قراءة حائرة
في "قطاع طولي في الذاكرة"
للشاعرة فاطمة ناعوت


بقلم :
تركي عامر



لست ناقدًا. وأراني أسير حائرًا إلـى لا مكان. وبوصلتي: "ما أصعبَ أن تـُسـَوِّدَ ورقةً بكلماتٍ حـَرِيـَّةٍ بأن تـُقرأ" (ميخائيل نعيمة). سأحاول شبه قراءة ذوقيـّة، غير منزّهة عن شطحات شخصيـّة، قد تـتـقاذفني خارج الجاذبيـّة الـموضوعيـّة.

تحت عنوان "إهداء"، وبشكل غير مألوف، تفتتح الشـّاعرة فاطمة ناعوت "قطاع طولـيّ فـي الذاكرة"، بدعوة غير صريحة للمشاركة فـي عمليـّة الكتابة. وهذا من شروط الشـّعر العظيم، حيث يـُترك للقارئ، احترامـًا لذكائه، هامش من الحرّيـّة. وأكاد أسمعها تقول للمتلقـّي: "قم ساعدني فـي إعداد الوجبة". وشتـّان ما بين طبق نشارك فـي إعداده، وآخر سريع من سلالة الـ "دْجـَنـْكْ فـُودْ".

ولكي تفتح شهيـّتنا، تفتتح وليمتها بعبارة مثيرة للتـّداعيات. شبه جملة غير متكاملة تبحث عن كمال ضائع: "يوتوبياي / التي / لَمْ أرَها" (ف ن). جمهوريـّة أفلاطون؟! مدينة الفارابيّ الفاضلة؟! يبدو أنـّنا سنظلّ حـَمـَلـَةَ أحلام منكـّسة إلـى ما قبل القيامة بـ "نقرة إصبع". ومن "يوتوبياي الـّتي لم أر"، جئت متأبـّطـًا حـُلـُمـًا، من مطرح اصطـُلح على تسميته باسم أهله، "عرب الـ 48"، فيما يحاول من يحاول أن يسمـّينا "عرب إسرائيل". وفاطمة ناعوت، شاعرةً ومهندسةً، تتدارك الأمر قائلة: "التـّربة الطـّينية / لا تطمئنّ للأبنية التـّاريخيـّة" (ف ن).



ويضيق التـّاريخ بنا، ولا تتـّسع فسحة الأمل. ويضيق الـمكان بأحلامنا، ولا تتـّسع الرّزنامة لـمواعيدنا مع الـموت. وبين ما يضيق وما يتـّسع، أقول مع سميح القاسم: "وتضيقُ نافذتي / ويتـّسعُ الجدار". و "قبلَ أن يضيقَ حذاءُ الـمدرسة"، على حدّ تعبير فاطمة ناعوت الفذ، تداهمنا التـّقنيـّات الحديثة بمخلوق، خلع كلّ الأحذية من على رأسه، ليمعن فـي انتعالنا من أمّ الرّأس حتـّى أخمص القدمين.

ومن حسنات الشـّبكة، أن فتحت لنا قنوات، وإن افتراضيـّة، مع قارّتنا العربيـّة الـّتي حـُرمنا من التـّواصل معها خمسة عقود من الدّمّ والدّمع والدّمار والدّخان. ويطالعنا، فـي "قطاع طولـي فـي الذاكرة"، كلام مخنوق عن دخان: "مشغولاتُ نحاسٍ / وشرائحُ زجاجٍ طوليـّةْ / تشكـِّلُ حولي مكعـَّبَ هواءٍ / مخنوقٍ بدخانِ شمعةٍ / غيرِ موجودةْ" (ف ن).

"مخنوق بدخان شمعة غير موجودة"، وحدها، كافية للتـّدليل على الشـّعر. وأشدّ الـمتعصـّبين لتنظيم الفراهيديّ، لو قرأوا فاطمة ناعوت، لن يتنبـّهوا إلـى غياب الوزن والقافية، لأنّ فـي شعرها شفافيـّة شهيـّة، تفتح أمام القارئ فضاءات قصيـّة، تعتقدها سهلةً إلـى حدّ الـمجانيـّة، وسرعان ما تراها بعيدة الأمداء عـَصـِيـّة. بساطة فـي التـّراكيب والـمفردات، دونما تلاعب أو رسم بالكلمات. وتتهادى القصيدة بانسيابيـّة، دونما لغو وزوائد دوديـّة. أفلا تشفع هذه للشـّاعرة "خطيئة" الكفر بهـُبـَل الوزن ولاَتِ القافية؟!



