7- الدولة الأموية وآثارها على العلم والفكر:

الدولة الأموية لا تختلف في ظلمها عن الدولة العباسية فكلا الدولتين فيها ظلم غلب على العدل وإن وجد في هذه وتلك فترات عدالة ظاهرة كما في عهد عمر بن عبد العزيز في الأموية وعهد المأمون من حيث الجملة في العباسية لكن ازداد السخط على بني أمية أكثر من السخط على بني العباس لقربهم من عهد النبوة ولكونهم أول من أحدث التغييرات السياسية والمالية والفكرية التي أصبحت سنناً للدولة اللاحقة كالعباسية والعثمانية وهذه الدول تكونت فيها المسيرة العلمية والتنظيرات السياسية والمالية والفكرية000الخ.

الناس يعذرون الدول التي جاءت متأخرة ولا يعذرون الدولة الأموية التي سنت تلك السنن واضطهدت الصحابة من المهاجرين والأنصار وأبناءهم وكانت السباقة في محاربة أهل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم) وتشويه صورتهم عند المسلمين حتى أصبحت القلوب منقبضة عن أهل بيت النبوة فقتلوا الحسين وسموا الحسن وقتلوا زيد بن علي وقتلوا محبي أهل البيت كحجر بن عدي وكميل بن زياد وعمرو بن الحمق وسليمان بن صرد الخزاعي وغيرهم واستطاعت الدولة الأموية أن تفصل –إلى حد كبير- أهل البيت عن بقية الأمة فأصبحت النظرة لأهل البيت نظرة متوجسة من التشيع[1]!! بينما النظرة المنحرفة عنهم أصبحت تدعي تمثيل (الجماعة)!! و (السنة)!! واستطاع بنو أمية بالترغيب والترهيب ضم بعض العلماء وطلاب العلم لنظرتهم كما فعلوا مع الشعبي والزهري وقبيصة بن ذؤيب وابن سيرين ورجاء بن حيوة وغيرهم فهؤلاء كان فيهم نفور عن ذكر أهل البيت بخير أو بشر وكانوا يفضلون السكوت عنهم!! وهذا السكوت يعني الإهمال والإماتة لذكرهم وهذا يعني بروز رؤوس تمثل (أهل الجماعة وأهل السنة) مع استبعاد (أهل البيت وعلمائهم ومحبيهم) من هذا التمثيل!! فأصبحت (الجماعة) تعني الرأي الصواب وأن من خالف (الجماعة) فهو في النار!!

ويقصدون بالجماعة الموالية للنظام الأموي من علماء وعوام وسلطة00 وأصبح الذي ينكر الظلم أو ينقد الوالي شاذاً و (ضد الجماعة) ومن شذَّ شذَّ في النار!!.

ومن هنا تكون تيار (السنة والجماعة) خليطاً من تيار العثمانية النواصب وتيار المحايدين وتمَّ استبعاد العلوية من (السنة والجماعة) ووصفهم بـ (الشيعة والخشبية) ثم (الرافضة!!)[2].

أما الخوارج فقد أخرجوا أنفسهم من البداية إذ هم يرفضون تماماً الانصياع للحكم الأموي ولا يودون حكماً علوياً أيضاً.  

إذن فتيار (السنة والجماعة) بدأت ملامحه الأولى مع صلح الحسن وانتشرت الأحاديث في التحذير من (مخالفة الجماعة) وحشروا في ذلك كل الأحاديث في وجوب التزام الجماعة وكأن المراد به الوقوف مع الحاكم في الخير والشر في الحق والباطل!!، وكأن البدعة والضلالة في مفارقة (الجماعة والسلطات) وتمَّ ذلك بانتقائية عجيبة!! ساعد الظل السياسي على انتشارها ووفر لها الحماية والصلابة أمام كل من أراد إنكار المنكر!! إذ أصبح مثل هذا يصنف على أنه ضد (وحدة الجماعة) و (ضد السنة) وبالتالي (ضد الإسلام)!! وعلى هذا حكموا على ثورة الحسين بن علي وابن الزبير وأهل المدينة وابن الأشعث وأصحابه وزيد بن علي وأصحابه والنفس الزكية وأهل المدينة وأمثالهم بأنهم أصحاب فتن وأنهم ماتوا ميتة جاهلية!!

وبالتالي أخرجوا هؤلاء الكبار من (السنة والجماعة) إلى (البدعة والضلالة) لأنهم ثاروا على يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف وأبي جعفر المنصور!!

من هنا اختلت النظرية السنية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأصبح علماء السنة المتأخرون محتارين في الحكم على حركة الحسين وابن الزبير وأمثالهم فإن حكموا عليهم بالبدعة وقعوا في تناقض إذ هم يزعمون أن الصحابي لا تصدر منه بدعة!!

وإن حكموا لهم بالصواب اصطدموا بالسياسة الأموية أو السياسات اللاحقة التي كرست (الفتاوى الأموية) برغم اختلافها مع الدولة الأموية!!.

وأصبح النظام السياسي الإسلامي مضطرباً في كثير من الأمور مثل حرية الرأي والشورى وبيت المال والقضاء و000الخ وهذا الاضطراب جاء من الرغبة في التوفيق بين السياسات الأموية والعباسية وبين الإسلام!!

لأن عدم التوفيق يحرجهم أمام السياسات فعندئذٍ يلجئون للترقيع والإتيان بألفاظ تقنع العامي ولا تقنع الباحث وفي هذا الجو المضطرب يتشكل العقل المسلم[3] فيخرج صناعة عجيبة يردد ما لا يفهم ويقبل المتناقضات ويخشى الحقيقة، يبالغ في البحث عن صغائر الأمور ويتحرج من كبائرها يسرد الكلام ولا يحرر المصطلحات ولا يجيد معرفة الواقع ولا يحسن النصيحة مع الذوبان السريع في الأفكار العامة والأوضاع السياسية مع السير على طريق الشك والريبة ومع كثرة الشك وضعف الثقة يزداد التشدد تعويضاً عن هذا الشعور بالضعف!! ولو أن العلماء عبر القرون حاولوا فصل النظرية عن التطبيق والسمو بالنظرية لتبقى نظرية سامية بعيدة عن التبرير للواقع لأن الواقع ليس مسئولية العلماء والباحثين وإنما مسئوليتهم تحقيق المصلحة الدينية ببقاء الدين نظيفاً من أن ينسب له ظلم ظالم، ويستطيعون المحافظة على النظام أو الحكم بإخبار الناس بأن العقل يقتضي النصيحة والتعاون في سبيل الخير وأنه (الخروج) مرتبط بالقدرة ولا قدرة وهكذا000 فهذا الحل أكثر إقناعاً وأبقى للدين من أن تخالطه المظالم التطبيقية.

 وكان يجب على الولاة والسلاطين أن يعينوا العلماء على هذا الإيضاح والتفريق بين الإسلام وبين الواقع ثم يحاولون أن يطبقوا من تلك المبادئ والنظريات ما يستطيعون تطبيقه.

