موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
ورشـة الزّيتون الإبداعيـّة
تناقش ديوان "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض"
أقامت "ورشة الزيتون الأدبية" ندوة لمناقشة ديوان "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض" للشاعرة فاطمة ناعوت ، شارك فيها النقاد: د. صلاح السروي، د. محمود الضبع، أ. أمجد ريان، أ. أحمد لطفي، د. صلاح فاروق. أدار المناقشة الشاعر حلمي سالم، وحضرها لفيف من الشعراء والأدباء والمثقفين. وكانت ألقت الشاعرة قصائد مختارة من ديوانها بطبعتيه، الأولى الصادرة منتصف العام الماضي، والثانية الصادرة منذ أيام عن دار "كاف نون"، وحرصت الشاعرة على إضافة بعض القصائد لتلك الطبعة الجديدة.
افتتح الندوة الشاعر حلمي سالم قائلا: فاطمة ناعوت أحد الأصوات الشعرية الشابة في إطار الكتابة الشعرية الراهنة، استطاعت بديوانين اثنين، "نقرة إصبع" الصادر عن "هيئة الكتاب" العام الماضي، والديوان الذي نناقشه الليلة، أن تشكّل ملمحا خاصا وصوتًا مميزًا داخل تجربة قصيدة النثر، ونستطيع أن نتلمّس ملامح أساسية في شعرها إذ يقف شعرها على مسافة قصيرة من المجاز ولا يغرق فيه وعلى مسافة قصيرة من الواقع أو الوقائعية ولا يغرق فيها، وعلى مسافة من النثرية دون غرق كذلك، وعلى أي حال نحن مع نخبة من النقاد بعضهم شعراء مبدعون، نَعِد أنفسَنا بحوار جاد ورؤى نقدية متنوعة.
اللا يقين، وتجميد الزمن:
ثم يقدم الشاعر والناقد "أحمد لطفي" المداخلة النقدية الأولى قائلا:
تنتمي كتابة فاطمة ناعوت إلى شعرية قصيدة النثر ومن ثم تتجلى عندها معظم السمات الفنية المميزة لهذا الشكل، هذه السمات الفنية تتخطى الفروق الإيقاعية إلى بنية الصورة واللغة الشعرية وشكل القصيدة . بالإضافة إلى طرافته فإن عنوان هذا الديوان يقدم لنا أكثر من دلالة يمكن تتبع خطوطها من خلال الديوان . الدلالة الأولى هي عدم الرسوخ وانقطاع الوشيجة التي كانت قديما بين الذات وبين الأرض ، مما يؤدي إلى إصابة كل اليقينيات بشكل ما : " يصيبُ اليقينَ بمقتل " ، والملاحظ أن عنوان الديوان ( 6 كلمات ) لا يقدم جملة متكاملة الأركان ، فمن أو ما هو ذلك الذي على بعد سنتيمتر واحد من الأرض ؟ وتتعدى هذه الظاهرة العنوان إلى بعض التعبيرات الشعرية داخل الديوان وهو ما يؤكد دلالة "انعدام اليقين" .
الدلالة الثانية التي يوحي بها العنوان هي محاولة الانفلات من أسْرٍ ما والانطلاق صوب فضاءات جديدة ، إذ أن التواجد على بعد سنتيمتر واحد من الأرض يدل على أحد أمرين : إما السقوط أو الارتفاع . وربما كان المعنى الثاني هو الصحيح ، حيث تحاول الذات الشاعرة الانطلاق صوب أفكارٍ وثقافات أكثر اتساعا من الأرض التي تنطلق منها ، وربما كان ورود كثير من معطيات الحضارات الأخرى قديما وحديثا في مقابل خفوت حضور التراث العربي معبرًا عن محاولة الفكاك من فلك هذه الثقافة .
الدلالة الثالثة : القدرة على إيقاف الزمن وتصوير مشهد دقيق ورصد موقف محدد من الحياة ، فالزمن يجب أن يتوقف ليتم رصد الحركة ، وهو ما يدلّ على العلاقة الخاصة بين الشاعرة وبين الزمن ، كما يؤكّد سمة التوقف لرصد الأشياء والأشخاص خارج الزمن ، وهي سمة أساسية من سمات الكتابة عند فاطمة ناعوت .
استحضار السُّلطة النسائية التراثية والنأي عن كتابة الجسد:
الحضور التراثي العربي - على نُدرته – لم يأتِ اعتباطيا ، فقد استدعت الشاعرة في موقفين عبر الديوان ليلى العامرية ثم بلقيس ملكة سبأ ، وهما استدعاءان يمثلان حضور السُّلطة النسائية في التراث العربي في أوضح تجلياتها :
العامرية تمثل سُلطة الحب وقدرة المرأة على امتلاك قلب الرجل ، و بلقيس تمثل قمة الحضور السُّلطوي الأنثوي عربيا ، وهي بذلك تلتقط شيئا دقيقا جدا ، وقد يكون مهمشا في موروثنا ، إذ يعتقد البعض أن المرأة كانت مقهورة ومضطهدة على مدى التاريخ ، ومن ثمّ فإن استحضار هذا الوضع الاستثنائي يكون ذا دلالة ، خاصة إذا أضفنا إليه الحضور النسائي المكثف على مدار القصائد ، فالمرأة مُعبّرٌ عنها بضمير الغائبة أو المتكلمة أو المخاطَبة ومع ذلك فإن الشاعرة تنأى بنفسها عن الإغراق فيما يُسمَّى كتابة الجسد ، وأعتقد أن هذا التوجه من الشاعرة يعبر عن رغبتها في الإفلات من هذا الفخ ، حيث تبحث عن تحقّقها بعيدا عن تلك الرؤية التقليدية ، فهناك أمور أخرى تشغلها ومنها التحرر من القوالب سابقة التجهيز في الكتابة النسوية .
مفردات التكنولوجيا في ثوبٍ شرعي :
أما عن اللغة الشعرية فبالإضافة إلى القدرة على استخدام اليومي والبسيط والمهمش ، نجد كثيرا من مفردات العلم والحضارة الحديثة والتكنولوجيا ، لكن الشاعرة تستطيع إلباس هذه المفردات ثوبا شعريا لا يشعرنا بالغربة أمام تلك المعطيات التي قد تبدو جافة وبعيدة عن عالم الشعر ، ولا آخذ عليها سوى غياب مذاق الجُملة العربية الأصيلة ، نتيجة إسرافها في تتبّع مفردات الحداثة الحياتية التي نعيشها ، إلى درجة أفقدت النص – إلى حد ما – صبغته العربية المميزة .
التقنية السينمائية والمجاز المدهش :
وعلى الرغم من استفادة الشاعرة التامة من تقنيات التصوير الشعري الحداثي الذي يحاول التخفّف من وطأة المجاز التقليدي سابق التجهيز ، فهي تستفيد من بعض التقنيات السينمائية عن طريق الاقتراب من المشهد للتركيز على نقطة دقيقة ، ثم تبتعد لتقدم رؤية بانورامية من مسافة أكثر بُعدا وإحاطة بالمشهد ككل ، على الرغم من ذلك فإن القصائد لا تخلو من بعض المجازات الجديدة والمثيرة التي تدل على اجتهاد الشاعرة في البحث عن الجمال : ( يمتصّ روحي يوما بعد يوم – رأيت صوت أسنانها تصطك – خبّأ شموسا كثيرة في دفتر بنٍّي – وجوه الأصدقاء تسيل على زجاج بارد – أكنس الشهور والدقائق .. .. ) هذه المجازات على قلّتها تسهم في التأثير القوي على المتلقي ، خاصة أن الأجزاء الأخرى من الديوان تتعامل مع العالم بمنطق شعري جدا .
العلاقة المرتبكة بالزمن وغياب الربيع:
في قصيدة تحمل عنوان الديوان ، مقطع يعبر عن معاناة الندم صراحة ، حيث الندم نفسه يعضُّ أناملَنا ، ثم تختتم المقطع بالحديث عن الكمبيوتر الذي ينفذ أمر UNDO تعبيرا عن التراجع مع صيغة الحديث بالجمع باعتبار أن الأمر يخصنا جميعا ، ثم : هل يسعفنا الوقت ، وهو ما يعبر عن علاقة الشاعرة الخاصة بالزمن:
فالقصائد قصيرة وسريعة ، واحتشاد الكلمات في العناوين ، ومحاولتها للتعبير عن نفسها ورؤيتها في سياق قصير وكأنها في سباق دائم مع الزمن ، ومن ثم فإن هذا التكثيف الشديد يُعد بمثابة سلاح الشاعرة للحاق بذلك الزمن الذي يجري بسرعة هائلة . وهي تحاول تفكيك ذلك الزمن حين تتحدث عن أحد عشر شهرا وثلاثين يوما ، بدلا من عام ، كما تقدم وقتا يتكسّر .
وتصل العلاقة المتوترة مع الزمن إلى ذروتها في تعبير :
(تآمرا ، خدعاني ، دارا مع الأرض ، عقربا ساعة الحائط ، اللصان)
كما أن مفردات الزمن تشكل ملمحا مهما في المعجم الشعري لديها حيث نجد الدقائق والساعات والأيام والأعوام والقرون ، كما أنها تكلمت عن الفصول دون أن تذكر الربيع مطلقا . وفي مقطع آخر : الخطوات التي نفذناها بأرواحنا ، على رقعة الزمن ذات اللونين ، لا تراجع فيها Touch &Move ) فالزمن رقعة شطرنج ولا يمكن التراجع عن أي خطوة لأي قطعة ، وكان يمكن للشاعرة حذف كلمة : لا تراجع فيها ، واحتفاظها بها يدل على ولعها الشديد بالفكرة .
من مقاطعها المهمة أيضا:
(لا تتوقعي مني مزيدا من الاهتمام، أيتها الوردة الجميلة، بعد يوم أو اثنين ، تسكنين سلة المهملات ، لأنك لستِ من البلاستيك )
فذنب الوردة إذن أنها حقيقية، لأن المزيف هو فقط الذي أصبح يستحوذ على اهتمامنا وهو الأقدر على البقاء ، وهو تعبير شعري رفيع يسخر من الأوضاع المقلوبة التي نعيشها.
تمثل النافذة/ الشرفة بحضورها المتكرر في الديوان ملمحا هاما جدا في علاقة الشاعرة بالعالم خاصة إذا علمنا أن الغرفة لها حضورها الطاغي أيضا ، فهي الحصن الذي تحتمي به من كل ذلك الخداع المحيط بها ، ومن هنا تأتي أهمية النوافذ والشرفات ، فهي وسيلة أو أداة الإطلال على العالم والتواصل معه وإقامة العلاقة مع مفرداته .
حالة القهر الوجودي والفلسفي:
بعد ذلك يقدم الشاعر والناقد أمجد ريان مداخلته النقدية قائلا :
أنا أحد أشد المعجبين بشعر فاطمة ناعوت ، وهذا الديوان "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض" يقدم تجربة شعرية مهمة تحاول أن تُفارق المجاز وتقترب أكثر من الأرض . وهي تميل إلى التعبير عن التجربة الحياتية عبر الإحساس بالقهر الوجودي والفلسفي في زمن يشهد انقلابة حضارية عظيمة .
البدء بالفرح والانتهاء بالمأساة:
في قصيدتها : "حتى المستحيل" تتحوّل الأرجوحة إلى نوع من المنجنيق ، إلى موت فعلي ، وهي تبدأ دائما بالجميل والمبهر وتنتهي بالكئيب والمأساوي ، وهو ما يدلّ على وعي بصيرورة الحياة ، وهو عكس ما درج عليه الشعراء حيث يبدءون بالحزن وينتهون بالبهجة فيبدو أسلوبهم ساذجا .
الفقد والرحيل والملل العصريّ :
والمعنى الأساسي في التجربة هو معنى الافتقاد، في كل نص نلمس هذا المعنى : الذي أوشك على النوم الآن ( ليراوده فردوسٌ مفقود)، رقصة الحب (فأضم اللحظة بكل قوّتي ، في محاولةٍ لتجميدِها، لئلا تتسرب) ، وعبارات أخرى: طائر أسقط في كل مدينة ، ريشة واحدة / ستئن الذاكرةُ المجهدة ، وتضيع اللحظات إلى الأبد / اغسلي عن عينيه حزنَ الفقد .
هناك أيضا حالة من الملل العصريّ ، وهي تحاول أن ترد على القهر والإحباط والزيف بالتواصل : (شكرا أيها الليل الطيب ،على كل النجوم تلك ، ألملمها في سلتي ..) وأيضا في قصيدة" بل ريشتك ".
والرحيل معنىً طاغٍ في الديوان كله (من سفرٍ إلى سفر، من قارة إلى قارة) كما أن مفردة الطائر من المعاني الرمزية السائدة التي قد تومئ إلى هذا الرحيل ، وهي لا تكتفي بهذه المفردة ، بل تقدم قائمة مختلفة من أسماء الطيور عبر قصائدها ، كذلك مفردة النافذة بكل ما تثيره من إشعاعات . أما جماليّاتها الخاصة التي تطرحها في هذا الديوان فمنها اللواذ بالله وبوجه الله وإبراز بعض الملامح الرومانسية ( سماء الله محملة بآلاف الرسائل ) ، وأوافق الناقد "أحمد لطفي" على أن الاحتمال عند الشاعرة أعلى بكثير جدا من اليقين وهنا يكمن الشعر الجميل.
تجاور الثقافات :
ومن ملامح الحساسية الشعرية الجديدة عند فاطمة ناعوت والتي تختلف فيها عن الأجيال السابقة عليها ملمح التجاور ، فنحن في عصر التوالد والتجاور بين الأشياء ، تستطيع الشاعرة أن تلتقط هذا المعنى شعريا فنجد مثلا 3 مراحل حضارية تتجاور في سطرين من قصيدة "مسلة الألفية الجديدة"، يخرج منها البدويون ويدخلون ، فالمسلة تنتمي لعصر يختلف عن مرحلة الألفية الجديدة يختلف عن مرحلة البدو .
وفي قصيدة أخرى لها هي قصيدة "إلى كهل ينظر للبعيد" تقول (سأقرأ لك من الأغاني، ومقاطع من شكسبير ، سوف تعلّق بالتأكيد على عقوق بنات لير ، وتؤكد أن طموحك كان مخالفا لماكبث ، … ، أقول لك الآن ، لا وجود للنيرفانا على هذا الكوكب ، وشهدتُ جنازةَ بوذا بالأمس ، أما مصباحُ الرجل ، الذي يسيرُ في وضَحِ الضَّوء ، فقد كان زيتُه جافًّا .. ) والتجاور الحاد جدا بين الأزمنة والشخصيات واضح لدرجة لا تحتاج إلى تعليق .
من المعاني الأساسية في نصوص الشاعرة أيضا معنى النوستالجيا ، الحنين للماضي بالتحديد ، فالحاضر يمثل دائما أزمة والمستقبل يشوبه الغموض : ( حكايا الطفولة البعيدة ، لا تنامين بين يدي ، كهِرَّةٍ صغيرة ) .
وهي تطرح علاقة خاصة بالمرآة يمكن أن نطلق عليها: المرآوية الجديدة، وهي ليست تعدد الدلالة كما عند شعراء السبعينيات ، لكنها تتأمل المرآة لتؤكّد الذات المفردة، وهو خط عكسي لما كان سائدا ( قصيدة : سطح مصقول في ركن الغرفة الأيسر ) .
ملمح السخرية :
ومن ظواهر ما بعد الحداثة لدى الشاعرة استخدامها للمصطلحات العلمية استخداما شعريا بارعا ومقنعا : الحاسوب – السنوات الضوئية – خلاياي – الشبكية . وهناك أيضا المصطلح الهندسي : وشمس تقترح بظلالها على المسطحات بُعدا ثالثا – مؤامرةٌ يومية عبْر مستطيلٍ مقصوصٍ من حائط – كانت حبالي معلقةً بالسماء ، فاختلَّ عزمُ الحركة ، ودارتْ حولَ محورِها دورةَ الموت.
هناك أيضا ملمح السخرية ، فالسخرية قديما كانت لها معانٍ أيديولوجية ، أما الآن فهي موجهة لكافة المواضعات الإنسانية السابقة ، وعند الشاعرة نجدها تركز على السخرية من المهابة والقداسة التاريخية أحيانا .
أما عن بعض الجوانب السلبية التي أراها في التجربة ، فهي تتمثل في العدد الكبير من المعطيات في بعض النصوص ، وفي التركيب الشعري المكثف أحيانا، أو البساطة الزائدة في بعض المقاطع أو الحاجة للحذف في أحيان أخرى ، لكنني أؤكد أنني استمتعت واستفدت من هذه الشاعرة وتجربتها الخصبة ، وحين نتحدث عن التجربة الجديدة في الكتابة فلابد أن نستشهد بنصوصها ، لأنها تلمس الرؤى الجديدة في الشعر بشكل واضح .
الكتابة النسوية من منطلق الهم الوجودي:
ثم يقدم الناقد د.محمود الضبع دراسة عن الديوان عنوانها: "شعرية الاختلاف في ديوان على بعد سنتيمتر واحد من الأرض للشاعرة فاطمة ناعوت" قائلا :
بشكل عام فإنه يمكن تقسيم الموقف الأنثوي من التجربة الإبداعية إلى ثلاثة منطلقات :1- المرأة الضحية – 2-المرأة كموضوع جنسيا ( نظام التمركز حول الذكور ) – 3-الانطلاق إبداعيا من منطقة متجاوزة لتتعامل مع قضايا الواقع الاجتماعي والسياسي و الوجودي، والموقف الأخير هو مسار عمل ذوات المشروع الفكري والثقافي الرصين والرؤية القائمة على وعي متقدم للكائن الإنساني ومأزقه في الوجود وعلاقته بالحرية والبنى المهيمنة على العالم دون اللجوء إلى تأجيج الصراعات بين النساء والرجال داخل البنية الاجتماعية .
تنتمي أعمال الشاعرة فاطمة ناعوت إلى الموقف الثالث ، إذ تأتي كتاباتها انتهاكا للصيغ الجاهزة لطرق مقاربة العالم التي اعتدناها لتنطلق من الوعي الوجودي بالعالم، تقول في نص : قياس خاطئ في الألفية الثالثة : ( والآن .. ماذا عن واقع يتنفس بكل مفرداته .. منذ عشر .. وبعض بشرٍ استُحدثوا .. بمعرفة فلورينتينو أريثا الجديد .. خائن ماركيز .. نعم صديقي .. علينا فقط .. أن نلبس الأمور أحجامها .. والشخوص مذاقهم .. ونناظر الصورة من جديد .. أن نعي .. أن النهاية الأسطورية – التي سوف أقرأها بعد قليل – ليس من مكان لها .. سوى في خيال روائي ثمل .. من القرن القرن التاسع عشر .. أو بين ضفتيّ .. الحب في زمن الكوليرا ) .
بالمعنى السابق تصبح المرأة مصدرا بكرا لمقاربة العالم والنظر إليه بعيون جديدة ، لأن كبت المرأة لإحساساتها عبر التاريخ البشري ولّد مناطق مقصاه ومخبأة عن العيون ، وهناك مؤشرات واضحة على تحوّل في تجربة الشاعرة يساير تحوّلا عاما في التجربة الشعرية العربية . هذا التحوّل يتمثل في ظهور شعرية جديدة تمثل نفسها وتقترب إلى قلقها الخاص بشفافية وتؤسس لحضورها عبر تبنيها لمعجم النص الحديث وصبغه بحس أنثوي ، تتجاوز فيه النبرة الذكورية وأرض التفجّع والشكوى والمفاجأة العاطفية التي سيطرت على نصوص المرأة لفترة طويلة ، وذلك باعتناقها لفكرة التمرد على صورة الضحية ، وإن لم يأت هذا معلنا من خلال النصوص ، محاولة التعامل مع العالم ووضع مشروع فكري ثقافي قائم على رؤية واعية تتسم ببساطة البناء وبزخمه في آن واحد .
اللغة – الأنثى – التشكيل:
وهناك بُعد أساسي يساهم في تكوين ملامح الشعرية لديها هو بُعد الذات الشعرية الخاصة بها ونعني بها الذات المؤنثة . فما هي ملامح شعرية الأنثى داخل النص ؟ أول هذه الملامح : اللغة الأنثى وتواشجها مع فعل الكتابة التي تشي بذات مؤنثة كامنة خلف النص . في كل ثقافات العالم تظهر المرأة على أنها مجرد معنى من معاني اللغة ، نجد ذلك في الأمثال والحكايات والمجازات والكنايات ، ولم تتكلم المرأة من قبل على أنها فاعل لغوي أو كائن قائم بذاته ، ومن هنا بدأت الشاعرة في الكشف عن هذه الأنثوية ، وبدأت تتلمس خطواتها في استكناه اللغة الأنثى ، للتعبير عن حالاتها الروحية ومن ذاتها هي لا من ذات مذكرة .
تقول في نص بعنوان : فلتكن إذن رقصتنا الأخيرة : ( حسنا ، فلتكن إذن رقصتنا الأخيرة ، لكني لن أعدك بالتألق ، فأنا لا أُجيد الرقص – على كل حال – مثلا .. قد لا أتزامن والإيقاع ، فأؤلم قدمك بكعب حذائي ، في محاولةٍ لضبط الحركة ، كذا لن أجيدَ شبكَ أناملي ، حول جيدِك .. )
فالضمير السارد يكشف في تحوّلاته عن ذات أنثوية ساردة ، إن النص برمّته حالة من حالات تجلي الأنثى ومكاشفتها لذاتها ، فالدعوة المقدمة للرقص والإعلان عن نية استلاب الأنوثة لا تنتج إلا من أُنثى ، ولم يكن بإمكان الشاعر المذكر أن يعبر عن مثل هذه الهموم بحال من الأحوال . إن فاطمة ناعوت تحيا حالة تمرد ضد الأنوثة المشوهة التي تحياها وترفض هذه الصورة وإن كانت لا ترفض الأنوثة في حد ذاتها .
السرد الشعري :
يمثل السرد نمطا في الشعرية المعاصرة ، ويمثل نمطا أيضا في شعرية الشاعرة ، وقد نشأ السرد داخل جنس الرواية الأدبي ، ثم انتقل بمعناه الشعري ليصبح آلية من آليات إنتاج الشعرية تُعد واسطة بين التشكيل اللغوي والبنية النصية .
ومن هذه التقنية دخلت الشاعرة عالم الكتابة الشعرية وهي تحمل بداخلها بذرة التمرد على واقع الأنثى ، كما أنها تستخدم لونا آخر من السرد يمكن أن نطلق عليه "السرد الداخلي" أو سرد الذات ، في مطوّلتها : على بعد سنتيمتر واحد من الأرض ، نجد نمطا من أنماط الشعرية يأتي على شكل نص واحد ذي تنويعات متعددة فيما يمكن تسميته بقصيدة الحالة ، رغم تشظيه وجعله في مقاطع إلا أنه نص مفتوح المواجع والمسارب ، وفي نفس الوقت يقوم على محورية مساءلة الأشياء من حولها .
ليست في هذا النص حكاية تُحكى على النحو المألوف ، حتى لو كانت تقنيات الحكاية هي تقنيات الكتابة الجديدة ، من تشابك الواقعي والحلمي ، وتداخل الأزمنة ، وشعرية اللغة الرؤية ، والتباس الأسئلة ، وكسر النمطية ، وتفتيت الشخوص والأحداث إلى آخر ما كرسته الكتابة الجديدة من تقنيات وطرائق للسرد ، لكن كثيرا من المقاطع تُعتبر بمثابة الإضاءة النصية التي تُعين على الفهم الجزئي ، فالقصيدة كلها تتحدث عن الذات داخل هذه الإطارات ، صحيح أن هذه الذات منقسمة ومشتتة ومراوغة ولكنها في النهاية تحيا ألمها هي ، تقول : سرقت لغتُنا حرفًا ، وخبّأته داخل قصيدةٍ ، لم تُكتب بعد .. ) .
التناص مع الحضارات :
هناك أيضا ملمح التناص مع ثقافات أُخرى ، وهناك مستويات للتناص والاستدعاءات ، ولا تقصد الشاعرة بالاستدعاء مجرد الاستدعاء وإنما تقصد المساءلة والجدل والسخرية وتعضيد الصوت الشعري بصوت آخر مصاحب يقف بجانبها أو للإحالة إلى التجربة النصية التي تتناص معها للوقوف على إبعاد التجربة التي تؤسس لها من خلال بنائها النصي .
وفي نهاية الندوة وبعد أن قدم الشاعر حلمي سالم الناقد "د.صلاح السوري" الذي اعتذر عن طرح مداخلة نقدية إذ أنه أعد نفسه للنقاش حول ديوان الشاعرة الأول : "نقرة إصبع" ، ليكتشف أن الندوة تدور حول ديوانها الثاني ، قدّم عدد من الشعراء مداخلات وتعقيبات على القراءات النقدية ، كما قدّمت الشاعرة بعضا من قصائدها ووجهت الشكر للنقاد وجمهور الندوة.

|
|