موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت

مجلّة "الوفاق" التّونسيّة
تلتقي الشاعرة فاطمة ناعوت


حاورها: محمد الشاذلي

- حدثينا عن بداياتك الشعرية ، أنتِ بدأتِ بكتابة الشعر التفعيلي، أليس كذلك ؟ وكيف ولماذا انتقلتِ للمدرسة ما بعد الحداثية وقصيدة النثر ؟

- في الواقع أني لم أبدا بالكتابة التفعيلية بل كانت بداياتي الشعرية كلاسيكية كمعظم مجايلي فقد عشقت الشعر الجاهلي وكذا شعر المهجر وجماعة أبولو وكذلك في الأدب الإنجليزي كانت قراءاتي الأولى تندرج تحت خَيمة المحافظين فبدأت بشكسبير وأوسكار وايلد هذا عن استقبالي للشعر كقارئة ومتلقية أما كمرسلة وكاتبة فقد أحببتُ جدًّا عِلمَ العَروض الخليليّ لأنه يخفى داخل عباءته شيئًا من المعادلاتِ الرياضية – التي أعشقها – وكنت أكتب باستمتاع شديد وكأنني أتعامل مع قوانينَ فيزيقيةٍ تحملُ طابعًا أسطوريًا شاعريًا وأرجو ألا يُصدم قارئي من منهجِ الجمعِ بين عِلمِ الرياضياتِ والشعرِ وهما ظاهريًا نقيضان ولكني في الواقع لا أرى أن الرياضيات تتناقضُ مع أيِّ علمٍ أو فنٍّ تطبيقيًا كان أو تجريديًا والدليل على ذلك مثلا أن الفلاسفةَ الإغريق كانوا علماءَ رياضياتٍ في الأساس , ولو لمْ يمتلكوا تلك الذهنيةَ الرياضيةَ ما أنتجوا فلسفةً أو فكرًا، ما أقصده هنا أن الرياضيات ليست علمًا بقدرِ ما هي تركيبة ذهنية خاصة تسمح بتناولِ المجرداتِ والموجوداتِ بزاويةِ التقاطِ شديدةِ التفرد ولذا لن ترى عِلمًا أو فنًّا يخلو من رؤيةٍ معادليةٍ رياضية ولذلك بدأت بالكتابةِ الخليلية ونظمت قصائدي على معظم البحور الستة عشر كان هذا في بداية مرحلتي الثانوية ومع نهاية فترة الجامعة بدأت في كتابةِ الشعرِ الحرِّ أو التفعيليّ و الذي لم أتوقف عنده طويلا أما عن انتقالي إلى موكبِ قصيدةِ النثر فله أسباب أظن أن لها علاقة لا بالأجواءِ المحيطةِ والتيارات السائدة وقتها بقدر من كونها نابعةً في الأساسِ من تركيبتي الذهنية أولا ودراستي للهندسة ثانيا ويمكنني أن أقلصَّ تلك الأسباب تحت ثلاثة محاور.
الأول : إحساسي الدائمُ بأني لن أضيفَ للمنجزِ الشعريّ شيئًا ذا بال فقد قال عنترة بن شداد قبل ألفٍ وخمسمائة عام
هل غادرَ الشعراءُ من متردِّم .... أم هل عرفتَ الدار بعد توهمِ
فمهما أتى الشعراءُ بجديدٍ من فِكَرٍ وصياغاتٍ وصورٍ جديدة مدهشةٍ فكلّهم في النهاية يتدثرون بالقالَبِ ذاتِه و الإيقاعِ نفسِه الأمرُ الذي أشعرني بأني أسيرُ في موكبٍ لا يخصُّني وحدي وأني في غير منأى عن الوقوعِ في فخِّ التقليد
أمّا الأمر الثاني فهو قلقي الدائم من توقع القافية من قِبَل المتلقي .... فيكفي أن تقرأَ علي أحدهم قصيدةً عموديةً بعد حذفِ كلِّ قوافيها ماعدا قافيةَ البيتِ الأولِ ليقومَ الحاسوبُ الدماغِّي عند المستمع بالتنبؤِ بباقي القوافي ... أما عن احتمالاتِ الخطأِ والصوابِ فهي نسبةٌ تغري المرءَ بإعادة حساباتِه من جديد والتفكيرِ بأن الشكلَ العموديَّ قد استنفذَ طاقاتِه كلَّها – هذا وان كنت لا أخفي أني مازلت أستمتعُ بقراءةِ وسماعِ الشعرِ الكلاسيكي من وقت لآخر فقد تشكل مكَّوني المعرفي عليه بل أزعمُ أني متعصبةٌ قليلاً فيما يخصُّ فنَّ الغناءِ فأنا لا أستمعُ إلا للقصائدِ الفصحى فقط أيّا كان المؤدي ولا أستثني أحدًا إلا فيروز والتي أعتبرُ صوتَها وحدَه موسيقى كاملة.. ولذا فيمكنني أن أصنف نفسي قارئا محافظًا وكاتبًا حداثيًا ولا أرى في الأمر ثمة تناقض إذ أن النداء بهجر التراث ومحوه من الذاكرة العربية جريمة خائبة ،وألخص قولي السابق في أني عندما ألبس عباءة الشاعر أعيش عصري الراهن وعندما ألبس عباءة القارئ أستدعى زمن كتابة ما أقرأ حتى أعايشه وأستمتع به.
الأمر الثالث هو إحساسي بأنني مازلتُ لا أكتبُ ما أريد ، فللشكل العموديّ ثقلُه التاريخيّ على ذاكرةِ الشاعر ،و مخزوننا الثقافي مشحونٌ بالتراث الجاهز والذّي يمثل ذاكرةً استدعائية جاهزة الحضور تعطي نفسها بسهولة وبشكل شبه أوتوماتيكي مما يمثل عبئًا على المبدع في محاولة الفرار من أسرها الأمر الذي يهدم فكرة التلقائية والفطرة في الكتابة وهو الأمر الذي يناقض تمامًا حركتي الإبداعية ومنهجي الكتابيّ والذي يتسم أشد ما يتسم بالبعد عن الصنعة والتكلف و هجر الزخرف اللغوي والنتوءات غير الضرورية كما أن رتابة موسيقاه وقوافيه تعطي الانطباعَ بأنها تنتمي إلى زمنٍ لا يخصُّني وكان اندهاشي الدائمُ وقتَ أقرأُ القصيدةَ الأجنبيةَ سواءَ بلغتِها أو مترجمةً أن رصدت تحررهم التام من الجمودِ الهيكليّ الذي قدسناه دهورًا وثاروا على النمطيةِ والتماثل اللذين عشقناهما.