 

أ- النواصب بالشام ووضع الأحاديث:

ومن آثار الدولة الأموية أن قوي في الشام تيار النواصب الذي ركزَّ على فضيلة الأرض لأنه لما رأى هذا التيار أن صاحبهم لا يوازي علياً ولا يكاد، نشرت النواصب فضل الوطن بدلاً من فضل الشخص!!، فروت أن الشام هي دار الهجرة عند حدوث الفتن!! وأن الإيمان عند وقوع الفتن بالشام!! وأن فيها الطائفة المنصورة التي ستبقى لا يضرها من خالفها إلى قيام الساعة!! وأن في العراق تسعة أعشار الشر!! وأن عثمان سيقتله (المنافقون) مظلوما!! وأنهم سيدخلون النار!! وأن عثمان سيحكم يوم القيامة في القاتل والخاذل!! وغير ذلك من الأحاديث ذات الصبغة السياسية[4] وبعض تلك الأحاديث له أصل صحيح زادت فيه العثمانية والنواصب زيادات فجيرته لصالحها مثل حديث (لا تزال طائفة من أمتي منصورين على من خالفهم000 الحديث) زادت فيه النواصب زيادات توهم أن تلك الطائفة هي بالشام وهي (عسكر معاوية)!! وقد صحح بعض أهل الحديث تلك الأحاديث متناسين أن هذه الأحاديث وضعت للالتفاف على فضل علي ومن معه (من المهاجرين والأنصار وأهل بدر) والرفع من معاوية ومن معه من أعاريب لخم وجذام وكلب إضافة للالتفاف على حديث عمار بن ياسر وعلى وضوح حق الطرف الشرعي للخلافة وقد بقي الانحراف عن علي في أهل الشام إلى يومنا هذا، وهم يلجئون إلى التوفيق بين تيار العثمانية (النواصب) وتيار المحايدين من السنة كما فعل ابن تيمية في منهاج السنة مثلاً!!.

 

ب- تيار العلوية ووضع الأحاديث:

تيار العلوية لم يسلم من المبالغة والغلو في علي بل إن غلاتهم أسوأ وأكثر وضعاً للأحاديث من تيار العثمانية النواصب بل لعل جهلة الشيعة وغلاتهم أكثر الفرق كذباً وضعاً للأحاديث بل لعلها أكثر وضعاً للأحاديث من الفرق الأخرى مجتمعة ومن قرأ في بعض مصنفاتهم في فضائل أهل البيت علم هذا.

لكن الذي منع من الغلو في الإمام علي على عهده هو صرامة الإمام علي نفسه ضد الخوض في الثناء والمديح فقد هدد بالجلد الخائضين في التفضيل (في تفضيله على أبي بكر وعمر)[5] كما روي عنه تحريق من أدعو فيه الإلهية لكن هذا لم يصح[6].

أقول: لم يستطع الشيعة في عهد علي من وضع الأحاديث لأن علياً كان يتشدد في هذا الجانب وكان يتشدد في رواية الحديث فأثر هذا المنهج في محبيه فأخذوا يقللون من الأحاديث، وقد زاد الشيعة فيما بعد -وخاصة غلاتهم- من وضع أحاديث كثيرة في فضل علي وأهل البيت خاصة بعد النكبات التي تعرض لها أهل البيت فكانت هذه الأحاديث تشكل العزاء الوحيد لمحبي الإمام وأهل بيته.

ولكن الذي يهمنا هنا أن نبين بإنصاف أن فضائل علي حوربت من بعده وطورد ناشروها وقتل بعضهم وكان لعلماء الشام والبصرة نفور من الشيعة بمباركة من السلطة الأموية ثم العباسية فهذا كان من حجة الشيعة المعاصرين في قبول كثير من فضائل علي التي لم تصح أسانيدها أن هذه الفضائل خرجت من جو معادٍ لعلي، إذ لو كان الجو صحياً لوصلت بأسانيد صحيحة كثيرة حسب وجهة نظرهم، ويرى الشيعة أن الأحاديث في فضائل الخلفاء الثلاثة إنما كان نتيجة ردة فعل سنية للأحاديث في فضل علي التي عجزوا عن كتمها فلجأوا إلى معارضتها بأحاديث مماثلة أو مساوية لها في الفضل أو زائدة عليها[7]

ج- المعتزلون من الصحابة:

وكان هناك تيار خامس ليس مع تيار العلوية ولا تيار العثمانية ولا مع الخوارج ولا مع طلحة والزبير ذلك التيار هو تيار المعتزلة من الصحابة وغيرهم الذين آثروا القعود عن القتال رغم اعترافهم بشرعية بيعة علي وأحقيته سواءً مع بداية عهده أو بعد مقتل عمار بن ياسر وبعد قتاله للخوارج إذ كانوا يعرفون الحديث في مقتل عمار وفي حرب المارقين فلذلك تأسف بعضهم كعبد الله بن عمر عند احتضاره فقال: (ما آسى على شيء من الدنيا إلا أنني لم أقاتل مع علي الفئة الباغية كما أمر الله)[8].

وهذا التيار تحول رويداً رويداً إلى التوافق مع تيار العثمانية لوجود الظل السياسي ولهذا نجد أن هذا التيار قد لجأ إليه وتمسك به تيار العثمانية بالبصرة والشام في العصور المتأخرة عندما عجزوا عن التشكيك في فضل علي أو حديث عمار أو نحو ذلك، فلجأوا إلى تصحيح اعتزال الفتنة بدلاً من تصحيح محاربة علي!! ورأوا أن تصويب الاعتزال أسلم في إحسان الظن بجميع الطوائف من المتحاربين!! ما عدا الخوارج فهذا التيار (الاعتزالي) يذم الخوارج كثيراً، وهذا التيار الاعتزالي ليس المقصود به (المعتزلة) أصحاب واصل بن عطاء فهذا تيار فكري آخر سيأتي الحديث عنه ولهذا التيار من الصحابة  جمهور كبير بين الحنابلة!! وخاصة من عهد ابن تيمية إلى يومنا هذا.

إذن فهذا التيار الاعتزالي المتأخر الذي انتصر للمعتزلين من الصحابة مدعياً بأن هؤلاء سلف له!! –كان في الأصل من تيار العثمانية المنحرف عن علي- وقد واجهه علماء الكوفة من شيعة الإمام علي وغيرهم من علماء المسلمين، وكان من أبرز من تصدى للرد عليهم بتقرير صواب علي وخطأ المعتزلين –ضمناً- أبو حنيفة والشافعي في كتاب الأم وغيرهم فانتشر رأي علماء الكوفة بعد أن كادت السياسة أن تغيبه ويرى هذا التيار الأخير (علماء الكوفة) ومن وافقهم -مع اتفاقه مع التيار الإعتزالي في أن الخوارج وأهل الشام أبعد عن الحق- أن أدلة المعتزلين أدلة عامة كالأحاديث في اعتزال الفتن أما علي فمعه أدلة خاصة وعامة، فالخاصة مثل حديث الحوأب وحديث الزبير وحديث عمار وحديث الناكثين[9] ونحوها000 والخاص مقدم على العام إضافة للأدلة العامة من وجوب قتال من شق العصا وخرج على جماعة المسلمين وعلى واليها العادل000الخ إضافة إلى أن المقاتلين مع علي من الصحابة السابقين من المهاجرين والأنصار وأهل بدر أكثر من المعتزلين بدرجة كبيرة[10].

      نعود ونقول أنه نتيجة للظلم الأموي غالى الشيعة في عقائدهم وبقي منهم جملة كبيرة معتدلة، كما أن الدولة الأموية استغلت بعض علماء السوء لتكفير المناوئين لها من الخوارج والشيعة والقدرية وبالغت في الثناء على عثمان رضي الله عنه لأنه أموي النسب ولأن قميصه أوصلهم للملك!! فغلو في الثناء عليه، إلى أن قال فيه واليهم الحجاج: (إن مثل عثمان عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)!! وبالغ الأمويون وعلماؤهم في تعظيم السلطان والتحذير من مخالفته وكان أميرهم خالد القسري أحد الولاة الظلمة يفضل ملوك بني أمية على الأنبياء!![11].

 

د- ظهور الجبرية (الدولة الأموية وعقيدة الجبر)

وحقيقة كان هذا الغلو –غلو تيار العثمانية- في عثمان كان يهدف إلى إضفاء الشرعية على الملك الأموي العضوض فقد كان الأمويون يشيعون أنهم ورثة عثمان بن عفان وأن الخلافة حق لهم ثم لما ضعفت هذه النظرية لجئوا لعقيدة الجبر، وقد ذكر الدكتور حسين عطوان –المتخصص في التاريخ الأموي- أن كل حكام بني أمية كانوا يعتقدون عقيدة الجبر ويقولون به إلا يزيد بن الوليد بن عبد الملك.

و سرد الدكتور عطوان أقوالاً لمعاوية وزياد بن أبيه ويزيد بن معاوية والوليد بن يزيد وغيرهم تفيد القول بالجبر[12] وحاول بنو أمية تشجيع عقيدة (الجبر) التي ظهرت بالشام نتيجة اليأس من الإصلاح!! خلاصة هذه العقيدة أن الظلم والأثرة والفسادة وغير ذلك من الأمور كلها كانت قدراً لا مفر منه وأن الإنسان قد قدر الله عليه كل شيء على سبيل الإجبار وأن الإنسان مسلوب الإرادة، وأنه لا فائدة في نية التغيير أو الثورة على الحاكم لأن الله قد اختارهم للخلافة فهم ظل الله في الأرض وهم خلفاؤه على خلقه وأن من نازعهم فسيكبه الله في النار00!! وهذه العقيدة أراد بها بنو أمية تيئيس الناس من تغيير الحاكم أو محاولة ذلك مستدلين بفشل الثورات التي لم تنجح كثورة أهل المدينة والحسين بن علي وابن الزبير وابن الأشعث والخوارج وغيرهم[13].

هـ- عقيدة الإرجاء

ومن إفرازات السياسة الأموية ظهور عقيدة الإرجاء وكانت ردة فعل لظهور التكفير عند الخوارج وبعض المعتزلة وغلاة الشيعة وقد ظهرت هذه العقيدة عند نهاية القرن الأول الهجري بتشجيع وحماية من السلطة الأموية وهذا التيار وادع بني أمية وسكت عن مظالمهم وزعم أنه يكفي المسلم الشهادتين مهما ظلم وأكل الحقوق الخ[14].

وهذا التيار لم يحكم على أهل صفين من المتقاتلين بحق ولا بباطل وأرجأوا أمرهم ليوم القيامة وهم يزعمون أنهم على منهج الصحابة وخيار التابعين وأن أوائلهم كانوا من الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عمر وخريم الأسدي وأسامة بن زيد وغيرهم ممن اعتزل الفتنة لكن يرد عليهم بإن هؤلاء وإن لم يقاتلوا مع إحدى الطائفتين لكنهم كانوا يصمون فئة أهل الشام بالفئة الباغية. ولعل أهل الإرجاء أرادوا أن يبحثوا لهم عن (سلف)!! مثلهم مثل سائر الفرق الأخرى.

و- ظهور القدرية

  وقد انبثق عن هذا التيار الإرجائي تيار القدرية –كما يسميهم خصومهم- فانفصلت القدرية عن الإرجاء عندما رأت أن المرجئة يهادنون بني أمية ويقرون بشرعية خلافتهم ويحرمون الخروج أو الإنكار عليهم وقد أرجع خصوم القدرية أفكار القدرية إلى يوحنا النصراني الدمشقي من حفدة سرجون بن منصور الرومي النصراني المسئول عن الشئون المالية لمعاوية وابنه يزيد ولمعاوية بن يزيد ولمروان ن الحكم ولعبد الملك بن مروان!![15].

وكان يوحنا هذا مستشاراً لهشام بن عبد الملك وله كتاب اسمه ينبوع الحكمة، ولكن هذا الإرجاع إرجاع عقائد القدرية لأصول نصرانية يبدو أنها من الخصوم ولا يعدو فعل القدرية عن كونه وجهة نظر إسلامية أو فهم إسلامي لبعض النصوص نتيجة ردة فعل لتيار الجبرية والإرجاء المدعوم من السلطة الأموية.

وللقدرية نصوص شرعية يستشهدون بها مثلما للسنة والشيعة والمعتزلة نصوص شرعية يرون فيها الدليل الكافي على ما يذهبون إليه إضافة إلى أن الجدل حدث في الشام بين القدرية وخصومهم قبل تأليف يوحنا النصراني لكتابه، وهذا لا يمنع من التأثر ببعض الأفكار من أهل الكتاب لاختلاطهم بالمسلمين في أكثر بلدان الفتوح لكن لا يجوز أن نرجع الطائفة المسلمة إلى أصول غير إسلامية وإنما يمكننا إثبات التأثر وهذا التأثر لم تسلم منه فرقة من الفرق الإسلامية بما فيها السلفية كما سيأتي.

وبما أن القدرية كانوا مفكرين سياسيين ثائرين –على حد تعبير الدكتور عطوان- فقد واجهوا العنت من بني أمية فَقُتل زعيمهم غيلان الدمشقي وكان له طائفة يسمون (الغيلانية) وكان قد أخذ القول بالقدر عن معبد الجهني عندما زار دمشق واتخذه
 –أعني معبداً- عبد الملك مؤدباً لبعض أبنائه.

وقد كان غيلان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وينكر على بني أمية سياستهم المالية ورفض نظريتهم في الخلافة وحرض على الثورة عليهم فلذلك قتله هشام بن عبد الملك شر قتله مظهراً للناس بأنه قتله لأجل البدعة والضلالة!! وليس لأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر!!

وقد نسب إلى غيلان رأس القدرية أمور منها:

1- نفي الصفات ومحاربة التجسيم والتشبيه.

2- القول بخلق القرآن وأنه محدث مخلوق.

3- أن الإنسان حر مختار صانع لأفعاله غير مجبر على الفعل.

4- أن الخلافة تصلح في غير قريش من الصالحين لها.

5- ذم ظلم بني أمية[16] .

والأفكار الثلاثة الأخيرة أرقت بني أمية ومن ناصرهم من علماء أهل السنة[17] ولذلك لا تستغرب وصفهم للقدرية بأنهم مجوس هذه الأمة وروايتهم في ذلك الأحاديث!!، وتتطابق أفكار القدرية إلى حد كبير مع أفكار المعتزلة[18] وكان ظهورهما متزامناً.

ومن أبرز شخصياتهم من الولاة معاوية بن يزيد بن معاوية قيل كان قدرياً زاهداً ولذلك خلع نفسه من الخلافة وتركها للأمة وذم أباه وجده!! وقد استطاعت القدرية (الغيلانية) بالشام من قتل الوليد بن يزيد المشهور بالفسق وتولية يزيد بن الوليد بن عبد الملك وكان عادلاً.

وقد سرد الدكتور حسين عطوان من رؤساء وعلماء القدرية صالح بن سويد ومعبد الجهني وخالد بن معدان وبلال بن سعد وعمير بن هانئ وعمرو بن شرحبيل والنعمان بن المنذر الدمشقي وعثمان بن داود الخولاني وعبيد الله بن عبيد الكلاعي ويزيد بن يزيد الأزدي ومكحول الدمشقي وهشام بن الغاز الدمشقي ويحيى بن حمزة وحسان بن عقبة الحضرمي وغيرهم[19]. وقد أدرك كثير منهم الدولة العباسية وقلدهم العباسيون المناصب في الشام!!

وكانت العلاقات قوية بين قدرية الشام (الغيلانية) وقدرية العراق (المعتزلة) وبينهم زيارات متبادلة وقد تعرضت القدرية لهزة بعد موت حاكمها يزيد الناقص (بن الوليد بن عبد الملك) وشدد عليهم مروان بن محمد ففر بعضهم إلى البصرة[20]

وقد استعان الأمويون ببعض علماء من أهل السنة الموالين لهم ضد القدرية فرووا ذم القدرية على ألسنة الصحابة بل رووا أحاديث موضوعة في ذم القدرية منها (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم!!) ومنها (يكون في أمتي رجلان000 والآخر غيلان فتنة على هذه الأمة أشد من فتنة الشيطان!!) و(القدرية مجوس هذه الأمة إذا مرضوا فلا تعودوهم وإذا ماتوا فلا تشهدوهم!!) وللأسف أن بعض هذه الأحاديث قد تسرب داخل كتب عقائد أهل السنة[21] بل صححها بعضهم، لكن لا يستغرب هذا الأمر إن عرفنا أن التزاوج بين تيار العثمانية وتيار السنة الشامية كان مبكراً وقائماً لكن لم تفلح هذه الأحاديث الموضوعة في صد ثورة القدرية كما أسلفنا ولكن المشكلة أن الخصومات أحيت هذه الأحاديث فوجدناها متوسدة بطون كتب عقائد السلفية!! وأصبحنا ننسب للرسول (صلى الله عليه وسلم) هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة. 

على أية حال: كان تيار القدرية قد ظهر في الشام والعراق وكان من أسباب سقوط الدولة الأموية التي تفشى فيها الظلم إذ أن القدرية وقفوا في البداية مع العباسيين.

 

ز- تيار الجهمية

كان الجهم بن صفوان قد أخذ بعض العقائد عن الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار وكان الجعد قد أظهر بعض العقائد في الشام فطلبه بنو أمية فهرب للعراق وهناك قتله خالد القسري عام 124هـ.

وقد تناقضت الآراء عن الجعد بن درهم وأكثر ما دوِّن من آرائه كان من طريق خصومه من علماء بني أمية وقد نسب إليه –أي إلى الجعد- نفي الصفات والقول بخلق القرآن والجبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفناء الجنة والنار وأهم عقيدة كانت السبب في مقتله هي رؤيته لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وليس السبب ما زعمه الأمير خالد القسري فقد كان هذا الأمير مشهوراً بالظلم والفجور وهذا لا يؤمن منه الكذب على من يذبحهم ويضحي بهم!! ومما يدل على أنه قتل قتلاً سياسياً أنه كان مع ثورة يزيد بن المهلب ضد الدولة الأموية!! في بداية القرن الثاني –بعد عمر بن عبد العزيز مباشرة- ونادى أن تكون الخلافة شورى وأن يعمل بالكتاب والسنة[22].

وكذلك قتلهم للجهم بن صفوان كان قتلاً سياسياً بحتاً لخروجه على بني أمية مع الحارث بن سريج سنة 116هـ فقد كان الجهم وزيره وكاتبه وقاضيه وقاتل معه نصر بن سيار الوالي الأموي على خرسان ولم يزل كذلك حتى وقع في الأسر وقتله سلم بن أحوز الأموي زاعماً أنه إنما قتله لقوله بالبدعة!!

وقد ذكر القاسمي في كتابه تاريخ الجهمية والمعتزلة أن الجهم بن صفوان كان من الدعاة للكتاب والسنة وتحقيق العدالة، وقد صدق القاسمي رحمه الله فمن قرأ التاريخ عرف هذا تماماً فبنوا أمية لم يكونوا يقتلون الناس إلا عندما يخرجون بالسيف فعندئذٍ يلفقون لهؤلاء التهم (العقدية) حتى يذبحوهم زعماً منهم بأن فعلهم هذا نصرة للسنة والإسلام!! فيضربون أكثر من حجر بسيف واحد!! فيثني عليهم المغفلون من الصالحين ويتخلصون من الخصوم!! ولذلك كان أكثر بل كل التيارات التي نصمها بالبدعة كالجهمية والقدرية والمعتزلة والشيعة والزيدية وغيرهم كل هؤلاء كانوا من الدعاة إلى تحكيم كتاب الله وتحقيق العدالة وكانوا من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر لكن غلاة السلفية ومنهم غلاة الحنابلة كان لهم ارتباط قوي بالثقافة الشامية التي لا ترى في هؤلاء إلا دعاة فتنة!! وأنهم مجوس الأمة!! وأنهم إلى النار؛ كما يتألى على الله بعض علمائهم المشهورين!! فيجب إعادة قراءة التاريخ وأخذ أقوال الفرق من ألسنتها وكتبها وليس من خصومها.

ولعلي هنا أوصي بكتابين يلتزمان المنهجية في هذا وهما كتاب القاسمي (تاريخ الجهمية والمعتزلة) وكتاب الدكتور حسين عطوان (الفرق الإسلامية في بلاد الشام في العصر الأموي) والكتاب الأخير من أفضل الكتب جمعاً للمادة ومؤلفه متخصص في التاريخ الأموي ويظهر فيه الحيادية إلى حد كبير.

والخلاصة هنا: أن ما ننشره في كتب العقائد من تكفير وذم مبالغ فيه للجهمية والقدرية والشيعة والمعتزلة كان اتباعاً منا للسياسة الأموية دون علم فنحن ورثنا خصومات علماء الشام مع هؤلاء ووصفهم لهم بالكفر والزندقة والمجوسية والحكم عليهم بالنار و000 تماماً مثلما حكمنا على أبي حنيفة تقليداً لبعض العلماء فتلك الفرق والطوائف كانت في الجملة طوائف إسلامية تدعو للكتاب والسنة وتنادي برفع الظلم ونشر العدالة هذه كلمة أبتغي بها وجه الله وقد سبقني لها كل من قرأ بإنصاف عن هذه الطوائف كما فعل القاسمي وعطوان وغيرهما.

والعاقل من قرأ وعرف الخلفيات السياسية وقارن بأحداث مماثلة في الماضي والحاضر، وكيف تختلط فيها المعلومات ويجر هذا الخلط إلى التظالم، وأكثر تلك الطوائف والفرق لا يصح عنها كل ما نشره عنها خصومها ولها رسائل مدونة موجودة وقد كانت بدع الأمويين القاتلين أكبر من بدع المظلومين المقتولين!! فلماذا كل هذا الهجوم على أناس بأقوال خصومهم مع تركنا لأقوالهم مدونه محفوظة؟!.

 فهذا ظلم بلا شك والظلم من السمات التي لا تستغني عنها كتب العقائد ولولا الظلم والغباء لما أصبح لكتب العقائد –مع ما فيها من جهل وظلم- قيمة تستحق الإشادة، فكل قيمتها وجمهورها يدور مع الظلم والغباء وضعف التحليل السياسي والله الموعد بين سائر المتخاصمين.

وحرارة هذا القول مني كان أسفاً مني على سنوات أضعتها في بغض ولعن الجهمية والقدرية!! ولم أنتبه لبراءتهما من أكثر ما نسب وظلمي لهما إلا بعد بحثي في الموضوع في فترة متأخرة وقد انخدع كثير من علماء الأمة الإسلامية بهذا وتواطئوا عليه تواطؤاً عظيماً حتى أن القارئ يشك في نفسه لولا وجود بعض العلماء الذين سبقوه لهذا القول.

حقاً لقد صدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) عندما قال: (فساد أمتي على يد أغيلمة سفهاء من قريش!!) فنحن ننطق بألسنتهم إلى هذا الزمان ونبغض بقلوبهم ونوالي ونعادي فيهم فتحقق (فساد الأمة) وخاصة ذلك الفساد الفكري الذي من أسوأ سماته أنه يحكم بعد سماعه من طرف واحد فقط!! وهذا يخالف أبسط الأحكام السماوية والقوانين الوضعية فإذا أصبح الخصم قاضياً فعلى القضاء والجرح والتعديل السلام.

إذن فقد قتلت الدولة الأموية غيلان الدمشقي وصاحبه صالح والجعد بن درهم وجهم بن صفوان وزيد بن علي والحارث بن سريج وقبل ذلك الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وكثيراً من المهاجرين والأنصار وأبنائهم بالمدينة وواصلت الدولة العباسية المسيرة القمعية فقتلت من العلويين أضعاف ما قتل منهم في عهد بني أمية وقد استعان الأمويون والعباسيون فيما بعد ببعض العلماء الموالين للسلطة للتصدي لهؤلاء أو تلاميذهم وإصدار الفتاوى بقتلهم بل والتشفي من ذلك ثم استمر ذم هؤلاء بين العوام وطلبة العلم بناءً على ما أسسه آباؤهم وأجدادهم من ذم هؤلاء المبتدعة!! من القدرية والجهمية و000الخ.

تماماً مثلما نذمهم اليوم ولا نعرف ماذا قالوا؟! وإن عرفناها فنعرفها مبتورة مشوهة من أقوال خصومهم!! فالتاريخ يعيد نفسه!! وتمَّ الافتراء على الفرق الأخرى ورؤساء أصحابها بأنهم يبغضون الدين والقرآن الكريم ويذمون النبي (صلى الله عليه وسلم) ويستهزئون بالشريعة وغير ذلك من المظالم والأقوال التي أقل ما يقال عنها: أنها أتت من خصم ولم نسمع الطرف المسلم المتهم، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته وأنى لها ذلك والمتهم لم نترك له الفرصة ليتكلم. 

 

ح- ظهور تيار المعتزلة

 جاء المعتزلة في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وقد قيل في سبب تسميتهم المعتزلة أقوالاً كثيرة لا تهمنا هنا[23] إنما يهمنا أن أبرز رجالاتهم كان واصل بن عطاء (131هـ) وعمرو بن عبيد (141هـ) ثم جاء علماؤهم الكبار، أبو الهذيل العلاف، والنظام، ومعمر السلمي، وهشام الفوطي، وبشر بن المعتمر، والجاحظ، وأبو جعفر الإسكافي، وأبو الحسين الخياط، والجبائي، وغيرهم.

وقد عدَّ المعتزلة في سلفهم الخلفاء الراشدين الأربعة وعبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبي بن كعب والحسنين وسعيد بن المسيب والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من كبار الصحابة والتابعين ويروون بأسانيدهم عنهم ما يرونه موافقاً لهم في بعض أصولهم مثلما نحن الحنابلة أو السلفية نروي عن هؤلاء ما يؤيد وجهة نظرنا!! ونزعم كزعم المعتزلة- أنهم سلفنا الذين نسير على منهجهم!! والصواب أن هؤلاء الكبار ليسوا معتزلة ولا سلفية ولا أشاعرة ولا خوارج لأن معظم المسائل التي خاض فيها الناس فيما بعد لم يكونوا يخوضون فيها يومئذٍ وربما لم يكونوا يعلمون بها.

والغريب أن كل طائفة تسرد الأسماء المشهورة في سلفها حتى تقنع العوام بأن طريقها هو طريق الصحابة والتابعين. غفر الله للجميع ما كان هناك من دواعٍ لهذا أبداً.

 والمعتزلة تدور عقائدهم على أصول خمسة:

1- التوحيد.

2- العدل.

3- الوعد والوعيد.

4- المنزلة بين المنزلتين.

5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

على أن الأصلين الرئيسين عندهم هما التوحيد والعدل، فالتوحيد مثلاً يفصلونه ويقولون أن المراد به (الإيمان بأن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض وجوارح وأعضاء ولا بذي جهات ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا والد ولا مولود ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الحواس ولا يقاس بالناس ولا يشبه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ولا تحل به العاهات وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له، لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار عالم قادر حي لا العلماء القادرين الأحياء ولا إله سواه ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه000الخ)[24]  وهكذا يسردون مجموعة من العقائد التي أخذوها من النقل والعقل لكنهم توسعوا في ألفاظ كان السكوت عنها أولى فلو اقتصروا على ما في الآيات الكريمة على وجه الإجمال لكان أولى فهذا التفصيل الطويل –الذي اختصرته- كان في معنى التوحيد فقط، وهم يقصدون بهذا التفصيل إزالة الشبه التي يوردها الملحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة من النوابت والحشوية -حسب تعبيرهم- وغيرهم من المخالفين لهم وغالباً يقصدون بالنوابت والحشوية الحنابلة ومن وافقهم ممن سبقهم.

أما العدل: فيقصدون به أن الله عز وجل عادل صادق لا يفعل إلا الحق ولا يجور في حكمه ولم يقدر المعاصي على العباد ولا يعذب أطفال المشركين ولا يكلف العباد ما لا يطيقونه ولا يعلمون000الخ.

أما الوعد والوعيد: فيقصدون بذلك أن الله وعد المطيعين بالثواب وتوعد العصاة بالعقاب وأنه لا يخلف هذا ولا هذا000 فلذلك يحكمون على مرتكبي الكبائر بالخلود في النار إن لم يتوبوا وينكرون خروج الموحدين من النار.

أما المنزلة بين المنزلتين: فيعنون بها أن مرتكب الكبيرة لا يقال عنه مؤمن ولا كافر وإنما هو بمنزلة بين المنزلتين فهو فاسق، ويقصدون بهذا الرد على المرجئة القائلين بإيمانه وعلى الخوارج القائلين بكفره000

وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

فهذا الأصل هو الذي أتعب المعتزلة مع السلطات على مر التاريخ لأنه يعني تغيير المنكر بالقوة إذا استطاع المنكِر ذلك ولو بالثورة المسلحة ولذلك نجدهم يؤيدون الثورة الغيلانية بالشام وثورة العباسيين ضد بني أمية وثورة النفس الزكية ضد العباسيين وقبل ذلك ثورة زيد بن علي على الأمويين.

لكنهم لا يقولون بالتغيير عند عدم القدرة والاستطاعة000 ومقصدهم من هذا الأصل كما قالوا: (حتى لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر).

وهم يرون هذا من فروض الكفايات (إذا قام به البعض سقط عن الباقين)[25].

أقول: والمعتزلة رغم توسعهم في الكلام والعلوم العقلية وامتحان الناس في أمور دقيقة وشائكة إلا أنه لهم فضلاً عظيماً في الرد على الزنادقة الذين انتشروا في بداية العصر العباسي وقد كان دعاتهم يجوبون آفاق الدولة الإسلامية يدعون إلى الله عز وجل ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فأسلم على أيديهم الآلاف من البشر ويكاد يتفق دارسوا التاريخ على إثبات دورهم الكبير في صد شبه الملحدين والزنادقة الذين كان لهم صولة كبيرة في العصر العباسي الأول.

لكن المعتزلة مثل غيرهم من الفرق أصابوا في أشياء وأخطأوا في أشياء لكنهم في الجملة لا يستغنى عنهم ولا عن تراثهم وعلومهم وهم مسلمون متدينون بدين الإسلام باطناً وظاهراً وهذا يوجب لهم حق الإسلام كما لا يخفى على عاقل.

وقد كان للمعتزلة غلطة كبرى عندما تحالفوا مع السلطة العباسية في كبت خصومهم وإجبارهم على اعتناق مسألة خلق القرآن وكان أهل الحديث –المسمون فيما بعد بالسلفية أو الحنابلة- لا يدخلون في هذه الكلاميات فلما استثارهم المعتزلة وكفروهم أو بدعوهم قابلهم هؤلاء بالمثل وانتشر في الأمة التكفير بحماس من ذلك اليوم، وأصبح التكفير يردده العلماء والعوام بدلاً من أن يكون خاصاً بالخوارج وآحاد العلماء ولا زال المسلمون إلى اليوم يعانون من تلك المرحلة التي جلبت على أهل الإسلام شراً عظيماً في مسألة فرعية كان السكوت عنها أولى لاختلاف الأفهام في طرق مدلولات تلك الأدلة على هذا الرأي أو ذاك.

 وبلغ المعتزلة أوج عزتهم في نهاية القرن الثاني وبداية الثالث وكان لهم صولة كبيرة بسبب تأييد السياسة العباسية لهم في فترة المأمون والمعتصم والواثق ثم جاء المتوكل فنصر الحنابلة لغرض سياسي –كما سيأتي- وشدد على المعتزلة فانقلب الوضع وأصبح للحنابلة صولة عظيمة فقلدوا المعتزلة في العنف الفكري!!، فدخل الحنابلة في الصراع ضد المعتزلة والشيعة بتأييد من الخليفة المتوكل الذي أراد كسب العامة التي كانت مع الحنابلة وهناك علاقة حميمة بين الحنابلة والعامة قبل هذا إذ يجمعهم بساطة التفكير، يدل على ذلك اجتماعهم في التجسيم والتشبيه وذمهم للعقل والرأي والمناظرة000

 

ك_ ظهور الحنابلة*

 الحنابلة سموا بذلك لانتسابهم إلى الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (241هـ) الذي كان من كبار المحدثين الفقهاء في عصره على ما اشتهر به من الزهد والورع وتجنب السلاطين والعكوف على العلم مع ضيق ذات اليد رضي الله عنه ورحمه.

الإمام أحمد ابتلي من أصحابه كما ابتلي جعفر الصادق من أصحابه وكما ابتلي كثير من العلماء من قبل تلاميذهم الذين يحمّلون آراءهم ما لا تحتمل ويكذبون عليهم000

فلذلك تجد بعض العلماء الكبار كالبيهقي وابن حزم وابن الجوزي وأبي الحسن الأشعري وغيرهم يروون عن الإمام أحمد بالأسانيد القوية خلاف ما يرويه عنه الحنابلة وترجيح هذا أو ذاك يحتاج لبحث.

لكن الذي أقصده هنا أنه لا يجوز أن ننسب إلى الإمام أحمد ما أضافه تلاميذه وأتباعهم من التكفير ومدح يزيد بن معاوية وتشبيه الله بخلقه وما إلى ذلك فهذا –كما قلت- ينفيه العلماء الكبار كالبيهقي وابن الجوزي عن أحمد بل يروون عنه ما يخالف ذلك[26].

وأحمد بن حنبل مع هذا كله بالغ فيه الحنابلة حتى جعلوا محبته دليلاً على الإسلام وبغضه دليلاً على الكفر والزندقة!! وهذا غلو لا يرتضيه أحمد نفسه0 والإمام أحمد إنما هو عالم حديث شأنه شأن بقية علماء الحديث في عصره كأبي بكر بن أبي شيبة ويحيى بن معين وعلي بن المديني والبخاري وغيرهم ومخالفته أو تخطئته ليست جريمة ولا إثماً فهو بشر يخطئ ويصيب ولسنا أتباع الكتاب والسنة إن جعلنا أحمد بن حنبل أو غيره فوق الكتاب والسنة بل لسنا حنابلة ولا سلفية إن لم نفهم هذا الأصل العظيم وهو كون أحمد بن حنبل وسائر العلماء على مر الدهور محكومين بالكتاب والسنة لا يجوز الغلو فيهم ولا يجوز أن نضع اعتبارات خاصة في عالم من العلماء لا أحمد ولا الشافعي ولا جعفر الصادق ولا مالك ولا عبد الله بن أباض ولا زيد بن علي ولا الثوري ولا الأوزاعي ولا ابن حزم  ولا غيرهم فكل هؤلاء إنما نحبهم ونقدرهم لصلاحهم واستقامة سيرتهم ولتعظيمهم للكتاب والسنة ودعوتهم لجعل النصوص الشرعية فوق أقوال الرجال ولو لم يقولوا هذا ولم يدعوا إليه لما التفت إليهم عاقل ولا أحبهم مؤمن فهم محكومون بالمنهج، محتاجون لرحمة الله ومغفرته ضعفاء في جانب قوة الشرع، يحتاجون منا أن ندعو لهم بالمغفرة والرحمة لا أن نغلو فيهم ونمنع من مخالفتهم مطلقاً.

وقد كان الحنابلة في الماضي من أكثر الناس تعصباً بالباطل لأحمد بن حنبل رحمه الله –وهذا يخالف منهجه قطعاً- وقد خف هذا الغلو[27] وكان لابن تيمية رحمه الله دور في تخفيف هذا الغلو والدعوة للإنصاف وقد زيَّف كثيراً من الأقوال المنسوبة لأحمد بن حنبل التي نسبها إليه بعض غلاة الحنابلة كذباً عليه0

ومثلما أخطأ الحنابلة في النقل عن أحمد فقد يخطئون في النقل عن غيره ممن تقدم أو تأخر من العلماء لذلك يجب التأكد من كل قول يُنسب لهذا العالم أو ذاك.

الإمام أحمد اشتهر كثيراً بعد امتحانه وثباته في محنة خلق القرآن التي حدثت في بداية القرن الثالث الهجري.

وكان الإمام أحمد قد ثبت ولم يجب تقية كما فعل يحيى بن معين وابن سعد وابن المديني وغيرهم ممن امتحنتهم السلطة العباسية.

ومثلما يعيد بعض الباحثين أصول الشيعة مثلاً كالوصية والرجعة والعصمة وغيرها لأصول يهودية أو زنادقة فخصوم الحنابلة يزعمون أن الحنابلة أخذوا التجسيم والتشبيه من اليهود والنصارى والمر ليس بهذه الصورة مجرد نقل عقائد، وإنما هناك تأثر ببعض آراء وكتب أهل الكتاب، إذ تجوز بعض العلماء في الأخذ عن التوراة والإنجيل من باب (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) وقد حدث عن أهل الكتاب بعض الصحابة والتابعين فلعلهم إن صحَّ أخذهم شيئاً من العقائد عن أهل الكتاب- دخلوا من هذا الباب.

والحنابلة –أو جمهورهم- يزعمون أنه يجوز الاستشهاد بكتب اليهود والنصارى وأقوال علمائهم فلذلك نجد كثيراً من الآراء لكعب الأحبار ووهب بن منبه ونوف البكالي وغيرهم ممن كان من أهل الكتاب أو ممن نقل عن كتبهم وآثارهم.

كما يرجع خصوم الحنابلة أيضاً عقائد الحنابلة للمتقدمين من المجسمة إن صحت التهمة- أمثال المغيرة بن سعيد وبيان بن سمعان اللذين قتلا عام 119هـ قتلهما خالد القسري قتلاً سياسياً والغريب أن الحنابلة يثنون على خالد القسري لقتله الجعد بن درهم وتضحيته به يوم عيد الأضحى بينما يسكتون تماماً عن قتله لأوائل المجسمة!!

وخالد القسري هدفه سياسي بحت في الحالتين فهو ظالم في قتل هؤلاء وهؤلاء فالعقائد يرد عليها بالدليل والبرهان لا بالسيف وليس تلك العقائد أخطر من عقائد اليهود والنصارى الذين أباح لهم الإسلام البقاء داخل الدولة الإسلامية وكفل لهم حرية الاعتقاد وأخبر الله عز وجل أنه (لا إكراه في الدين).

فهل مثل خالد القسري الظلوم الجبار أحرص على (تصحيح العقيدة) من النبي (صلى الله عليه وسلم) وخلفائه الراشدين الذين لم يجبروا أحداً من أهل الذمة على اعتقاد شيء معين ولم يقتلوا أحداً على اعتقاد أن لله إبناً مثلاً –كما عند النصارى- فضلاً عن القتل في أمور دون ذلك.

أعود فأقولك لا ريب أن التجسيم وتشبيه الله بخلقه قد قال به متقدمون على الحنابلة زمنياً كالمغيرة بن سعيد وبعض متقدمي الشيعة كهشام بن الحكم أو معاصرون لهم كالكرامية أتباع محمد بن كرام السجزي (وأكثر السجزيين فيهم تجسيم) فغلاة الحنابلة لم يبتدعوا التجسيم والتشبيه وإنما جمعوا ما تفرق من ذلك وزادوا عليه ونشروه ودافعوا عنه نتيجة للخصومة مع المعتزلة وغيرهم ممن يبالغ في نفي الصفات000

فالحنابلة في التجسيم والتشبيه مقلدون في ذلك وليسوا مبتدئين فيه مع العلم أنهم لم يذهبوا جميعهم إلى التجسيم فقد ظهر فيهم من أنكر عليهم ذلك كابن الجوزي وابن عقيل وغيرهم.

 كما يرجع خصوم الحنابلة انحراف كثير من الحنابلة عن أهل البيت وحبهم المبالغ فيه لمعاوية ويزيد بن معاوية إلى نواصب البصرة والشام وأن أحمد نفسه كان برئياً من ذلك[28] وإنما انتشر ذلك في أتباعه وتواطؤا عليه بعد ذلك رداً على الشيعة والمعتزلة الذين يطعنون في أحمد بن حنبل ويتهمونه بالجهل والسذاجة[29].

وقد ارتبط تاريخ الحنابلة وثوراتهم بالنصب والتشبيه واستخدام العنف وإحداث الفتن ويمكن للقارئ العودة إلى تاريخ ابن الأثير مثلاً فقد دوَّن فتن الحنابلة في الأعوام 310هـ و317هـ و 323هـ و329هـ و447هـ و469هـ و475 و488هـ و567هـ و596هـ.

 وكان الحنابلة يسمون أنفسهم (أهل السنة والجماعة) أو (اتباع السلف الصالح) مدعين السير على منهجهم، لكن لا يقر لهم بذلك مخالفوهم من الشافعية والحنفية والمالكية والظاهرية فضلاً عن المعتزلة والشيعة.

وقد أساء المعتزلة والحنابلة على حد سواء عند استعانتهم بالسلطة وتحريضها على الطوائف الأخرى، إذ أدى هذا إلى التأثير على الفكر وطرق الاستدلال إضافة إلى التشجيع على الانتهازية واستغلال الدين لأغراض شخصية وطائفية وسياسية، فكلما وصلت فرقة إلى السلطة كفرت الطوائف المخالفة ورأت إباحة دمائهم وحرضت السلطة ضدهم..الخ، وكلما وصل رجل إلى السلطة حاول استغلال المذهب الذي يرى فيه القوة لدعم سلطته وانتهك حقوق بقية المسلمين، فالمذهب المتعصب يعطي السلطة الشرعية في إبادة المذاهب المنافسة وذبح المصلحين الداعين للعدالة.

ثم لم تزل الطوائف في خصومات كلامية وألفوا في ذلك الكتب والمصنفات التي صبغت بصبغة الخصومة من الغضب والكراهية والحقد وإلغاء الطرف الآخر سواءً بتكفيره أو تبديعه مع التحريض على التصفية الجسدية للخصوم.

 ونظراً لضعفنا العلمي وتقديسنا لكل ماضٍ فلم ننظر لتلك الكتب على أنها تعبر عن مرحلة تاريخية وإنما اعتبرناها شرعاً مقدساً وعقيدة راسخة لا تقبل النقد أو التشكيك وهذا مما ألفينا عليه آباءنا!! فلذلك لا غرابة إذا استمر أثر هذه الكتب في تمزيق المسلمين وتقرير شرعية تنازعهم إلى يومنا هذا[30].

أعود فأقول: إن الحنابلة فرقة من هذه الفرق المتخاصمة التي ظُلمت وظَلمت والظلم جماع المساوئ، فأصبحنا نقرأ الخصومات على أنها حق مطلق وهنا تكمن الخطورة وسيأتي ذكر النماذج في ذلك-.

ولعل من أبرز الكتب التي عوَّل عليها الحنابلة –سواءً كانت من تأليفهم أو من تأليف غيرهم- الكتب التالية:

الحيدة للكناني (240هـ) والسنة لعبد الله بن أحمد (291هـ)، كتاب النقض على بشر المريسي للدارمي عثمان بن سعيد (281هـ) والسنة للخلال (311هـ)  وكتاب التوحيد لابن خزيمة (311هـ) وشرح السنة للبربهاري (329هـ) وكتاب الإيمان وكتاب التوحيد لابن مندة (395هـ) وكتاب الشريعة للآجري (360هـ) والإبانة لابن بطة الحنبلي (387هـ) وشرح أصول اعتقاد أهل السنة لأبي القاسم اللالكائي (418هـ) ومجموعة من الرسائل المنسوبة لأحمد بن حنبل (241هـ) والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (369هـ) وكتب أبي يعلى الحنبلي (548هـ) وعدي بن مسافر المرواني (558هـ) –وكان هذا ممن يغلو في مدح يزيد بن معاوية فتأمل التوافق!![31]- وكتب عبد الغني المقدسي (595هـ) ثم كتب ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم) (728هـ) وابن القيم (751هـ)[32] رحمهم الله وغفر لهم.


 

[1] من واجبنا نحن أهل السنة ألا نتوجس من إعلان محبة صالحي أهل البيت وموالاتهم بكل وضوح وهذا لا يعني تقديساً ولا غلواً وإنما هو الحب الشرعي الذي تدل عليه النصوص الشرعية الصحيحة فما العيب في إعلان هذا الحب والولاء.

[2] وهذا لا يعني عدم وجود الغلو عند كثير من الشيعة بل إن غلوهم المضاد وأخطاءهم الفكرية في غاية من البطلان والبعد عن روح الإسلام لكن فيهم في الوقت نفسه كثير من المعتدلين الذين حاولوا –إلى حد ما- التوازن بين المحبة وعدم الغلو كما هو الحال في علماء الكوفة من عهد الإمام علي إلى عصور المحدثين اللاحقة ومن سار على طريقتهم.

[3] وهنا أتذكر حديث النبي (صلى الله عليه وسلم) الذي رواه البخاري: (هلاك أمتي أو فساد أمتي على يد أغيلمة سفهاء من قريش) وفسرها الراوي أبو هريرة بأنهم: بنو حرب وبنو مروان!! وصدق الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإن فساد الأمة الفكري والسياسي والقضائي والمالي بدأ من عهد بني أمية وهذا الحديث يشير في مساره أحاديث أخرى صحيحة كقول النبي (صلى الله عليه وسلم): (الخلافة ثلاثون عاماً ثم تكون ملكاً عضوضاً) والعضوض هو الظالم. وقوله: (أول من يغير سنتي رجل من بني أمية) رجح الألباني كونه معاوية!!. (وصحح الحديث في السلسلة الصحيحة) وقوله: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلاً اتخذوا دين الله دخلاً وعباد الله خولاً ومال الله دولاً)!! (إسناده صحيح) وهذه الأحاديث مع أنها أحاديث آحاد لكنها صحيحة الأسانيد وهي تخبرنا بوضوح ببداية الفساد ذلك الفساد الذي زاد عندما تصالح مع الواقع!! واختلطت الأمور وعمشت الرؤية وتبلد الإحساس وتشكلت العقول القابلة للتناقضات.

[4] التفصيل في كتاب لي لم يطبع بعنوان (أحاديث أهل الشام –قراءة في أثر السياسة على الأحاديث والآثار)!!.

[5] مع أن الشيعة وبعض أئمة أهل البيت ينكرون أن يكون علي منع تفضيل نفسه على الشيخين ولذلك كان علي بن الحسين يرى هذا من هضم النفس ويحتج لتفضيل علي بحديث المنزلة فإن صحَّ اعتراض الشيعة فيكون الإمام علي يريد صرف الناس للمهم وترك الخوض في الجزئيات المفضية إلى الاختلاف وقد روى أهل السنة كثيراً من الآثار عن علي في تفضيله الشيخين على نفسه كما روى السنة أيضاً عنه وعن غيره من الصحابة ما يقتضي تفضيله على الشيخين فالأمر فيه تناقض ويحتاج لبحث، ولعلي أتوسع في ذلك في مشروع كتاب لي بعنوان (التفضيل والمفاضلة بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم).

[6] قصة تحريق علي لهؤلاء غير صحيحة وإنما الذي في صحيح البخاري أن علياً حرق (مرتدين) وفي لفظ (زنادقة) وليس في ذلك تصريح أو دلالة على السبئية كما يزعم البعض ومع هذا أيضاً نجد الروايات في البخاري في موضوع التحريق مدارها على عكرمة مولى ابن عباس وهو متهم برأي الخوارج المنحرفين عن علي وقد اختلف فيه أهل الجرح والتعديل ثم لم يتابع على رواية هذا الحدث الكبير إلا من طريق ضعيفة عند أبي طاهر المخلص مع الاختلاف الكبير في السياق، ثم قد جاءت روايات بأنه قتلهم ثم دخّن عليهم في أخاديد فظن بعض الناس أنه حرقهم فكل هذا يلقي شكوكاً على (قصة التحريق) والأمر يحتاج لبحث، ولا يجوز اتهام علي بتحريق الناس أحياءً بناءً على رواية بعض المنحرفين عنه وهو عكرمة رحمه الله.

[7] ودللوا على ذلك بأن بعض السنة روى (أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى)!! ليعارضوا به الحديث الثابت في الصحيحين (علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ونحو ذلك، لكن أهل السنة لا يقرون بأن هؤلاء الرواة على منهجهم في التحري وضبط رواية الحديث فلذلك لا يصححون مثل هذه الأحاديث ويثبتون هذا الحديث وأمثاله في فضل علي فقط، بينما السنة من جانبهم يتهمون الشيعة بوضع الأحاديث الكثيرة في فضل علي وقد صدقوا فكذب الشيعة أظهر بكثير من كذب أهل السنة كما أن انحراف الشيعة أقصد غلاتهم- عن الصحابة أكثر بكثير من انحراف غلاة السنة (الحنابلة) عن علي وأهل البيت، والأمر كله يحتاج لبحث منصف مفصل.

[8] الأثر له أسانيد صحيحة راجعها في ترجمة ابن عمر عند ابن عبد البر في الاستيعاب، وطبقات ابن سعد وتاريخ دمشق وغيرها من المصادر التي ترجمت لابن عمر بتوسع.

[9] راجع هذه الأحاديث والحكم عليها ومعانيها في كتابنا (بيعة علي بن أبي طالب).

[10] كان المعتزلون من البدريين نحو الأربعة أو الخمسة وكان المقاتلون مع علي من البدريين نحو السبعين أو الثمانين ، كما أن المعتزلين من أصحاب بيعة الرضوان نحو الخمسة عشر إلى العشرين بينما المقاتلون مع علي من الرضوانيين ثمانمائة!! فهنا يظهر الفرق ويتبين أن التيار الشرعي الذي معه الصحابة كان تيار الإمام علي لا تيار العتزلين، علماً بأن أهل الشام لم يكن فيهم بدري ولا رضواني، ولا مهاجري ولا أنصاري (الهجرة الشرعية والنصرة الشرعية- راجع كتابنا: الصحبة والصحابة بين الإطلاق اللغوي والتخصيص الشرعي- جاهز للطباعة)، فلجأ تيار العثمانية من علماء الشام إلى الزعم بأن المعتزلين أكثر!! وأنهم يمثلون أهل السنة!! بينما علي وأصحابه يمثلون التيار الشيعي!! وهذه مغالطة كبرى كما سبق البيان. وقد تبنى غلاة الحنابلة هذا الموقف ورأوا فيه رداً على تيار الشيعة!! ونكاية بهم!!.

[11] راجع ترجمة خالد القسري في أنساب الأشراف للبلاذري فبدعته أعظم من بدعة الجعد بن درهم الذي ذبحه خالد القسري بدعوى البدعة!! وهذا يبين أن الذين أثنوا على خالد القسري من غلاة الحنابلة وغيرهم ليست البدعة معيارية عندهم وإنما الخصومة!! فالخصومة مع الجهمية جرتهم لمدح الظلمة والثناء عليهم وتبرير أفعالهم!!.

[12] راجع كتاب: الفرق الإسلامية في بلاد الشام في العصر الأموي للدكتور حسين عطوان ص213 وما بعدها.

[13] راجع الدكتور حسين عطوان- الفرق الإسلامية في العصر الأموي ص207- 234.

[14] انظر الفرق الإسلامية في بلاد الشام للدكتور حسين عطوان ص15،24،33.

[15] انظر النشاط النصراني في عهد بني أمية!! وكيف استعملوا النصارى على بيت المال!! حتى لا يحاسبهم أحد!! وقد قرب بنو أمية النصارى وأصبحوا يرتادون مجالسهم كسرجون هذا والأخطل الشاعر المشهور فكانت لهم حظوة كبيرة عند بني أمية.

[16] انظر الدكتور حسين عطوان – الفرق الإسلامية في العصر الأموي- ص36 وما بعدها.

[17] عطوان ص50.

[18] بل إن القاضي عبد الجبار قد نسب لغيلان التزام أصول المعتزلة الخمسة من التوحيد والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوعد والوعيد.

[19] انظر: الفرق الإسلامية للدكتور حسين عطوان ص43.

[20] وكان معتزلة البصرة ينددون ببني أمية ويحضون قدرية الشام على الثورة وقد نجحوا لفترة وجيزة كما أسلفنا.

[21] ومن ذلك حديث (ثلاثة ليسوا من أمة محمد الجعدي والمنائي والقدري!!) و (هلاك أمتي في العصبية والقدرية!!) وغيرها كثير.

[22] انظر عطوان – مصدر سابق- ص92.

[23] راجع الدكتور عبد الرحمن بدوي- مذاهب الإسلاميين- المعتزلة ص37.

[24] انظر مذاهب الإسلاميين للدكتور عبد الرحمن بدوي ص52 ومقالات الإسلاميين للأشعري (1/216).

[25] راجع الدكتور بدوي- مذاهب الإسلاميين- ص72.

* لم أتناول في هذه المقدمة الأحناف ولا الشافعية والمالكية لأن تياراتهما فقهية فقط ولم يدخلوا في صراعات عقدية إلا في أزمنة متأخرة.

[26] بعدما كنت أستبعد صدور تكفير أو تشبيه عن الإمام أحمد طلب مني ببعض الأخوة قراءة المزيد من العقائد التي زعم الحنابلة أنها لأحمد بن حنبل وعجبت من كثرتها وتوافقها في نسبة التكفير والتجسيم إلى أحمد وأصبحت متوقفاً في ذلك فإن صحَّ نقل الحنابلة عن أحمد رحمه الله فيكون قد اندفع بفعل الخصومة- لشيء من هذا كما سيأتي عند مناقشتنا للتكفير والتجسيم.

[27] وهذه من حسنات ابن تيمية رحمه الله.

[28] أحمد بن حنبل هو القائل: (اعلم يا بني أن علياً كان كثير الأعداء ففتش أعداؤه عن عيب فيه فلم يجدوا فذهبوا إلى رجل قد حاربه (يعني معاوية) فأطروه كياداً منهم لعلي!!) وهو القائل: (علي وأهل البيت لا يقاس بهم أحد) وهو القائل: (من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله) وهو الذام ليزيد وجوَّز لعنته وغير ذلك

[29] ولا ريب أن خطأ المعتزلة والشيعة لا يجوز رده بخطأ أعظم منه والنيل من أمثال الإمام علي أو الإمام الحسين فما ذنب هذين الفاضلين في خصومة بين أفراد في القرن الثالث.

[30] كنت أريد التوسع في المقدمة السياسية مع شرح مطول عن كيفية نشوء الفرق الإسلامية مع ترجمة لأبرز شخصياتها لكنني رأيت أن المقدمة ستطول كثيراً فلذلك لجأت إلى الاختصار خاصة في ظهور تيارات الجهمية والمعتزلة والمرجئة والقدرية، لكن بما أن هذه المحاضرة –التي ستصبح كتاباً إن شاء الله- مخصصة في كتب العقائد ونقدها، لذلك رأيت أن التوسع أكثر من هذا في بيان الجذور السياسية غير مناسب هنا.

[31] وله أتباع وهم الطائفة اليزيدية في العراق لهم غلو عجيب في تقديس يزيد بن معاوية وتفضيله على الأنبياء والمراسلين وتفضيل الشيطان كذلك وتسميته موحداً!!

[32] إضافة لنقولات عن الهوازي الحنبلي (محسن) والهرري (صاحب المنازل) وابن حامد وأبي زرعة وأبي حاتم والذهلي وغيرهم من الحنابلة.

 

<السابق                    التالي>