرت عليه من قصائد لفاطمة . أتذكر مفردة فاطمة التي حملت ألم الزهراء ع أم ولدي علي ع رابع خلفاء الأمة بعد الرسول ، وأحد فقهاء المنطق والبلاغة والفكر . وهو الذي يجسد الأيمان بتصوفه الروحي الذي لايبعد عن السدنة العلية إلا شبراً واحداً وأتذكر أنصاف العقاد لعلي وعبقريته فيمر طيف فاطمة الزهراء خيالاً من قصائد واحدة من ريحانات الرسول المتميزة فشيع بي حب فاطمة شئ من البحث عن كل تراث فاطمات هذا العالم ، ومنهن فاطمة ناعوت . التي تكتب ألي سطوراً تقول عنها : أنها البياض حين يمشي على البسيطة كخيط مطر .
تذكرني خيوط المطر بعزلة كافافيس وحرب سيناء وأديرة الرهبان القبطية لما بعد عهد موسى ، غير أن كافافيس ينأى بحلم القصيدة في مداعبات عهدها النقدي الجديد شهوة لذيذة تضاف الى أدب القرن العشرين . وأن هذا اليوناني المحكوم بأزل الإسكندرية وشرقها يمثل نمطاً من حس جديد في الشعر العالمي والذي وصفه لورنس داريل : بأنه غامض كوضوح فكرة مشعة وهو في عزلته يخلق لكيانه أبدية لا تموت . أنه يكتب ببراعة ويصمت ببراعة وسيموت ببراعة أيضاً .
لهذا تكون فاطمة ناعوت تلك المصرية الأصيلة شيئاً من رائية كفافي وهو يفتح أمام البحر عزلته المضيئة . وتكون قصيدتها { موقف بحر } رابطاً لتلك الأخيلة التي تمدنت على رومانس المنفلوطي وعبرت متاهات الملوكية وسجون ثورة يوليو ورسائل سلامة موسى لتكتب عن ذلك الاستلاب القهري للذات المتعبة من مدى البحر وخيالات البحر وأعاصير البحر وزرقة البحر :
" لا تعبأ بانكسار الظل/ لأنها تعودت أن تموت مبكراً/ قبل أن يصحو الصيادون/ وتكنس الشمس السواحل / البحر ينتظر على الحافة/ والمكان في مكانه / يقاوم الإزاحة كعادته "
هي لم تتخلص من هم فيثاغورس الواقف مع مرآته الهائلة على سواحل الإسكندرية . وبذات المكان تقف ناعوت لتكتب قصيدتها الموسومة { موقف بحر } وهو موقف الإنسان الذي يختار المقاومة الشعرية طريقاً لصناعة حياة يريدها لأولئك الذين تستلب حياتهم بسبب قدرية الفقر والجوع ومصاهرة حظوظ البحر التي لا تأتي بالكنوز إلا في نادرة من نوادر السندباد .
والمرأة التي تشتغل عليها حسية القصيدة تمثل ذات الشاعر ومرئيتها اليومية . وهي مصر بكل حداثاتها وتناقضاتها ، مصر التي تريد أن تصل الى سرمدية العولمة بأي ثمن كان . ولأن هذا الثمن يمثل وجعاً لشاعرة مثل فاطمة ناعوت.
كانت أمرأة القصيدة تمثل الضمير الغائب والحاضر لمثل هذه الأحلام والرؤى التي رفضها ذات يوم الروائي صنع الله إبراهيم من على منصة التكريم .
وهاهي القصيدة تصنع من خلال ذاكرة امرأة مصرية موقفاً آخر يطلق صداه على تخوم البحر وأجفان المتصوفة وجسد الرمل :
" فقد تعلمت/ أن المرايا المشروخة تشتعل غضباً/ أذا ما رمقها المارة في الضوء/ لكنها في الليل تنام وادعة/ في حقائب النساء/ مطرقة على صدوعها"
يبقى هاجس أخير ألملم فيه ما تناثر من زجاج تحطم وأنا أطرق بأصابع خشنة على زجاج نافذة هذه القصيدة الجميلة . هاجس أدرك فيه أن فاطمة ناعوت كتبت نصاً ذكياً ، يحتفظ بحكمته وصياغته الجيدة ، وفيه شيئاً من غنائية الريف والبحر والغرف الكافافية التي أشعلت في ليل مصر قناديل لتراث الشعر في عالمنا الجديد . فصار لزاماً علي أن أربط بخيط من ضوء الذهب : مصر وفاطمة ناعوت وكافافيس ..
أور السومرية 14 تشرين أول 2004

|
|