- ما مدى انعكاس دراستك وعملك كمهندسة معمارية على كتاباتك ؟

- كان لكوني مهندسة معمارية انعكاسٌ على تغييرِ منهجيات كتابتي فقد تزامنَ هذا الاستقراءُ البنائيُّ والرصديّ للقصيدة محليًا وعربيًا وعالميًا مع دراستي بالجامعة لنظرياتِ العمارةِ في العالمِ كلِّه حيث وجدتُ المنهجياتِ كلَّها تنادي بهدمِ الأطُرِ وكسرِ التوقعِ في الواجهات والتصميمات الهندسية بل وتفكيكِ الموجوداتِ و إعادةِ بنائِها على نحوٍ يشي باللاتزان وهدم المسلَّمات الموروثة من قِبل المدارس الكلاسيكية القوطية والقبطية والإسلامية وغيرهاعلى يد رواد العمارة الحداثيين أمثال ميز فان ديروو ولو كوربوازيه ثم تلاهم ما بعد الحداثيين حتى أن أساتذتنا بكلية الهندسة كانوا يعاتبون الطالبَ الذي يأتي بواجهةٍ أو مسقطٍ أفقيّ يحمل فلسفةَ التماثلِ أو الsymetry أو التكرار النمطي monotonyبل شجعونا على الإتيان بكل هادمٍ للمألوف وكلِّ مخيِّبٍ للتوقع و أحبُّ أن ألمحَ هنا أن الريادة في ال post-modernism أو ما بعد الحداثة كانت لفنِّ العمارةِ تحديدًا – باعتبارها أم الفنون - ثم تبنته باقي الفنون...العمارةُ شأنها شأنُ كل فنٍّ هي كائنٌ حي ينمو ويتحرك ويتطور وإلا تحلل في بياتٍ دهريِّ لا مبرر له .. أذكر أن أحد اختبارات الشهر لنا في الكلية كان تصورًا لبوابة جهنم وكيف من الممكن أن نحطمَّ كلَّ مخزونِنا المعرفيّ لفن العمارة والفن التشكيلي بل ولمعادلاتِ الاتزانِ ذاتِها لإنجاز مشروعٍ كهذا ونسيان كل القديم لنخلق جوٍ من التشحيذ الذهني أو كما نطلق عليه معماريًا Brain Storming....فالجمالُ المعماريّ والتشكيلي إذن لم يعد في الاتزان بل في الخروجِ عليه... باختصار وجدتُ العالمَ يجنحُ للثورةِ على كل جامدٍ وينادي بمزيد من التحررِ الفكريّ من الرواسخ التي سلبتْ تحليقنا الذهني قرونًا وهنا قفزَ السؤالُ البديهي إلى ذهني " أين نحن من هذا ؟" ولماذا نظلُّ نستقبلُ فلسفاتِ الغربِ وقتَ يبدأون في نسفِها ؟


- ما مدى استفادتك من دراسة الهندسة المعمارية في بناء قصيدتك ؟

- أن فكرةَ البناءِ في الكونِ واحدةٌ :الكتلة والفراغ ،ومدى اللَّعبِ بهما لخلق الوظيفةِ والجمال ... إذن أصبح لدينا أربعة عناصر سببان ونتيجتان والمبدع هنا – سواء كان معماريًا أو شاعرًا – هو من يجيد اللَّعب بأدواتِه ليتصالحَ مع العالَمِ ويخلقَ فنًّا وهنا أقولُ أن القصيدةَ الصماءَ المكتملةَ التكوينِ والشارحةَ نفسَها بنفسِها كالمبنى المصمتِ الخالي من الشرفات لا يُدخل الضوءَ أو الهواءَ فلابد من وجودِ فجواتٍ دلاليةٍ بالنصِّ تسمح للقارئ بالدخول داخل النصِّ والتفاعلِ معه بمفاتيحَ ذكيةٍ يلقيها له الشاعر هنا وهناك فيلتقطها القارئ المدرَّب ويتعامل مع الأبوابِ المغلقةِ في القصيدة ، قارئ قصيدة النثر هو قارئ ذكيٌّ نَشِطٌ فاعلٌ في الإبداعِ ومرتكبٌ للشعرِ تمامًا ككاتبِه يختلفُ تمامًا عن القارئ التقليديِّ الكسول الذي يتلقى الفنَّ على نحوٍ مجانيِّ بلا أدنى مشاركة فيه سوى القراءة المسترخية .... يجب أن يكون النصُّ مصارعًا لذهنِ المتلقي يستفزه للتفاعلِ والتفكيرِ ليلمسَ بأناملِه حالةَ الذاتِ الشاعرةِ لحظةَ انشطارِها وإمساكِها بالقلمِ للكتابة.

- اشتركتِ في ندوة عٌقدت باتحاد كتّاب مصر أخيرًا حول " قصيدة النثر وهل هي شعرٌ ناقص ؟ "، وقدمتِ شهادةً كان لها صدىً واسع في المؤسسة الثقافية بمصر والوطن العربي ، حدثينا عن ذلك

- مشاركتي في ندوة اتحاد الكتّاب لا تعنى سوى ابتسامة دهشة كبيرة للعنوانِ شديدِ الاستفزازِ والخالي من أدنى منطقٍ لغوي أو دلاليِّ إذ أن وجودَ الشعرِ الناقصِ يستتبعُ بالضرورةِ وجودِ شعرٍ كاملٍ وقد ذهبت تلك الندوة لأبحثَ عن هذا الشعر الكامل ! فضلا عن غرابة فرضية وجود الكمال أصلا فوق هذا الكوكب ،وكان شرف تواجدي بين رموز الفكر والشعر والنقد أمثال أساتذتي د. محمد عبد المطلب , حلمى سالم، د.محمد بدوي ، فريد أبو سعدة, د.صلاح السروي , د. رفعت سلام و د. محمد بدوي,وغيرهم ومجرد اتاحة الفرصة لي لسماع تلك العقول سببًا كافيًا للمشاركة والإدلاء بشهادتي.