وتمعن فاطمة ناعوت فـي "خطيئها"، راضية مرضيـّة: "الـمعماريـّون / فـي جلساتِ العـَصـْفِ الذّهنيِّ / يرفضونَ الحلولَ التـّقليديـّة / يفضـّلونَ أن يخلـِّصوا الـمبنى / من وزنـِهِ الذّاتيِّ أصلاً / لا ليسخروا من قانونِ الجذبِ / لا سمح الله / لكن ليبتكروا مجالاتِ خلقٍ جديدةً / تجعلُ الأطفالَ يفرحون" (ف ن). لا تتحدّث عن العمارة، بالـمعنى الـمسطـّح للعبارة. ربـّما عن ثقافة، أو حالة، تحلم فـي التـّأسيس لها، بعيدًا عن "الحلول التـّقليديـّة"، من أجل غد أكثر إشراقـًا وأطفال أكثر فرحـًا وحرّيـّة.

فـي نصوص فاطمة ناعوت، حيث الغلبة للبوح الـمـُصفـَّى على الخطاب والتـّقرير الجافـّين، يتجلـّى الشـّعر بكامل هيبته: "الـّذينَ أحببتـُهم جدًّا / ورحلوا مرّةً / لن تـُفزعـَني مـُجدّدًا / فكرةُ رحيلـِهم" (ف ن). لا تحترف النـّدب، فليس فـي سطورها رائحة لتفجـّع. ولكن، ثمـّة غيوم مثقلة تتهاطل حزنـًا بين السـّطور. وليس لك إلاّ أن تحبّ هذا البوح. وليس لنا أن نسأل: "ماذا يكتب الشـّاعر؟". فلنسأل: "كيف يكتب؟". ومنهم، كما تقول: "كتبَ صفحةً وحيدةً / ثم أوغلَ فـي الـموتِ / والحياة" (ف ن). وبرغم البساطة الظـّاهرة، وربـّما بسببها، يوغل النـّصّ فـي الحياة، ويـُكتب له الخلود. فكلـّما اقتربنا إلـى البوح، دون التـّقرير والخطاب، عانقنا لحظة الشـّعر، حيث السـّطوع داوٍ دونما ضجيج. وتدلـّنا على طريق الحرير إلـى مملكة الشـّعر: "العمياءُ / التي أبصرتْ فجأةً / بعد جراحةٍ مرتبكةٍ / تمـَّتْ على عجلٍ / يناسبُ ارتكابَ الشـِّعرِ / فـي صورتـِهِ المحرَّمةْ" (ف ن).

"العمياء"، قد تكون الشـّاعرةَ نفسها أو أيـّة امرأة، بلادًا أو الكرة الأرضيـّة برمـّتها، عقيدة أو قصيدة، تخرج على القصيدة التـّقليديـّة الـّتي لا ترى العالم إلاّ من خرم إبرة الوزن والقافية. وكأنـّي بفاطمة ناعوت تريد للقصيدة العربيـّة لو قفزت، فـي حينه، مباشرة من العمود إلـى النـّثر. وهذا يشي بإيمانها بالثـّورات الكبرى، لا بإطفاء الحرائق والإصلاحات التـّدريجيـّة. وهل حـَسـْبُ "العمياء" أنـّها أبصرت، و "القراءةُ لا تحتاجُ إلـى عينين / هذا ما تأكـَّد لها / حين أبصرتْ فجأةً / ولم تجدْ كتابًا" (ف ن)؟! لم تجد كتابـًا لأنّ: "جميلات / رتـَّبنَ الكتبَ فوق الرفِّ / ليسكنـَها التـّرابُ / ثمَّ درَّبنَ أصابعـَهنّ على الغناءْ / غيرَ حافلاتٍ بالعباءاتِ الرماديـّةِ الثـّقيلةِ / رديئةِ التوصيلِ للصوتِ / والحياة" (ف ن).



حياة مخنوقة "بدخان شمعة غير موجودة". وبرغم ما ذَوَّتـَتْ رئـتـُنا الوحيدة من دخان، أسمع الصـّحراء تخاطب فلسطين، على لسان فاطمة ناعوت: "ماذا / لو لم نلتقِ أبدًا" (ف ن). غير أنّ شاعرتنا تستدرك: "لا سبيل للرّجوع الآن / الـمعرفة فـي اتـّجاهها / والجهل / فردوس غائب". (ف ن). وكان أن تعرّفت إلـى فاطمة ناعوت فـي فردوس افتراضيّ، فقالت: "لا تدعْ عينيكَ تجولانِ فـي ذاكرتي / على هذا النحوِ الحزينْ / فأنا / لا أجيدُ الاعتذار" (ف ن). وفـي القاهرة، واجهة العرب الثـّقافيـّة والسـّياسيـّة فـي كلّ الفصول، ها أنذا فـي حضرة واحدة من أهمّ الشـّاعرات العربيـّات الـمعاصرات، وسط هذه السـّلالة الجميلة من مثقـّفي مصر النـّبيلة. وكنت قرأتها تقول: "ماذا لو / أتيتني غدًا / لتكنسَ الليلَ الذي / يربضُ تحتَ نافذتي كلَّ صباح" (ف ن). ولن يكنس اللـّيل إلاّ نهار لا يمحو كلام اللـّيل.

آلـمني أن قرأ "قطاع طولـي فـي الذاكرة" دجتاليـًّا. حنين جارف إلـى رائحة الحبر وحفيف الورق كان يحول دون الـمتابعة، إلـى أن طبعت الصـّفحات لأصنع منها شيئـًا شبيهـًا بالكتاب. وقراءة من جديد بدأت. وسمعت الشـّاعرة تقول: "السـّريرُ الـّذي تحوّلَ / بمضي الوقتِ / إلـى مكتبةٍ مرتبكةٍ / لن يجدَ ما يحكيه لأصدقائـِه". (ف ن). وارتبكت قليلاً، فاستوقفني قولها: "الـمقالةُ / لا تحوي سوى بديهياتٍ / ولذلك / أعدتُ قراءتـَها / للمرّةِ الألفْ." (ف ن).

وأعدت القراءة، وتوقـّفت الـمرّةَ عند العنوان: ماذا لو كان "قطاع عرضيّ فـي الذاكرة"؟ وسألت الـمهندسة فـي فاطمة ناعوت عن الفرق هندسيـًّا بين القطاع الطـّولـيّ والقطاع العرضيّ. وجاء الشـّرح مستفيضـًا. ومن أخلاق الأنهار أن تفيض. وقرأتها تقول: "تعلـّمتُ من الرّياضيـّاتِ شيئًا: / الحروفُ تكذبُ دائمًا / أمـّا الأرقامُ / تكذبُ أيضـًا" (ف ن). ولأنّ "الأرقام تكذب"، زوّرت الـمعلومات الهندسيـّة عملةً سوسيولوجيـّة أزعم أنـّي أفهم بعض أبجديـّتها. ورحت "أُخرِجُ لساني / وأتسكـّعُ على ورقةٍ / أُحيلُ فضاءَها / حُروفًا دوائرَ شخبطاتٍ وعلاماتِ تعجـُّب" (ف ن).



وأدهشتني الشـّخبطات. كونها "قطاعـًا طولـيـًّا" يؤكـّد أنـّنا أمام شاعرة صادقة مع ذاتها بالدّرجة الأولـى. وتزداد إصرارًا على الصـّدق لتقول: "أقفُ فـي السـّماءِ كلَّ صبحٍ / أغالبُ الضـّحـِكَ الـّذي / يباغتـُني كلـّما / رمقتُ البشرَ هؤلاء / مرصوصينَ فـي أدراجٍ / على نحوٍ منتظم / ربـّما لأنـّني حتـّى الآن / لم أجدْ دُرجًا / يلملمُ عُريي" (ف ن). وهل أصدق من أن نتعرّى أمام الرّيح؟! والصـّدق مع الذات، بحدّ ذاته، أمر فـي غاية الأهمـّيـّة، سيـّما وأنـّنا أمام نصّ طاعن فـي الصـّدق، يفنـّد الـمقولة التـّراثيـّة القائلة: "أعذب الشـّعر أكذبه". من الـمؤكـّد أنّ صاحب الـمقولة لم يقرأ فاطمة ناعوت تقول: "نكتبُ الشـّعرَ / لأنـّنا / لمْ نتعلـّمْ شيئـًا أفضلَ" (ف ن). أوليس فـي هذه، أيضـًا، جرعة أخرى من الصـّدق؟!

لكنـّها تعلـّمت شيئـًا، وكأنّ لسان حالها يقول: "هرمـَتْ سبـّابتي بين السـّطورْ / غير أنـّي قد تعلـَّمـْتُ الطـّريقـَهْ / أن أربـِّي كلماتي كالصـّقورْ / بين أدغالِ الحقيقـَهْ" (كمال خير بك). وتردف فاطمة ناعوت محذرةً: "لا تلتفتْ للخلفِ / فالأساطيرُ حقيقةٌ / والتـّماثيلُ دليلْ / وأنتَ غادرتَ البحرَ / واخترتَ الطريقْ" (ف ن). وكان أن "انكسرَ طريقُ العودةِ للبيتْ" (ف ن)، فتكتب بحبر لا يلبس ثوب البحر. وتبدأ الحرب.


وفـي غير مطرح، وعلى نحو مغاير، تقول: "يا من تقرأُني الآنَ / لا تصدِّقْ حرفـًا / فكما تعلمُ / الشـّعراءُ كذّابون" (ف ن). تسخر من "أعذب الشـّعر أكذبه". للكذب مستنقعات لا يسبح فيها إلاّ قرّاء السـّطح. وللصـّدق محيطات لا يقوى على ركوبها إلاّ قرّاء الرّوح. ثمـّة حاجة إلـى مقولة جديدة: أعمق الشـّعر أصدقه. وهل أعمق من هذا الصـّدق فـي قول فاطمة ناعوت: "الـمشكلةُ / أنّ القلمَ الـّذي تركتـُه / فوقَ الـمكتبِ منذ شهرٍ / مازالَ هناك" (ف ن). تصرّ عـلى تحريض الـمتلقـّي لـمشاركتها فـي الكتابة. ألم تكتب شيئـًا منذ شهر لأنـّها، لسبب ما، فقدت شهيـّة الكتابة؟! تركت القلم فوق الـمكتب وما زال هناك؟! حسنـًا، العزلة ضرورة للمبدع. إنـّها حقـًّا محنة عندما يتوقـّف الـمبدع عن الكتابة لفترة ما، لا لعدم وجود الحبر والورق، بل لغياب ما يحرّض أو يلهم. وهنا، أيضـًا، يتكشـّف صدق الشـّاعرة مع ذاتها.

ولأنـّها صادقة مع ذاتها، فمن غير الضـّروريّ القول إنـّها صادقة مع متلقـّيها. فالصـّادق مع ذاته، ساعة ممارسة الفعل الإبداعيّ، لا يخطر الـمتلقـّي فـي باله أبدًا، وهيذي فاطمة ناعوت تعترف: "يبدو أنـّي سأنتظرُ طويلاً / حتـّى ألتقطَ موجةً / تناسبُ سمعي" (ف ن). يتبادر للأذن التـّقليديـّة أن ثمـّة غرورًا فـي هذه الـ "تناسب سمعي"، وأرى إليها تفيض عذاباتِ غربةٍ واغتراب. وحقّ للمبدع أن ينتظر متلقيـًّا (قارئـًا / ناقدًا) يناسب نصـّه. وحقّ له، كمتلقٍّ، أن ينتظر نصَّ مبدعٍ آخر يناسب سمعـَه. ولو قلنا مع أنسي الحاج: "الكتابة الـّتي تعي قرّاءها تفسد ذاتها"، نرى كيف لا يخطر على بال الشـّاعرة، ساعة الـمخاض، سوى مهرة حبر حلال.. تخبّ بحرّيـّة فـي سهول الحلم.. وعينها أبدًا على الجبال. وتقول: "أنسكبُ فـي محبرتي / كلَّ ليلٍ / ثمّ أخرجُ عصفورًا / يتعلمُّ البداهات" (ف ن).



