موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
شهادة عن قصيدة النثر
بقلم: فاطمة ناعوت
مع الشاعر المصري حلمي سالم
تفتحَ وعيي الشعري العربي والغربي ككلِّ مجايلي على الشِّعرِ الكلاسيكي واستهواني جدًا الشعرُ الجاهليّ وشعرُ المهجر وفي الشعر الإنجليزي تفتحتْ مداركي على كلاسيكيات شكسبير وأوسكار وايلد وغيرهما وحين بدأتُ في نظمِ الشعرِ،أظنني بدأت البدايةَ النمطيةَ ذاتَها كمعظم الشعراء، أقصدُ العمودَ الخليليّ.
وبمضيِّ الوقتِ وقراءةِ بعضِ المنجزِ القديم ومراجعةِ بعضِ كتبِ العَروض بدأتْ أذني في التقاطِ الحساسيةِ الموسيقيةِ التي من شأنِها بناءُ قصيدةٍ منضبطةٍ على بحر معين هذا عن استقبالي للشعر كقارئة ومتلقية أما كمرسلة وكاتبة فقد أحببتُ جدًّا عِلمَ العَروض الخليليّ لأنه يخفى داخل عباءته شيئًا من المعادلاتِ الرياضية – التي أعشقها – وكنت أكتب باستمتاع شديد وكأنني أتعامل مع قوانينَ فيزيقيةٍ تحملُ طابعًا أسطوريًا شاعريًا وأرجو ألا يُصدم قارئي من منهجِ الجمعِ بين عِلمِ الرياضياتِ والشعرِ وهما ظاهريًا نقيضان ولكني في الواقع لا أرى أن الرياضيات تتناقضُ مع أيِّ علمٍ أو فنٍّ تطبيقيًا كان أو تجريديًا والدليل على ذلك مثلا أن الفلاسفةَ الإغريق كانوا علماءَ رياضياتٍ في الأساس , ولو لمْ يمتلكوا تلك الذهنيةَ الرياضيةَ ما أنتجوا فلسفةً أو فكرًا.
ما أقصده هنا أن الرياضيات ليست علمًا بقدرِ ما هي تركيبة ذهنية خاصة تسمح بتناولِ المجرداتِ والموجوداتِ بزاويةِ التقاطِ شديدةِ التفرد ولذا لن ترى عِلمًا أو فنًّا يخلو من رؤيةٍ معادليةٍ رياضية ولذلك بدأت بالكتابةِ الخليلية ونظمت قصائدي على معظم البحور الستة عشر كان هذا في بداية مرحلتي الثانوية ومع نهاية فترة الجامعة بدأت في كتابةِ الشعرِ الحرِّ أو التفعيليّ والذي لم أتوقف عنده طويلا أما عن انتقالي إلى موكبِ قصيدةِ النثر فله أسباب أظن أن لها علاقة لا بالأجواءِ المحيطةِ والتيارات السائدة وقتها بقدر من كونها نابعةً في الأساسِ من تركيبتي الذهنية أولا ودراستي للهندسة ثانيا ويمكنني أن أقلصَّ تلك الأسباب تحت ثلاثة محاور.
أولا إحساسي الدائمُ بأني لن أضيفَ للمنجزِ شيئًا ذا بال فكما قال عنترة بن شداد قبل ألفٍ وخمسمائة عام: هل غادرَ الشعراءُ من متردِّم… أم هل عرفتَ الدار بعد توهمِ
فمهما أتى الشعراءُ بجديدٍ من فِكَرٍ وصياغاتٍ وصورٍ مدهشةٍ جديدة فكلّهم في النهاية يتدثرون بالقالَبِ ذاتِه و الإيقاعِ نفسِه الأمرُ الذي أشعرني بأني أسيرُ في موكبٍ لا يخصُّني وحدي وأني في غير منأى عن الوقوعِ في فخِّ التقليد....
أمّا الأمر الثاني فهو ما كان يزعجني جدًّا من التوقعِ الدائمِ للقافية.... فيكفي جدًّا أن تقرأَ عليَّ قصيدةً عموديةً بعد حذفِ كلِّ قوافيها ماعدا قافيةَ البيتِ الأولِ ليقومَ الحاسوبُ الدماغِّي عندي أو عند أحدهم بالتنبؤِ بباقي القوافي... أما عن احتمالاتِ الخطأِ والصوابِ فهي نسبةٌ تغري المرءَ بإعادة حساباتِه من جديد والتفكيرِ بأن الشكلَ العموديَّ قد استنفدَ طاقاتِه كلَّها.
هذا وان كنت لا اخفي أني مازلت أستمتعُ بشدةٍ بقراءةِ وسماعِ الشعرِ الكلاسيكي فقد تشكل مكَّوني المعرفي عليه بل أزعمُ أني متعصبةٌ قليلاً فيما يخصُّ فنَّ الغناءِ فأنا لا أستمعُ إلا للقصائدِ الفصحى فقط أيّا كان المؤدي ولا أستثني أحدًا إلا فيروز والتي أعتبرُ صوتَها وحدَه موسيقى كاملة....
مع د.جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة - الصحفي حلمي النمنم - الأديب عبد العال الحمامصي
الأمر الثالث هو إحساسي بأنني مازلتُ لا أكتبُ ما أريد ، فللشكل العموديّ ثقلُه التاريخيّ على ذاكرةِ الشاعر ،و مخزوننا الثقافي مشحونٌ بالتراث الجاهز والذّي يمثل ذاكرةً استدعائية جاهزة الحضور تعطي نفسها بسهولة وبشكل شبه أوتوماتيكي مما يمثل عبأً على المبدع في محاولة الفرار من أسرها الأمر الذي يهدم فكرة التلقائية والفطرة في الكتابة.
وهو الأمر الذي يناقض تمامًا حركتي الإبداعية ومنهجي الكتابيّ والذي يتسم أشد ما يتسم بالبعد عن الصنعة والتكلف و هجر الزخرف اللغوي والنتوءات غير الضرورية، كما أن رتابة موسيقاه وقوافيه تعطي الانطباعَ بأنها تنتمي إلى زمنٍ لا يخصُّني وكان اندهاشي الدائمُ وقتَ أقرأُ القصيدةَ الأجنبيةَ سواءَ بلغتِها أو مترجمةً أن رصدت تحررهم التام من الجمودِ الهيكليّ الذي قدسناه دهورًا وثاروا على النمطيةِ والتماثل اللذين عشقناهما.
ولكوني مهندسةً معماريةً تزامنَ هذا الاستقراء البنائي والرصديّ مع دراستي بالجامعة لنظرياتِ العمارةِ في العالمِ كلِّه حيث وجدتُ المنهجياتِ كلَّها تنادي بهدمِ الأطُرِ وكسرِ التوقعِ في الواجهات والتصميمات الهندسية بل وتفكيكِ الموجوداتِ و إعادةِ بنائِها على نحوٍ يشي باللاتزان وهدم المسلَّمات الموروثة من قِبل المدارس الكلاسيكية القوطية والقبطية والإسلامية وغيرها على يد رواد العمارة الحداثيين أمثال ميز فان ديروو ولو كوربوازيه ثم تلاهم ما بعد الحداثيين، حتى أن أساتذتي كانوا يشيحون عن الطالبِ الذي يأتي بواجهةٍ أو مسقطٍ أفقيّ يحمل فلسفةَ التماثلِ أو الsymetry أو الـ monotonyبل شجعونا على الإتيان بكل هادمٍ للمألوف وكلِّ مخيِّبٍ للتوقع و أحبُّ أن ألمحَ هنا أن الريادة في الـ post modernism أو ما بعد الحداثة كانت لفنِّ العمارةِ تحديدًا ثم تبنته باقي الفنون بلا صراعاتٍ طاحنة كالتي نشهدها في الساحةِ الشعرية…
العمارةُ شأنها شأنُ كل فنٍّ هي كائنٌ حي ينمو ويتحرك ويتطور وإلا تحلل في بياتٍ دهريِّ لا مبرر له.. أذكر أن أحد اختبارات الشهر لنا في الكلية كان تصورًا لبوابة جهنم وكيف من الممكن أن نحطمَّ كلَّ مخزونِنا المعرفيّ لفن العمارة والفن التشكيلي بل ولمعادلاتِ الاتزانِ ذاتِها لإنجاز مشروعٍ كهذا ونسيان كل القديم لنخلق جوٍ من التشحيذ الذهني أو كما نطلق عليه معماريًا Brain Storming
فالجمالُ المعماريّ والتشكيلي إذن لم يعد في الاتزان بل في الخروجِ عليه...
باختصار وجدتُ العالمَ يجنحُ للثورةِ على كل جامدٍ وينادي بمزيد من التحررِ الفكريّ من الرواسخ التي سلبتْ تحليقنا الذهني قرونًا وهنا قفزَ السؤالُ البديهي إلى ذهني " أين نحن من هذا ؟" ولماذا نظلُّ نستقبلُ فلسفاتِ الغربِ وقتَ يبدأون في نسفِها ؟
لذا لم ألبث أن وجدت نفسي أكتبُ السطرَ الشعريَّ الموزون ، وهو ما يعرف بشعرِ التفعيلة .
كانت الحريةُ المتاحةُ في هذا الشكل أكبر ، وكان النتاج الذي طالعته لرواده المعروفين على الساحةِ المصريةِ والعربيةِ مبهرًا ، أخذتْ القصيدةُ في شكلٍ كهذا تطرحُ أمام عيني إمكاناتٍ مدهشةً فعلا . ولم تكد تمر سنواتٍ قليلة حتى عاودني الإحساس بالقلق الدوجماتيّ والذي يمثل عنصرًا من تركيبتي فرأيتُ الواقعَ يتغير بمعدلٍ يفوقُ تطور بناء القصيدة ، وأن الحريةَ لا يمكنُ أن تتجزأَ ، فنصفُ قيدٍ يساوي القيدَ الكامل .
بدأت أكتبُ القصيدةَ على النحو الذي يمكنَّني من القبضِ على مفردات الوجودِ والتقاط التفاصيل المهمشةِ التي نلمسها بالفعل يوميًا ونراها بغير أن تلفتنا لا لشيء سوى لاعتيادِها واكتشفت أن العدو الأزلي للمبدع هو الاعتياد فشرعتُ في محاربتِه وبدأتُ استعيرُ عينَ طفلةٍ تتعرف الأشياء لأول مرةٍ ...
حاولتُ مصالحةَ العالمِ وردَّ الاعتبار للأشياء الصغيرة التي قتلها الاعتياد .... تزامن هذا مع نفوري من المجازاتِ الجاهزة التي ألِفنا سماعَها لحدِّ أن فقدت دلالاتِها بالفعل ...
وأنا هنا لا أنادي بقتل المجاز كما يقول البعض ولكن الفكرة كيف يوظَّف المجازُ بحيث يخدعُ المتلقي فلا يدركُ كونَه مجازًا وبحيث يصدم القارئ حين أجبره أن يرى الموجودات بعدساتٍ جديدة نقيَّةٍ من غبار التراكم المعرفيِّ ووطأة الذاكرة المثقلة بالخبرات... وكما كرهتُ قديمًا أن أكونَ قارئةً سلبيةً كسولةً لا تُعمل عقلَها ...
مع الشعراء : حلمي سالم - أحمد سويلم - محمد إبراهيم أبو سنّة
كرهتُ ككاتبةٍ أن يكون قارئي متلقيًا خاملا أعطيه فنًّا مجانيًا بغير أن يشاركَ في إبداعي ... فقصيدة النثر تخلقُ هذا القارئ المبدعَ النشطَ الذي لا يبخلُ على نفسِه وعلى كاتبِه بإعمال عقلِه وحسابِ الدلالاتِ وقراءةِ ما وراء الكلمةِ وما وراء التشكيل...
في قصيدة النثر ، أستطيع أن أشكّلَ العالمَ كما أريد، عالمي أنا، أحلامي الخاصة، طفولتي، أشيائي الصغيرة، مفرداتٍ تشبهني، ولا تشبه أحدًا غيري، مجازات تخرج من نسيجِ التجربة وزوايا التقاط جديدة، لا ذاكرة مسبقة، لا أسرَ لتراكيبَ صرفيةٍ أو معجميةٍ جاهزة فقط لتناسب الإيقاع التفعيلي، الحرية هنا مطلقة.
والصعوبة أيضا كبيرة، صعوبة أن تشكل وتبني وتخطط دونَ أيِّ نموذجٍ جاهز ، صعوبة أن توظِّفَ من يقرؤك أو يسمعك في المشاركة في إبداعك، فالمعادلةُ صعبةٌ بحق , أن تنفلتَ من فخِّ الإيقاعِ الجاهزِ وتخلقَ إيقاعًا يخصُّكَ وحدَك وفي ذاتِ الوقت تكتبَ شعرًا حقيقيًا بغير مساسٍ بقداسةِ اللغة وهنا يحضرني تساؤلٌ طريف لماذا سمحنا للعمودين بتصريفِ الممنوعِ من الصرفِ مثلا للحفاظ على الموسيقى ولم نتهمْهم بهدمِ اللغة؟ أللإيقاع الخليليّ قداسةٌ تفوقُ قداسةَ علمِ النحو و الصرفِ مثلا؟
ما قدّمته عبر ديوانيّ، "نقرة إصبع" و "على بعد سنتيمترَ واحدٍ من الأرض"، هو هذه المحاولة لا غير، محاولة أن أكون ذاتي، وأن أقولَ نفسي دون مواربة... فقط أردتُ أن أحاكي العالم... أن أنفلت قليلا من الجاذبيةِ الأرضيةِ والخليلية ولو بمقدار سنتيمترَ واحدٍ. أما قضية الشكلِ والمصطلحِ والمسمىَّ، فهذا لا يعنيني كمبدعةٍ، فهو أمرٌ يخصُّ الدارسين والنقاد .
لكنني أظنُّ أن العالمَ يتحركُ بسرعةٍ كبيرة ، وكلُّ شئٍ يتغير و يتشظى والسلطات ذاتُها تسقط في مستوياتها المختلفة، ومن غير المناسبِ أن نتوقفَ أمام قانونٍ إيقاعيٍّ وُضع منذ قرونٍ بعيدةٍ في بيئةٍ وزمانٍ مختلفين، وما يفعله الشعراء الآن هو حقُّهم الأصيل في الصدور عن ذواتِهم وعالمِهم وزمانِهم .
قـُدّمت ضمن ندوة في "اتحاد الكتاب" بعنوان "قصيدة النثر: هل هي شعر ناقص؟"

|
|