موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
سنتيمتر واحد بين المطلق والواقع
قراءة في ديوان
"على بعد سنتيمتر واحد من الأرض"
للشاعرة فاطمة ناعوت
بقلم: علي شوك
بداية تقف قصيدة النثر بين مؤيد ورافض لها ولأنني لا أرى مغزى حقيقيا لرفض لون من الإبداع لمجرد إطلاق تسمية ما أو لمجرد تمرد على ألوان من الإبداع لم تعد قادرة على استيعاب اللحظات المعاشة.
وقصيدة النثر التي نطالعها الآن عند الشاعرة المتألقة فاطمة ناعوت تؤكد بشكل أو بآخر ضرورة هذا اللون من الإبداع، فهي تغوص في مفردات الحياة اليومية تنحدر إلى الأرض كثيرا وتحلق بعيدا عن الأرض غير أنه في أغلب قصائد الديوان تنتصر الجاذبية الأرضية وفي قليل منها تنفلت إلى الفضاء الرحب. "ولا ضير من بعض الخيال". وفاطمة ناعوت في قصائدها استطاعت أن تؤكد ضرورة وأهمية قصيدة النثر فلقد أصبحت كما يقول د. صلاح فضل "راية الشباب الثائر على الأعراف".
القصيدة هنا استطاعت أن تخلق لغة شعرية خاصة، لغة قادرة على الجدة والحداثة والجرأة التشكيلية، كما استطاعت أن تطرح بنية إيقاعية خاصة، حركية، فاعلة، مما يشي بوجود تناغم داخلي ،وكأنك أمام إيقاع تحدثه شكل القصيدة بالإضافة للإيقاع الداخلي، مما يؤكد حركية قصيدة النثر في مواجهة سكونية القصيدة العمودية، وبقراءة متأنية للقصيدة عند فاطمة ناعوت نلمح عدة محاور أساسية:
أولا، الإيقاع:
يعتمد الإيقاع الشعري هنا على عدة أشكال إيقاعية: تعدد المقاطع تقرأ عدة حالات داخل القصيدة الواحدة، كل حالة تعطي إيقاعها الخاص بها وإن كان هناك خطأ واحد كليا للقصيدة الواحدة. ونقرأ معاً:
"قياس خاطئ في الألفية الثالثة":
"وماذا عن رحلة الجنوب تلك التي ..... لم يتوقف قطارها أبداً؟"
نتأمل معا هذا الإيقاع الحسي ثم ننتقل إلى المقطع التالي:
"لم تكن فيرامينا داثا إذن معزوفة تاسعةً بل استنسخ بيتهوفن حدائي ليعزف مزيداً من العبث."
هكذا تنتقل الشاعرة من حالة جزئية إلى أخرى مختلفة، وتتلاقى ربما وربما لا تتلاقى. ونقرأ معاً حتى أن النهاية الأسطورية ليس من مكان لها سوى في خيال روائي ثمل، أو في الحب في زمن الكوليرا. هكذا تتجول بنا فاطمة ناعوت خلال ديوانها العبقري بين إيقاعات متعددة وإيقاع واحد يحمل نفساً طويلاً متعباً نقرأ معاً "في الطريق إلى هناك"، هذا النفق بما يحمل من حالة من اللهاث والنفس الذي يظل يشهق ويزفر جرياً وراء حالة واحدة متدفقة:
"ما جدوى أن أنظر داخلي كل مساء لأتأكد أني لم أكذب اليوم ؟ مع أني أعلم أن النافذة تلك أكثر صدقاً بالتأكيد".
إلى آخر القصيدة. وتتكرر الحالات المتباينة من إيقاع القصيدة عند الشاعرة في مختلف قصائد الديوان.
ثانياً، الرؤية والبعد الدلالي:
ما دامت اللغة هي المادة الأولية لبناء أي عمل إبداعي هي التي نؤسس للتشكيل الجمالي لأي عمل شعرًا كان أو نثرا،وقصيدة النثر التي تقدمها الشاعرة هنا بلغة دالة متشابكة متعددة ومتغيرة أيضا، أقول أن لغة القصيدة هنا لغة مانحة وقادرة على التواصل مع المؤرقات الحياتية وقادرة أيضا على مواجهة الحياة السريعة التغير، وقصيدة فاطمة ناعوت تحمل قدراً من التساؤلات الفلسفية، ليست في المطلق بل هي فلسفة مشتقة من الواقع والمعاش، هكذا تؤكد القصيدة التي أمامنا الآن بعداً حداثياً جديداً. نقرأ معاً "من الجائز جداً"، ذلك العنوان الذي أراه جزءًا لا يتجزأ من القصيدة، فنقرأ معاً:
"من الجائز جدا أن نحزن بلا إغراق فقط لنجرب ما نقرأه في قصص الحب القديمة نبكي ـ قليلاً ـ على ذاكرة مذبوحة ثم نستغرق في نوم هادئ تسع ساعات على الأقل بعد أن نتأكد أن رنين الهاتف لن يزعجنا طوال الليل".
"من الجائز جداً"، هكذا تدور القصيدة بلغة الجملة الاستهلالية الدالة "من الجائز جدًا".
ثالثاً، الرجل / الأخر:
نقرأ في قصيدة "حتى المستحيل":
"كيف غفلت لسنوات أني فشلت في أداء دوري كأرجوحة تسعد الأطفال كانت حبالي معلقة بالسماء فاختل عزم الحركة ودارت حول محورها دورة الموت".
هاهي تشير لحالة من الفشل الحياتي بمقياس الرجل الشرقي. كما نقرأ في قصيدة "فلتكن إذن رقصتنا الأخيرة":
"حسناً فلتكن إذن رقصتنا الأخيرة لكني لن أعدك بالتألق".
وتشير هنا أيضاً لتأكيد انفصالها عن الواقع المزيف والفج، قد تتعامل مع مفردات هذا الواقع، إلا أنه تعامل أدائي فقط، غير مبدع أو متألق. وفي قصيدة أيديولوجيا تتهكم على الحياة الروتينية. وتتكرر هذه الموتيفات في أكثر من قصيدة بدلالات متعددة وصدق عبقري.
رابعًا، البنت / الشاعرة:
نقرأ:
"البنت التي أسلمت روحها لعنكبوت ذي ثمانية أذرع وعين واحدة".
كما تقرأ:
"أطفئي النور إذن أيتها البنت الجميلة".
ونقرأ:
"أيتها الجنيات الطيبات احكين عن البنت الصغيرة غير تلك الدموع التي أظل ليلاً كاملاً أغسل بقاياها بأجود أنواع الصابون الفرنسي وأنا أستدعي صورة امرأة ماكبث."
هي البنت / المرأة / الشاعرة... كلما حاولت التحيلق بعيداً عن الأرض، تشدها الأرض، وتظل هكذا في فضاء لا يتسع إلا لمساحة سنتيمتر واحد من الأرض. بلغة دالة ورؤى تتميز بالعمق والبعد تقدم فاطمة ناعوت ديواناً يعد إضافة حقيقية للإبداع العربي شعره ونثره.
هامش:
من الملفت، بعيداً عن النقد الإحصائي، غرام الشاعرة بالأرقام، فمنذ العنوان: "واحد، خمسة، سبعة، تسعة، عشرة...."، هكذا في أغلب قصائد الديوان بينما يظل رقم "ثلاثة" ومشتقاته في أكثر من عشرة قصائد تقريباً..... والمعني لا يغيب عنا. وتحية جميلة لشاعرة متألقة وستظل دائماً غاية في التألق.

|
|