موقع الشاعرة المصرية
فاطمة ناعوت
ورشـة الزّيتون الإبداعيـّة
تناقش ديوان "قطاع طولي في الذاكرة"
"قطاع طولي في الذاكرة"، الديوان الثالث للشاعرة المصرية فاطمة ناعوت، تمت مناقشته في "ورشة الزيتون الإبداعية"، الاثنين الماضي 17 نوفمبر 2003. وحضر المناقشة عدد من الشعراء ومثقفي مصر على رأسهم الشاعر أحمد الشهاوي، عبد المنعم عواد يوسف، إلياس فتح الرحمن، محمود الشاذلي، وسعيد أبو طالب.
يأتي"قطاع طولي في الذاكرة "، الصادر هذا العام عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، بعد ديوانين للشاعرة هما: "نقرة إصبع" (عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب" كذلك)، و "على بعد سنتيمتر واحد من الأرض"(في طبعتين، الأولى عن دار"ميريت" والثانية عن دار "كاف نون").
ناقش الديوان كلٌّ من د. شيرين أبو النجا، والشاعر حلمي سالم، والنقاد أحمد لطفي، ود. صلاح فاروق، وأيمن سعيد. وأدار الندوة الشاعر شعبان يوسف الذي استهلَّها بقوله:
"استطاعت فاطمة ناعوت من خلال دواوين ثلاثة أن تترك بصمة قوية في حركة الشعر المصري والعربي، وبرزت قدرتها في الاجتهاد اللافت في كتابة القصيدة والمقاربة النقدية والمقالة، الأمر الذي رسّخ حضورها في وقتٍ وجيز. وأرى أن "قطاع طولي في الذاكرة" ديوان مهم في المشهد الشعري الراهن، ينبغي الالتفات إليه ودارسته بعمق، وأزعم أن فيه ملمحا نسويًا أترك للنقاد الحضور تأكيده أو نفيه عبر هذه المناقشة.وأرى أن فاطمة ناعوت بهذا الديوان، الذي شكّل مفاجأة جميلة لي، استطاعت أن تضع فكرةً جديدة عن قصيدة النثر على خارطة الشعر المصري، غير أني لا أود المصادرة وأترك الكلام لمنصة النقاد الحضور. وأفضل أن نبدأ وقائع الندوة بالاستماع للشاعرة من خلال بعض قصائد الديوان".
د. شيرين أبو النجا: الملمح النسوي في الكتابة والحياد المخادع
واقع الأمر لم تزعجني كثافة المصطلحات الهندسية والعلمية فـي الديوان، حيث أجادت الشاعرة توظيفها لبناء قصيدتها. غير أن ما استوقفني، هو مفردة "الذاكرة"، وهي كلمة تحتمل العديد من الدلالات، فهل تقصد بها الشاعرة استعادة أحداث ماضويـّة وأمكنةٍ بعينها؟ أم سردًا وإعادة صياغة للتاريخ؟ غير أننا حين نتأمل العناوين الفرعية داخل الديوان نجدها عناوين مهمومةً بالزمان والمكان.
الجزء الأول، "قبل أن يضيق حذاءُ المدرسة"، يشي بأنه حكيٌّ عن الطفولة، غير أنه أبعد ما يكون عن هذا. الجزء الثاني، "بقعة فوق هذا الكوكب"، هو مكان بعينه سنكشفه بعد قليل. الثالث، "تحت قوس الباب الوحيد"، وهو باب الخلاص. أما الجزء الخامس، "وخامس لا يتكلم"، فمجموعة أبيجرامات، وهي القصائد المكثفة شديدة القصر.
بعد القراءة، اكتشفت أن الشاعرة تقصد بمفردة "الذاكرة" رصد الذات لنفسها عبر مراحل مختلفة، وليس فقط رؤية العالم من خلال الذات. فالذات مهمومة برصد تحولاتها عبر أزمنة وأمكنة مختلفة، فتقول في إحدى الأبيجرامات الأخيرة:
"في غرفتي أربع حوائط صامتة وخامسٌ لا يتكلم."
وهي أولى الخدع، حيث هذا الخامس يتكلم شعرًا بعد أن "سقط الضوء على وجهه مرتين"، كما تقول في أولى القصائد، وهي القصيدة التي تحمل عنوان الديوان، والتي أرى أنها تحمل خارطة شاملة للديوان ككل، وفيها تكثيف شديد للمصطلحات الهندسية التي استخدمتها الشاعرة للإسقاط فتقول:
"طبقات الأرض الافتراضية يحتلّها بالتتابع صخرٌ / رصاصٌ / نورٌ / ماءٌ / ترقّبٌ / ماءٌ / وموتْ".
الديوان سار على هذا النهج تمامـًا. فالشاعرة احتاجت كلّ تلك المصطلحات الهندسية للحفر داخل غور الذاكرة، مرورًا بالصخر والرصاص وبقية الطبقات الآخذه في الوهن شيئا فشيئا حتى نهاية الديوان. ولذا تتكثف المفردات الهندسية التي تكلم عنها النقاد في الجزء الأول فقط، "قبل أن يضيق حذاء المدرسة"، وهو الذي يحكي عن فتاة تبحث عن صياغة علاقتها بالآخر.
وهنا أتكلم عن الملامح النسوية في الكتابة، فنحن لا نستوردها من الخارج في علبٍ لنسقطها على ديوان ما أو رواية ما. هي موجودة لدينا كما هي موجودة في الخارج بحكم الطبيعة. فأنا كناقدة امرأة لا يمكنني التنصل من نسويتي عند القراءة، وأنا هنا أقرأ لشاعرة امرأة. وليس بالضرورة أن يكون للنسوية لغة مغايرة أو خصائص فنية مغايرة.
دعونا نرى كيف يمكن أن نقبض على النسوية هنا. نجد فـي الديوان ملمحين رئيسيين، الأول فكرة الكتابة عن الكتابة التي تظهر طوال الوقت، والثانية تنويع على فكرة الجدران التي تكون صامتة أو سميكة أو رحيمة، ولذا اضطرت لاستخدام لغة معمارية من أجل الخروج منها. تقول البدء في الحفر:
"المعرفة في اتجاهها والجهل فردوس غائب".
فالقصيدة تقدم نفسها باعتبارها نقطة في بحر المعرفة، معرفة الذات، تبدأ بحدث واقعي سرعان ما ينفتح بعده باب الخيال لتتشكل القصيدة:
"العمياء التي أبصرت فجأة بعد جراحة مرتبكة تمت على عجل يناسب ارتكاب الشعر في صورته المحرمة".
نجد الانشغال بهمِّ الكتابة. ونجد، فيما بعد، أنها ستعطي القلمَ صوتا. يخرج الصوت الشعري هنا من:
"الشقوق التي انغلقت فزاد التصحر وانتوى العنكبوت إقامة دائمة...".
يخرج الصوت من ذهنية هندسية شعرية تشكيلية، وهو مبرر درامي وشعري لاستخدام هذه اللغة المغايرة (زوايا حادة - خطوط رأسية متوازية - مخروط الرؤية)، والفكرة هنا أن داخل كل قصيدة مفتاحا لتفسيرها.
تقل هذه اللغة في الجزء الثاني، حيث تنتقل الفتاة من هذه المرحلة لتغدو امرأة. ونرصد هذا بوضوح في رؤيتها للوجود، وهذه البقعة المجهولة التي لم تذكرها الشاعرة مطلقا لتغييبها. غير إنها تفصح عنها مرة، لا تصريحا، ولكن باستخدام شفرة خطوط الطول والعرض "47ْ طول، 25ْ عرض"، وهو عنوان إحدى القصائد لنكتشف أنها تقصد "مدينة الرياض" تحديدًا.
ماذا حدث فوق هذه البقعة؟ تتنبأ الشاعرة في الجزء الأول من الديوان أن اللغة سترتخي:
"إثر سقطةٍ مباغتةٍ من الطابق العاشر فوق صفحة نهرٍ فاترٍ بما يكفي للانخراط في الخدر".
سترتخي الزوايا الحادة ويبدأ الشعور بالمكان. نجد هنا مفردات جديدة مسيطرة مثل: الشطرنج – الطابية - الحصان – الملك - فساتين الزفاف – الحجرات المغلقة – العباءة السوداء – العين.
طوال الوقت ثمة عين ترقب الوجود عبر اللون الأسود. كل المفردات السابقة، باستثناء الشطرنج، تشي بمجال خاص مغلق ومنغلق. وثمة عين تحاول أن تتجاوزه لترى ما وراءه، لكن الجدران السميكة تحول دون ذلك. العام يواجه الخاص، وهو الصوت الشعري.
الشطرنج الـمـُلـِحّ هنا يشي بالمجتمع الاستهلاكي الذي يسم منطقة شبه الجزيرة، كما تقول في القصيدة الجميلة "أصفار ملونة"، حيث نقضي العمر:
"نلملم غنائمنا التي تتحول إلى أصفار ملونة.... ثم نوقّع عقدًا مع إحدى شركات التأمين".
الصوت الشعري (الخاص) يواجه المجتمع الاستهلاكي المحيط (العام). ثم في قصيدة "بلادونا " تقول:
"الجميلات رتبن الكتب فوق الرف ليسكنها التراب ثم دربن أصابعهن على الغناء غير حافلات بالعباءات الرمادية الثقيلة رديئة التوصيل للصوت والحياة.... الجميلات تركنني".
توصيف لمجتمع ثابت ميت برغم الحياة الظاهرة، وتوظيف موفق للعباءة السوداء، فتخرجها من معناها الحرف كقيد لتحولها لأداة للهروب والتمرد باستخدام الخيال، فتقول:
"على نحوٍ كهذا عباءة سوداء بلا مبرر تنفلت من المدار الأرضيّ لتدثر الكوكب المشطور".
هنا خرجت العباءة من كونها قيدًا للنساء لتغدو أداة تحليق. وفي الجزء الثالث، "تحت قوس الباب الوحيد "، يبدأ التمرد الفعلي الذي للأسف لن تكمله الشاعرة. في قصيدة "اللص"، توظف الشاعرة أسطورة "بانيلوب" على نحوٍ جديد، وفي قصيدة أخرى نجدها لن تغفر لأحمد عبد اللطيف:
"دعابته الثقيلة كأن يصعد للسماء غير عابئ بأكفّنا الملوّحة حتى لو أقٌسم أنها دعابته الأخيرة".
ونجد الشاعرة ترى "أشياء لا يراها الآخرون". بمعنى آخر نجد الذات الشاعرة تستبدل بالحياد، البادي في أول الديوان، بمحاولة للتمرد والكسر، حدقات مفتوحة بل تهدد بالعودة إلى رحم الأم، كما في قصيدة "حدث في أيلول"، ويبدو أنه شهر ميلادها. تصف الولادة بشكل شعري جميل. ثم تعطي للقلم صوتـًا، فتقول على لسانه:
"أعلم جدًّا أني خالق لكن القبضة العسراء تلك تملك مشيئتي ثم إني لا يعجبني ما أقرأ".
صوت القلم والرقابة الذاتية. تتمرد على الراهبات اللواتي احتكرن حلمها البسيط في أن تحصل على بعض ظلال شجرة السيدة مريم. تأمر الموت ألا يترك الأصدقاء يمرون "جمّد الزمن حتى أعود". تبقي الزمن عند "أطراف الأصابع"، ثم تفكر في وضعها كامرأة:
"رجل يرفع نظارته كي يرتب الحروف في صحافي ثم يجعلني أنقّب عن امرأة داخلي كل مساء".
ولا تجدها لأن:
"أبجديتها التي ازدحمت بها الأمكنة لا تناسب أحدا".
طوال الوقت هناك ملمح التطور والتمرد على القيود حتى نظن في المرحلة الأخيرة، عند النضوج واتضاح الرؤية، أن التمرد قد تم حتى تفاجئنا الشاعرة بخدعتها، حين تقول في نهاية الديوان أن "المجازات تتحرك على قدمين"، ثم "خامس لا يتكلم" في أبيجراماتها التي هي نقط نور محلقة لا تصل للذروة أبدا وتعود لحال الترقب الأولى.
الديوان هو محاولة تشكيل لرؤية ما، لكن جذور النواة النسوية تقيـّد نفسها بنفسها من جديد عن طريق الرقابة النسوية، ويتضح هذا من تماوج اللغة الهندسية التي أراها خدمت الديوان جدا وجعلتني كناقدة أرى الأشياء بطريقة لم أعتدها من قبل، فلم أفكر من قبل أن أرى الأشياء متوازية ومتقاطعة ومتعامدة وهكذا قبل قراءة هذا الديوان.
حلمي سالم: الكلام عن المهمَّشين والبناء المعماري الفوضويّ للموسيقى أود أن أبدأ بتفسير عبارة "قطاع طولي"، فلست أراها ذاكرة الشاعرة إنما قد تكون ذاكرة التاريخ، أو الشعر، وعلى ذلك أجد العنوان ترجمةً لفكرةٍ تشغلني هذه الأيام وهي تقسيم الشعر والشعراء على نحوٍ طوليّ لا عرضي جيلي كما أُتفق.
وعلى هذا أرى أن "قطاع طولي" هو تعبير شعري/ نقدي وليس فقط معماريا، كما اتفق الجميع. فمسار الشعر رأسيا قد يكون أقرب إلى المنطق من وجهة نظري.
"يوتوبياي التي لم أرها"، وهي العبارة التي صدرت بها الشاعرة ديوانها، أراها مفتاحا يفتح لنا الديوان حيث يشير إلى شعور عميق بالغربة بأشكالها المتباينة، مكانية – زمانية – اجتماعية – وجودية، فإذا ما قرأنا الديوان على هذا المنظور نجد مدينة فاضلة لم تعشها الذات الشاعرة لنرى كم الكسر والاغتراب الذي يغلف النصوص.
ومن هنا يمكنني أن أرى طريقة للنظر في المصطلحات العلمية والأرقام في الديوان باعتبارها تعبيرا على هذه الغربة الموغلة في الذات. فالشخص المغترب عن شيء ينزع عنه كينونته ليحوله إلى رقم. فبدلا من أن تقول قابلت رجلا تقول قابلت 50 سم x 170 سم مثلا، نزع الإنسانية عن البشر نتيجة الغربة والاغتراب عن الحياة.
وأنا أتفق على كثافة المفردات المعمارية عبر الديوان ولكنني رأيت فيها بالإضافة إلى ما سبق طريقة للبحث عن المعمار في النص الشعريّ. وأقصد بالمعمار الثبات – التناظر – الأساس - التراتب، فإذا وجدنا هذه القيم في النصوص فهناك علاقة وثيقة إذن بين البنية الشعرية ومفردات الصياغة المعمارية وهذه ضرورة استخدام، وإذا لم نجدها فهذه ضرورة أخرى.
فالشاعر يقيم نصه في الحديث عن المعمار باللا معمار، وأنا أميل إلى هذا لأن النصوص تخلو من التراتب والطوابق النمطية. كذلك يمكنني تفسير تلك الطريقة في الصياغة من الوجهة الموسيقية، أي ضرورة موسيقية. قصيدة النثر خالية من الوزن ولهذا فهي تحقق موسيقاها من طرائق أخرى، أرى أحدها الحديث عن المعمار، فبروز شرفة ما على نحوٍ ناتئ تشي بالسقوط هو خروج عن موسيقى البناء والتماسك أي لون من حرج الاتزان. وهو سعي المعماريين ما بعد الحداثيين إلى تهشيم حقائق المعمار التقليدي لخلق التوتر والتشظي.
هذه إذن ضرورة موسيقية في مثل هذا التوجه. ثم إني أتساءل، هل ثمة مفردة شعرية وأخرى غير شعرية؟ الجيد والرديء ليس بنوع المفردة ومعجمها، لكن بطرائق صياغتها. وبما إننا نتكلم عن فاطمة ناعوت بوصفها مهندسة، فأود تذكيركم بالشاعر المهندس علي محمود طه الذي لم يستخدم في شعره مفردة هندسية واحدة لاعتقاده بوجود معجم شعري خاص بالشعراء، وهذا مفهوم قديم تجاوزناه، بل وارتأينا أن توسيع المعجم الشعري ضرورة فنية لإثراء الشعر.
أما الحكم على القصيدة من حيث كونها مثقلة أم لا، فتلك قضية أخرى، فقد ينجح الشاعر وقد يفشل في توظيف معاجمه شعريا. فقد تثقل قصيدتك بدون استخدام قاموسا مهنيا خاصا والعكس. مما لاحظته أيضا في ديوان فاطمة ناعوت كثرة ورود كلمة "فوضى"، وكذا عبارة "قبل أن يفرَّ الخليلُ من محبرتي".
وأنا أدعو النقاد إلى تأمل تلك المفردة باعتبارها إشارة موسيقية أخرى. كذلك أحب أن أشير إلى تعدد المصادر الثقافية لدى الشاعرة، فبالإضافة إلى ثقافات المهنة هناك ثقافات دينية: مسيحية/ إسلامية/ بوذية، وحضارات قديمة وفلسفة إغريقية وفرعونية، وهذا يعني كذب الزعم الشائع أن قصيدة النثر تمارس قطيعة معرفية مع السابق السلفيّ.
وسيكون مدهشا أن أقول إن فـي الديوان خطًّا رومانتيكيا، بالرغم من شيوع العلمية في النصوص. وهو شيء جميل لأنه يؤكد أن ما بعد الحداثة ليست ضد الرومانتيكية على طول الخط، على أن تستخدم كخيطٍ من خيوط البناء لا الخيط الرئيس، ومن هنا تنبني الجديلة الصحية. كذا مما لفتني في هذا الديوان اهتمامه بالمهمَّشين في الحياة، بعكس الشعر القديم الذي حفل بالأبطال المتنيين وحسب، مثل قصيدة " تراب على الدرج". أهنئ فاطمة ناعوت على هذا الديوان الجميل وعلى إنجازها الشعري الملحوظ.
أيمن سعيد: الغلاف يشي بالمتن والديوان تجاوز السيرة الذاتية
الغلاف، وهو من تصميم الشاعرة، يؤكد عدم استقلالية اللغة في الإشارة التامة إلى المتن. اختارت الشاعرة تصميم غلافها على هذا النحو الكاشف عن رؤيتها لمفهوم الذاكرة. ثمة وجه امرأة منقسم رأسيا بخطٍ إلى قسمين. أحدهما مضيء والآخر مظلم مع ترك بعض مساحات تداخل بينهما مما يوحي بعدم انفصالهما انفصالا تاما. فإذا كان النصف المضيء يشير إلى الذاكرة/ الماضي باعتبارها محور الديوان، فإن النصف المظلم يشير إلى الحاضر، أما مساحات التداخل بينهما فتوحي بأن الديوان لم يخلص للذاكرة بقدر ما سيتحرك بينها وبين الحاضر. مما يؤكد ذلك أن دال القطاع قد انقسم بين النصفين،بينما استقر دال الذاكرة في النصف المضيء من الغلاف.
رغم ما يوحي به تقارب ملامح الوجه المرسوم على الغلاف من ملامح وجه الشاعرة من أننا أمام سيرة ذاتية خالصة توحي بعبور النوعية، فإن متن الديوان يتجاوز السيرة الذاتية الحقيقية الواقعية إلى سيرة ذاتية لم تعش، إنما حياة كانت تتمنى الشاعرة أن تعيشها فتصدر الديوان بمقولة "يوتوبياي التي لم أرها"، مما يهيئ المتلقي إلى الدخول في حال حلم أو غيبوبة عكستها ملامح وجه الغلاف تسمح بإعادة تشكيل عناصر الكون بما يتوافق مع تلك اليوتوبيا التي لم تعشها الشاعرة بل تحاول رؤيتها من خلال هذا الديوان.
ترتبط فكرة قطاع طولي في الذاكرة بالقطاع الطوليّ في ورقة النبات. إن استبدال الذاكرة بورقة النبات تؤكد أن الذاكرة عند الشاعرة دليل حياة، وأنه بمقدار عمق الذاكرة تكون مقدرة الإنسان على الحياة. لعل هذا يفسر الوجود الدائم لدوال النبات والماء حيث تقول: "وبينما أحد الخفراء بالموقع يعدُّ لكوب شاي لمح نبتةً صغيرة تشقُّ الأرض بعدما غافله بعض الماء وسقط التربة طينية".
وتقول في "مياه قديمة":
"كيف أمكننا هكذا أن نستدرج المياه القديمة من هناك بعض الماء إذن كان السبيلَ للخروج من دائرة الوجع".
هنا تحيي المياه الذاكرةَ/ الماضي، مما يسمح بالخروج من الوجع/ الواقع. وتقول أيضا:
"المصباح اختار إضاءة خافتة تسمح للنبتةِ أن تغلقَ أوراقها". وتقول:
"أي مفردةٍ تحكي عن شجرة نبتت فجأة في الصحراء بلا مقدمات معقولة تذوقت أول حبة مطر وقت أوشكت على المضيّ".
في قصائد الديوان تستعيد الشاعرة لحظة الإنبات/ الميلاد، هذه الاستعادة استدعت أن تحول الشاعرةُ الزمنَ إلى جدار تخترقه. تقول:
"المقطع الطوليّ يكشفُ أن سمكَ الجدار ثلاثون عاما بعد أن تسرّبَ يومان خلسةً من عوازل الرطوبة والحرارة".
هنا يتحول الزمان إلى مادة ملموسة تخترقها الشاعرة لاستعادة اللحظة. إن تسرب اليومين هو الموازي لتسرب بعض الماء إلى التربة الطينية/ الإنسان، الذي يبدو وكأنه فوق الزمان. تقول:
"التربة الطينية لا تطمئن عادة للأبنية التاريخية".
وتلفت نظرنا عبر الديوان إلى تلك الروح المنطلقة على المستويين الشعري والواقعيّ، لعل سبب هذا الانطلاق أن شيئا من التخطيط والتفكير لم يفسدها، تقول:
"سنترك أقلامنا تنحت ثرثرة شقَّ عليها أن تصالح شفاها أفسدتها/هندسة الكلمات".
وأفعال أخرى مثل: الهروب إلى ملعب الكنيسة، وتلفيق كذبة محكمة، وغيرها من أفعال توحي بالانطلاق التي لم تعوقه فلسفة أو يشوهه تفكير. هذا الانطلاق الذي سيختفي في قصيدة "وجه" حيث تقول:
"أحتضن الوجه الذي تخبو قداسته شيئا فشيئا حتى تغدو فكرة".
هنا تفاجئنا الشاعرة بالانتقال من وجود عبثي طفولي فوضوي إلى وجود عقلاني. وقصيدة "من وراء الحجرات" دليل على هذا التحول، فالجنوب شرق آسيويين الذين كانوا مادةً للمؤامرات الصغيرة أصبح وجودهم مرتبطا بالمعلم الأول، وأسس الفلسفة الإغريقية، ودفاع سقراط، مما يشير إلى التحول من الوجود الطفولي إلى الوجود الإنساني الذي يتيح للشاعرة أن تحتل بقعة فوق هذا الكوكب.
وأرى أن الشاعر تحسن اختيار البدايات والعناوين مثل تناصها المخالف مع المتنبي في قصيدة " الخيل والليل والبيداء لا تعرفني "، كما تحسن بناء النهايات حيث تتحول القداسة إلى فكرة .
أحمد لطفي: الذهنية والعالمية في تجربة ناعوت
نلاحظ في تجربة ناعوت، عبر دواوينها السابقة، تحول القصيدة الشعرية إلى عمل فني إنساني قادر على التنقل بين الثقافات المختلفة باستخدام المعاجم ومعرفة معاني الكلمات.
وهنا يقترب الشعر من الفنون الأخرى، من موسيقى وفن تشكيلي، حيث القدرة إلى الوصول عبر الثقافات المختلفة ويكون للشعر قدرة أكبر على الوصول إلى قاعدة قراء أكبر ممن ينتمون إلى ثقافات مغايرة، هذا من ناحيته الإيجابية، وعلى الجانب السلبي يشي هذا اللون من الشعر بالعولمة وسقوط الجدر بين الحضارات مما يوحي أننا أمام شعر عالمي وهذا ليس حكما قيميا سلبا أو إيجابا بقدر ما هو توصيف لطبيعة شعر فاطمة ناعوت.
هذا المنحى يتأكد من خلال رصد رؤى ذات طابع إنساني عام يميز تجربة ناعوت، وكذا استدعاء المعطيات التراثية والثقافية وهي غالبا ما تنتمي إلى تراث عالمي مثل بوذا وسقراط والعامرية وخلافه. حتى الظبي العربي الذي وظفته الشاعرة على نحو متفرنج حين ألحقت به الأدغال الغربية، ومن ثم حولته إلى كائن عالمي أيضا.
الشاعرة وظفت دلالتين في الديوان في ثنائية متناقضة في الربط بين قطاع طولي من حيث كونه يحمل دالة علمية مع الذاكرة ودلالتها الوجودية. آخذ على العنوان كشفه لمتن الديوان مما سهل عمل الناقد عمل على تقليل مناطق الدهشة بالديوان. كما آخذ عليها كثافة المصطلحات الهندسية التي أثقلت بعض النصوص.
من القصائد التي لفتتني، الأولى "قطاع طوليّ في الذاكرة"، حيث استطاعت الشاعرة الجمع بين أربع سياقات دلالية متباينة في كلمات وجيزة جدا. السياق المعماري والعربي والفرعوني والوجودي، والأنوي الخاص بكيان الشاعرة بكل ما تحمل.
هذه السياقات التي تبدو متنافرة جدلتها الشاعرة في جديلة ثرية طريفة. أيضا مفردات الطفولة من ضفائر ودراجات وملعب المدرسة والمدرسة والراهبات يستدعي حضورا بريئا نقيا يناهض شرور العالم الذي تعاني منه الشاعرة ونعاني منه جميعا.
كما أن الغرفة والسيارة والجدار تساهم في تشكيل فضاءات الديوان على نحوٍ يشي بالانغلاق ثم تأتي"الشرفة" لتمثل نقطة مراقبة العالم، والتي كانت "نافذة" في دواوينها السابقة مما يشير إلى اتساع عدسة الحياة قليلا في هذا الديوان. للإضاءة في الديوان حضور قوي ولهذا دلالات كثيرة وهي أداة استكمال المشهد.
أهم ما في الديوان هو المعجم الخاص بـ"العين" من عدسات أو حدقات أو مرايا، التي غالبا ما تأتي مقترنة بالخلع أو الإقصاء أو التنحية، مما يشي بعدم وضوح الرؤية خاصة في هذا العالم المليء بالزيف والشرور، يختلف هذا حين تقترن العين بالقراءة فتأخذ العين قيمة إيجابية وكأن الشاعرة تفر من قبح الوجود إلى الكتاب، أما الكتابة فتقترن بملمح غريب مثل الكتابة باليد اليسرى مثلا.
د. صلاح فاروق : الغموض المحبب وعدم الانغماس في مفردات الأنوثة
كما قدّم الناقد د. صلاح فاروق دراسة مطولة عن هذا الديوان وعن تجربة الشاعرة ككل و منها السؤال: "أين يقع هذا الديوان من قصيدة النثر الشائعة في المشهد العربي؟".
نجد أن الشاعرة تستقي تجربتها من مجال معرفي خاص غير شائع بين الشعراء، وهو مجال الهندسة المعمارية، وقد استطاعت الشاعرة أن توظف تلك المعرفة في بناء رؤية مستقلة لقصيدتها، حيث نلاحظ لونا من التماهي بين فكرة البناء الشعري والبناء المعماري، كما نلاحظ في القصيدة الأولى "قطاع طولي في الذاكرة" والعنوان ينم عن هذا. رغبة الذات في بناء عالم خاص مستقل عن العالم الكلاسيكي الخاص بالشعر القديم يبرر بناء هذا المعجم، ويؤكد هذا مقولتها " قبل أن يفرَّ الخليلُ من محبرتي".
الشاعرة تستخدم منهج الكتابة ذاته الذي يسلكه الشعراء، لكنها تجتهد في توظيف تلك الأدوات في خلق لون كتابي مستقل يخصها وحدها. تنبغي الإشارة إلى أن تلك الأدوات تحاول أن تستخرج من الخيال عقلانيته الخاصة، لا أن تعقلن الخيال كما قيل في دراسة سابقة.
استطاعت فاطمة ناعوت تطويع المعجم العلمي وتكريس التخييل فيه لتنجو من شبهة المثاقفة والذهنية التي وسمت تجاربها السابقة. والفارق أيضا في هذه التجربة، أن الشعراء اعتادوا صناعة حدوثة أو حكاية مكتملة الأركان في قصيدة النثر، لكننا نلحظ هنا أن الشاعرة عمدت إلى حذف بعض أركان الحكي لتقطع المشهد على المتلقي و لتشكل غموضا فنيا محببا في الشعر.
نلحظ أيضا عدم انغماس التجربة في التعبير عن أنوثتها وعالم المرأة النوعي، ولا انشغالها في مفردات الزوجية والأطفال، لكنها تجنح إلى التعبير عن الهم الوجودي الأشمل. نلحظ أيضا أن الذات أمضت جانبا من حياتها مرتحلة بين البلدان المختلفة، هذا التجوال بين عدد من البيئات المختلفة لا بد أن يخلق لونا من الغربة مبعثه الأساس انتماء الذات إلى فئة المبدعين، من هذا تحدثها عن الشرق آسيويين الذين يقتحمون صفاء الذات الشاعرة في محاولة لاختراق المجال الحيوي للشاعرة، ومن هنا ينشأ لون من الصراع الوجودي ذو الإسقاطات السياسية الاجتماعية، فتقول:
" لن نعبأ بهم ولا بإيماءاتهم الماكرة إذا ما التقونا عرضا على السُّلم".
كما نلمح هذه النزعة التأملية ومحاولة تحرير المخيلة من فلك اليوميّ حين تقول في "حيث البعد الرابع":
البيت الجميل الزوج الطيب وبراءة في عيون الصغار ......... الحياة مسألة أخرى".
فالقطع على بساطته يلخص الأزمة، فالاعتراف بفضل الزوج والاستقرار في بيت جميل يزينه الأطفال لا ينفي أن ما تبحث عنه شيء آخر أو وجود آخر، إنه الصراع من أجل إعادة صياغة الوجود والعلاقات بين الذات والمحيط لمنها لا تقع في فخ الطوباوية أو الرومانسية المريضة، فالذات هنا تحتفظ بوعيها طوال الوقت. وأنهى كلمته بقوله:
"أستطيع القول جادًّا إن هذا الديوان يمثل نقلة في تجربة الشاعرة، وإذا استخدمنا حكما بالقيمة يعبر عن تلقينا الشخصي لهذا الديوان أقول إن هذه القصائد حلوة، شعر جيد جميل، يبهج النفس ويجعلها مستعدة لقراءته مرةً ثانية، وشكرا".
عبد المنعم عواد يوسف: كثير من شعراء النثر دخلوه من باب العجز
ثم قدّم بعض الشعراء الحضور مداخلات سريعة، منهم الشاعر الكبير عبد المنعم عواد يوسف الذي قال:
"بالفعل أشعر بإعجاب شديد بكتابة فاطمة ناعوت. واقع الحال أنا أحترم من يكتب قصيدة النثر بعد أن يكون قد تمرس على كتابة الشكل التفعيليّ. أجد 90% مما يكتب من قصيدة النثر كلاما زائفا ليس من الشعر في شيء وقلة قليلة من يكتبون قصيدة نثر حقيقية.
ليس انحيازا لفاطمة ناعوت ومحمد صالح وحلمي سالم وعلي منصور، لكنني أعتبر هؤلاء يكتبون شعرا حقيقيا لأنهم يكتبون قصيدة النثر من باب الضرورة ولكن الآخرين دخلوها من باب العجز لأن واحدهم لا يستطيع بناء بيت واحد موزون. أحترم بالفعل تجربة فاطمة، وسعيد بهذه المداخلات التي أضاءت هذا العالم الجميل."

|
|