والشـّعراء عصافير، فلا بدّ من فضاء. وتقول فاطمة ناعوت: "قصفَ قلمي / وصالحني / بدفاترَ بيضاء" (ف ن). وماذا ستنفعها الدّفاتر البيضاء وقلمها مكسور؟! لا ينطبق هذا على تعامل الرّجل مع الـمرأة فحسب. يمكن تطبيقه على العلاقة بين دولة عظمى متغطرسة وأمـّة مستضعفة، بين مدرّس "دقـّة قديمة" وتلميذ شقيّ، بين ناقد أصالـَوِيّ وشاعر حداثـَوِيّ. وكان "الإنشائيونَ / استحدثوا طرائقَ مبتكرةً / الشـّدُّ من أعلى / بأسلاكٍ معلـّقةٍ إلـى السـّماءِ / أو بناءُ حوائطَ ساندةٍ / تحولُ دون مصبـّاتِ الـمياه" (ف ن).

وبرغم ما جرى من مياه، فليسمح لـي بألحوظة (لا تفسـّر ماءً) حول قصيدة النـّثر، سيـّما وأنـّنا فـي حضرة واحدة من أجمل شاعراتها، وأكاد أقول "أميرتها" لولا الخوف من تهمة التـّملـّق. نقول بالتـّعدّديـّة فـي الاجتماع والسـّياسة، ونرفضها فـي الفنّ والثـّقافة. نناضل من أجل الدّمقراطيـّة على صعيد الحقوق الـمدنيـّة، ونقاتل لـمنعها على صعيد الحرّيـّات الإبداعيـّة. أعداء قصيدة النـّثر هم، لا شكّ، أعداء للشـّمس والحرّيـّة. فليـُسدل السـّتار، إذن، على النـّقاش الـمملّ حول شرعيـّة قصيدة النـّثر العربيـّة ومشروعيـّتها. وأطرف ما سمعت: أن يـُعزى تأخـّرنا كأمـّة إلـى قصيدة النـّثر وغير مستجدّات وافدة من وراء البحار. وعجيب كيف لا يـُعزى هذا التـّأخـّر إلـى رؤوس ورؤوس أموال وآمال هجـَّرها ما هجـَّرها إلـى ما وراء البحار. قصيدة النـّثر متمأسسة فـي ثقافتنا العربيـّة، ولا حاجة بعد لإهراق الـمزيد من الحبر للدّفاع عن حقـّها فـي التـّنفـّس بحرّيـّة. وهل تسقط خشبة من السـّماء لو خرج هذا أو ذاك على الطـّقوس والإشارات الفراهيديـّة؟!

ولنسمع الـّتي "فرّ الخليل من محبرتها" تقول: "أمـّا نظارتي / سوف تشي بكلِّ ما قرأتْ / وكلِّ ما لمْ تكتبْ" (ف ن)؟! ما أصدق نظـّارتها وما أعمق نظرتها. لا "تشي بكلّ ما قرأت" فقط، بل "وكلّ ما لم تكتب" أيضـًا. قلبها وقلمها واحد لا يتجزّأ، وفـي هذا قمـّة الصـّدق مع الذات، قبل أن يكون مع الآخر. فليكتب من يشاء ما يشاء، وليتخيـّر لنفسه الرّيح الـّتي تريح القلق الـّذي يعيش. ولكن، لنتذكـّر مع شاعرتنا: "يا فتى / نقوشُك على جـُدُرِ الـمعبدِ / شكـّلت قصائدَ / لا تحملُ ملامحي" (ف ن).



لو كان العنوان "قطاع عرضيّ فـي الذاكرة"، لـما توقـّفت عند مسألة الصـّدق مع الذات. فـي العرضيّ شيء من الإخفاء أو التـّجميل. ويحضرني كمال خير بك قائلاً: "التـّطرّف كلّ الحقيقة والاعتدال نصف الباطل". وفاطمة ناعوت متطرّفة، لا فـي حبرها فقط، وفـي ذلك كلّ الحقيقة. وتقول: "ربما واتـتـني الشـّجاعةُ يومًا / ونفضتُ فوق رأسـِكَ / ذاكرتي كلَّها" (ف ن). ومن يقول ذلك؟! امرأة عربيـّة شجاعة. ولـمن؟! للرجل العربيّ. وأين؟! فـي مجتمع ذكوري متشدّدّ. أوليس مجرّد القول، فـي هكذا ظرف، تطرّفـًا؟! وفـي التـّطرّف كلّ الحقيقة. أمـّا الـمعتدلون، فأنصاف باطلين، أو عاطلين عن الحلم. والحلم أصدق إنباءً من العلم. وتحلم فاطمة ناعوت: "الأرقُ الجميلْ، / وحـُلـُمٌ / أن أغدو راهبةً / لولا كراهةَ الرماديِّ" (ف ن). نحتت "كراهة" على وزن "محبـّة". وأقول "على وزن"، لأنّ شكلاً من أشكال الإيقاع ما زال يعشـّش فـي الذاكرة. ومن قال إنّ شعراء النـّثر ضدّ الإيقاع؟! "نـَثـَرْنا البهجةَ فوقَ ملابسـِنا البيضاءْ / ثمَّ مـَضينا / نحملُ صناديقـَنا الـمـُجـْهـَدَةَ / نـَجوبُ الـمـُدُنَ / تستوقفـُنا الـميادينُ ذاهلةً" (ف ن).

لكنـّنا "لن نعبأَ بـِهم / ولا / بإيماءاتـِهم الـماكرةِ / إذا ما التقـُونا عـَرَضًا / على السـُّلـَّم" (ف ن)، لأنّ فـي "القطاع العرضيّ"، مظاهر استعراض يخفون تحتها جوانب حميميـّة لا يكشفونها للذات، فكيف بهم يكشفونها أمام الآخر، سيـّما ويلذ للآخر التـّلصـّص على الأشياء الخصوصيـّة. وفاطمة ناعوت تتبرّم بالتـّلصـّص على طريقتها: "إلـى متى / تتركُ عبثَ أغنياتـِكَ / يتلصـّصُ عبرَ شقوقي / يشدُّ الوحدةَ من جدائـِلـِها / نحوَ مغفرتي؟" (ف ن).

ومن يغفر لنا لو كتبنا ونحن خائفون من ظلـّنا؟! ومهما جاهدنا، نظلّ عاديـّين. ولن تنفع معنا موعظة نزار قبـّاني: "إذا أردْتَ أن تكونَ شاعرًا مختلفَ الـملامحْ / وفاتكـًا وجارحْ / فاخرُجْ على غرائزِ القطيعْ". وخرجت فاطمة ناعوت على غرائز القطيع، ليس فـي تخيـّرها قصيدة النـّثر وسيلة فحسب، بل فـي إعمال مشرط حبرها فـي جسد ذاكرتها الزّمكانيـّة بجرأة مدهشة. وتقول: "أصواتـُنا الجديدةُ / أيقظتِ السـّريرَ الصـّامتَ / فانتبهَ إلـى الخدعةِ / ظلَّ يرمقُ الردهةَ البعيدةَ، / ثم انطوى مـطرِقـًا على نظافتـِه الـمـُزمنةْ" (ف ن). أصوات جديدة توقظ السـّرير الصـّامت من نومه، العميق ربـّما. أصوات الشـّعراء الشـّباب، بنشاطهم وتوثـّبهم، تقلق راحة جيل قديم لا يستطيع مجاراة الدّم الجديد، فينطوي هذا على نظافة مزمنة. ولـماذا نظافة ومزمنة؟! لا تـُمارس على "السـّرير" أيـّة عمليـّة إبداعيـّة، فيبقى نظيفـًا. وقبل أن يدمن عادة "النـّظافة الـمزمنة"، كان لا يكشف لنا إلاّ ما يحلو له، لأنّ ضغوطـًا أو تـَابـُوَاتٍ تمسكه عن أن يطفر إلـى الشـّمس بجوّانيـّته الـمعتمة.



ويطلع على العتمة نهار صوت جديد يقول على لسان فاطمة ناعوت: "تظلُّ الفكرةُ تطلُّ برأسِها / محضَ ذاكرةٍ جافةٍ / كلما راودَها البصرُ / تسكبُ ظلـَّينِ واقفيـْن / فـي عتمةِ ردهةٍ مبهورةِ الأنفاسِ / صامتة" (ف ن). وللصـّمت ضجيج لا يفقه كنهـَه إلاّ من نذروا حبرهم للصـّدق. وأمام عمل شعريٍّ صادق، من أبرز سماته عند فاطمة ناعوت التـّكثيف والتـّقطير، "لابدَّ من فواصلِ هبوطٍ وتمدّدٍ / لجدارٍ بهذا الطـُّولِ / والصـّمتْ" (ف ن). وحريّ أن نصمت، لأنّ فاطمة ناعوت اسم من أسماء الشـّعر الحسنى.



تركي عامر
"معرض القاهرة الدولي الـ 36 للكتاب"
الأربعاء ، 28 كانون الثاني (يناير) 2004



من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل