موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت

الصحافية السورية وفاء سمورة تحاور
فاطمة ناعوت



س1 في ديوانك الثالث :"قطاعٌ طوليّ في الذاكرة" تقول كلماتك
"الضوءُ يخدعُ ويناور ". من خدعَ الشاعرة فاطمة ناعوت ، وكيف تناورين من يخدعك ؟


· هذه القصيدة استلهامٌ من أسطورة أو الأدق من قصة معبد الملك الفرعوني رمسيس الذي صممه المهندس المعماريّ القديم بحيث يسقط الضوءُ على وجه تمثال الملك مرتين في العام ، مرةً في أيلول ومرةً في آذار ، وهما يوما ميلاده ، وتتويجه ملكًا على البلاد . معجزة معمارية فلكية بكل المقاييس لأن كمية المعادلات الجغرافية /الفلكية/الإنشائية التي دُرست من أجل تحقيق هذا الهدف الملكيّ شيءٌ بالغ التعقيد ، لا قياسًا على حقبة قديمة مرّ عليها خمسة آلاف عام و حسب ،بل حتى بالنسبة لعصرنا الحالي حيث الحاسب الآلي حلّ محلّ العقل البشريّ .حين تقرئين القصيدة ترين أنني استخدمت المعجم المعماريّ – مجال تخصصي- لإسقاط نعوتِ الهيكل الفرعونيّ علي حياتي ، حيث سُمك الجدار ثلاثون عامًا (أي مدّة عزلتي عن العالم خلف جدار سميك صامت) ، طبقات الأرض يحتلّها صخرٌ أي(جمود) ، رصاص أي(برودة) ، نورٌ أي ( رجاء) ، ماء (طفلي الأول )، ترقّب أي (انتظار سلبيّ)، ماء (طفلي الثاني) ، ثم نهاية دراما الخلق السرمديّة ،أي الموت.وهكذا تمضي القصيدة عبر جدلية ذاتيةٍ في تساؤل و محاولات كشف حتى نأتي لمرحلة (الضوء) ، وهي نقطة الانعطاف المصيري الحاد التي يمرّ بها من يحدثون انقلابًا جذريًا في حياتهم بعد فترة صمتٍ وتأمل وإعادة حساب. يغمر الضوء عمقَ الأعماق أو قدسَ الأقداس ، يحاور ويناور ليخترق الجُدر الصمّاء ، الضوء هنا يا صديقتي وفاء هو ( القرار) ، القرار هو مفتاح الحياة وهو دليل الوجود، أن تقرر يعني أنك موجود. سقط الضوء على وجهي إذًا ، مرتين في عام.( أنت صحافية ممتازة أن نجحتِ في استدراجي إلى شرح إحدى قصائدي ، وهذا ما لم أفعله مطلقًا !)

س2 في ديوانك الأول "نقرة إصبع" ،سؤالان موجعان في قصيدة (فوق الهيكل الحديديّ )
متى يمكن أن نحيا؟
متى يمكن ألا نكون ذئابًا ؟
أوجّه إليكِ نفس السؤالين.

· أن نحيا يعني أن نمتلك قرارنا .مسؤولية الكلمة يا صديقتي ، التكليف بحمل القرار كما أسلفت . أن نحيا يعني أن نتأمل فكرة الوجود وننظر هل نحن بالفعل جديرون بهذه الحياة ؟ أن نقتل القبح في أعماقنا ، هذا أمر عسير لأنه مشتجرٌ مع تعقيد نوازع النفس البشرية ونسبية الأشياء . عندما كنت صغيرة لم أكن أعي أن الحياة بهذه الصعوبة ، هل تدركين لماذا ؟ لأنني كنت أرى المطلق ، فكان التنسيب سهلا وحاسمًا ، الأمر اختلف الآن بعدما اكتشفت ستة عشر مليون لون رماديّ بين الأبيض والأسود ،من هنا جاءت صعوبة السؤال وصعوبة الحياة.أجيبي عن السؤال ولا ترمي الكرة في ملعبي أيتها الصديقة المشاكسة.

س3 الأنين في قصيدة (بعد منتصف الليل ) من ديوانك الأول:
"أنتم خائنون جميعًا
ساهمتم معي في قتلي
أراكم الآن ، يهذب كل منكم زهرة
سوف يلقيها فوق قبري
لن أسامحكم "
بمَ تعاقب الشاعرة الخونة ، ومتى يكون الإنسان خائنا؟


· تدين الذات الشاعرة هنا من تظن أنهم غيّبوها عن الحياة وقاموا بسجنها في كهفٍ (معنوي) من العزلة والتوحد حتى مرّت حياتها لا حيّة ولا ميتّة.أما العقاب ، فأنا عادةً أعاقب نفسي وأعاقب المذنبين شعرًا ، الكلمة سيفٌ وأول عنق مُقترح فوق طاولة الإعدام هو عنق الشاعر ذاته. يكون المرء خائنَا إذا انقسم على ذاته و استسلم للقبح الداخلي، كلنا منقسمون بنسبٍ ،ولكن الفكرة في تضييق الهوّة بين ما نرى وما نمارس.

س4 في ديوانك الثاني "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض " قصيدة بعنوان "هزائم صغيرة" ،الشاعرة فاطمة ناعوت ، ماذا تعني لكِ الهزيمة؟ ومتى يكون الإنسان مهزومًا؟

· الهزيمة في نظري هي العجز عن تكوين رؤية ، الفشل في نحت وجهة نظر تجاه الوجود تخصُّ المرء وحده ولا تنبنى على رواية أو سلفية. العجز عن اتخاذ القرار أيًا كان ،الموقف يا عزيزتي هو الفكرة وراء الحياة.لا يزعجني الفشل في ممارسة قراراتنا ،بل على العكس قد أرى في الفشل ملمحًا إنسانيًا جميلا يبرر استمرار الحياة،تماما كما فشلت صخرة " سيزيف " في الصمود فوق الجبل وظل الدهر كله يصعد بها كلما سقطت، تلك هي دراما الحياة وسحرها ، المهم أن نرى و أن نقول.الهزيمة هي العمى الاختياريّ الذي يلجأ إليه من يرغب في الموت ، أو من يرغب في الحياة بروح لم تتعلم كيف تحيا.

س5 يقال لكل جيش منتصر فاتورة لابد أن يدفع ثمنها، وكل ما يمكن دفع ثمنه ليس قدرًا ، ولكل شيء ثمن .معاناة الشاعرة للوصول إلى النجاح ضريبة ، هل تحدثنا الشاعرة عن رحلة ألمها التي أمدتها بالأمل والقوة و إثبات الذات؟

· أنا أحد الذين دفعوا الفاتورة مضاعفةً ، أتيت بانعطافة حادّة في منتصف حياتي ، بدأت من الصفر مجددا في الوقت الذي كان لي أن أستوي فوق الجبل ، تماما مثل صخرة "سيزيف " التي تحدثنا عنها . لم أحلم مطلقا في صباي أن أكون شاعرة بالرغم من كتابتي الشعر صغيرة وبالرغم من تعلمي العروض – من وراء أمي – وأنا بعد في المرحلة الإعدادية .دخلت الهندسة لأرضي جدي – رحمه الله – ونجحت في عملي كمهندسة معمارية ،حققت بعض النجاحات والمباني الهامة.ثم توقفت في منتصف حياتي لألتقط الأنفاس كما يفعل راكضو الماراثون و أستكمل المسيرة ، لكن شاءت الوقائع أن جاءت وقفتي أمام مرآةٍ ، فتأملت الأمر واستنكرت وجهي المنعكس على السطح المصقول ،سألت نفسي سؤالا بسيطًا : هل حققت بالفعل ما أريد أنا ،أم كنت طوال الوقت أركض لصالح الغير مثل فرسٍ في حلبة سباق ،لا يفكر ، ولا ينبغي له؟ وكان القرار، حولت وجهتي 180ْ لأبدأ من جديد حُلمًا كنت أحمله طوال الوقت ولكنني لم أمتلك برهةً لرؤيته.تركت الهندسة والدنيا ،ودخلت محراب الشعر . ما رأيك في هذا الثمن؟
س6 ما هي الصرخة التي لم تصرخها الشاعرة بعد ؟

· لا أميل في شعري إلى الصراخ بقدر ما أتعمد أن تصل كلمتي هادئةً عميقة ، لكنها حادّة كسيفٍ.القنبلة البيولوجية و النووية أخفت صوتًا من حفنة ديناميت ، لكنها أشمل تدميرًا ، بل يمتد أثرها لأجيال يحملون جرثومة الفكرة ، أعتذر عن هذا القياس الجدليّ . أعني أنني أؤمن و أراهن على ذكاء القارئ الذي يقرأ ما وراء هذا الهدوء التحريضيّ في الشعر ، أنا من طائفة الشعراء الذين تخلوّا عن نبرة الصوت العالية و مباشرة القول ، أعمد إلى الولوج في مركز القضايا الوجودية من أبوابها الخبيئة الصامتة. أفضل أن يضع شعري الصرخةَ على لسان القارئ بدلا من أن أصبّها في أذنه ،لأنني أعتقد أني بتلك الطريقة أجعل القارئ ضالعًا مرتكبًا ،لا متلقيًّا ،وبالتالي أكثر فعلا.لكنني من الزاوية الأخرى لا أستنكر وجود شعراء تحمل كلمتهم حسًّا ثوريًّا عالي الصوت ، هذا هو الحجر الصغير الذي يحرك سكون الماء من حين إلى حين ، لكن تحت سطح هذا الماء بادي الهدوء ، ثمة دوامات وثورات تمور بالأعماق.هذا عن منهجي الشعري ، أما إذا كنتِ تقصدين صرختي الوجودية التي تعتمل داخل صدري ، فأنا يا صديقتي – مثل كل البشر – أحمل صرختي الخاصة ، هي صرخة رفض للقبح بكل ألوانه و درجاته.القبح الإنساني والفنيّ والعنصريّ والسياسيّ والفكريّ ،القبح البصريّ والسمعي والوجودي ، أجوب الأرض كل ليلٍ أبحث عن الجمال بلا مصباح في يدي ،أحمل سلّةً وسيفًا ، ألملم ورود الجمال في سلتي، وأطارد القبح أينما أجده وأصفيه بسيفي. لا أعفي نفسي ، فأقيم مقاصل تعذيب ذاتيّ إذا ما أمسكت بالقبح داخلي ، أحاصره وأقاومه وأعاقب نفسي ، شعرًا.

س7 الشعرُ كلمةٌ ، والكلمةُ قضيّة
قالت إحدى الشاعرات السوريات
"أبكيكَ العراق الغريق المستنزف الجراح
ما أصعب العروبة أن تكون على فوهة بركان
سأل طفل أباه وتناثر الدمع بالتراب
أبي
كيف سقطت بغداد
أنا لم أعد أحترم الرجال.
بمَ تجيب الشاعرة فاطمة ناعوت الطفل صاحب القضية الإنسانية؟
وكيف نقتنع بتبديل الضعف إلى قوة؟


· غياب الديمقراطية عن النظام العربي هو عين بلاء قضيتنا. الديكتاتورية الفعلية التي تمارسها أنظمة الحكم تحت لواء حكمٍ ديمقراطيٍّ تعدديٍّ أصبح ملهاةً تعسة ، لكن يبدو أن مفهوم الحرية الحقّة لم يعد ترفًا وحسب ، بل بات لا يشغلنا كثيرا . أضحى همُّنا الشاغل الانخراطَ في الحياة بيولوجيا ولسان الحال يقول : ليس في الإمكان أفضل مما كان.الاستبداد بكل ألوانه ، سلطويا كان أو فكريًا أو دينيا ، هو ببساطة فقأ عين في رأسٍ يحمل عينين ، فتفقد المرئيات بعدها الثالث لتصبح مسطحةً بلا عمق وبالتالي تختل الرؤية ويختل الفعل و يبرز الضعف والتهافت. الديمقراطية والتعددية تجعلان الوطن يفيد من عقول مفكريه فتكثر العيون و يعمق المشهد السياسي والاجتماعيّ . انهيار بغداد كان حتمًا نتيجة تلك الواحدية وذاك الاستبداد والقمع ، الأمر لا يحتاج في رأيي لقوةٍ توازي قوة أمريكا لندحرها ، الأمر خرِبٌ من الداخل . لا أراهن على قوةٍ عسكرية ،لكنني أراهنُ على قوةٍ تقبع خلف عقولنا وأرواحنا تنتظر شعاع الضوء الذي يسقط على الوجه بغتةً ، فينطلقُ القرار.





من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل