موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت

المغربيّ ياسين عدنان
يرسم سردَه التشكيليّ باللّون
بقلم:
فاطمة ناعــوت




مونولوجٌ ذهنيٌّ خاطفٌ أو ممتد. إحدى أدوات المبدعِ للغوص داخل الذات واقتناص الفكرة واستحضارها إلى وعي المتلقي لتمثِّلَ نقطة انطلاق للولوج في متن التجربة.عالجها المبدعون على طرائق عدّة مثل جوقة المسرح التقليدي، أو الراوي العليم في السرد، أو اللقطات الخاطفة في مجالات الإبداع البصري، أو موسيقى الخلفية في الكونشرتو وفي مقطوعات الباليه، إلى آخر أدوات المبدع التي تذخر بها جعبته. وفي مجال الإبداع المكتوب نجدها تتنوع على خط الزمن بين طولٍ وقِصَر حسْب مقتضيات التجربة وحسب رؤية المبدع. فمنها ذاك النوع الذي يمتد عمرًا كاملا ليحكي تاريخ كائنٍ بشريٍّ من لحظة الوجود وحتى لحظة الاكتفاء والرحيل، و منها ما قد يستغرق جزءًا يسيرًا من الثانية، فيمرُّ بالذهن مرَّ ومضةٍ خاطفةٍ لكن مشحونة ومكثفة بالحكايا والرؤى، بل والتحليل وقراءة الماوراء، فتبدو كمثل زخّةِ نورٍ تهبُها السماءُ للاوعي فتومضُ في العقل لحظةً واحدة على نحوٍ مباغت ثم تغيب بعد أن تحقنَ الوعي بشحنة شديدة التكثيف من الرؤيا أو الرؤية. هذا النوع الأخير من الحديث الذهن-ذاتي، كان أحد أبطال أو أدوات المغربيّ ياسين عدنان في مجموعته القصصية الأولى "من يصدق الرسائلَ؟" الصادرة عن دار ميريت بالقاهرة. في مقاربة هذا العمل، نرصد مثل هذا الحديث البارق في القصة الأولى بالمجموعة "ثرثرةٌ بالأبيض فقط". وللأبيض كما نعلم دلالات عدّة منها ما هو محمولٌ في متن المفردة وراسخ في معجم اصطلاحنا الجمعي مثل النقاء والطهر، سواء امتلاك هذا الطهر أو حتى افتقاده والمحاولة السيزيفية الدءوب للبحث عنه ومطاردته في غابات الذات المشتجرة لاقتناصه في حياة مضمخة بالتلوث والخطيئة، ومنها ما قد تحمله مفردة "البياض" من دلالة تشي بسكون الآخر وصمته صمتا حتميا مصنوعا بالقوة وبالفعل لا عن عدم اكتراث بالآخر والرد والتفاعل معه، لكن ببساطة لأن الحوار أحاديٌّ ذاتيٌّ غير مفعّل سوى في ذهن المحاوِر الصامت ولم يتحول بعد إلى كلمات منطوقة ومسموعة يمكن التفاعل معها فضلا عن الرد عليها. ولأن الشاعر عدنان يحاول، مثلما تقتضي الحداثة، أن ينفلتَ من أسر المجاز التقليدي الكاشف والدلالات المجانية المستهلكة، نجده وقد ارتكبَ لُعبة الشعرِ هنا، يشدُّ المجازَ من عنقه التراثي المعرفيّ التجريديّ إلى حيّز الملموس المُدرك عبر حواس المرء الخمس، فيشير ببراءة، لا تخلو من مكرٍ، إلى أن "الأبيض الشريف" هو محض لونٍ يميّز لونَ الملابس الداخلية لإحدى الساقطات التي تستعمرها ثورةٌ ذاتية على نفسها وعلى المجتمع فتطمح في اعتناق الطهارة ولو ملبسًا وعلى نحوٍ جوهريّ لا ادعاءَ فيه حيث "أبيضها" لها وحدها في الداخل لا يراه سواها. وعلى هذا نرى تلك الثرثرة البيضاء المتوحشة المتوحدة مع الذات هي مبكى الاعتراف والتنصّل من الخطيئة على حائط النفس اللوامة. ويبدو أن الذهنية التشكيلية للشاعر، بوصفه فنانا يرسم بالكلمات، بل بوصفه الطامع في كل أدوات الفنون الأخرى (فالشاعر عندي كائنٌ كثير الطمع، لا يقنع بالمفردة وحدها ليشكل قصيدته، فنراه يستلب أدوات الفنون الأخرى من موسيقى ورسم وسينما ومسرحٍ وعمارة و غناء ونحتٍ وخلافه، يسعى في الأرض وفي الشعر مرَحا، قاطفا من كل فنٍّ أداةً، يخبئها في مخلاته السريّة، حتى إذا ما خلا إلى قصيدته، يقيم بناءها بأحجار قنصه الثمين المختلَس من الفنون) تتغلب عليه قاصًّا. تلك الاستعارية الفنية التي تميز الشاعر عمومًا، تجعل القاص/الشاعر ياسين عدنان يعدُّ اللونَ أحد أهم أدواته الكتابية استعارةً من الفن التشكيلي. فنرقبه في قصة أخرى من المجموعة، وهي التي تحمل عنوان المجموعة "من يصدق الرسائل؟"، يكرّس دلالات اللون في سرد رسائل اللص البريء الذي يحبك أحبولته لخداع الحبيبات والأب والذات والقارئ معا، يكتب إلى حبيبته الأولى في صدر رسالته إليها: "حبيبتي هند، لقد مرّت الأمور كما اتفقنا. كل شيء نُفِّذَ بدقة، فبعدما قتلناها سويا وغادرتِ، سحبتُ الجثةَ بهدوء إلى حجرة النوم..." ثم يكمل سرد جريمته الفانتازية منهيًا رسالته بقوله: "حبيبتي ....ما أجمل الحب، هذا الأبيض الطري بعد عملية حمراء كهذه!". وفي رسالته الثانية: "آه يا حبيبتي، ما أجمل الحبَّ، هذا الأحمر الطري، بعد جريمة بيضاء كهذه "، وفي الثالثة: ".... ما أجمل الاستلقاء تحت شجرة الحب الخضراء في هدنة خضراء بعد يوم من المتاعب والألوان!". سوى أن اللون، الذي وسم الرسائل ال (ذكر-أنثوية) أي رسالة رجل إلى امرأة وهي رسائله للحبيبات، ذاك اللون سيختفي فجأةً في رسالته الخادعة لأبيه، إذ لا محلّ للّون في رسالة ذكورية-ذكورية، ربما بسبب الموروث التاريخي الذي يذهب إلى أن اللون اهتمام نسائيٌّ في الأساس، لذا رفض المخادع الحاذق خداع الأب/الرجل بأداة لونية، واكتفى بمراوغةٍ ذهنية تناسب الرجال وطرائق خداعهم. تلك الرسالة قبل الأخيرة للأب التي تكتشفها الحبيبة الفعلية، وتصدّقها لسوء حظ الكاتب عوضًا عن تصديق القارئ الافتراضي، المخاطَب الفعلي والذي من أجله نُسجت كل تلك الفوضى، فنشهد "عتيقة"، معشوقته الفعلية، تصدق الرسائل إذًا لتهجر الكاتب المراوغ وتتركه وحيدا لفراشه البارد. ويختفي اللونُ في فضاء مجموعة ياسين عدنان ثم يعاود الظهور من جديد مثل قوس قزح مراوغ يطلُّ برأسه بين الفينة و الأخرى من بين قطرات غيمة لم تتخذ بعد قرار الانقشاع. فنواجه "رجاء" البنت الصغيرة "الخضراء" التي استلبوها (همزتها) الوحيدة نتيجة خطأ تدوينيّ واستبدلوا بها (ألفًا) لا محلّ لها من الإعراب ولا التعويض عن ابتسار الاسم، لتغدو راجا أو" رازا "كما يحلو للجدّة، التي لا تشبه جدات الحواديت الحانيات، أن تناديها به، فتكرّس شعور البنت بالانتقاص والاستلاب لتنشد اكتمالها المفقود في عزلة تقاتل من أجلها وحلم بصمت العالم ولو لبرهة. عبر لغة عفيّة مشحونة بطاقة شعرية وصور طازجة تليقُ بشاعرٍ، يلعب القاص هنا، في منطقة ما قبل الواقع/ما بعد الخيال، في تلك الباحة الحرجة بعد الفكرة وقبل الشروع في الفعل، وهي منطقة شعرية بامتياز، لأنها مكتنزةٌ بالخيال الحر الطليق غير المقيد بأغلال الممكن وغير الممكن. وبنفس التيمة الفانتازية يدعونا القاص، بعد صدمته الأولى من البنت التي صدّقت رسائله العبثية، يدعونا عدنان في قصة "لا تصدقوا يوسف" إلى عدم تصديق "يوسف القعيد" في رواية "القلوب البيضاء" حيث يتناص مع صفحة بعينها من روايته، الصفحة الثامنة والثمانين، فتخرج له "شهد" بطلةُ الروايةِ البائسةُ من بين السطور وتستوي أمامه بشرا حقيقيا لتحكي له عن مأساتها بين حبيبها الكهل وبين خالقها يوسف القعيد، في محاولة لجعله لا يصدق أيًّا منهما حيث هي ضحية لجريمة ذكورية مزدوجة من كهل بارد وروائي يمتشق الخيال. ثم تأتي محنة الكتابة، تلك الإشكالية الأزلية التي يعرفها كل من اعتمد القلمَ طريقة للحياة. يتعرض عدنان لتلك المحنة الدونكيخوتية في قصة "فكرة طازجة" والتي يهديها إلى "أحمد بوزفور"، فنراه على نحوٍ كافكاوي لا يخلو من أيرونية لاذعة، يرسم مأساة الكاتب منذ لحظة القبض على القلم في محاولة لاقتناص فكرة طازجة لم تلكها الأوراق، فيصف في سخرية مريرة كيف يقع الكاتب فريسة أحبولته التي حاول نسجها للإيقاع بالقارئ المتعطش للجديد غير المستهلك. تلك المحنة التي لا ينجو منها كل صاحب قلم مهما تراكمت خبرته الكتابية والتي تكلم عنها د. جابر عصفور في مقالته "رياضة الكتابة" قائلا: "أحيانا أجلس إلى مكتبي منطويا على رغبة الكتابة، وما إن أمد يدي إلى القلم و أقترب به من الورقة المبسوطة أمامي حتى أجد أنني أضعت ما كان في ذهني،...، أظل أرسم أشكالا بلا معنى، كما لو كنت أنقش على صفحة الورقة البيضاء طلاسم سرية ورسوما رمزية لا أفقه معناها، ولكنها تقربني من مناط رغبتي شيئا فشيئا إلى أن يستجيب القلم إلى الاستفزاز، فتنثال الأفكار ...." هذا هو المأزق الذي يحياه الكاتب دوما وهو سرُّ متعته اللانهائية بين مداعبته الفكرة والمفردة والمداد. فيقول ياسين عدنان: "تبًّا، ليست الكتابة تلك اللعبة السهلة، إنها أعنف من الملاكمة، ومع ذلك يحاول، يدخن بشراهة وهو يواصل بحثه الخرافي، ربما في دهاليز الذاكرة سيجد ضالته"، هو إذن الكاتب، "الفارس الورقي" في نزاله الشريف مع المداد في ساحة الورق البيضاء، في انتظار حصد مغانمه وأسراه من المفردات العصيّة الدانية، نثرًا أو ..... شعرًا. .





من هنا نبدأ
بداية القول | خيمة العامرية | إصدارات | ثقوب في الكلام | ترجمات
حوارات | كلما اتسعت الرؤية | ندوات | الآخر ليس جحيمًا دائمًا
خيام في الجوار | الذين عبروا من هنا | هودج العامرية | بريد زاجل