موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت

قراءة في قصيدة فاطمة ناعوت
"من الجائز جدًا"
بقلم: أمجد ريان



أعجبتنى القصيدة الأخيرة المرسلة .. شعرك كله يعجبنى وأحس أننى أميل إلى أسلوبك فى الكتابة .. لديك حبكة خاصة .. وإمكانيات لايملكها الكثيرون .. إيحاءات خاصة ، وإيماءات دالة ، يعجبنى إصرارك وحماستك الدائمة وهذا الفيضان من الكتابة الذى لايتوقف لديك ، ودائماً أحس بأن الصور الشعرية لديك تمنحنى مايشبه المكان المميز شديد الطزاجة ، أحس دائماً بك تقفين على عتبة الوجود : كالساحرة القادرة على الكشف والمبادأة والمناورة العاطفية لاصطياد قارئك والإيقاع به فى قلب الرهج الحار للقصيدة :

من الجائزِ جدًا ...
أن نحزنَ بلا إغراقٍ
فقط
لنجربَ ما نقرؤهُ ,
في قصصِ الحبِ القديمةْ .
نبكي ,
– قليلاً
على ذاكرةٍ مذبوحةْ,
ثمَ ...
نستغرقُ في نومٍ هادئٍ ,
لسبعِ ساعاتٍ على الأقل
بعد أن نتأكدَ ,
أن رنينَ الهاتفِ ,
لن يزعجَنا طوالَ الليلْ .
من الجائزِ جدًا ,
أن نمضغَ دهشتَنا ,
حينَ نفتشُ في صندوقٍ ,
نودعُهُ ,
منذُ شهورٍ
أحلامَنا ,
فتفاجئُنا ,
ثلةُ أصفار .
من الجائزِ جدًا ,
أن تسقطَ من فوقِ الرفِّ ,
أيقونةٌ ,
تتحطَّمْ ,
تصعقنا الصدمةُ ,
نجثو نلملمُ أشلاءَها ,
ثمّ....
يباغتُنا الضَحكُ .
من الجائزِ جدًا ,
أن يغزونا لحنٌ ,
يأتينا من أقصى الأرضِ ,
عبرَ الآفاق والسنواتِ الضوئية ,
فقط ...
ليقشرَ أحزانَنا .

هنا نستشعر الإحساس بالتجريب ، وبالحياة الغنية الغامضة الموارة بتجريب الأحاسيس ، لديك قدرة خاصة على النظر والتخليق واصطياد لذة المعرفة ، من خلال اكتشاف العلاقة بين الماضى والحاضر :

أن نحزنَ بلا إغراقٍ
فقط
لنجربَ ما نقرؤهُ ,
في قصصِ الحبِ القديمةْ .

الذاكرة الذبيحة هنا فى تصورى دليل على القهر ، لأن أجمل أيام عمرنا قضيناها فى لحظات ولّت فى الماضى ، والمستقبل مجهول ، لحظات ولت فى الماضى ، سواء فى الطفولة أو فى الصبا أو فى أحداث انتهت بعد ذلك ، ولكنها انتهت ، وكل هذا قد صُبَّ فى العدم : أين هو الآن ؟ والانصباب فى العدم هى مأساة بشرية كبرى ، أنت تبكين قليلاً على ما مضى ، وهناك من يبكون كثيراً كثيراً ، يتم بكاء مرير ، ثم يخضع الإنسان للنوم كفعالية فسيولوجية نحن مجبورون عليها ، فعالية تجبرنا على الخضوع التام سواء رضينا أو لم نرض ، النوم موت يقهر أكثر طموحاتنا توهجاً .

إن عبارة [ من الجائز ] تعنى تعدد احتمالات أحداث يمكن أن تحدث ، أو ينعدم حدوثها وهذه القدرية والاحتمالية المفروضة علينا تمثل قمة القهر الذى نعيشه على الرغم منا ، نحن البشر فاقدوا القدرة على أن نخلق حياتنا ، أو نقود حياتنا : الماضى يفلت من بين أيدينا والحاضر والمستقبل سيفلتان منا ، ونحن جميعاً مساكين نمثل دور الحياة ، بل ونصـارع لكى نمارس أية أدوار زائفة ، والحقيقة أننا لانملك أى شئ ، لعلنا نملك أقل شئ ممكن ، وهو تحديد عدد ساعات النوم ، وياله من نصر ، فى عالم من القهر الدائم :

نبكي ,
– قليلاً
على ذاكرةٍ مذبوحةْ,
ثمَ ...
نستغرقُ في نومٍ هادئٍ ,
لسبعِ ساعاتٍ على الأقل
بعد أن نتأكدَ ,
أن رنينَ الهاتفِ ,
لن يزعجَنا طوالَ الليلْ .


إن التأكد من أن رنين الهاتف لن يزعجنا طوال الليل ، هو نوع من الكمون والاستقلال عن عالم يمور بالقبح والعلاقات الرديئة ، وهو قبول فى الوقت نفسه لهذا الرضوخ مرة أخرى لحالتنا المستكينة وخفوت أنشطتنا الآدمية ، الإنسان ليس راضياً بوضعه فقط ، بل يريد أن (يتأكد) منه فالإنسان تعود على ممارسة بعينها لايستطيع ولايريد أن يغيرها :

بعد أن نتأكدَ ,
أن رنينَ الهاتفِ ,
لن يزعجَنا طوالَ الليلْ .


والتكرار الملحّ هنا لعبارة (من الجائز جداً) والذى سيرد أكثر من مرة فى القصيدة بعد ذلك ، له دلالات كثيرة ، منها هذه الروح الغنائية الكامنة فيك والتى تتجسد دائماً ، بشكل أو بآخر ، فى مجمل كتابتك وبخاصة بعد أن اتخذتِ قراراً ( سواء أكان واعياً أم غير واعٍ ) بهجرة الأساليب التقليدية فى الكتابة . ومن دلالات هذه العبارة أيضاً تأكيد معنى القدرية !! وتعدد الاحتمالات فى عالم غريب ملئ بالاحتمالات كل شئ جائز ، كل شئ يمكن أن يحدث أو لا يحدث !!

من الجائزِ جدًا ,

ويظل معنى تتعدد الاحتمالات سارياً بعد ذلك على امتداد النص ، وتتوالى المعانى التى يشترك الوعى واللاوعى فى اصطيادها ، وتخليقها ، ومنها معنى أحلامنا المجمدة ، هى أحلام صغيرة متواضعة للغاية ، ولفرط ضآلتها يمكن أيضاً أن نجمدها ونحفظها داخل صناديق ، وياله من قهر فى عالم لايتيح لنا فرصة الانطلاق والتعبير الكامل عما يجيش فى نفوسنا :


من الجائزِ جدًا ,
أن نمضغَ دهشتَنا ,
حينَ نفتشُ في صندوقٍ ,
نودعُهُ ,
منذُ شهورٍ
أحلامَنا ,
فتفاجئُنا ,
ثلةُ أصفار .


ولسوف نظل نحلم فقط مجرد الحلم ، دون فعالية حقيقية فى الوجود ، إن أيقونة زخرفية صنعتها المخيلة البشرية ، يمكن أن تحتضن بعض أحلامنا ، وذكرياتنا الحميمة ، ولكنها ليست سوى مادة هشة غير قادرة على الاحتفاظ الدائم ببؤرة من بؤر عاطفتنا ، وذكرياتنا الحميمة تلك ، لقد احتفظنا بها فوق الأرفف باعتبارها مكمن لأجمل مشاعرنا ، ولكنها قابلة للكسر بسهولة ، أسرع وأفدح مما تخيلنا ، وهاهى باعتبارها رمزاً لأجمل لحظات الوجود ، تهوى لتتحطم ببساطة ، ولكننا بصفتنا البشرية الغالبة قادرين على تمثيل دور الصمود ، إننا نضع قناع الضحك ، فى الوقت الذى تكون فيه أعماقنا قد صدمت وجرحت عميقاً ، ولكننا بصفتنا البشرية قادرين على امتصاص كل هذا القدر من الصدمة ، كما لو كان شيئاً لم يحدث ، إنها قدرتنا ، وخيبتنا فى الوقت نفسه ، لانملك سوى الانتظار ، انتظار لحن خرافى يجيئنا من حيث لاندرى ليطفئ غليلنا ، وهكذا يصبح طقس الانتظار شعار الوجود البشرى ، لنظل نحس ـ وهماً ـ بأن شيئاً خطيراً ، شيئاً جميلاً مبهراً سوف يحدث بعد لحظة ، أو بعد قليل ، أو بعد ساعة ، أو يوم .. انها محنتنا ، ومثار أحلامنا فى الوقت نفسه :

من الجائزِ جدًا ,
أن تسقطَ من فوقِ الرفِّ ,
أيقونةٌ ,
تتحطَّمْ ,
تصعقنا الصدمةُ ,
نجثو نلملمُ أشلاءَها ,
ثمّ....
يباغتُنا الضَحكُ .
من الجائزِ جدًا ,
أن يغزونا لحنٌ ,
يأتينا من أقصى الأرضِ ,
عبرَ الآفاق والسنواتِ الضوئية ,
فقط ...
ليقشرَ أحزانَنا .


والجميل فى شعرك أنه لايعبر عن معان محدودة أوظروف بعينها ولكنه يملك طاقة رمزية تجعله يتفاعل مع الحياة كلها ، والعلاقة بين نصك من ناحية والحياة من ناحية أخرى علاقة مركبة : مفصلها المرجعية الاجتماعية ، والممارسة المعيشة ، ومجالها ليس واحدياً سكونياً ، بل ينتعش بما يفور فيه من معان حية وأبعاد ممتلئة بالأشارة إلى الزمن وإلىالوجود .

فاطمة .. أنت شاعرة موهوبة بحق ، وانا أظل أقرأ قصائدك طويلاً ، وأعيد قراءتها مراراً ، وأظل أرجع صدى تجربتك ، لكى أشبع نفسى من هذا الفيض الجميل الذكى ، والتدفق الإنسانى الدافئ الملئ بالخبرات والتلميحات والعطاء ، عندك قدرة باهرة على ابتداع الصّورالشعرية ، وابتداع الصور هو أول دليل على الموهبة ، ولكن هذه الصور جميعاً تعود مباشرة إلى مرجعية محددة هى الواقع المعيش من حولنا ، والأنا لديك أنا واقعية ، أو على الأقل فالأنا الواقعية لاتختفى إطلاقاً عندما تبدأ الأنا الشعرية فى ممارسة عملها داخل النص ، بل تظل تراقبها وتوجهها ، مما يجعل النص يأخذ طريقه إلى المتلقى من خلال ممر واحد محدد ، وليس ممرات متعددة تشبه المتاهة ، وهذا هو أشد ماجذبنى لهذه الشعرية ، ولهذه الموهبة المتفجرة .

لم تردّى على رسالتى الأولى كتابةً ، وهاهى رسالتى الثانية أنتظر الرد ، وأرجوك : لاتنسى التاريخ لأهميته الشديدة بالنسبة لى .

أمْجـد ريـان
(26 أكتوبر 2001)






من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل