موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت

القلم وما يسطرون
بقلم:
فاطمة ناعوت

علاقتي بالقلم علاقة غريبة. القلمُ على مستوييه الماديّ والرمزي. أنا مولعةٌ بالقلم. القلم في نظري أداةٌ ساحرة، أعمل جاهدةً في كلِّ مرةٍ أمسك به على ألا أفقد دهشتي منه.

واقع الحال تلك آليةٌ اعتنقتها منذ الصغَر، وإحدى الحيل الماكرة التي أعمد إليها طوال الوقت كي أبقى على تواصلي بالوجود والموجودات ، أقصد مقاومتي لذاتي كي لا أفقدَ الدهشة أبدًا. أحبُّ دومًا أن أعيدَ علاقتي بالأشياء إلى حيث عهدي الأول بها، فمثلا كلما أتممتُ مهاتفةً تليفونية، أتماكرُ على وعيي وأندهشُ كيف استمعت منذ دقيقة إلى صوتٍ يبعدُ عني مئات الأميال ؟ وأظلُّ في حال نشوة بهذه التجربة الساحرة.

وحين يزعجني الحرُّ وأضغطُ زرَّ المروحةِ أو المكيّف، أمعنُ في تخيّل أني ملكةٌ من العصر العباسيّ وأن ثمة من يحملُ مروحاتٍ من ريش النعام ليبددَ حرارةَ الجوِّ من أجلي، وهكذا. أفعل ذلك لأنني لو فقدتُ الدهشةَ بالأشياء، اعتدتُها، ولو اعتدتُها كرهتُها، أعملُ دومًا على تجديدِ محبتي للوجود كيما أظلَّ في حالِ تواصلٍ معه.هذا على مستوى الموجودات التي أعيدها سيرتها الأولى .

ولا يختلفُ الأمر كثيرًا على مستوى الأحداثِ والمجرداتِ والقيم ، أجتهد دومًا أن أطوي المسلّمات جانبًا وأتأمل طزاجة الأمور لأراها بعينِ طفلةٍ مدهوشة بكلّ ما يحيط بها من غرائب.

لهذا تعودت أن أنظر إلى القلم بوصفه اختراعا عبقريًّا، وهو كذلك بالفعل، ما تلك الأداة العجيبة التي تحوّل فضاء الورقة الخاوي ألوانًا وأشكالا ؟ ثم ما هذه الخطوط الملتوية التي نكتبُها فتحوّل فكرةً مجرّدةً في عقولنا إلى كلماتٍ تنتقلُ إلى عقولٍ أخرى يقرأونها ليفهموا ما بداخل أمخاخِنا؟ إن هذا إلا سحرٌ مبين.

مما سبق يبين مدى تقديسي للقلم، هذا على المستوى الرمزيّ والوظيفيّ، أما على المستوى الماديّ، فالأمر لا يقلُّ مطلقًا، فأنا أحب القلم إلى الحدِّ الذي يمكنني معه أن أختلسَ قلمًا يعجبني تصميمُه، لا أستطيعُ مقاومةَ قلمٍ جميل. ودبرت لنفسي نظريةً تبريريةً من أجل ألا أكون لصةً في نظر نفسي : أقنعتُ نفسي أن سرقةَ الأقلامِ والكتبِ مشروعةٌ، مادامت هي وسيطًا ينقلُ الفكرة، وعرفَ عني الأصدقاء هذا وكثيرا ما يخفون أقلامهم مني.

استلبني الكمبيوتر بالفعل منذ زمن بعيد، بوصفي مهندسةً معماريةً في الأساس، دخلت عالم الحاسوب منذ الثمانينيات، استخدمتُه في التصميم المعماري والجرافيك قبل الكتابة. وحين احترفتُ الكتابةَ، كان حلاًّ مثاليًا في تحريرِ النصوصِ وإعادةِ التعديل فيها، وضبطِ تشكيلِ الكلماتِ بطريقةٍ مقروءةٍ وسليمة.

أخذتني الكيبورد في أسرِها حتى غدوتُ أكتبُ مباشرةً على الحاسوب بغير مسودّاتٍ ولا غيره. لكنني استنقذت الشعرَ فقط من هذه المحنة، فقد أبيتُ أن أدرجَ رفعتّه في جمودِ أزرارِه، ومازلت أكتبُ القصيدةَ بيدي وأشخبط وألخبط على الورق بقلمي، أرسم أشكالا بلا معنى بجوار الشعر حتى تستوي القصيدة كَلِمًا سويًّا، ومن ثم أقومُ آخر الأمر بتبييضها على الحاسوب.

وفّر لي الكمبيوتر وسائلَ سهلةً للكتابةِ والتواصلِ مع الأدباءِ الآخرين عبر الانترنت، لكنه أخذ مني متعةَ الشخبطةِ على الورق والعبثِ بنقائها. كما أخذَ ميزةً أخرى كنت أمتلكُها يوما، وهي الخطُّ الجميل. فأنا عسراءُ، وكان لي يوما خطٌّ مميزٌ أنيق على فوضاه ، بدأ يزداد رداءةً بالتدريج وبالتزامن مع استعمالي لوحة المفاتيح، حتى غدا الآن نغبشةً ربما أنا نفسي لا أستطيع فكَّ رموزِها.

لا أنكرُ مزايا الحاسوب من سرعةٍ في الكتابةِ وأرشفةِ المواد عليه وسهولة استعادتِها و تعديلِها أيضًا، ولا أنكرُ أنني بتُّ أسيرة لا حول لي ولا قوة بغير حاسوبي الوغد الأمين. لدرجة أنني قد أبكي لو تعطّلَ يومًا ، لكن بوسعي أن أفخرَ بأنني أعتقتُ الشِّعرَ من هذه العبودية. فقصائدي مازالت تنعمُ برغَدِ الحرية والركض فوق ساحاتِ الورق الأبيض، بعيدًا عن الإلكترونات والبيكسيل والأزرار المنظَّمة المرتَّبة إلى درجة العذاب.





من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل