قصة موسى الكليم

وهو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، قال تعالى: {واذكر فى الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} وقد ذكره الله تعالى فى مواضع كثيرة متفرقة من القرآن، وذكر قصته فى مواضع متعددة مبسوطة مطولة وغير مطولة، وقد تكلمنا على ذلك كله فى مواضعه من التفسير، وسنورد سيرته هاهنا من ابتدائها إلى آخرها من الكتاب والسنة، وما ورد فى الآثار المنقولة من الإسرائيليات التى ذكرها السلف وغيرهم إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.

قال الله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذى استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} يذكر تعالى ملخص القصة ثم يبسطها بعد هذا، فذكر أنه يتلو على نبيه خبر موسى وفرعون بالحق، أى بالصدق الذى كأن سامعه مشاهد للأمر معاين له {إن فرعون علا فى الأرض وجعل أهلها شيعا} أى تجبر وعتا وطغى وبغى، وآثر الحياة الدنيا، وأعرض عن طاعة الرب الأعلى {وجعل أهلها شيعا} أى قسم رعيته إلى أقسام وفرق، وأنواع يستضعف طائفة منهم، وهم شعب بنى إسرائيل الذين هم من سلالة نبى الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله، وكانوا إذ ذاك خيار أهل الأرض، وقد سلط عليهم هذا الملك الظالم الغاشم الكافر الفاجر يستعبدهم ويستخدمهم فى أخس الصنائع والحرف وأرداها وأدناها ومع هذا: {يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين} وكان الحامل له على هذا الصنيع القبيح أن بنى إسرائيل كانوا يتدارسون فيما بينهم ما يأثرونه عن إبراهيم عليه السلام من أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك ملك مصر على يديه وذلك، والله أعلم، حين كان جرى على سارة امرأة الخليل من ملك مصر من إرادته إياها على السوء، وعصمة الله لها، وكانت هذه البشارة مشهورة فى بنى إسرائيل، فتحدث بها القبط فيما بينهم، ووصلت إلى فرعون فذكرها له بعض أمرائه وأساورته وهم يسمرون عنده، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بنى إسرائيل حذرا من وجود هذا الغلام، ولن يغنى حذر من قدر.

وذكر السدى عن أبى صالح وأبى مالك، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود وعن أناس من الصحابة: أن فرعون رأى فى منامه كأن نارًا قد أقبلت من نحو بيت المقدس، فأحرقت دور مصر وجميع القبط ولم تضر بنى إسرائيل، فلما استيقظ هاله ذلك، فجمع الكهنة والحزأة والسحرة، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: هذا غلام يولد من هؤلاء يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، فلهذا أمر بقتل الغلمان وترك النسوان، ولهذا قال الله تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض} وهم بنو إسرائيل {ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} أى الذين يؤول ملك مصر وبلادها إليهم {ونمكن لهم فى الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} أى سنجعل الضعيف قويا، والمقهور قادرا، والذليل عزيزا، وقد جرى هذا كله لبنى إسرائيل، كما قال تعالى: {وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا} الآية، وقال تعالى: {كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قومًا آخرين} وسيأتى تفصيل ذلك فى موضعه إن شاء الله.

والمقصود: أن فرعون احترز كل الاحتراز أن لا يوجد موسى، حتى جعل رجالا وقوابل يدورون على الحبالى، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرا إلا ذبحه أولئك الذباحون من ساعته. وعند أهل الكتاب: أنه إنما كان يأمر بقتل الغلمان لتضعف شوكة بنى إسرائيل، فلا يقاومونهم إذا غالبوهم أو قاتلوهم، وهذا فيه نظر، بل هو باطل، وإنما هذا فى الأمر بقتل الولدان بعد بعثة موسى، كما قال تعالى: {فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم}، ولهذا قالت بنو إسرائيل لموسى: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} فالصحيح: أن فرعون إنما أمر بقتل الغلمان أولاً حذرًا من وجود موسى، هذا والقدر يقول: يا أيها ذا الملك الجبار المغرور بكثرة جنوده، وسلطة بأسه واتساع سلطانه، قد حكم العظيم الذى لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف أقداره، أن هذا المولود الذى تحترز منه وقد قتلت بسببه من النفوس ما لا يعد ولا يحصى، لا يكون مرباه إلا فى دارك وعلى فراشك، ولا يغذى إلا بطعامك وشرابك فى منزلك، وأنت الذى تتبناه وتربيه، وتتعداه ولا تطلع على سر معناه، ثم يكون هلاكك فى دنياك وأخراك على يديه، لمخالفتك ما جاءك به من الحق المبين، وتكذيبك ما أوحى إليه لتعلم أنت وسائر الخلق أن رب السماوات والأرض هو الفعال لما يريد، وأنه هو القوى الشديد ذو البأس العظيم والحول والقوة والمشيئة التى لا مرد لها.

وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أن القبط شكوا إلى فرعون قلة بنى إسرائيل بسبب قتل ولدانهم الذكور، وخشى أن تتفانى الكبار مع قتل الصغار، فيصيرون هم الذين يلون ما كان بنو إسرائيل يعالجون، فأمر فرعون بقتل الأبناء عامًا وأن يتركوا عامًا، فذكروا أن هارون عليه السلام ولد فى عام المسامحة عن قتل الأبناء، وأن موسى عليه السلام ولد فى عام قتلهم، فضاقت أمه به ذرعًا واحترزت من أول ما حَبِلت، ولم يكن يظهر عليها مخائيل الحَبَل، فلما وضعت أُلهمت أن اتخذت له تابوتا فربطته فى حبل، وكانت دارها متاخمة للنيل، فكانت ترضعه فإذا خَشِيَت من أحد وضعته فى ذلك التابوت فأرسلته فى البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا ذهبوا استرجعته إليها به، قال الله تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه فى اليم ولا تخافى ولا تحزنى إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين وقالت امرأة فرعون قرة عين لى ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون} هذا الوحى وحى إلهام وإرشاد كما قال تعالى: {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلى من كل الثمرات فاسلكى سبل ربك ذللا} الآية، وليس هو بوحى نبوة كما زعمه ابن حزم وغير واحد من المتكلمين، بل الصحيح الأول كما حكاه أبو الحسن الأشعرى عن أهل السنة والجماعة.

قال السهيلى: واسم أم موسى أيارخا: وقيل: أياذخت. والمقصود: أنها أرشدت إلى هذا الذى ذكرناه وأُلقى فى خلدها وروعها أن لا تخافى ولا تحزنى، فإنه إن ذهب فإن الله سيرده إليك، وإن الله سيجعله نبيا مرسلا يعلى كلمته فى الدنيا والآخرة، فكانت تصنع ما أمرت به، فأرسلته ذات يوم وذهلت أن تربط طرف الحبل عندها، فذهب مع النيل فمر على دار فرعون {فالتقطه آل فرعون}، قال الله تعالى: {ليكون لهم عدوا وحزنا} قال بعضهم: هذه لام العاقبة، وهو ظاهر إن كان متعلقا بقوله: {فالتقطه} وأما إن جعل متعلقا بمضمون الكلام، وهو أن آل فرعون قُيِّضُوا لالتقاطه ليكون لهم عدوا وحزنا، صارت اللام معللة كغيرها، والله أعلم، ويقوى هذا التقدير الثانى قوله: {إن فرعون وهامان} وهو الوزير السوء {وجنودهما} المتابعين لهما {كانوا خاطئين} أى كانوا على خلاف الصواب، فاستحقوا هذه العقوبة والحسرة.

وذكر المفسرون: أن الجوارى التقطنه من البحر فى تابوت مغلق عليه، فلم يتجاسرون على فتحه حتى وضعنه بين يدى امرأة فرعون: آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريان بن الوليد الذى كان فرعون مصر فى زمن يوسف، وقيل: إنها كانت من بنى إسرائيل من سبط موسى، وقيل: بل كانت عمته، حكاه السهيلى، فالله أعلم.

