قصة داود وما كان فى أيامه ثم فضائله وشمائله

ودلائل نبوته وإعلامه

هو: داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عبد الله ونبيه وخليفته فى أرض بيت المقدس.

قال محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: كان داود عليه السلام قصيرًا، أزرق العينين، قليل الشعر، طاهر القلب ونقيه، تقدم أنه لما قتل جالوت، وكان قتله له فيما ذكر ابن عساكر عند قصر أم حكيم بقرب مرج الصفر، فأحبته بنو إسرائيل ومالوا إليه وإلى ملكه عليهم، فكان من أمر طالوت ما كان، وصار الملك إلى داود عليه السلام، وجمع الله له بين الملك والنبوة، بين خير الدنيا والآخرة، وكان الملك يكون فى سبط والنبوة فى آخر، فاجتمع فى داود هذا وهذا، كما قال تعالى: {وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين}، أى لولا إقامة الملوك حكامًا على الناس، لأكل قوى الناس ضعيفهم؛ ولهذا جاء فى بعض الآثار: (السلطان ظل الله فى أرضه).

وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). وقد ذكر ابن جرير فى تاريخه: أن جالوت لما بارز طالوت، فقال له: اخرج إلىَّ وأخرج إليك، فندب طالوت الناس، فانتدب داود، فقتل جالوت. قال وهب بن منبه: فمال الناس إلى داود حتى لم يكن لطالوت ذكر، وخلعوا طالوت وولوا عليهم داود. وقيل: إن ذلك عن أمر شمويل، حتى قال بعضهم: إنه ولاه قبل الوقعة. قال ابن جرير: والذى عليه الجمهور أنه إنما ولى ذلك بعد قتل جالوت، والله أعلم.

وروى ابن عساكر، عن سعيد بن عبد العزيز: أن قتله جالوت كان عند قصر أم حكيم، وأن النهر الذى هناك هو المذكور فى الآية، فالله أعلم. وقال تعالى: {ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبى معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر فى السرد واعملوا صالحًا إنى بما تعملون بصير}. وقال تعالى: {وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون}. أعانه الله على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء، وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها، فقال: {وقدر فى السرد}، أى لا تدق المسمار فيغلق ولا تغلظه فيفصم. قاله مجاهد وقتادة والحكم وعكرمة.

قال الحسن البصرى وقتادة والأعمش: كان الله قد ألان له الحديد، حتى كان يفتله بيده، لا يحتاج إلى نار ولا مطرقة. قال قتادة: فكان أول من عمل الدروع من زرد، وإنما كانت قبل ذلك من صفائح. قال ابن شوذب: كان يعمل كل يوم درعًا يبيعها بستة آلاف درهم. وقد ثبت فى الحديث: (أن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن نبى الله داود كان يأكل من كسب يده)، وقال تعالى: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق والطير محشورة كل له أواب وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}. قال ابن عباس ومجاهد: الأيد: القوة فى الطاعة، يعنى ذا قوة فى العبادة والعمل الصالح.

قال قتادة: أعطى قوة فى العبادة، وفقهًا فى الإسلام. قال: وقد ذكر لنا أنه كان يقوم الليل ويصوم نصف الدهر، وقد ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ولا يفر إذا لاقى)، وقوله: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق والطير محشورة كل له أواب}، كما قال: {يا جبال أوبى معه والطير}، أى سبحى معه. قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد فى تفسير هذه الآية: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق}، أى عند آخر النهار وأوله، وذلك أنه كان الله تعالى قد وهبه من الصوت العظيم ما لم يعطه أحدًا، بحيث أنه كان إذا ترنم بقراءة كتابه، يقف الطير فى الهواء، يرجع بترجيعه، ويسبح بتسبيحه، وكذلك الجبال تجيبه وتسبح معه كلما سبح بكرة وعشيًا، صلوات الله وسلامه عليه.

وقال الأوزاعى: حدثنى عبد الله بن عامر قال: أعطى داود من حسن الصوت ما لم يعط أحد قط، حتى أن كان الطير والوحش ينعكف حوله حتى يموت عطشًا وجوعًا، وحتى أن الأنهار لتقف. وقال وهب بن منبه: كان لا يسمعه أحد إلا حجل كهيئة الرقص، وكان يقرأ الزبور بصوت لم تسمع الأذان بمثله، فيعكف الجن والإنس والطير والدواب على صوته، حتى يهلك بعضها جوعًا.

وقال أبو عوانة الإسفرايينى: حدثنا أبو بكر بن أبى الدنيا، حدثنا محمد بن منصور الطوسى: سمعت صبيحًا أنبأنا برادح، قال أبو عوانة: وحدثنى أبو العباس المدنى، حدثنا محمد بن صالح العدوى، حدثنا سيار، هو ابن حاتم، عن جعفر، عن مالك قال: كان داود عليه السلام إذا أخذ فى قراءة الزبور تفتقت العذارى، وهذا غريب. وقال عبد الرزاق، عن ابن جريج: سألت عطاء عن القراءة على الغناء؟ فقال: وما بأس بذلك، سمعت عبيد بن عمر يقول: كان داود عليه السلام يأخذ العزفة، فيضرب بها، فيقرأ عليها، فترد عليه صوته، يريد بذلك أن يبكى وتبكى. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوت أبى موسى الأشعرى وهو يقرأ، فقال: (لقد أوتى أبو موسى من مزامير آل داود). وهذا على شرط الشيخين ولم يخرجاه من هذا الوجه.

وقال أحمد: حدثنا حسن، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمر، عن أبى سلمة، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لقد أعطى أبو موسى من مزامير داود). على شرط مسلم. وقد روينا عن أبى عثمان الترمذى أنه قال: لقد سمعت البربط والمزمار، فما سمعت صوتًا أحسن من صوت أبى موسى الأشعرى. وقد كان مع هذا الصوت الرخيم سريع القراءة لكتابه الزبور.

كما قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن همام، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (خفف على داود القراءة، فكان يأمر بدابته فتسرج، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه). وكذلك رواه البخارى منفردًا به عن عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق به، ولفظه: (خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه، ولا يأكل إلا من عمل يديه)، ثم قال البخارى: ورواه موسى بن عقبة عن صفوان، هو ابن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وقد أسنده ابن عساكر فى ترجمة داود عليه السلام فى تاريخه من طرق، عن إبراهيم بن طهمان، عن موسى بن عقبة، ومن طريق أبى عاصم، عن أبى بكر السبرى، عن صفوان بن سليم به.

والمراد بالقرآن هاهنا: الزبور الذى أنزله عليه وأوحى إليه، وذكر رواية أشبه أن يكون محفوظًا، فإنه كان ملكًا له اتباع، فكان يقرأ الزبور بمقدار ما تسرج الدواب، وهذا أمر سريع مع التدبر والترنم والتغنى به على وجه التخشع، صلوات الله وسلامه عليه. وقد قال الله تعالى: {وآتينا داود زبورا}، والزبور كتاب مشهور، وذكرنا فى التفسير الحديث الذى رواه أحمد وغيره: أنه أنزل فى شهر رمضان، وفيه من المواعظ والحكم ما هو معروف لمن نظر فيه. وقوله: {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب}، أى أعطيناه ملكًا عظيمًا وحكمًا نافذًا.

روى ابن جرير وابن أبى حاتم، عن ابن عباس: أن رجلين تداعيا إلى داود عليه السلام فى بقر، ادعى أحدهما على الآخر أنه اغتصبها منه، فأنكر المدعى عليه، فأرجأ أمرهما إلى الليل، فلما كان الليل أوحى الله إليه أن يقتل المدعى، فلما أصبح قال له داود: إن الله قد أوحى إلىَّ أن أقتلك، فأنا قاتلك لا محالة، فما خبرك فيما ادعيته على هذا، قال: والله يا نبى الله إنى لمحق فيما ادعيت عليه، ولكنى كنت اغتلت أباه قبل هذا، فأمر به داود فقتل، فعظم أمر داود فى بنى إسرائيل جدًا، وخضعوا له خضوعًا عظيمًا.

قال ابن عباس: وهو قوله تعالى: {وشددنا ملكه} وقول تعالى: {وآتيناه الحكمة}، أى النبوة، {وفصل الخطاب}. قال شريح والشعبى وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمى وغيرهم: فصل الخطاب الشهود والأيمان، يعنون بذلك البينة على المدعى واليمين على من أنكر. وقال مجاهد والسدى: هو إصابة القضاء وفهمه. وقال مجاهد: هو الفصل فى الكلام وفى الحكم، واختاره ابن جرير. وهذا لا ينافى ما روى عن أبى موسى أنه قول: أما بعد.

وقال وهب بن منبه: لما كثر الشر وشهادات الزور فى بنى إسرائيل، أعطى داود سلسلة لفصل القضاء، فكانت ممدودة من السماء إلى صخرة بيت المقدس، وكانت من ذهب، فإذا تشاجر الرجلان فى حق، فأيهما كان محقا نالها والآخر لا يصل إليها، فلم تزل كذلك حتى اودع رجل رجلاً لؤلؤة فجحدها منه، واتخذ عكازًا وأودعها فيه، فلما حضرا عند الصخرة تناولها المدعى، فلما قيل للآخر: خذها بيدك، عمد إلى العكاز، فأعطاه المدعى وفيه تلك اللؤلؤة، وقال: اللهم إنك تعلم أنى دفعتها إليه، ثم تناول السلسلة فنالها، فأشكل أمرها على بنى إسرائيل، ثم رفعت سريعًا من بينهم.

ذكره بمعناه غير واحد من المفسرين، وقد رواه إسحاق بن بشر، عن إدريس بن سنان، عن وهب به بمعناه {وهل أتاك نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخى له تسع وتسعون نعجة ولى نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزنى فى الخطاب قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}.

وقد ذكر كثير من المفسرين من السلف والخلف هاهنا قصصًا وأخبارًا، أكثرها إسرائيليات، ومنها ما هو مكذوب لا محالة، تركنا إيرادها فى كتابنا قصدًا، اكتفاء واقتصارًا على مجرد تلاوة القصة من القرآن العظيم، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقد اختلف الأئمة فى سجدة النبى {ص}، هل هى من عزائم السجود؟ أو إنما هى سجدة شكر ليست من عزائم السجود؟ على قولين: قال البخارى: حدثنا محمد بن عبد الله، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسى، عن العوام قال: سألت مجاهدًا عن سجدة ص، فقال: سألت ابن عباس، من أين سجدت؟ قال: أو ما تقرأ {ومن ذريته داود وسليمان} {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}، فكان داود ممن أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم أن يقتدى به، فسجدها داود عليه السلام، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل، هو ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال فى السجود فى ص: ليست من عزائم السجود، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها. وكذا رواه البخارى وأبو داود والترمذى والنسائى من حديث أيوب، وقال الترمذى: حسن صحيح. وقال النسائى: أخبرنى إبراهيم بن الحسن المقسمى، حدثنا حجاج بن محمد، عن عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أن النبى صلى الله عليه وسلم سجد فى {ص}، وقال: (سجدها داود توبة ونسجدها شكرًا). تفرد به أحمد ورجاله ثقات.

وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، حدثنا ابن وهب، أخبرنى عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبى هلال، عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبى سرح، عن أبى سعيد الخدرى، قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر ص، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد معه الناس، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة، تشرف الناس للسجود، فقال: (إنما هى توبة نبى، ولكن رأيتكم تشرفتم)، فنزل وسجد. تفرد به أبو داود، وإسناده على شرط الصحيح. وقال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حميد، حدثنا بكر، هو ابن عمر، وأبو الصديق الناجى، أنه أخبره: أن أبا سعيد الخدرى رأى رؤيا أنه يكتب ص، فلما بلغ إلى التى يسجد بها، رأى الدواة والقلم وكل شىء بحضرته انقلب ساجدًا. قال: فقصها على النبى صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يسجد بها بعد. تفرد به أحمد.

وروى الترمذى وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خنيس، عن الحسن بن محمد ابن عبيد الله بن أبى يزيد قال: قال لى ابن جريج: حدثنى جدك عبيد الله بن أبى يزيد، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله، إنى رأيت فيما يرى النائم كأنى أصلى خلف شجرة، فقرأت السجدة فسجدت الشجرة بسجودى، فسمعتها تقول وهى ساجدة: اللهم اكتب لى بها عندك أجرًا، واجعلها لى عندك ذخرًا، وضع عنى بها وزرا، واقبلها منى كما قبلت من عبدك داود. وقال ابن عباس: فرأيت النبى صلى الله عليه وسلم قام، فقرأ السجدة ثم سجد، فسمعته يقول وهو ساجد كما حكى الرجل عن كلام الشجرة. ثم قال الترمذى: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقد ذكر بعض المفسرين أنه عليه السلام مكث ساجدًا أربعين يومًا، وقاله مجاهد والحسن وغيرهما. وورد فى ذلك حديث مرفوع لكنه من رواية يزيد الرقاشى، وهو ضعيف متروك الرواية. قال الله تعالى: {فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب}، أى إن له يوم القيامة لزلفى، وهى القربة التى يقربه الله بها ويدنيه من حظيرة قدسه بسببها، كما ثبت فى حديث: (المقسطون على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يقسطون فى أهليهم وحكمهم وما ولوا). وقال الإمام أحمد فى مسنده: حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا فضيل، عن عطية، عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلسًا إمام عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذابًا إمام جائر). وهكذا رواه الترمذى من حديث فضيل بن مرزوق الأغر به، وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه.

وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا عبد الله بن أبى زياد، حدثنا سيار، حدثنا جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار فى قوله: {وان له عندنا لزلفى وحسن مآب}، قال: يقوم داود عليه السلام يوم القيامة عند ساق العرش، فيقول الله: يا داود، مجدنى اليوم بذلك الصوت الحسن الرخيم الذى كنت تمجدنى فى الدنيا، فيقول: وكيف وقد سلبته؟ فيقول: إنى أرده عليك اليوم. قال: فيرفع داود بصوت يستفرغ نعيم أهل الجنان {يا داود إنا جعلناك خليفة فى الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب}. هذا خطاب من الله تعالى مع داود، والمراد ولاة الأمور وحكام الناس وأمرهم بالعدل واتباع الحق المنزل من الله، لا ما سواه من الآراء والأهواء، وتوعد من سلك غير ذلك وحكم بغير ذلك.

وقد كان داود عليه السلام هو المقتدى به فى ذلك الوقت فى العدل وكثرة العبادة وأنواع القربات، حتى إنه كان لا يمضى ساعة من آناء الليل وأطراف النهار إلا وأهل بيته فى عبادة ليلاً ونهارًا، كما قال تعالى: {اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادى الشكور}. قال أبو بكر بن أبى الدنيا: حدثنا إسماعيل بن إبرهيم بن بسام، حدثنا صالح المزى، عن أبى عمران الجونى، عن أبى الجلد قال: قرأت فى مسألة داود عليه السلام أنه قال: يا رب، كيف لى أن أشكرك وأنا لا أصل إلى شكرك إلا بنعمتك؟ قال: فأتاه الوحى: أن يا داود ألست تعلم أن الذى بك من النعم منى؟ قال: بلى يا رب، قال: فإنى أرضى بذلك منك. وقال البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا أبو بكر بن بالويه، حدثنا محمد بن يونس القرشى، حدثنا روح بن عبادة، حدثنى عبد الله بن لاحق، عن ابن شهاب قال: قال داود: الحمد لله كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله، فأوحى الله إليه: إنك أتعبت الحفظة يا داود. ورواه أبو بكر بن أبى الدنيا، عن على بن الجعد، عن الثورى مثله.

وقال عبد الله بن المبارك فى كتاب الزهد: أنبأنا سفيان الثورى، عن رجل، عن وهب ابن منبه قال: إن فى حكمة آل داود حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجى فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يفضى فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على هذه الساعات، وإجمام للقلوب، وحق على العاقل أن يعرف زمانه ويحفظ لسانه ويقبل على شأنه، وحق على العاقل أن لا يظعن إلا فى إحدى ثلاث: زاد لمعاده، ومرمة لمعاشه، ولذة فى غير محرم. وقد رواه أبو بكر بن أبى الدنيا، عن أبى بكر بن أبى خيثمة، عن ابن مهدى، عن سفيان، عن أبى الأغر، عن وهب بن منبه فذكره. ورواه أيضًا عن على بن الجعد، عن عمر بن الهيثم الرقاشى، عن أبى الأغر، عن وهب بن منبه فذكره. وأبو الأغر هذا هو الذى أبهمه ابن المبارك فى روايته، قاله ابن عساكر.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا بشر بن رافع، حدثنا شيخ من أهل صنعاء يقال له: أبو عبد الله، قال: سمعت وهب بن منبه، فذكر مثله. وقد روى الحافظ ابن عساكر فى ترجمة داود عليه السلام أشياء كثيرة مليحة، منها قوله: كن لليتيم كالأب الرحيم، واعلم أنك كما تزرع كذلك تحصد. وروى بسند غريب مرفوعًا: قال داود: يا زارع السيئات أنت تحصد شوكها وحسكها. وعن داود عليه السلام أنه قال: مثل الخطيب الأحمق فى نادى القوم، كمثل المغنى عند رأس الميت. وقال أيضًا: ما أقبح الفقر بعد الغنى، وأقبح من ذلك الضلالة بعد الهدى. وقال: انظر ما تكره أن يذكر عنك فى نادى القوم فلا تفعله إذا خلوت. وقال: لا تعدن أخاك بما لا تنجزه له، فإن ذلك عداوة ما بينك وبينه.

وقال محمد بن سعد: أنبأنا محمد بن عمر الواقدى، حدثنى هشام بن سعد، عن عمر مولى عفرة، قال: قالت يهود لما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتزوج النساء: انظروا إلى هذا الذى لا يشبع من الطعام، ولا والله ما له همة إلا إلى النساء، حسدوه لكثرة نسائه وعابوه بذلك، فقالوا: لو كان نبيًا ما رغب فى النساء، وكان أشدهم فى ذلك حيى بن أخطب، فأكذبهم الله وأخبرهم بفضل الله وسعته على نبيه صلوات الله عليه وسلامه، فقال: {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}، يعنى بالناس رسول الله صلى الله عليه وسلم {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا}، يعنى ما أتى الله سليمان بن داود كانت له ألف امرأة، سبعمائة مهرية وثلاثمائة سرية. وكانت لداود عليه السلام مائة امرأة، منهن امرأة أوريا أم سليمان بن داود التى تزوجها بعد الفتنة، هذا أكثر مما لمحمد صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر الكلبى نحو هذا، وإنه كان لداود عليه السلام مائة امرأة، ولسليمان ألف امرأة، منهن ثلاثمائة سرية.

وروى الحافظ فى تاريخه فى ترجمة صدقة الدمشقى الذى يروى عن ابن عباس من طريق الفرج بن فضالة الحمصى، عن أبى هريرة الحمصى، عن صدقة الدمشقى: أن رجلاً سأل ابن عباس عن الصيام، فقال: لأحدثنك بحديث كان عندى فى البحث مخزونا، إن شئت أنبأتك بصوم داود، فإنه كان صوامًا قوامًا، وكان شجاعًا لا يفر إذا لاقى، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أفضل الصيام صيام داود)، وكان يقرأ الزبور بسبعين صوتًا يكون فيها، وكانت له ركعة من الليل يبكى فيها نفسه ويبكى ببكائه كل شىء، ويصرف بصوته الهموم والمحموم، وإن شئت أنبأتك بصوم ابنه سليمان، فإنه كان يصوم من أول الشهر ثلاثة أيام، ومن وسطه ثلاثة أيام، ومن آخره ثلاثة أيام، يستفتح الشهر بصيام ووسطه بصيام ويختمه بصيام، وإن شئت أنبأتك بصوم ابن العذراء البتول عيسى ابن مريم، فإنه كان يصوم الدهر ويأكل الشعير ويلبس الشعر، يأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد، ليس له ولد يموت ولا بيت يخرب، وكان أينما أدركه الليل صفن بين قدميه وقام يصلى حتى يصبح، وكان راميًا لا يفوته صيد يريده، وكان يمر بمجالس بنى إسرائيل فيقضى لهم حوائجهم.

وإن شئت أنبأتك بصوم أمه مريم بنت عمران، فإنها كانت تصوم يومًا وتفطر يومين. وإن شئت أنبأتك بصوم النبى العربى الأمى محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، ويقول: (إن ذلك صوم الدهر). وقد روى الإمام أحمد، عن أبى النصر، عن فرج بن فضالة، عن أبى هرم، عن صدقة، عن ابن عباس مرفوعًا فى صوم داود.

 

كمية حياته وكيفية وفاته عليه السلام

قد تقدم فى ذكر الأحاديث الواردة فى خلق آدم أن الله لما استخرج ذريته من ظهره، فرأى فيهم الأنبياء عليهم السلام، ورأى فيهم رجلاً يزهر، فقال: أى رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، قال: أى رب، كم عمره؟ قال: ستون عامًا، قال: أى رب، زد فى عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك، وكان عمر آدم ألف عام، فزاده أربعين عامًا، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: بقى من عمرى أربعون سنة، ونسى آدم ما كان وهبه لولده داود، فأتمها الله لآدم ألف سنة، ولداود مائة سنة. رواه أحمد، عن ابن عباس، والترمذى. وصححه عن أبى هريرة وابن خزيمة وابن حبان، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وقد تقدم ذكر طرقه وألفاظه فى قصة آدم. قال ابن جرير: وقد زعم بعض أهل الكتاب أن عمر داود كان سبعًا وسبعين سنة. قلت: هذا غلط مردود عليهم. قالوا: وكان مدة ملكه أربعين سنة، وهذا قد يقبل نقله؛ لأنه ليس عندنا ما ينافيه ولا ما يقتضيه.

وأما وفاته عليه السلام: فقال الإمام أحمد فى مسنده: حدثنا قبيصة، حدثنا يعقوب ابن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن أبى عمرو، عن المطلب، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة، فكان إذا خرج أغلق الأبواب، فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع)، قال: (فخرج ذات يوم وغلقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار، فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن فى البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة؟ والله لنفتضحن بداود، فجاء داود، فإذا الرجل قائم فى وسط الدار، فقاله له داود: من أنت؟ قال: أنا الذى لا أهاب الملوك ولا أمنع من الحجاب، فقال داود: أنت والله إذن ملك الموت، مرحبًا بأمر الله، ثم مكث حتى قبضت روحه، فلما غسل وكفن وفرغ من شأنه طلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلى على داود، فأظلته الطير حتى أظلمت عليه الأرض، فقال سليمان للطير: اقبضى جناحًا. قال: قال أبو هريرة: فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يرينا كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وغلبت عليه يومئذ المضرحية). انفرد بإخراجه الإمام أحمد، وإسناده جيد قوى، رجاله ثقات، ومعنى قوله: (وغلبت عليه يومئذ المضرحية)، أى وغلبت على التظليل عليه الصقور الطوال الأجنحة، وأحدها: مضرحى. قال الجوهرى: وهو الصقر الطويل الجناح.

