رقيب في الداخل أشدّ قمعًا
بقلم: فاطمة ناعوت
في ظلِّ فساد ثقافيّ يمور فيه مجتمعنا العربي هذه الآونة، تطفر تجليّات تعسة من قبيل غياب الموضوعية واستشراء النزعة الذاتية وسيادة قانون المصلحة. إلاّ أن أتعس التجليّات وأخطرها أن تُقتل حرية التعبير داخل الكاتب بقرار ذاتي.
وهو ما يمكن أن نطلق عليه حضور الرقيب الداخلي في دماغ الكاتب، ذلك الرقيب الذي لا يمثل بالضرورة (الأنا العليا) أو الضمير، بل قد يتحور ويتشوّه حتى يغدو (أنا سُفْلى) تُصْمِتُك عن قول كلمة حق أو تُعميك عن رؤية شعاع نورٍ وسط الظلمة الحالكة مخافةَ أن تُتهم، تبعًا لسيادة قانون المصلحة، بأن ثمة غرضًا خاصًا لك من وراء ما تقول.
والحال هكذا، قد نغيّب قانون الاحتمالات الرياضيّ الذي ينفى الإطلاقية ويشرّع باب إمكانية وجود شيء من الموضوعية ومحاولة رصد الحقيقية أو ما نظنه حقيقة – فيما نكتب أو فيما نذهب إليه.
في الحقيقة، لاحظت هذا الأمر وحاولت اختباره وتتبعه في الفترة الماضية (منذ تحولّت من خانة القارئ إلى خانة الكاتب)، ولو تكلمت عن كمِّ الصدمات التي صفعتني وكم الغرائب التي اكتشفتها خلال تلك الفترة، فترة التحوّل، لضاق هذا المجال عن ذكرها.
ولكيلا أوغل في المبالغة والعدمية سأعزو سبب شراسة ما لاقيت من خيبة أمل إلى التكثيف وسرعة التواتر بسبب قِصَر مدّة التحوّل وتزامن حدوثه مع مرحلة متأخرة من عمري، قياسا بالكتّاب الآخرين الذين بدأوا حياتهم الأدبية في فترات مبكرة.
لكن الأمر عندي بدأ بالولاء التام للعمل الهندسي، إرضاءً لرغبات العائلة ووأد حلم الكتابة الذي راودني منذ الصبا، حتى انتصرت ثورة الحُلم على قمع البطريركية.
كنت قديما أومن أن الكاتبَ هو صنفٌ من البشر مختارٌ من السماء كما يُختارُ الأنبياء، لا يخطئ ولا ينبغي له. فالكتّاب هم الذين ينظرّون للناس ويسنّون لهم قانون الحياة.
أما الخطأ فحكرٌ على الكتلة البشرية التي ستتعلّم من هؤلاء الكتّاب فيصححوا مساراتهم. (أعلم أن من يقرأ هذا الكلام سوف يرميني بالمثالية وضيق الأفق، وقد يمثل هذا حكمًا قيميًا على كتاباتي وأشعاري فيما بعد وربما ينال منها)، ولكن هكذا كنتُ، ولا ينبغي أن أدعي وعيا وحصافةً لا أمتلكها.
المهم أنني لم أستغرق وقتا حتى اكتشفت أن خطأ الإنسان هو ملمح من جمال الحياة ودراماها، وعادة ما تجيء كأخطاء عادية لها ما يبررها، أما خطأ المثقف (أو خطيئته) فشيء يشبه الجريمة الكاملة، وكأنه يجنّد معرفته ووعيه الرفيع لإتمام اللعبة على النحو الذي لا ثغرات فيه، وهنا تكون المأساة.
ربما يندهش القارئ، مثلما أندهش أنا الآن، إذا علم أني حين أمسكت بالقلم لأكتب هذا الكلام لم أكن أعني أن أقول حرفًا مما قلت، وربما يندهش حين يعرف أني كنت أنوي الكتابة عن مهرجان "ملتقى صنعاء الأول للشعراء الشباب العرب".
وكل ما كنت أنوى قوله هو كلمة حق وإبداء امتنان لوزير الثقافة خالد الرويشان علّه يكون مثالا يحتذى لرجالات الثقافة في العواصم العربية الأخرى، ولكن بما أني أومن بسلطة القلم على الكاتب، وبما أن قلمي اختار هذا السبيل، بما يعني أنني قد تورطت وانتهى الأمر، سأذعن له وأكمل ما بدأت، ولو على حساب مهرجان صنعاء.
قلت إني لم أستغرق وقتا لأكتشفَ أن سيادة قانون المصلحة وغياب الموضوعية وديمقراطية القول هي شروط الاندراج في المنظومة الثقافية. وأحزنني أن بدأت أرقب تضخم الرقيب الداخلي في نفسي رويدًا رويداً حتى طغى تماما على فطرتي الأولى وتلقائيتي التي حسدني عليها رفقائي –حتى وإن سخروا منها من وراء ظهري .
وكان أن قررت قرارًا حاسمًا بالابتعاد تمامًا عن الكتابة أو الإشارة إلى السلطة أو (الكبار) ولو تلميحا، سواء إيجابًا أو سلبًا. فلو كتبتُ بالإيجاب ستكون التهمة الجاهزة هي الممالأة طمعًا في مغنم ما. ولو كتبت سلبا ستطلُّ التهمة الأخرى بوجهها وهي طبعا محاولة إدعاء اليسارية والانشقاق ومجابهة السلطات والقفز فوق الأسماء اللامعة حتى يلمع اسمي.
ولأنني لن أفرحَ بأي تحقق أجنيه من خارج كتابة الشعر، ولأني بدأت متأخرة جدًا، كما أسلفت، ومن ثم بات عليّ تكثيف الجهد لأعوّض ما فاتني من وقت عسى أن أحقق شيئا فيما تبقى من وقت قصير، قررت أن أصمتَ عن شيئين:
أولهما الكتابة عن الأسماء الكبيرة مخافة تهمة القفز فوق القامات. والثاني، النأي التام عن الكتابة عن السلطة سلبا أو إيجابا. وقد كان. حتى أني، إباّن موضوع صنع الله إبراهيم، قاومت أن أفصح عن رأيي في الأمر، فأنا أحب هذا الرجل، ككاتب وكإنسان، لكن رفضه الجائزة على ذلك النحو لم يرق لي، وساءني الحسُّ الترتيبيّ الشَّركيّ التخطيطيّ فيه، كنت أفضل أن يرفض الجائزة، لو شاء، بمجرد أن علم بها، بلا حفل ولا مقالب.
ومع هذا لم أستطع أن أكتب رأيي مخافة أن أُتهم بالصعود على كتف الرجل، أو مغازلة جابر عصفور أو الوزير، أو حتى أن أُتهم بمحاولة أن أبدو خارج النص وأخالف الجمع الذي ناصر صنع الله، برغم أن البعضَ مثلي لم يعجبه التكتيك وإن راقه الاستراتيجي.
وتأكد ظني في قسوة قمع المثقف للمثقف، حتى غدا أشد وطأة من كل السلطات القمعية الخارجية التي نرزح داخلها، سواء دينيا أو سياسيا أو فكريًّا، بعد مقالة حلمي سالم الأخيرة عن سمير سرحان.
وأرجو ألا يظن الخبثاء أنني هنا بصدد مساندة حلمي سالم، فأنا أفقر من أن أفعل. بل إنني سأسمح لنفسي أن (أستخدم) الرجل للتدليل على مشكلتي التي أعانيها مع ذاتي. وليسامحني على ذلك. وأظن أني يجب أن أعترف أولا ببعض الأشياء من باب التطهّر.
فقد أتفق أن قرأت المقالة قبل نشرها، وأحزنني أن وجدت بها جرعة الانتقاد العالية التي لن يبددها اكتمال قراءة المقالة إلى آخرها. وكان حلمي قد قال حين علم بالحال الصحية التي آل إليها سرحان في باريس: آن الأوان لننصف قليلا هذا الرجل، ولا يمنع هذا من أن نشير بإصبع الانتقاد إلى جوانب القصور والتقصير التي صدرت عن سلطته.
وحين قرأت مسودة الورقة قلت له: أهكذا يُخاطب المرضى؟ أتريد أن تُشْعِر الرجلَ أن ثمة من يرى جانبه المضيء، أم تريد أن تقضي عليه؟ فما كان إلا أن تحرَّك الإنسان داخله و خفف من حدّة المؤاخذة وكان ما كان. وهنا يأتي (استخدامي) لحلمي سالم لأسأل:
متى يكتب المرء رأيه، خطأ أو صوابًا، من غير أن يتّهم بالممالأة وعدم الموضوعية. قلت مثل هذا الكلام حين اتهموا الغيطاني وسمير سرحان نفسه في باريس بتهمة ممالأة سعاد الصباح بأن مدح شعرها فقالوا أنه يتملق مالها وسلطتها!
فقلت، حين سئلت عن هذا، لإذاعة "دوتش فيلا Deutsche welle" الألمانية: ماذا لو كان هذا رأيه فعلا؟ أليس من حق كل امرئ أن يعبّر عن ذائقته الشعرية والفنية وآرائه ورؤاه بحرّية تامة؟ لماذا لم نتهم محبي ومحبات فاروق جويدة ونزار قباني بالممالأة؟ ألأنها أميرة، ينبغي ألا يكون لها قراء حقيقيون يحبون شعرها؟ ثم ماذا ينتظر سرحان من الصباح؟ والسؤال التالي: ماذا ينتظر حلمي سالم من سرحان؟
والسؤال التالي: ماذا أنتظر أنا من أيٍّ منهم جميعا؟ لماذا لم يكتب من اختلف مع سرحان رأيه الضد بدون اتهامٍ بمغازلة المال؟ ولماذا لم يكتب من اختلفوا مع حلمي سالم رأيهم الضد بغير أن ينال لقبَ "المدّاح" وبغير أن يُتَهم بأنه ينتظر من سرحان شيئا؟ في حين يعلم الجميع أن حلمي سالم الذي أشاد بمشروع "مكتبة الأسرة" لم يطبع كتابا واحدا فيه، وهل يعقل أن يتملق سرحان فيما الرجل يلملم أوراقه ليمضي إن لم يكن بسبب المرض فبسبب حلول سن التقاعد؟ متى يعتنق المثقف العربي مبدأ التعددية في الرأي فعلا، تلك التي ينشرخ صوته ليل نهار لمطالبة الحكام بها، في حين يكون هو، المثقف، أول عدوٍ لها؟
لماذا لا نتقبّل احتمال أن الكاتبَ يكتب بالفعل ما يراه، ولو كان خطأ، ببساطة لأنه أراد أن يقول هذا؟ بغير حسابات ولا دراسات جدوى، لماذا مثلا جَبُنتُ أنا عن الإشادة بخالد الرويشان وعبد العزيز المقالح ومحمد الشامي وحسن اللوزي وقادري حيدري وكثيرين جدا من نماذج الجمال الحقيقي التي قابلتها هناك في صنعاء؟
متى يمكنني أن أعلن هنا ما أعلنته هناك من أنني أحسد كل مثقف يمنى على وزير ثقافتهم، الذي صنع بحق معجزةَ ثقافية، دون أن أخشى اتهامي بمغازلة السلطة هناك أو هجو السلطة ولفت الانتباه هنا؟
متى يمكننا أن نكتبَ في الصحف ذات الأشياء التي نسِّرُ بها إلى أصدقائنا على المقهى بدون خوف؟ كيف سمحنا، نحن المثقفين، أن ننصّب من أنفسنا على أنفسنا سلطةً قمعيةً جديدةً إلى جوار سلطة رجال الدين وسلطة الساسة؟
لا أدري إن كان مازال لائقًا الآن أن أعرّج على الموضوع الأصلي الذي كنت أنوي الكتابة عنه؟ لكن، ولو على سبيل قمع الرقيب القمعي بداخلي، سأقول إن هذا الوزير فعل شيئا بسيطا جعلني أفكر طويلا:
كان ثمة شاعر شاب، لا أذكره الآن، يلقى شعره على المنصة، وتحشرج صوته قليلا أثناء الإلقاء، فما كان من خالد الرويشان إلا أن همس لأحد رجالاته بشيء، فوجدت هذا الرجل، الذي قد يكون نائب وزير مثلا، يهرولُ إلى المنصة ويصبُّ كأسَ ماءٍ ويضعه أمام الشاعر الشاب.
ولا تعليق لدي سوى أن مبررًا قويًّا وراء ولع المثقفين والمبدعين اليمنيين بهذا الرجل الذي يعرف أسماء شعراء بلده، صغيرهم وكبيرهم، ويمد لهم يدَ العون البيضاء ليطوّروا مشاريعهم الأدبية، بل يستضيفهم في منزله، يستمع إلى إبداعاتهم ويأكل معهم.
في أحد المطاعم في صنعاء كنا نجلس مع المقالح وعدد من المثقفين ومعنا وزير الثقافة، وعلى طاولة أخرى، بالمصادفة، كان يجلس وزير الشباب ومعه أيضا مجموعة من أصدقائه من الشعب، وعلى طاولة ثالثة كان وزير الاقتصاد والحال مماثل.
جاء الجميع بدون حراسة ولا موتوسيكلات ولا ارتباك في المرور ولا باقات زهور. ولما أعربت عن دهشتي للشاعر محمد الشامي همس لي: في بلادكم الوزراءُ مساكين، فهم لا يعيشون. وأجبته بحزنٍ حقيقي: ليس الوزراء وحسب.
فاطمة ناعوت
القاهرة، أيلول (سبتمبر) 2004
|
|