وسيأتى مدحها والثناء عليها فى قصة مريم بنت عمران، وأنهما يكونان يوم القيامة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الجنة. فلما فتحت الباب وكشفت الحجاب رأت وجهه يتلألأ بتلك الأنوار النبوية والجلالة الموسوية، فلما رأته ووقع نظرها عليه أحبته حبا شديدا جدا، فلما جاء فرعون قال: ما هذا؟ وأمر بذبحه، فاستوهبته منه ودفعت عنه وقالت: {قرة عين لى ولك} فقال لها فرعون: أما لك فنعم، وأما لى فلا، أى لا حاجة لى به والبلاء موكل بالمنطق، وقولها: {عسى أن ينفعنا} وقد أنالها الله ما رجت من النفع، أما فى الدنيا: فهداها الله به، وأما فى الآخرة: فأسكنها جنته بسببه {أو نتخذه ولدا} وذلك أنهما تبنياه، لأنه لم يكن يولد لهما ولد، قال الله تعالى: {وهم لا يشعرون} أى لا يدرون ماذا يريد الله بهم أن قيضهم لالتقاطه من النقمة العظيمة بفرعون وجنوده {وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيدة والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم: {وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا} أى من كل شىء من أمور الدنيا إلا من موسى {إن كادت لتبدى به} أى لتظهر أمره وتسأل عنه جهرة {لولا أن ربطنا على قلبها} أى صبرناها وثبتناها {لتكون من المؤمنين} وقالت لأخته وهى ابنتها الكبيرة: {قُصِّيه} أى اتبعى أثره واطلبى له خبره {فبصرت به عن جنب} قال مجاهد: عن بعد. وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده، ولهذا قال: {وهم لا يشعرون} وذلك لأن موسى عليه السلام لما استقر بدار فرعون أرادوا أن يغذوه برضاعة، فلم يقبل ثديا ولا أخذ طعامًا، فحاروا فى أمره واجتهدوا على تغذيته بكل ممكن، فلم يفعل، كما قال تعالى: {وحرمنا عليه المراضع من قبل} فأرسلوه مع القوابل والنساء إلى السوق لعلهم يجدون من يوافق رضاعته، فبينما هم وقوف به والناس عكوف عليه إذ بصرت به أخته، فلم تظهر إنها تعرفه بل قالت: {هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون} قال ابن عباس: لما قالت ذلك قالوا لها: ما يدريك بنصحهم وشفقتهم عليه؟ فقالت: رغبة فى صِهْر الملك ورجاء منفعته، فأطلقوها وذهبوا معها إلى منزلهم، فأخذته أمه فلما أرضعته التقم ثديها، وأخذ يمتصه ويرتضعه، ففرحوا بذلك فرحا شديدا وذهب البشير إلى آسية يعلمها بذلك، فاستدعتها إلى منزلها وعرضت عليها أن تكون عندها، وأن تحسن إليها فأبت عليها، وقالت: إن لى بعلاً وأولادًا ولست أقدر على هذا إلا أن ترسليه معى فأرسلته معها، ورتبت لها رواتب وأجرت عليها النفقات والكساوى والهبات، فرجعت به تحوزه إلى رحلها وقد جمع الله شمله بشملها.

قال الله تعالى: {فرددناه إلى أمه كى تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق} أى كما وعدناها برده ورسالته فهذا رده، وهو دليل على صدق البشارة برسالته {ولكن أكثرهم لا يعلمون} وقد امتن الله على موسى بهذا ليلة كلمه، فقال له فيما قال: {ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه فى التابوت فاقذفيه فى اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لى وعدو له وألقيت عليك محبة منى} وذلك أنه كان لا يراه أحد إلا أحبه {ولتصنع على عينى} إذ قال قتادة وغير واحد من السلف: أى تطعم وترفه وتغذى بأطيب المآكل وتلبس أحسن الملابس بمرأى منى، وذلك كله بحفظى وكلائتى لك فيما صنعت بك لك، وقدرته من الأمور التى لا يقدر عليها غيرى {إذ تمشى أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرددناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا} وسنورد حديث الفتون فى موضعه بعد هذا إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان.

{ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت على فلن أكون ظهيرا للمجرمين} لما ذكر تعالى أنه أنعم على أمه برده لها وإحسانه بذلك وامتنانه عليها شرع فى ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى، وهو احتكام الخلق والخلق وهو سن الأربعين فى قول الأكثرين، آتاه الله حكما وعلما، وهو النبوة والرسالة التى كان بشر بها أمه حين قال: {إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين} ثم شرع فى ذكر سبب خروجه من بلاد مصر وذهابه إلى أرض مدين وإقامته هنالك حتى كمل الأجل، وانقضى الأمد، وكان ما كان من كلام الله له، وإكرامه بما أكرمه به، كما سيأتى، قال تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدى: وذلك نصف النهار، وعن ابن عباس: بين العشائين {فوجد فيها رجلين يقتتلان} أى يتضاربان ويتهاوشان {هذا من شيعته} أى إسرائيلى {وهذا من عدوه} أى قبطى، قاله ابن عباس وقتادة والسدى ومحمد بن إسحاق {فاستغاثه الذى من شيعته على الذى من عدوه} وذلك أن موسى عليه السلام كانت له بديار مصر صولة، بسبب نسبته إلى تبنى فرعون له، وتربيته فى بيته، وكانت بنو إسرائيل قد عزوا وصارت لهم وجاهة، وارتفعت رءوسهم بسبب أنهم أرضعوه وهم أخواله، أى من الرضاعة، فلما استغاث ذلك الإسرائيلى موسى عليه السلام على ذلك القبطى أقبل إليه موسى {فوكزه} قال مجاهد: أى طعنه بجمع كفه، وقال قتادة: بعصا كانت معه {فقضى عليه} أى فمات منها، وقد كان ذلك القبطى كافرًا مشركًا بالله العظيم، ولم يرد موسى قتله بالكلية، وإنما أراد زجره وردعه، ومع هذا قال موسى: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إنى ظلمت نفسى فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم قال رب بما أنعمت على} أى من العز والجاه {فلن أكون ظهيرا للمجرمين فأصبح فى المدينة خائفا يترقب فإذا الذى استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوى مبين فلما أراد أن يبطش بالذى هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إنى لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجنى من القوم الظالمين}.

يخبر تعالى أن موسى أصبح بمدينة مصر {خائفا} أى من فرعون وملئه أن يعلموا أن هذا القتيل الذى رفع إليه أمره إنما قتله موسى فى نصرة رجل من بنى إسرائيل، فتقوى ظنونهم أن موسى منهم، ويترتب على ذلك أمر عظيم، فصار يسير فى المدينة فى صبيحة ذلك اليوم {خائفا يترقب} أى يلتفت، فبينما هو كذلك إذا ذلك الرجل الإسرائيلى الذى استنصره بالأمس {يستصرخه} أى يصرخ به ويستغيثه على آخر قد قاتله فعنفه موسى ولامه على كثرة شره ومخاصمته، قال له: {إنك لغوى مبين} ثم أراد أن يبطش بذلك القبطى الذى هو عدو لموسى وللإسرائيلى فيردعه عنه ويخلصه منه، فلما عزم على ذلك وأقبل على القبطى {قال يا موسى أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسًا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارًا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين} قال بعضهم: إنما قال هذا الكلام الإسرائيلى الذى اطلع على ما كان صنع موسى بالأمس، وكأنه لما رأى موسى مقبلاً إلى القبطى اعتقد أنه جاء إليه لما عنفه قبل ذلك بقوله: {إنك لغوى مبين} فقال ما قال لموسى، وأظهر الأمر الذى كان وقع بالأمس، فذهب القبطى فاستعدى موسى إلى فرعون، وهذا الذى لم يذكر كثير من الناس سواه، ويحتمل أن قائل هذا هو القبطى، وأنه لما رآه مقبلاً إليه خافه، ورأى من سجيته انتصارًا جيدًا للإسرائيلى، فقال ما قال من باب الظن والفراسة: إن هذا لعله قاتل ذاك القتيل بالأمس، أو لعله فهم من كلام الإسرائيلى حين استصرخه عليه ما دله على هذا، والله أعلم.

والمقصود: أن فرعون بلغه أن موسى هو قاتل ذلك المقتول بالأمس، فأرسل فى طلبه، وسبقهم رجل ناصح عن طريق أقرب {وجاء رجل من أقصى المدينة} ساعيًا إليه مشفقا عليه، فقال: {يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج} أى من هذه البلدة {إنى لك من الناصحين} أى فيما أقوله لك، قال الله تعالى: {فخرج منها خائفا يترقب} أى فخرج من مدينة مصر من فوره على وجهه، لا يهتدى إلى طريق، ولا يعرفه قائلا: {رب نجنى من القوم الظالمين ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إنى لما انزلت إلى من خير فقير}. يخبر تعالى عن خروج عبده ورسوله وكليمه من مصر {خائفا يترقب} أى يتلفت، خشية أن يدركه أحد من قوم فرعون، وهو لا يدرى أين يتوجه، ولا إلى أين يذهب، وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها {ولما توجه تلقاء مدين} أى اتجه له طريق يذهب فيه {قال عسى ربى أن يهدينى سواء السبيل} أى عسى أن تكون هذه الطريق موصلة إلى المقصود، وكذا وقع، فقد أوصَلَتْه إلى مقصود وأى مقصود {ولما ورد ماء مدين} وكانت بئرًا يستقون منها، ومدين هى المدينة التى أهلك الله فيها أصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب عليه السلام، وقد كان هلاكهم قبل زمن موسى عليه السلام فى أحد قولى العلماء ولما ورد الماء المذكور {وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان} أى تكفكفان غنمهما أن تختلط بغنم الناس. وعند أهل الكتاب: أنهن كن سبع بنات، وهذا أيضا من الغلط، وكأنه كن سبعًا، ولكن إنما كان تسقى اثنتان منهن، وهذا الجمع ممكن إن كان ذاك محفوظا، وإلا فالظاهر أنه لم يكن له سوى بنتان {قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير} أى لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء، لضعفنا، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره، قال الله تعالى: {فسقى لهما}.

قال المفسرون: وذلك أن الرعاء كانوا إذا فرغوا من وردهم وضعوا على فم البئر صخرة عظيمة، فتجىء هاتان المرأتان فيشرعان غنمهما فى فضل أغنام الناس، فلما كان ذلك اليوم جاء موسى فرفع تلك الصخرة وحده، ثم استقى لهما وسقى غنمهما، ثم رد الحجر كما كان، قال أمير المؤمنين عمر: وكان لا يرفعه إلا عشرة، وإنما استقى ذنوبًا واحدًا فكفاهما، ثم تولى إلى الظل، قالوا: وكان ظل شجرة من السمر، روى ابن جرير عن ابن مسعود أنه رآها خضراء ترف {قال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير} قال ابن عباس: سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فسقطت نعلا قدميه من الحفاء، وجلس فى الظل، وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه، وأنه لمحتاج إلى شق تمرة، قال عطاء بن السائب لما {قال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير} أسمع المرأة {فجاءته أحداهما تمشى على استحياء قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بينى وبينك أيما الإجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل} لما جلس موسى عليه السلام فى الظل و{قال رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير} سمعته المرأتان فيما قيل، فذهبتا إلى أبيهما، فيقال: إنه استنكر سرعة رجوعهما فأخبرتاه ما كان من أمر موسى عليه السلام، فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه، {فجاءته إحداهما تمشى على استحياء} أى مشى الحرائر {قالت إن أبى يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا} صرحت له بهذا لئلا يوهم كلامها ريبة، وهذا من تمام حيائها وصيانتها، {فلما جاءه وقص عليه القصص}، وأخبره خبره، وما كان من أمره فى خروجه من بلاد مصر فرارًا من فرعونها {قال} له ذلك الشيخ: {لا تخف نجوت من القوم الظالمين} أى خرجت من سلطانهم، فلست فى دولتهم.

وقد اختلفوا فى هذا الشيخ من هو؟ فقيل: هو شعيب عليه السلام، وهذا هو المشهور عند كثيرين وممن نص عليه الحسن البصرى ومالك بن أنس، وجاء مصرحًا به فى حديث، ولكن فى إسناده نظر، وصرح طائفة بأن شعيبًا عليه السلام عاش عمرًا طويلاً بعد هلاك قومه، حتى أدركه موسى عليه السلام وتزوج بابنته. وروى ابن أبى حاتم وغيره عن الحسن البصرى: أن صاحب موسى عليه السلام هذا اسمه شعيب، وكان سيد الماء، ولكن ليس بالنبى صاحب مدين. وقيل: إنه ابن أخى شعيب، وقيل: ابن عمه، وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب، وقيل: رجل اسمه يثرون، هكذا هو فى كتب أهل الكتاب: يثرون كاهن مدين، أى كبيرها وعالمها. قال ابن عباس وأبو عبيدة بن عبد الله: اسمه يثرون. زاد أبو عبيدة: وهو ابن أخى شعيب. زاد ابن عباس: صاحب مدين.

والمقصود: أنه لما أضافه، وأكرم مثواه، وقص عليه ما كان من أمره، بشره بأنه قد نجا، فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها: {يا أبت استأجره} أى لرعى غنمك، ثم مدحته بأنه قوى أمين. قال عمر وابن عباس وشريح القاضى وأبو مالك وقتادة ومحمد بن إسحاق وغير واحد: لما قالت ذلك قال لها أبوها: وما علمك بهذا؟ فقالت: إنه رفع صخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة، وأنه لما جئت معه تقدمت أمامه، فقال: كونى من ورائى، فإذا اختلف الطريق فاقذفى لى بحصاة أعلم بها كيف الطريق.

قال ابن مسعود: أفرس الناس ثلاثة: صاحب يوسف حين قال لامرأته {أكرمى مثواه} وصاحبة موسى حين قالت: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين}، وأبو بكر حين استخلف عمر بن الخطاب. {قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرنى ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدنى إن شاء الله من الصالحين} استدل بهذا جماعة من أصحاب أبى حنيفة رحمه الله، على صحة ما إذا باعه أحد هذين العبدين أو الثوبين ونحو ذلك أنه يصح، لقوله: {إحدى ابنتى هاتين} وفى هذا نظر، لأن هذه مراوضة لا معاقدة، والله أعلم.

واستدل أصحاب أحمد على صحة الإيجار بالطعمة والكسوة كما جرت به العادة، واستأنسوا بالحديث الذى رواه ابن ماجه فى سننه مترجمًا فى كتابه، باب استئجار الأجير، على طعام بطنه: حدثنا محمد بن الصفى الحمصى، حدثنا بقية بن الوليد، عن مسلمة بن على، عن سعيد بن أبى أيوب، عن الحارث بن يزيد، عن على بن رباح، قال: سمعت عتبة بن الندر، يقول: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: {طسم} حتى إذا بلغ قصة موسى قال: (إن موسى عليه السلام آجر نفسه ثمانى سنين، أو عشرة، على عفة فرجه وطعام بطنه). وهذا من هذا الوجه لا يصح لأن مسلمة بن على الحسنى الدمشقى البلاطى ضعيف عند الأئمة لا يحتج بتفرده. ولكن قد روى من وجه آخر فقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبوزرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكر، حدثنى ابن لهيعة وحدثنا أبو زرعة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمى، عن على بن رباح اللخمى، قال: سمعت عتبة بن الندر السلمى، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن موسى عليه السلام آجر نفسه لعفة فرجه وطعمة بطنه). ثم قال تعالى: {ذلك بينى وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان على والله على ما نقول وكيل} يقول: إن موسى قال لصهره: الأمر على ما قلت، فأيهما قضيت فلا عدوان على، والله على مقالتنا سامع ومشاهد، ووكيل على وعليك، ومع هذا فلم يقض موسى إلا أكمل الأجلين وأتمهما، وهو العشر سنين، كوامل تامه.

قال البخارى: حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان ابن شجاع، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، قال: سألنى يهودى من أهل الحيرة، أى الأجلين قضى موسى؟ فقلت: لا أدرى، حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله إذا قال فعل. تفرد به البخارى من هذا الوجه. وقد رواه النسائى فى حديث الفتون، كما سيأتى، من طريق القاسم بن أبى أيوب، عن سعيد بن جبير. وقد رواه ابن جرير عن أحمد بن محمد الطوسى. وابن أبى حاتم عن أبيه كلاهما عن الحميدى، عن سفيان بن عيينة، حدثنى إبراهيم بن يحيى بن أبى يعقوب، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سألت جبريل أى الأجلين قضى موسى؟ قال: أتمهما وأكملهما). وإبراهيم هذا غير معروف إلا بهذا الحديث. وقد رواه البزار عن أحمد بن أبان القرشى، عن سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن أعين، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبى صلى الله عليه وسلم فذكره.

وقد رواه سنيد عن حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مرسلاً: (أن رسول الله سأل عن ذلك جبريل، فسأل جبريل إسرافيل، فسأل إسرافيل الرب عز وجل، فقال: أبرهما وأوفاهما). وبنحوه رواه ابن أبى حاتم من حديث يوسف بن سرح مرسلا، ورواه ابن جرير من طريق محمد بن كعب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أى الأجلين قضى موسى؟ قال: (أوفاهما وأتمهما). وقد رواه البزار وابن أبى حاتم من حديث عويد بن أبى عمران الجونى، وهو ضعيف، عن أبيه، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أى الأجلين قضى موسى؟ قال: (أوفاهما وأبرهما). قال: وإن سئلت أى المرأتين تزوج؟ فقل: الصغرى منهما. وقد رواه البزار وابن أبى حاتم من طريق عبد الله بن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرمى، عن على بن رباح، عن عتبة بن النذر أن رسول الله قال: (إن موسى آجر نفسه بعفة فرجه وطعام بطنه، فلما وفى الأجل، قيل: يا رسول الله، أى الأجلين؟ قال: أبرهما وأوفاهما، فلما أراد فراق شعيب سأل امرأته أن تسأل أباها أن يعطيها من غنمه ما يعيشون به، فأعطاها ما ولدت من غنمه من قالب لون من ولد ذلك العام، وكانت غنمه سودًا حسانًا، فانطلق موسى عليه السلام إلى عصا قسمها من طرفها، ثم وضعها فى أدنى الحوض، ثم أوردها فسقاها، ووقف موسى عليه السلام بإزاء الحوض، فلم يصدر منها شاة إلا ضرب جنبها شاة شاة، قال: فأتأمت، وآنثت، ووضعت كلها قوالب ألوان، إلا شاة أو شاتين ليس فيها فشوش، ولا ضبوب، ولا عزوز، ولا ثعول، ولا كموش تفوت الكف)، قال النبى صلى الله عليه وسلم : (لو اقتحمتم الشام وجدتم بقايا تلك الغنم). وهى السامرية. قال ابن لهيعة: الفشوش: واسعة السخب، والضبوب: طويلة الضرع تجره، والعزوز: ضيقة السخب، والثعول: الصغيرة الضرع كالحلمتين، والكموش: التى لا يحكم الكف على ضرعها لصغره. وفى صحة رفع هذا الحديث نظر، وقد يكون موقوفًا.

كما قال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا معاذ بن هشام، حدثنا أبى، عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك، قال: لما دعا نبى الله موسى صاحبه إلى الأجل الذى كان بينهما، قال له صاحبه: كل شاة ولدت على لونها فلك ولدها، فعمد فوضع خيالاً على الماء، فلما رأت الخيال فزعت، فجالت جولة، فولدن كلهن بلقا، إلا شاة واحدة، فذهب بأولادهن ذلك العام). وهذا إسناد رجاله ثقات والله أعلم. وقد تقدم عن نقل أهل الكتاب عن يعقوب عليه السلام حين فارق خاله لابان أنه أطلق له ما يولد من غنمه بلقا، ففعل نحو ما ذكر عن موسى عليه السلام، فالله أعلم.

{فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون فلما أتاها نودى من شاطىء الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين أسلك يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين} تقدم أن موسى قضى أتم الأجلين وأكملهما، وقد يؤخذ هذا من قوله: {فلما قضى موسى الأجل} وعن مجاهد: أنه أكمل عشرًا وعشرًا بعدها، وقوله: {وسار بأهله} أى من عند صهره ذاهبا، فيما ذكره غير واحد من المفسرين وغيرهم: أنه اشتاق إلى أهله، فقصد زيارتهم ببلاد مصر فى صورة مُختف، فلما سار بأهله ومعه ولدان منهم وغنم قد استفادها مدة مقامه، قالوا: واتفق ذلك فى ليلة مظلمة باردة، وتاهوا فى طريقهم، فلم يهتدوا إلى السلوك فى الدرب المألوف، وجعل يورى زناده فلا يورى شيئا، واشتد الظلام والبرد، فبينما هو كذلك إذ أبصر عن بعد نارًا تأجج فى جانب الطور، وهو الجبل الغربى منه عن يمينه {فقال لأهله: امكثوا إنى آنست نارا}، وكأنه، والله أعلم، رآها دونهم، لأن هذه النار هى نور فى الحقيقة، ولا يصلح رؤيتها لكل أحد {لعلى آتيكم منها بخبر} أى لعلى أستعلم من عندها عن الطريق {أو جذوة من النار لعلكم تصطلون} فدل على أنهم كانوا قد تاهوا عن الطريق فى ليلة باردة ومظلمة، لقوله فى الآية الأخرى: {وهل أتاك حديث موسى إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى} فدل على وجود الظلام، وكونهم تاهوا عن الطريق، وجمع الكل فى سورة النمل فى قوله: {إذ قال موسى لأهله إنى آنست نارًا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون} وقد أتاهم منها بخبر وأى خبر، ووجد عندها هدى وأى هدى، واقتبس منها نورًا وأى نور.

قال الله تعالى: {فلما أتاها نودى من شاطئ الوادى الأيمن فى البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين}، وقال فى النمل: {فلما جاءها نودى أن بورك من فى النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} أى سبحان الله الذى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد {يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم}، وقال فى سورة طه: {فلما أتاها نودى يا موسى إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى} قال غير واحد من المفسرين من السلف والخلف: لما قصد موسى إلى تلك النار التى رآها فانتهى إليها، وجدها تأجج فى شجرة خضراء من العوسج، وكل ما لتلك النار فى اضطرام، وكل ما لخضرة تلك الشجرة فى ازدياد، فوقف متعجبًا، وكانت تلك الشجرة فى لحف جبل غربى منه عن يمينه، كما قال تعالى: {وما كنت بجانب الغربى إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين} وكان موسى فى واد اسمه طوى، فكان موسى مستقبل القبلة وتلك الشجرة عن يمينه من ناحية الغرب، فناداه ربه بالواد المقدس طوى، فأمر أولاً بخلع نعليه تعظيما وتكريما وتوقيرا لتلك البقعة المباركة، ولاسيما فى تلك الليلة المباركة.

وعند أهل الكتاب: أنه وضع يده على وجهه من شدة ذلك النور، مهابة له وخوفا على بصره، ثم خاطبه تعالى كما يشاء قائلا له: {إنى أنا الله رب العالمين}، {إننى أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدنى وأقم الصلاة لذكرى} أى أنا رب العالمين الذى لا إله إلا هو، الذى لا تصلح العبادة وإقامة الصلاة إلا له، ثم أخبره أن هذه الدنيا ليست بدار قرار، وإنما الدار الباقية يوم القيامة، التى لابد من كونها ووجودها {لتجزى كل نفس بما تسعى} أى من خير وشر، وحضه وحثه على العمل لها، ومجانبة من لا يؤمن بها ممن عصى مولاه واتبع هواه، ثم قال له مخاطبًا ومؤانسًا ومبينًا له أنه القادر على كل شىء الذى يقول للشىء كن فيكون: {وما تلك بيمينك يا موسى} أى أما هذه عصاك التى تعرفها منذ صحبتها؟ {قال هى عصاى أتوكأ عليها وأهش بها على غنمى ولى فيها مآرب أخرى} أى بل هذه عصاى التى أعرفها وأتحققها {قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هى حية تسعى} وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذى يكلمه يقول للشىء كن فيكون، وأنه الفعال بالاختيار.

وعند أهل الكتاب: أنه سأل برهانًا على صدقه عند من يكذبه من أهل مصر، فقال له الرب عز وجل: ما هذه التى فى يدك؟ قال: عصاى، قال: ألقها إلى الأرض {فألقاها فإذا هى حية تسعى} فهرب موسى من قدامها، فأمره الرب عز وجل أن يبسط يده ويأخذها بذنبها، فلما استمكن منها ارتدت عصا فى يده، وقد قال الله تعالى فى الآية الأخرى: {وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرًا ولم يعقب} أى قد صارت حية عظيمة لها ضخامة هائلة وأنياب تصك، وهى مع ذلك فى سرعة حركة الجان، وهو ضرب من الحيات، يقال: الجان والجنان، وهو لطيف ولكن سريع الاضطراب والحركة جدا، فهذه جمعت الضخامة والسرعة الشديدة، فلما عاينها موسى عليه السلام {ولى مدبرا} أى هاربا منها، لأن طبيعته البشرية تقتضى ذلك {ولم يعقب} أى ولم يلتفت فناداه ربه، قائلا له: {يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين} فلما رجع أمره الله تعالى أن يمسكها {قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى} فيقال: إنه هابها شديدًا فوضع يده فى كم مدرعته، ثم وضع يده فى وسط فمها. وعند أهل الكتاب: أمسك بذنبها، فلما استمكن منها إذا هى قد عادت كما كانت عصا ذات شعبتين، فسبحان القدير العظيم رب المشرقين والمغربين، ثم أمره تعالى بإدخال يده فى جيبه ثم أمره بنزعها، فإذا هى تتلألأ كالقمر بياضًا من غير سوء، أى من غير برص ولا بهق، ولهذا قال: {اسلك يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب} قيل: معناه إذا خفت فضع يدك على فؤادك يسكن جأشك، وهذا وإن كان خاصًا به، إلا أن بركة الإيمان به حق بأن ينفع من استعمل ذلك على وجه الاقتداء بالأنبياء.

وقال فى سورة النمل: {وأدخل يدك فى جيبك تخرج بيضاء من غير سوء فى تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين} أى هاتان الآيتان، وهما العصا واليد، وهما البرهانان المشار إليهما فى قوله: {فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قومًا فاسقين} ومع ذلك سبع آيات أخر، فذلك تسع آيات بينات وهى المذكورة فى آخر سورة سبحان، حيث يقول تعالى: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بنى إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لأظنك يا موسى مسحورا قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإنى لأظنك يا فرعون مثبورا} وهى المبسوطة فى سورة الأعراف فى قوله: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين} كما سيأتى الكلام على ذلك فى موضعه، وهذه التسع آيات غير العشر الكلمات، فإن التسع من كلمات الله القدرية، والعشر من كلماته الشرعية، وإنما نبهنا على هذا لأنه قد اشتبه أمرها على بعض الرواة، فظن أن هذه هى هذه، كما قررنا ذلك فى تفسير آخر سورة بنى إسرائيل.

والمقصود: أن الله سبحانه لما أمر موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون {قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردًا يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون}. يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه السلام، فى جوابه لربه عز وجل، حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذى خرج من ديار مصر فرارًا من سطوته وظلمه، حين كان من أمره ما كان فى قتل ذلك القبطى، ولهذا {قال رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معى ردأ يصدقنى إنى أخاف أن يكذبون} أى اجعله معى معينًا وردءًا ووزيرًا يساعدنى ويعيننى على أداء رسالتك إليهم، فإنه أفصح منى لسانًا، وأبلغ بيانًا، قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله: {سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا} أى برهانا {فلا يصلون إليكما} أى فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما، بآياتنا، وقيل: ببركة آياتنا {أنتما ومن اتبعكما الغالبون}.

وقال فى سورة طه: {اذهب إلى فرعون إنه طغى قال رب اشرح لى صدرى ويسر لى أمرى واحلل عقدة من لسانى يفقهوا قولى} قيل: إنه أصابه فى لسانه لثغة، بسبب تلك الجمرة التى وضعها على لسانه التى كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله، فخافت عليه آسية وقالت: إنه طفل، فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة، فأخذها فوضعها على لسانه، فأصابه لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، ولم يسأل زوالها بالكلية.

قال الحسن البصرى: والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة، ولهذا بقيت فى لسانه بقية، ولهذا قال فرعون قبحه الله فيما زعم إنه يعيب به الكليم: {ولا يكاد يبين} أى يفصح عن مراده، ويعبر عما فى ضميره وفؤاده، ثم قال موسى عليه السلام: {واجعل لى وزيرا من أهلى هارون أخى اشدد به أزرى وأشركه فى أمرى كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤالك يا موسى} أى قد أجبناك إلى جميع ما سألت، وأعطيناك الذى طلبت، وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل حين شفع أن يوحى الله إلى أخيه فأوحى إليه، وهذا جاه عظيم، قال الله تعالى: {وكان عند الله وجيها}، وقال تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًا}، وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلاً يقول لأناس وهم سائرون طريق الحج: أى أخ أمن على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت عائشة: لمن حول هودجها هو موسى بن عمران، حين شفع فى أخيه هارون. فأوحى إليه قال الله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا}.

قال تعالى فى سورة الشعراء: {وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون قال رب إنى أخاف أن يكذبون ويضيق صدرى ولا ينطلق لسانى فأرسل إلى هارون ولهم على ذنب فأخاف أن يقتلون قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا نبى إسرائيل قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين} تقدير الكلام: فاتياه، فقالا له ذلك، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وأن يفك أسارى بنى إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته، وتركهم يعبدون ربهم حيث شاءوا، ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه، فتكبر فرعون فى نفسه، وعتا وطغى، ونظر إلى موسى بعين الازدراء والتنقص، قائلا له: {ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين} أى أما أنت الذى ربيناه فى منزلنا، وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر، وهذا يدل على أن فرعون الذى بعث إليه هو الذى فر منه، خلافًا لما عند أهل الكتاب من أن فرعون الذى فر منه مات فى مدة مقامه بمدين، وأن الذى بعث إليه فرعون آخر. وقوله: {وفعلت فعلتك التى فعلت وأنت من الكافرين} أى وقتلت الرجل القبطى، وفررت منا، وجحدت نعمتنا {قال فعلتها إذا وأنا من الضالين} أى قبل أن يوحى إلى وينزل على {ففرت منكم لما خفتكم فوهب لى ربى حكما وجعلنى من المرسلين} ثم قال مجيبًا لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه: {وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بنى إسرائيل} أى وهذه النعمة التى ذكرت من أنك أحسنت إلى وأنا رجل واحد من بنى إسرائيل، تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله واستعبدتهم فى أعمالك، وخدمك، وأشغالك {قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون}.

يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة، والمحاجة، والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية، وذلك أن فرعون، قبحه الله، أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى، وزعم أنه الإله: {فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى} وقال: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى} وهو فى هذه المقالة معاند، يعلم أنه عبد مربوب، وأن الله هو الخالق البارئ المصور الإله الحق، كما قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كانت عاقبة المفسدين} ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته والاظهار أنه ما ثم رب أرسله: {وما رب العالمين} لأنهما قالا له: {أنا رسول رب العالمين} فكأنه يقول لهما: ومن رب العالمين الذى تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابه موسى قائلا: {رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} يعنى رب العالمين، خالق هذه السماوات والأرض المشاهدة، وما بينهما من المخلوقات المتجددة، من السحاب والرياح، والمطر والنبات، والحيوانات التى يسلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها، ولابد لها من موجد ومحدث وخالق، وهو الله الذى لا إله إلا هو رب العالمين {قال} أى فرعون، {لمن حوله} من أمرائه، ومرازبته، ووزرائه على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه السلام: {ألا تستمعون} يعنى كلامه هذا. {قال} موسى مخاطبًا له ولهم: {ربكم ورب آبائكم الأولين} أى هو الذى خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد، والقرون السالفة فى الآباد، فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ولا أبوه ولا أمه، ولم يحدث من غير محدث، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين، وهذان المقامان هما المذكوران فى قوله تعالى: {سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته، ولا نزع عن ضلالته، بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه {قال إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون} أى هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة المسير للأفلاك الدائرة، خالق الظلام والضياء، ورب الأرض والسماء، رب الأولين والآخرين، خالق الشمس والقمر والكواكب السائرة، والثوابت الحائرة، خالق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون، وفى فلك يسبحون يتعاقبون فى سائر الأوقات ويدورون، فهو تعالى الخالق المالك المتصرف فى خلقه بما يشاء، فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه، ولم يبق له قول سوى العناد، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته {قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين قال أولو جئتك بشىء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع بده فإذا هى بيضاء للناظرين}، وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما، وهما العصا واليد، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم، الذى بهر به العقول والأبصار، حين ألقى عصاه {فإذا هى ثعبان مبين} أى عظيم الشكل بديع فى الضخامة والهول والمنظر العظيم الفظيع الباهر، حتى قيل: إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه أخذه رهب شديد وخوف عظيم بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة فى يوم، وكان قبل ذلك لا يتبرز فى كل أربعين يوما إلا مرة واحدة، فانعكس عليه الحال، وهكذا لما أدخل موسى عليه السلام يده فى جيبه واستخرجها أخرجها وهى كفلقة القمر تتلألأ نورا بهر الأبصار، فإذا أعادها إلى جيبه رجعت إلى صفتها الأولى، ومع هذا كله لم ينتفع فرعون، لعنه الله، بشىء من ذلك بل استمر على ما هو عليه، وأظهر أن هذا كله سحر، وأراد معارضته بالسحرة، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن فى رعيته وتحت قهره ودولته، كما سيأتى بسطه وبيانه فى موضعه من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وملائه وأهل دولته وملته، ولله الحمد والمنة.

وقال تعالى فى سورة طه: {فلبثت سنين فى أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسى اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى} يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه وأنعم بالنبوة عليه وكلمه منه إليه: قد كنت مشاهدًا لك وأنت فى دار فرعون، وأنت تحت كنفى وحفظى ولطفى، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتى وقدرتى وتدبيرى، فلبثت فيها سنين {ثم جئت على قدر} أى منى لذلك فوافق ذلك تقديرى وتسييرى {واصطنعتك لنفسى} أى اصطفيتك لنفسى برسالتى وبكلامى {اذهب أنت وأخوك بآياتى ولا تنيا فى ذكرى} يعنى ولا تفترا فى ذكرى، إذ قدمتما عليه، ووفدتما إليه، فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته، وإهداء النصيحة إليه، وإقامة الحجة عليه، وقد جاء فى بعض الأحاديث: (يقول الله تعالى: إن عبدى كل عبدى الذى يذكرنى وهو ملاق قرنه). وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا} الآية، ثم قال تعالى: {اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} وهذا من حلمه تعالى وكرمه ورأفته ورحمته بخلقه، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره، وهو إذ ذاك أردى خلقه، وقد بعث إليه صفوته من خلقه فى ذلك الزمان، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعواه إليه بالتى هى أحسن برفق ولين، ويعاملاه معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى، كما قال لرسوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن}، وقال تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم} الآية.

قال الحسن البصرى: {فقولا له قولا لينا} أعذرا إليه قولا له: إن لك ربا ولك معادًا، وإن بين يديك جنة ونارًا. وقال وهب بن منبه: قولا له: إنى إلى العفو والمغفرة أقرب منى إلى الغضب والعقوبة. قال يزيد الرقاشى عند هذه الآية: يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه {قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى} وذلك أن فرعون كان جبارًا عنيدًا وشيطانًا مريدًا له سلطان فى بلاد مصر طويل عريض، وجاه وجنود وعساكر وسطوة، فهاباه من حيث البشرية، وخافا أن يسطو عليهما فى بادئ الأمر، فثبتهما تعالى وهو العلى الأعلى، فقال: {لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى}، كما قال فى الآية الأخرى: {إنا معكم مستمعون}، {فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون، فيدعواه إلى الله تعالى، أن يعبده وحده لا شريك له، وأن يرسل معهم بنى إسرائيل، ويطلقهم من أسره وقهره، ولا يعذبهم {قد جئناك بآية من ربك} وهو البرهان العظيم فى العصى واليد {والسلام على من اتبع الهدى} تقيد مفيد بليغ عظيم، ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا: {إنا قد أوحى إلينا أن العذاب على من كذب وتولى} أى كذب بالحق بقلبه وتولى عن العمل بقالبه.

وقد ذكر السدى: وغيره أنه لما قدم من بلاد مدين دخل على أمه وأخيه هارون وهما يتعشيان من طعام فيه الطفشيل، وهو اللفت، فأكل معهما ثم قال: يا هارون، إن الله أمرنى وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته فقم معى، فقاما يقصدان باب فرعون، فإذا هو مغلق، فقال موسى للبوابين والحجبة: أعلموه أن رسول الله بالباب فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به.

وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل. وقال محمد بن إسحاق: أذن لهما بعد سنتين، لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما، فالله أعلم. ويقال: إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه، فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عز وجل كما أمرهما.

وعند أهل الكتاب: أن الله قال لموسى عليه السلام: إن هارون اللاوى، يعنى من نسل لاوى بن يعقوب، سيخرج ويتلقاك، وأمره أن يأخذ معه مشايخ بنى إسرائيل إلى فرعون، وأمره أن يظهر ما أتاه من الآيات، وقال له: إنى سأُقسى قلبه فلا يرسل الشعب، وأكثر آياتى وأعاجيبى بأرض مصر، وأوحى الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حوريب، فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه، فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بنى إسرائيل، وذهبا إلى فرعون، فلما بلغاه رسالة الله، قال: من هو الله، لا أعرفه؟ ولا أرسل بنى إسرائيل، وقال الله مخبرًا عن فرعون: {قال فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى الذى جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذلك لآيات لأولى النهى منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى}.

يقول تعالى مخبرًا عن فرعون إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلا: {فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذى أعطى كل شىء خلقه ثم هدى} أى هو الذى خلق الخلق وقدر لهم أعمالا وأرزاقا وآجالا، وكتب ذلك عنده فى كتابه اللوح المحفوظ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له، فطابق عمله فيهم على الوجه الذى قدره، وعلمه لكمال علمه وقدرته وقدره، وهذه الآية كقوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى} أى قدر قدرًا وهدى الخلائق إليه {قال فما بال القرون الأولى} يقول فرعون لموسى: فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادى الخلائق لما قدره، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه، فلم عبد الأولون غيره وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت، فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى؟ {قال علمها عند ربى فى كتاب لا يضل ربى ولا ينسى} أى هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك، ولا يدل على خلاف ما أقول، لأنهم جهلة مثلك كل شىء فعلوه مسطر عليهم فى الزبر من صغير وكبير، وسيجزيهم على ذلك ربى عز وجل، ولا يظلم أحدًا مثقال ذرة، لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده فى كتاب لا يضل عنه شىء ولا ينسى ربى شيئا، ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء وجعله الأرض مهادًا، والسماء سقفًا محفوظا، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم، كما قال: {كلوا وارعوا أنعامكم إن فى ذلك لآيات لأولى النهى} أى لذوى العقول الصحيحة المستقيمة والفطر القويمة غير السقيمة، فهو تعالى الخالق الرزاق، وكما قال تعالى: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذى خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون الذى جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادًا وأنتم تعلمون} ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر واهتزازها بإخراج نباتها فيه، نبه به على المعاد فقال: {منها} أى من الأرض {خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} كما قال تعالى: {كما بدأكم تعودون}.

وقال تعالى: {وهو الذى يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى فى السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم}، ثم قال تعالى: {ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}. يخبر تعالى عن شقاء فرعون، وكثرة جهله، وقلة عقله، فى تكذيبه بآيات الله، واستكباره عن اتباعها وقوله لموسى: إن هذا الذى جئت به سحر، ونحن نعارضك بمثله، ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم، ومكان معلوم، وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه السلام، أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس، ولهذا قال: {موعدكم يوم الزينة} وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمع لهم {وأن يحشر الناس ضحى} أى من أول النهار فى وقت اشتداد ضياء الشمس، فيكون الحق أظهر وأجلى، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلاً فى ظلام كيما يروج عليهم محالا وباطلا، بل طلب أن يكون نهارًا جهرة، لأنه على بصيرة من ربه، ويقين أن الله سيظهر كلمته ودينه، وإن رغمت أنوف القبط.

قال الله تعالى: {فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى قال قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى فأجمعوا كيدكم ثم أئتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى}. يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده من السحرة، وكانت بلاد مصر فى ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء فى فنهم غاية، فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان، فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير، فقيل: كانوا ثمانين ألفًا، قاله محمد بن كعب. وقيل: سبعين ألفا، قاله القاسم بن أبى بردة. وقال السدى: بضعة وثلاثين ألفا. وعن أبى أمامة: تسعة عشر ألفا. وقال محمد بن إسحاق: خمسة عشر ألفا. وقال كعب الأحبار: كانوا إثنى عشر ألفا. وروى ابن أبى حاتم عن ابن عباس: كانوا سبعين رجلا، وروى عنه أيضا: أنهم كانوا أربعين غلامًا من بنى إسرائيل، أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر، ولهذا قالوا: {وما أكرهتنا عليه من السحر}، وفى هذا نظر.

وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم، وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم، فخرجوا وهم يقولون: {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} وتقدم موسى عليه السلام إلى السحرة فوعظهم وزجرهم عن تعاطى السحر الباطل الذى فيه معارضة لآيات الله وحججه، فقال: {ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى فتنازعوا أمرهم بينهم} قيل: معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم، فقائل يقول: هذا كلام نبى وليس بساحر، وقائل منهم يقول: بل هو ساحر، فالله أعلم، وأسروا التناجى بهذا وغيره: {قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما} يقولون: إن هذا وأخاه هارون ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة، ومرادهما أن يجتمع الناس عليهما ويصولا علىالملك وحاشيته ويستأصلاكم عن آخركم ويستأمرا عليكم بهذه الصناعة {فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى} وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة، والسحر والبهتان، وهيهات كذبت والله الظنون، وأخطأت الآراء أنى يعارض البهتان والسحر والهذيان، خوارق العادات التى أجراها الديان على يدى عبده الكليم ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان الذى يبهر الأبصار وتحار فيه العقول والأذهان، وقولهم: {فأجمعوا كيدكم} أى جميع ما عندكم {ثم ائتوا صفا} أى جملة واحدة، ثم حضوا بعضهم بعضا على التقدم فى هذا المقام، لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا {قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى قال بل القوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس فى نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى والق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}.

لما اصطف السحرة ووقف موسى وهارون عليهما السلام تجاههم قالوا له: إما أن تلقى قبلنا، وإما أن نلقى قبلك {قال بل ألقوا} أنتم وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصى، فأودعوها الزئبق، وغيره من الآلات، التى تضطرب بسببها تلك الحبال والعصى، اضطرابًا يخيل للرائى أنها تسعى باختيارها، وإنما تتحرك بسبب ذلك، فعند ذلك سحروا أعين الناس، واسترهبوهم وألقوا حبالهم وعصيهم، وهم يقولون: {بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} قال الله تعالى: {فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}، وقال تعالى: {فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى فأوجس فى نفسه خيفة موسى} أى خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم، ومحالهم قبل أن يلقى ما فى يده، فإنه لا يضع شيئا قبل أن يؤمر فأوحى الله إليه فى الساعة الراهنة {لا تخف إنك أنت الأعلى وألق ما فى يمينك تلقف ما صنعوا انما صنعوا كسد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى} فعند ذلك ألقى موسى عصاه، وقال: {ما جئتم به السحر إن الله سيبطله، إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون}، وقال تعالى: {وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب هارون وموسى} وذلك أن موسى عليه السلام لما ألقاها صارت حية عظيمة ذات قوائم، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف، وعنق عظيم، وشكل هائل مزعج، بحيث أن الناس انحازوا منها وهربوا سراعا وتأخروا عن مكانها، وأقبلت هى على ما ألقوه من الحبال والعصى فجعلت تلقفه واحدا واحدا فى أسرع ما يكون من الحركة، والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها، وأما السحرة فإنهم رأوا ما هالهم وحيرهم فى أمرهم، واطلعوا على أمر لم يكن فى خلدهم ولا بالهم، ولا يدخل تحت صناعاتهم وأشغالهم، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر، ولا شعبذة، ولا محال، ولا خيال، ولا زور، ولا بهتان، ولا ضلال، بل حق لا يقدر عليه إلا الحق الذى ابتعث هذا المؤيد به بالحق، وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة، وأنارها بما خلق فيها من الهدى، وأزاح عنها القسوة، وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى: {آمنا برب موسى وهرون}، كما قال تعالى: {فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم فى جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جنهم لا يموت فيها ولا يحيى ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى}.

قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبى بردة والأوزاعى وغيرهم: لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم فى الجنة تهيأ لهم، وتزخرف لقدومهم، ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده. وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا، وأشهروا ذكروا موسى وهارون فى الناس على هذه الصفة الجميلة، أفزعه ذلك ورأى أمرًا أبهره وأعمى بصيرته وبصره، وكان فيه كيد ومكر وخداع وصنعة بليغة فى الصد عن سبيل الله، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس: {آمنتم له قبل أن آذن لكم} أى هلا شاورتمونى فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتى، ثم تهدد وتوعد وأبرق وارعد وكذب فأبعد قائلا: {إنه لكبيركم الذى علمكم السحر}، وقال فى الآية الأخرى: {إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون} وهذا الذى قاله من البهتان يعلم كل فرد عاقل ما فيه من الكفر والكذب والهذيان، بل لا يروج مثله على الصبيان، فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر، فكيف يكون كبيرهم الذى علمهم السحر؟ ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم، حتى كان فرعون هو الذى استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق، وواد سحيق، ومن حواضر بلاد مصر، والأطراف ومن المدن والأرياف.

قال الله تعالى فى سورة الأعراف: {ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فظلموا بها فانظر كيف كان عاقبة المفسدين وقال موسى يا فرعون إنى رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معى بنى إسرائيل قال إن كنت جئت بآية فات بها إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وأرسل فى المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون نحن الملقين قال ألقوا فلما ألقوا سحروا أعين الناس وأسترهبوهم وجاؤا بسحر عظيم وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هى تلقف ما يأفكون فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين قالوا إنا إلى ربنا منقلبون وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جائتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين}.

وقال تعالى فى سورة يونس: {ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملائه بآياتنا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا إن هذا لسحر مبين قال موسى أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا ولا يفلح الساحرون قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء فى الأرض وما نحن لكما بمؤمنين وقال فرعون إئتونى بكل ساحر عليم فلما جاء السحرة قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فلما ألقو قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون}.

وقال تعالى فى سورة الشعراء: {قال لئن اتخذت إلها غيرى لأجعلنك من المسجونين قال أو لو جئتك بشىء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا هى ثعبان مبين ونزع يده فإذا هى بيضاء للناظرين قال للملأ حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون قالوا أرجه وأخاه وابعث فى المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم فجمع السحرة لميقات يوم معلوم وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين فلما جاء السحرة قالوا لفرعون إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هى تلقف ما يأفكون فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهرون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين}.

والمقصود: أن فرعون كذب وافترى، وكفر غاية الكفر فى قوله: {إنه لكبيركم الذى علمكم السحر} وأتى ببهتان يعلمه العالمون، بل العالمون فى قوله: {إن هذا لمكر مكرتموه فى المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون}، وقوله: {لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف} يعنى يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، وعكسه {ولأصلبنكم أجمعين} أى ليجعلهم مثلة ونكالاً، لئلا يقتدى بهم أحد من رعيته، وأهل ملته، ولهذا قال: {ولأصلبنكم فى جذوع النخل} أى على جذوع النخل، لأنها أعلى وأشهر {ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى} يعنى فى الدنيا {قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات} أى لن نطيعك ونترك ما وقر فى قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات {والذى فطرنا} قيل: معطوف: وقيل: قسم {فاقض ما أنت قاض} أى فافعل ما قدرت عليه {إنما تقضى هذه الحياة الدنيا} أى إنما حكمك علينا فى هذه الحياة الدنيا، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة، صرنا إلى حكم الذى أسلمنا له واتبعنا رسله {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى} أى وثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب والترغيب {وأبقى} أى وأدوم من هذه الدار الفانية، وفى الآية الأخرى: {قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا} أى ما اجترمناه من المآثم والمحارم {أن كنا أول المؤمنين} أى من القبط بموسى وهارون عليهما السلام، وقالوا له أيضا: {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا} أى ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا بما جاءنا به رسولنا، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا {ربنا أفرغ علينا صبرا} أى ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد والسلطان الشديد، بل الشيطان المريد {وتوفنا مسلمين} وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم: {إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى} يقولون له: فإياك أن تكون منهم، فكان منهم {ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى} أى المنازل العالية {جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى} فاحرص أن تكون منهم، فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التى لا تغالب ولا تمانع، وحكم العلى العظيم بأن فرعون، لعنه الله، من أهل الجحيم، ليباشر العذاب الأليم، يصب من فوق رأسه الحميم، ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}.

والظاهر من هذه السياقات أن فرعون، لعنه الله، صلبهم وعذبهم رضى الله عنهم. قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير: كانوا من أول النهار سحرة، فصاروا من آخره شهداء بررة. ويؤيد هذا قولهم: {ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين}.

فصل

ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم، وهو الغلب الذى غلبته القبط فى ذلك الموقف الهائل، وأسلم السحرة الذين استنصروا ربهم، لم يزدهم ذلك إلا كفرًا وعنادًا وبعدًا عن الحق، قال الله تعالى بعد قصص ما تقدم فى سورة الأعراف: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيى نسائهم وإنا فوقهم قاهرون قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون}.

يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون، وهم الأمراء والكبراء، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبى الله موسى عليه السلام، ومقابلته بدل التصديق بما جاء به بالكفر والرد والأذى، قالوا: {أتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الأرض ويذرك وآلهتك} يعنون، قبحهم الله، أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهى عن عبادة ما سواه، فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط، لعنهم الله، وقرأ بعضهم: (ويذرك وإلاهتك) أى وعبادتك، ويحتمل شيئين أحدهما: ويذر دينك، وتقويه القراءة الأخرى، والثانى: ويذر أن يعبدك، فإنه كان يزعم أنه إله، لعنه الله {قال سنقتل أبناءهم ونستحى نساءهم} أى لئلا يكثر مقاتلتهم {وإنا فوقهم قاهرون} أى غالبون {وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} أى إذا هموا هم بأذيتكم والفتك بكم، فاستعينوا أنتم بربكم، واصبروا على بليتكم {إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين} أى فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة، كما قال فى الآية الأخرى: {وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين ونجنا برحمتك من القوم الكافرين}، وقولهم: {قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا} أى قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك، وبعد مجيئك إلينا {قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون}.

وقال الله تعالى فى سورة حم المؤمن: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} وكان فرعون الملك، وهامان الوزير، وكان قارون إسرائيليا من قوم موسى، إلا أنه كان على دين فرعون وملئه، وكان ذا مال جزيل جدًا، كما ستأتى قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى {فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا فى ضلال} وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة والإذلال والتقليل لملأ بنى إسرائيل، لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها، ويصولون على القبط بسببها، وكانت القبط منهم يحذرون، فلم ينفعهم ذلك، ولم يرد عنهم قدر الذى يقول للشىء كن فيكون {وقال فرعون ذرونى أقتل موسى وليدع ربه إنى أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر فى الأرض الفساد} ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم: صار فرعون مذكرا، وهذا منه فإن فرعون فى زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى عليه السلام {وقال موسى إنى عذت بربى وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} أى عذت بالله ولجأت إليه بجنابه من أن يسطو فرعون وغيره علىّ بسوء، وقوله: {من كل متكبر} أى جبار عنيد، لا يرعوى ولا ينتهى، ولا يخاف عذاب الله وعقابه، لأنه لا يعتقد معادا ولا جزاء، ولهذا قال: {من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن الله لا يهدى من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وهذا الرجل هو ابن عم فرعون، وكان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه، وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى، والله أعلم.

قال ابن جريج: قال ابن عباس: لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا، والذى جاء من أقصى المدينة، وامرأة فرعون. رواه ابن أبى حاتم. قال الدارقطنى: لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون، حكاه السهيلى. وفى تاريخ الطبرانى: أن اسمه خير. فالله أعلم.

والمقصود: أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه فلما هم فرعون، لعنه الله، بقتل موسى عليه السلام، وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى، فتلطف فى رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب، فقال على وجه المشورة والرأى. وقد ثبت فى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر). وهذا من أعلى مراتب هذا المقام، فإن فرعون لا أشد جورًا منه، وهذا الكلام لا أعدل منه، لأن فيه عصمة نبى، ويحتمل أنه كاشفهم بإظهار إيمانه، وصرح لهم بما كان يكتمه، والأول أظهر، والله أعلم. قال: {أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله} أى من أجل أنه قال ربى الله، فمثل هذا لا يقابل بهذا بل بالإكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام، يعنى لأنه: {قد جاءكم بالبينات من ربكم} أى بالخوارق التى دلت على صدقة فيما جاء به عمن أرسله، فهذا إن وادعتموه كنتم فى سلامة لأنه: {إن يك كاذبا فعليه كذبه} ولا يضركم ذلك {وإن يك صادقا} وقد تعرضتم له {يصبكم بعض الذى يعدكم} أى وأنتم تشققون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به، فكيف بكم إن حل جميعه عليكم.

وهذا الكلام فى هذا المقام من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام، وقوله: {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض} يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم، وذلوا بعد عزهم، وكذا وقع لآل فرعون، ما زالوا فى شك وريب ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور والنعمة والحبور، ثم حولوا إلى البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين، ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق البار الراشد التابع للحق الناصح لقومه الكامل العقل: {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين فى الأرض} أى عالين على الناس حاكمين عليهم {فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا} أى لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك، ولا رد عنا بأس مالك الممالك {قال فرعون} أى فى جواب هذا كله {ما أريكم إلا ما أرى} أى ما أقول لكم إلا ما عندى {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وكذب فى كل من هذين القولين، وهاتين المقدمتين، فإنه قد كان يتحقق فى باطنه وفى نفسه أن هذا الذى جاء به موسى من عند الله لا محالة، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا وعتوا وكفرانا.

قال الله تعالى إخبارًا عن موسى: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإنى لا أظنك يا فرعون مبثورا فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا وقلنا من بعده لبنى إسرائيل اسكنوا الأرض فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا}، وقال تعالى: {فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}، وأما قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} فقد كذب أيضًا فإنه لم يكن على رشاد من الأمر، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال، فكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال، ثم دعا قومه الجهلة الضلال إلى أن اتبعوه وطاوعوه وصدقوه فيما زعم من الكفر المحال فى دعواه أنه رب تعالى الله ذو الجلال، قال الله تعالى: {ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين}، وقال تعالى: {فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى ثم أدبر يسعى فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى إن فى ذلك لعبرة لمن يخشى}، وقال تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتانا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود وأتبعوا فى هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود}.

والمقصود بيان كذبه فى قوله: {ما أريكم إلا ما أرى}، وفى قوله: {وما أهديكم إلا سبيل الرشاد وقال الذى آمن يا قوم إنى أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إنى أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون فى آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} يحذرهم ولى الله إن كذبوا برسول الله موسى، أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم من النقمات والمثلات، مما تواتر عندهم وعند غيرهم ما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم، إلى زمانهم ذلك، مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة فى صدق ما جاءت به الأنبياء، لما أنزل من النقمة بمكذبيهم من الأعداء، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء، وخوفهم يوم القيامة وهو يوم التناد، أى حين ينادى الناس بعضهم بعضا حين يولون إن قدروا على ذلك، ولا إلى ذلك سبيل {يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر}، وقال تعالى: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأى آلاء ربكما تكذبان يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران فبأى آلاء ربكما تكذبان} وقرأ بعضهم: (يوم التنادّ) بتشديد الدال، أى يوم الفرار، ويحتمل أن يكون يوم القيامة، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس فيودون الفرار، ولات حين مناص {فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما اترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون}، ثم أخبرهم عن نبوة يوسف فى بلاد مصر، وما كان منه من الإحسان إلى الخلق فى دنياهم وأخراهم، وهذا من سلالته وذريته، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته، وأن لا يشركوا به أحدًا من بريته، وأخبر عن أهل الديار المصرية فى ذلك الزمان، أى من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل، ولهذا قال: {فما زلتم فى شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا} أى وكذبتم فى هذا، ولهذا قال: {كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب الذين يجادلون فى آيات الله بغير سلطان أتاهم} أى يردون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده، بلا حجة ولا دليل عندهم من الله، فإن هذا أمر يمقته الله غاية المقت، أى يبغض من تلبس به من الناس ومن اتصف به من الخلق {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} قرئ بالإضافة وبالنعت وكلاهما متلازم، أى هكذا إذا خالفت القلوب الحق، ولا تخالفه إلا بلا برهان، فإن الله يطبع عليها: أى يختم عليها {وقال فرعون يا هامان ابن لى صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا فى تباب} كذب فرعون موسى عليه السلام فى دعواه أن الله أرسله، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه، فى قوله لهم: {ما علمت لكم من إله غيرى فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا لعلى أطلع إلى إله موسى وإنى لأظنه كاذبا}، وقال هاهنا: {لعلى أبلغ الأسباب أسباب السماوات} أى طرقها ومسالكها {فأطلع إلى إله موسى وإنى لا أظنه كاذبا} ويحتمل هذا معنيين: أحدهما: {وإنى لأظنه كاذبا} فى قوله: إن للعالم ربا غيرى. والثانى: فى دعواه أن الله أرسله. والأول أشبه بظاهر حال فرعون، فإنه كان ينكر ظاهر إثبات الصانع، والثانى أقرب إلى اللفظ، حيث قال: {فاطلع إلى إله موسى} أى فأسأله هل أرسله أم لا؟ {وإنى لأظنه كاذبا} أى فى دعواه ذلك، وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه السلام، وإن يحثهم على تكذيبه، قال الله تعالى: {وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل} وقرئ: (وصد عن السبيل) {وما كيد فرعون إلا فى تباب} قال ابن عباس ومجاهد يقول: إلا فى خسار، أى باطل لا يحصل له شىء من مقصوده الذى رامه، فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدًا، أعنى السماء الدنيا، فكيف بما بعدها من السماوات العلى، وما فوق ذلك من الارتفاع الذى لا يعلمه إلا الله عز وجل، وذكر غير واحد من المفسرين: أن هذا الصرح وهو القصر الذى بناه وزيره هامان له لم ير بناء أعلى منه، وإن كان مبنيًا من الآجر المشوى بالنار، ولهذا قال: {فأوقد لى يا هامان على الطين فاجعل لى صرحا}.

وعند أهل الكتاب: أن بنى إسرائيل كانوا يسخرون فى ضرب اللبن، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شىء مما يحتاجون إليه فيه، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه، ويطلب منهم كل يوم قسط معين، إن لم يفعلوه وإلا ضربوا وأهينوا غاية الإهانة وأوذوا غاية الأذية، ولهذا قالوا لموسى: {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم فى الأرض فينظر كيف تعملون} فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط، وكذلك وقع وهذا من دلائل النبوة، ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه، قال الله تعالى: {وقال الذى آمن يا قوم اتبعونى أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وان الآخرة هى دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب} يدعوهم رضى الله عنه، إلى طريق الرشاد والحق، وهى متابعة نبى الله موسى وتصديقه فيما جاء به من ربه، ثم زهدهم فى الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة، ورغبهم فى طلب الثواب عند الله الذى لا يضيع عمل عامل لديه، القدير الذى ملكوت كل شىء بيديه، الذى يعطى على القليل كثيرًا، ومن عدله لا يجازى على السيئة إلا مثلها، وأخبرهم أن الآخرة هى دار القرار التى من وافاها مؤمنا قد عمل الصالحات، فلهم الجنات العاليات، والغرف الآمنات، والخيرات الكثيرة الفائقات، والأرزاق الدائمة التى لا تبيد، والخير الذى كل ما لهم منه فى مزيد.

ثم شرع فى إبطال ما هم عليه وتخويفهم مما يصيرون إليه فقال: {ويا قوم ما لى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار تدعوننى لاكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن ما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} كان يدعوهم إلى عبادة رب السماوات والأرض الذى يقول للشىء كن فيكون، وهم يدعونه إلى عبادة فرعون الجاهل الضال الملعون، ولهذا قال لهم على سبيل الإنكار: {ويا قوم ما لى أدعوكم إلى النجاة وتدعوننى إلى النار تدعوننى لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لى به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} ثم بين لهم بطلان ما هم عليه من عبادة ما سوى الله من الأنداد والأوثان، وأنها لا تملك من نفع ولا إضرار، فقال: {لا جرم أنما تدعوننى إليه ليس له دعوة فى الدنيا ولا فى الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار} أى لا تملك تصرفًا ولا حكمًا فى هذه الدار، فكيف تملكه يوم القرار، وأما الله عز وجل فإنه الخالق الرازق للأبرار والفجار، وهو الذى أحيا العباد ويميتهم ويبعثهم، فيدخل طائعهم الجنة، وعاصيهم إلى النار.

التالى