وقال السدى: عن أبى مالك، عن ابن عباس قال: مات داود عليه السلام فجأة، وكان بسبت، وكانت الطير تظله. وقال السدى أيضًا: عن أبى مالك، وعن سعيد بن جبير قال: مات داود عليه السلام يوم السبت فجأة. وقال إسحاق بن بشر: عن سعيد ابن أبى عروبة، عن قتادة، عن الحسن قال: مات داود عليه السلام وهو ابن مائة سنة، ومات يوم الأربعاء فجأة. وقال أبو السكن الهجرى: مات إبراهيم الخليل فجأة، وداود فجأة، وابنه سليمان فجأة، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. رواه ابن عساكر، وروى عن بعضهم: أن ملك الموت جاءه وهو نازل من محرابه، فقال له: دعنى أنزل أو أصعد، فقال: يا نبى الله قد نفذت السنون والشهور والآثار والأرزاق، قال: فخر ساجدًا على مرقاة من تلك المراقى، فقبضه وهو ساجد.

وقال إسحاق بن بشر: أنبأنا وافر بن سليمان، عن أبى سليمان الفلسطينى، عن وهب ابن منبه، قال: إن الناس حضروا جنازة داود عليه السلام، فجلسوا فى الشمس فى يوم صائف. قال: وكان قد شيع جنازته يومئذ أربعون ألف راهب عليهم البرانس سوى غيرهم من الناس، ولم يمت فى بنى إسرائيل بعد موسى وهارون أحد كانت بنو إسرائيل أشد جزعًا عليه منهم على داود. قال: فآذاهم الحر، فنادوا سليمان عليه السلام أن يعمل لهم وقاية لما أصابهم من الحر، فخرج سليمان فنادى الطير فأجابت، فأمرها أن تظل الناس، فتراص بعضهم إلى بعض من كل وجه حتى استمسكت الريح، فكاد الناس أن يهلكوا غمًا، فصاحوا إلى سليمان عليه السلام من الغم، فخرج سليمان فنادى الطير: أن أظلى الناس من ناحية الشمس وتنحى عن ناحية الريح ففعلت، فكان الناس فى ظل وتهب عليهم الريح، فكان ذلك أول ما رأوه من ملك سليمان.

وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، حدثنى الوليد بن مسلم، عن الهيثم بن حميد، عن الوضين بن عطاء، عن نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير، عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لقد قبض الله داود من بين أصحابه ما فتنوا ولا بدلوا، ولقد مكث أصحاب المسيح على سننه وهديه مائتى سنة). هذا حديث غريب وفى رفعه نظر، والوضين بن عطاء كان ضعيفًا فى الحديث، والله أعلم.

* * *

 

قصة سليمان بن داود عليهما السلام

قال الحافظ ابن عساكر: هو سليمان بن داود بن إيشا بن عويد بن عابر بن سلمون ابن نحشون بن عمينا داب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبى الربيع نبى الله ابن نبى الله. جاء فى بعض الآثار: أنه دخل دمشق. قال ابن ماكولا: فارص، بالصاد المهملة، وذكر نسبه قريبًا مما ذكره ابن عساكر.

قال الله تعالى: {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شىء إن هذا لهو الفضل المبين}، أى ورثه فى النبوة والملك، وليس المراد ورثه فى المال؛ لأنه قد كان له بنون غيره، فما كان ليخص بالمال دونهم، ولأنه قد ثبت فى الصحاح من غير وجه، عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا نورث ما تركنا فهو صدقة). وفى لفظ: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث)، فأخبر الصادق المصدوق أن الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم، بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج، لا يخصون بها أقرباؤهم؛ لأن الدنيا كانت أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك، كما هى عند الذى أرسلهم واصطفاهم وفضلهم، وقال: {يا أيها الناس علمنا منطق الطير} الآية، يعنى أنه عليه السلام كان يعرف ما يتخاطب به الطيور بلغاتها، ويعبر للناس عن مقاصدها وإرادتها.

وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقى: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأنا على بن حشاد، حدثنا إسماعيل بن قتيبة، حدثنا على بن قدامة، حدثنا أبو جعفر الأسوانى، يعنى محمد ابن عبد الرحمن، عن أبى يعقوب العمى، حدثنى أبو مالك قال: مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبى الله؟ قال يخطبها إلى نفسه، ويقول: زوجينى أسكنك أى غرف دمشق شئت. قال سليمان عليه السلام: لأن غرف دمشق مبنية بالصخر، لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب. رواه ابن عساكر، عن أبى القاسم زاهر بن طاهر، عن البيهقى به، وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات، والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات: {وأوتينا من كل شىء}، أى من كل ما يحتاج الملك إليه من العدد والآلات والجنود والجيوش، والجماعات من الجن والإنس والطيور والوحوش والشياطين السارحات، والعلوم والفهوم والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات.

ثم قال: {إن هذا لهو الفضل المبين}، أى من بارئ البريات وخالق الأرض والسماوات، كما قال تعالى: {وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكًا من قولها وقال رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىَّ وعلى والدى وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين}.

يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام: أنه ركب يومًا فى جيشه جميعه من الجن والإنس والطير، فالجن والإنس يسيرون معه، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة، أى نقباء، يردون أوله على آخره، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذى يسير فيه، ولا يتأخر عنه. قال الله تعالى: {حتى إذا أتوا على وداى النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون}، فأمرت وحذرت واعذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور.

وقد ذكر وهب: أنه مر وهو على البساط بواد بالطائف، وأن هذه النملة كان اسمها جرسا، وكانت من قبيلة يقال لهم: بنو الشيطان، وكانت عرجاء، وكانت بقدر الذئب، وفى هذا كله نظر، بل فى هذا السياق دليل على أنه كان فى موكبه راكبًا فى خيوله وفرسانه، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط؛ لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شىء ولا وطء؛ لأن البساط كان عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والاثقال والخيام والأنعام، والطير من فوق ذلك كله كما سنبينه بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

والمقصود: أن سليمان عليه السلام فهم ما خاطبت به تلك النملة لأمتها من الرأى السديد والأمر الحميد، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره، وليس كما يقوله بعض الجهلة: من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها، فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون، ولو كان هذا هكذا، لم يكن لسليمان فى فهم لغاتها مزية على غيره، إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك، ولو كان قد أخذ عليها العهد أن لا تتكلم مع غيره وكان هو يفهمها، لم يكن فى هذا أيضًا فائدة يعول عليها، ولهذا قال: {رب أوزعنى}، أى ألهمنى وأرشدنى {أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىَّ وعلى والدى وأن أعمل صالحًا ترضاه وأدخلنى برحمتك فى عبادك الصالحين}، فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه، وعلى ما خصه به من المزية على غيره، وأن ييسر عليه العمل الصالح، وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصاحين، وقد استجاب الله تعالى له، والمراد بوالديه: داود عليه السلام وأمه، وكانت من العابدات الصالحات، كما قال سنيد بن داود، عن يوسف بن محمد بن المنكدر، عن أبيه، عن جابر، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (قالت أم سليمان بن داود: يا بنى لا تكثر النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرًا يوم القيامة). رواه ابن ماجه، عن أربعة من مشايخه عنه به نحوه.

وقال عبد الرزاق: عن معمر، عن الزهرى، أن سليمان بن داود عليه السلام خرج هو وأصحابه يستسقون، فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقى، فقال لأصحابه: ارجعوا فقد سقيتم، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها. قال ابن عساكر: وقد روى مرفوعًا، ولم يذكر فيه سليمان، ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز، عن سلامة بن روح ابن خالد، عن عقيل، عن ابن شهاب، حدثنى أبو سلمة، عن أبى هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خرج نبى من الأنبياء بالناس يستسقون الله، فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى السماء، فقال النبى: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة).

وقال السدى: أصاب الناس قحط على عهد سليمان عليه السلام، فأمر الناس فخرجوا، فإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها، وهى تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ولا غناء بنا عن فضلك. قال: فصب الله عليهم المطر

التالى