ردّ الأشياء لأسمائها
بقلم: فاطمة ناعوت
في السّينما الأمريكيّة والأوروبيّة، نجد السّجناء يقيمون في سجون خمس نجوم: غرفة مجهّزة بأوّليّات ما يحتاجه الإنسان، مسموح له بالقراءة وممارسة الرّياضة وسماع الموسيقى، الخ. أي أن المذنب عوقب بانتزاع مفردتيْن من حياته وحسب: الحرية والخصوصية. لم يحسن استخدام الحرية التي منحتها له الدولة والطبيعة، فسلبها منه القانون والقصاص.
وبعيدا عما تحمله السينما من مبالغات لأن للمبالغة سقفًا يسمح للخيال بمشارفة الواقع، وبعيدا عما حدث في معتقل "أبو غريب" لأن له أبعادا سياسية وثأرية وسيكولوجية ليست تتقاطع مع موضوعنا الآن، نجد أن الإنسان كلما ارتقى ردَّ الأمرَ إلى فكرته الأولى وجردها من المحملات الثقيلة التي يؤدي تراكمها إلى غياب المعنى الحقيقي لها.
إذن المُعاقب لم يفقد، مع حريته، أيًّا من ضرورات الحياة من مأكل وملبس كريم وفراش نظيف وهواء للتنفس. في الحقيقة (الهواء) تحديدا لم يكن حاضرا في مقارناتي بين سجوننا وسجون الغرب حين أشاهد فيلما يتناول الحياة وراء القضبان. ربما لأن الهواء غير مرئي، وربما لأنني لا أعتبر الهواء منحةً من إنسان لإنسان وبالتالي لا يجوز أن يستلبه أحدٌ من أحد.
لكن حادثة ترحيل المعتقلين عبر الحدود الليبية والتي أودت باثنين اختناقًا وغياب ثمانية عشر آخرين في عباءة الغيبوبة، بعدما استنجدوا جميعا بالحراس صراخا واحتضارا لمنحهم حفنة هواء في صندوقهم الحديدي الضيق، لكن الحراس أبوا عليهم الهواء ظنًّا منهم أنه أحد مفردات الحرية.
الفكرة أن المُعاقَب المصري يفقد جزءًا من آدميته وحقوقه الأولى مع فقدانه حريته. وعند ذلك الحد فالأمر لا يثير دهشة بالغة إذ يظل حلقة في سلسة طويلة من التناقضات بين الغرب والشرق. لكن ما قهرني ( أعني الكلمة بهذه الصيغة)، هو ما قاله أحد المسجونين المُرحّلين من ليبيا إلى مصر، إذ قال إن المعاملة في ليبيا كانت رفيعة مقارنة بالمعاملة المصرية، فالسيارة التي أقلّتهم كانت مكيفة الهواء، والكثافة البشرية داخل كل سيارة تسمح لهم بالتنفس والتحرك بحريّة.
بدأ الحال في التبدّل منذ الحدود المصرية عند مرسى مطروح والسلوم، إذ تم (شحن) كل أربعين (مخلوق) داخل صندوق حديدي أبعاده متران في ثلاثة أمتار ليس بها سوى ثمانية منافذ مربعة (20 سم) كثيفة القضبان بخيلة في منح الضوء والهواء، ورحلة طولها 14 ساعة في قيظ أغسطس. فلو لم يقتلهم نفاد الأكسجين لقتلهم لهيب الحرارة المنبعثة من الجدران المعدنية ومن أجسادهم.
وبحسبة بسيطة لأبعاد الإنسان بالنسبة لأبعاد سيارة الترحيلات، سيما إذا علمنا أن أمتعة المسجونين كانت بذات السيارة، سنعلم أن السردين المعلّب قد تمتع بالمادة 42 من الدستور المصري أكثر من هؤلاء التعساء.
أما عن عريضة المواثيق الدولية بشأن احترام حقوق الإنسان وعدم انتهاك آدميته والتي وقعّت عليها مصر، فتتيح لكل مواطن، خارج القضبان أو وراءها، أن يفهم بطريقته الخاصة معنى التوقيع على وثيقة. أما عن المادة 42 من الدستور المصري فتنص على أن كلَّ مواطن يُقبض عليه أو يُحبس أو تُقيد حريته بأي قيد تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنويا.
أما معنويا فتلال من الأوراق لن تكفي لتناولها، وأما بدنيا فلم أتخيل أنها شملت حرية التنفس أيضًا. فقد أباحت الطبيعة الهواء للكائنات جميعها على صورته الأولى بغير تصنيع أو تدخل بشري كيلا يدخل في زمرة المفردات التي يمكن للإنسان أو للمؤسسات الاستثمارية أن تحتكرها لدواعي اقتصادية. وها هي مصر تتفوق على العالم بأسره أنْ كان لها الريادة في حجبه عن البشر.
المحزن في الأمر هو إلماحة أحد الناجين من الهولوكوست بأن المعاملة في ليبيا كانت شديدة الرقي بالمقارنة مع المعاملة المصرية. فالأمر إذن لم يعد شرقا وغربا. لكنها ليبيا !!! وعودة إلى فكرتي الأولى حول رد كل أمر إلى بساطته الأولى، الذي لو طُبّق لنعم الإنسان بحياة كريمة ومريحة فوق هذه الأرض. الآدمي الذي يسيء تعاطي حريته، تستلب منه هذه الحرية وحسب. وآلة التنبيه للتنبيه وحسب. والتليفون لنقل معلومة عاجلة لا يمكن تأجيلها حتى يتم اللقاء المباشر وحسب. والتليفزيون للترويح عن النفس لدقائق خلال يوم مشحون بالعمل وحسب. والصحافة لوضع المواطن على الحدث الحقيقي ما أمكن وحسب، لا للتراشق والتساجل وتصفية الحسابات.
المبالغة تقتل روح الأشياء. والمبالغة أحد مكونات الذهنية العربية. فهل من العبث أن نعاود البحث عن جوهر الأشياء وحسب بعيدا عن طبقات التراكم التي أمعنا عبر الزمن في طمرها فوق جسد الفكرة الأولى حتى طُمست معالمها؟ هل نحتاج شيئا من تعديل الوعي لرد الأشياء إلى أسمائها؟ كلما ارتقى الإنسان، نجح في رد الأمور إلى بساطتها وبكارتها الأولى.
فاطمة ناعوت
القاهرة، أيلول (سبتمبر) 2004
|
|