- حدثينا عن تجربتك مع النشر

- أ تجربتي مع النشر لا تخلو من طرافة في واقع الأمر ،فكما قدمت أنا أكتب الشعر منذ المرحلة الثانوية وسرعان ما اكتسبت أذني الحساسة الموسيقية التي من شأنها نظم قصيدةٍ منضبطةٍ على بحرٍ معينٍ ولكنني لم تستهوِني أبدًا فكرةُ نشر إبداعي ربما لأنني كنت أنظرُ للشعرِ باعتباره تجربة شديدة الخصوصية لا يجوز اطلاعُ أحدٍ عليها وربما بسبب دراستي المرهقة بالهندسة مما لم يتح لي التفكير في النشر تلا ذلك انخراطي في العمل الهندسي في أحد أكبر المكاتب الاستشارية بمصر والذي أتستغرق معظم السنوات الماضية حتى سافرت الرياض والتي تحظر العمل في الهندسة على النساء فوجدت الفسحة التي أتاحت لي تأمل ذاتي والمحيطاتِ بشكلٍ أكثرَ هدوءًا وهنا كانت لحظة تفكيري في نشرِ ما أكتب و قدمت ديواني الأول لهيئة الكتاب وقرأته د. سهير المصادفة الشاعرة الجميلة والإنسان الأجمل وتحمستْ جدًّا لتجربتي وأنا أدينُ لها بهذا الفضل وكان من المفترض أن يصدر هذا الديوان في نهاية العام الماضي وتأخرَ لأسبابٍ إدارية وكنت أعدُّ ديواني الآخر "على بُعد سنتيمترَ واحدٍ من الأرض"في دار ميريت ليصدر في منتصف هذا العام و هذا ما سبب صدورَ الديوانين في توقيتٍ واحدٍ على غير ما كنت أخطط ... وعن نشري القادم فقد أتممت ديوانًا بالإنجليزية سأجعله فاصلا بين ديوانيِّ الثاني والثالث ولم أفكرْ بعد في دار النشر التي سأقدمه له..

- كتبتِ إهداءك على ديوانيكِ بشكلٍ فريد غير مسبوق ،في ديوانك الأول " نقرة إصبع" كان الإهداء لوالدتك و زوجك وأولادك وفي ديوانك الثاني "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض " كان الإهداء لوالدك ، حدثينا .

- إهداء الكتاب هو المأزق الكوميدي الذي يقع فيه كل كاتب ... فأنت ككاتب مطالبٌ دومًا بدفعِ ضريبةِ محبتِّك للمحيطين ومحبتهم لك وهنا تكمنُ المشكلة لمن تهدي كلماتك ... أهديت ديواني الأول لأمي والتي هي بحقٍ إنسان مثقف وجميل خلقت مني ومن أخي - وهو أستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس الآن – قارئيْن نهميْن منذ الصغر وحاصرتْنا بجوٍ من المذاكرةِ والقراءةِ لدرجة أننا لم نر الحياة ذاتها وأعترف الآن أن إهدائي لها لم يخلُ من عتابٍ رقيقٍ ظاهره التقديس لشخص أمي التي أودعتني بين دفتيّ كتاب وأغلقته فماذا كان يضيرها لو واربت ورقاتِه قليلاً فقط لأرى ضوءَ الشمسِ ولكنني الآن وكأمٍّ أرى أنها فعلت ما كان من وجهة نظرها الخير الكامل .. أما عن زوجي المعماري اللامع نبيل شحاته فهو ذلك الرجل شديد الرقيّ واسعُ الأفقِ المحبُّ لزوجته و لجوهر الفنِّ على اختلاف دروبه والذي أتاحَ لي فرصةَ الكتابةِ كما أتاحَ لي قبلها فرصةَ التفّوقِ في العمارة فهو أستاذي و صديقي قبل أن يصبح زوجي و لا أوفيه شكرًا .
وديواني الثاني أفردته لأبي لأنه لا يملك أن يعاتبني إذ لم أهدِ له الأول لأنه ببساطة في رفقةِ الأعلى وأبي هو صانعُ دوجمتى الذهنيةِ الباحثةِ عن الحقيقة بلا طائل وهو من أصَّل بي عشقَ الدياناتِ السماويةِ والنظرةَ المجردةَ لفكرةِ الخلقِ والخالق ، فحفظه للقرآنِ كاملاً لم يمنعه من النهلِ من الديانات الأخرى قراءةً وبحثًا.

- حدثينا عن كتابتك الشعر بالإنجليزية .

- أكتب الشعر الإنجليزي منذ الطفولة وسيصدر ديوان قريبا عن هيئة الكتاب المصرية بعنوان Before The School Shoe Got Tight

- تجربتك مع الغربة عن الوطن ، حدثينا عنها

غربتي الإنسانية ملازمة لي في كل مكان ولا يخلو إنسانٌ من غربة وسط الجمع أمّا غربتي المكانية فهي المنفى الاختياري الجميل الذي أدين له بمنحى وقتًا للتأملِ وإعادة ترتيبِ الأوراقِ واستقراءِ البداهاتِ بعينٍ جديدةٍ تعرفُ كيف تندهشُ من جديد.





من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل