أثنى عشر: الغلو في شيوخهم وأئمتهم: الغلو ننكره على الصوفية إذا مدحوا الأولياء وننكره على الشيعة عندما يغلون في أئمتهم الذين يدعون فيهم العصمة[1] وننكره على الأشاعرة عندما يبالغون في مدح أبي الحسن الأشعري وهذا –ذم الغلو- كله حق إذا خلا من الالزمات الباطلة فلو أننا نلتزم بهذا ولا نغلو في علمائنا لكنا مكتملين في هذه المسألة لكننا لا ننكره عندما نقرأ لأحدهم مدحاً بغلو في أحمد أو في ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون)؟! (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم)؟!: ونحن ننكر على الآخرين عندما يعتذرون عن بعض العلماء الذين صدرت منهم هفوات ونسمي هذا (تمييعاً للعقيدة!!) بينما نقوم نحن بالعمل نفسه ونسميه (ذباً عن أعراض العلماء فلحومهم مسمومة!!). المثال الأول: ومن أبرز أمثلة الغلو عند الحنابلة غلوهم في الإمام أحمد نفسه، فقد رووا فيه من الآثار والأعاجيب ما يشبه غلو الشيعة في جعفر الصادق رضي الله عنهما ومن ذلك قول الحنابلة في أحمد: (من أبغض أحمد بن حنبل فهو كافر)[2]، ونسبوا ذلك للشافعي ولا يصح، وزعموا أن الإمام أحمد به يعرف المسلم من الزنديق[3]، وأن الخضر أثنى عليه وكذلك النبي موسى عليه السلام[4]، وأن نظرة من أحمد خير من عبادة سنة[5]، وأن الله عز وجل يزوره في قبره كل عام!!!!![6]، وأن قبره من ضمن أربعة قبور يدفعون عن بغداد جميع البلايا!!![7]، وأن التبرك بقبر أحمد مشروع[8]، وأنهم كانوا يضعون قلم أحمد في النخلة التي لا تحمل فتحمل من بركته[9]، وأنه غضب على منكر ونكير لما سأله في القبر وقال لهما: لمثلي يقال: من ربك؟!! فاعتذرا له!![10]، وأن الجن نعت أحمد قبل موته بأربعين صباحاً![11] وكأنها تعلم الغيب!، وأنه رؤي في المنام يبايع الله عز وجل[12]، وأن الله يباهي به الملائكة[13]، وأن أحد الحنابلة سأل في المنام عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فأجابه المسئول: بأنهما قد زارا رب العالمين ووضعت لهما الموائد!!!!![14]، وأن أحد الحنابلة رأى الله في المنام فقال له الله: من خالف أحمد بن حنبل عذب[15]، وأن الله أمر أهل السموات وجميع الشهداء أن يحضروا جنازة أحمد[16]، وأن أهل السموات من السماء السابعة إلى السماء الدنيا اشتغلوا بعقد الألوية لاستقبال أحمد بن حنبل!!![17]، وأن زبيدة (صاحبة العين) رآها أحدهم في الجنة وسألها عن أحمد فأخبرته أنه فارقها وهو يطير في درة بيضاء يريد زيارة الله عز وجل!!![18]، وأن من كانت به ضائقة وزار قبر أحمد يوم الأربعاء ودعا رزقه الله السعة[19]، وأن كل من دفن في المقبرة التي دفن فيها أحمد بن حنبل مغفور له ببركة أحمد بن حنبل[20]، وأن الله ينظر سبعين ألف نظرة في تربة أحمد بن حنبل ويغفر لمن يزوره[21]، بل بالغ بعضهم وزعم أن الله نفسه يزور أحمد بن حنبل في قبره كل عام كما تقدم. أقول: فبالله عليكم لماذا نسكت عن هذا الغلو وننشغل بنقد غلو الآخرين في أئمتهم ونشنع عليهم ونبدعهم وقد نكفرهم لقولهم بنحو هذا الغلو أو قريب منه ونحكم عليهم بأنهم مخرفون، وهذا لا يعني تبرير أو تسويغ غلو الآخرين لكننا بحاجة للتواضع وأن ننقد أنفسنا أولاً، ونعترف أنه ما من عيب نعيب به الآخرين إلا وهو فينا، هذا على سبيل الإجمال، بل لب خلافنا اليوم مع غلاة الصوفية هو نحو هذا الغلو.
المثال الثاني: ولعل أكبر مثال على هذا ذمنا للقائلين بوحدة الوجود –وهذا الذم جيد- لكننا نجد مثل ابن القيم رحمه الله يعتذر عن أحد الحنابلة عندما يقول بوحدة الوجود وهو الشيخ أبو إسماعيل الهروي وهو من متعصبة الحنابلة الذين اشتهر عنهم التجسيم والتعصب وهو القائل: أنا حنبلي ما حييتُ وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا وليته قال: أنا مسلم ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يكونوا مسلمين، كما قال تعالى: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . ومثلما حاول ابن القيم الاعتذار عن الهروي ولم ننكر عليه فلماذا ننكر على الآخرين؟! إنها ازدواجية الرؤية والمنهج (راجع مقال النقيدان في الملحق). ومن الأمثلة المشهورة تفضيل البربهاري الحنبلي لأحد الحنابلة –واسمه أبو الحسن بن بشار- على أويس القرني!! (راجع ترجمة أبي الحسن علي بن محمد بن بشار في طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى). وقول النوراني: (لأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إليَّ من أن أزول عن مذهب أحمد بن حنبل!!). وزعمهم أن البربهاري لم يقبل من أبي الحسن الأشعري مؤلفاته!! وزعم بعض الحنابلة أنه (أسلم يوم موت أحمد عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس!!). وزعمهم أن أحمد بن حنبل ناح عليه يوم موته المسلمون واليهود والنصارى والمجوس!!. أقول: هذا ليس مما يمدح به أحمد بن حنبل فأحمد ليس أفضل من النبي (صلى الله عليه وسلم) فهل ناح عليه اليهود والنصارى عندما مات؟! ثم هذه القصة غير صحيحة وهي طعن في أحمد بأن المجوس واليهود والنصارى حزنوا لموته ولن يحزن هؤلاء لموته إلا إذا كان منهجه مفيداً لهم كأن يفرحوا بتشنيعه على المخالفين له من المعتزلة والشيعة!! حتى تسبب في تفريق المسلمين أحزاباً!! ولن يكون حزنهم عليه لأنه حمى الإسلام من الأخطار والأفكار الدخيلة. إذن لو صحَّ هذا الحزن لكان طعناً في أحمد لكن هذا لا يصح كما أسلفنا لكن الأتباع –أتباع كل مذهب- يمدحون أحياناً بما يشبه الذم ولذلك قيل: (عدو عاقل خير من صديق جاهل)!! ومن غلو الحنابلة في أحمد أنهم حشروا في تراجم الحنابلة كبار أقران أحمد كعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن صالح المصري وإسحاق بن راهويه بل أدرجوا شيوخه في تلاميذه وأصحابه كعبد الرزاق الصنعاني وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي!! وهذا ما لم تفعله الطوائف الأخرى في أئمتهم. ومن غلوهم في أحمد أن بالغوا في صبره في المحنة ولم نجد هذا الثناء على من سفك دمه بسبب المحنة كأحمد بن نصر الخزاعي الذي قتله الواثق بيده!! فالذي جاد بنفسه أبلغ ممن ضُرب وحُبس. وقد شارك أحمد في سجنه غيره كأبي نعيم الفضل بن دكين وعفان بن مسلم وأبو مسهر (الذي مات في السجن) ومحمد بن نوح (مات في السجن أيضاً) ونعيم بن حماد (مات مسجوناً) (راجع هذا في مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي). فانظروا إلى غلو الحنابلة في ثبات أحمد وكأنه لم يثبت غيره ولم يسجن غيره فضلاً عمن قتل من هؤلاء العلماء بالسيف أو بالسم!! مع أن أحمد يستحق الثناء لزهده وعلمه ومحنته. ومن غلوهم في أحمد زعمهم أن الشافعي يكفر من يبغض أحمد بن حنبل!! والشافعي أعلم وأورع من أن يقول هذا أو يعتقده لأن أحمد ليس نبياً والأنبياء وحدهم هم الذين (بغضهم كفر) لأن بغضهم بغض للدين أما من سواهم فبغضهم يكون إثماً إن كان في أمر يستوجب ذلك. والشافعي لا يكفر من أبغض الصحابة فكيف يكفر من أبغض أحمد بن حنبل!! مثال آخر: ابن تيمية –رحمه الله- نلقبه بشيخ الإسلام ونحاول أن نتأول لهذا اللقب كثيراً وبعضهم يرى وجوب قصره على ابن تيمية!! مع أن ابن تيمية أقل كثيراً من أبي حنيفة والشافعي وأحمد والبخاري وابن عبد البر وابن حزم وأمثالهم فضلاً عن سادات التابعين، أما هذا اللقب فقد لا يستحقه الخلفاء الراشدون فضلاً عن غيرهم، لأن الإسلام فوق الجميع فالجميع محكومون بالإسلام، صحيح أن بعضهم يتأول هذا ويقول: هو شيخ في الإسلام!! لكن هذا لا يتبادر إلى الأذهان وخصوصاً أذهان العوام الذين نحتج بأذهانهم عندما نريد إثبات بعض الصفات!!. على أية حال: أنا أعلم أن اللقب قيل في ابن تيمية وغيره وكنت أرى جوازها في الماضي في ابن تيمية وغيره فأصبحت أرى من الأفضل تجنبها في الجميع للابتعاد عن الغلو وهذا الغلو موجود بدلالة أنه أصبح عوام طلبة العلم إذا خطأت ابن تيمية في مسألة أتاك يقول: أنت تخطئ شيخ الإسلام؟! فهي تسمية إلى البدعة أقرب منها إلى السنة، وقد كان الصحابة أنفسهم يسمون بعضهم بالأسماء المجردة بعيداً عن الألقاب خصوصاً تلك الألقاب التي نشم فيها رائحة الغلو المنهي عنه شرعاً. وقد بالغ المؤلفون من السنة في مدح علمائهم وبالغ غيرهم أيضاً في مدح علمائهم، ولعلنا لا نبعد عن تلاميذ ابن تيمية وأصحابه فقد ألف فيه الحنابلة عدة رسائل ومؤلفات في مدحه والثناء عليه ثناءً فيه غلو ومن أمثلة ذلك: - ما ذكره أحمد بن إبراهيم الواسطي (711هـ) في كتابه التذكرة والاعتبار والانتصار للأبرار: -وللأسف أن الكتاب مطبوع عند سلفية الأردن وعندنا بلا نقد أو تعليق على مواطن الغلو الآتية-: قال الواسطي: فهذه رسالة… إلى الأخوان في الله السادة العلماء والأئمة الأتقياء… -يقصد مجموعة من تلاميذ ابن تيمية- ثم قال: وغيرهم من اللائذين بحضرة شيخهم وشيخنا السيد الإمام الهمام، محيي السنة وقامع البدعة، ناصر الحديث، مفتي الفرق الفائق عن الحقائق وموصلها بالأصول الشرعية للطالب الذائق، الجامع بين الباطن والظاهر، فهو يقضي بالحق ظاهراً وقلبه في العلا قاطن أنموذج الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الشيخ الإمام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية .. أعاد الله علينا بركته.. ثم يواصل الرسالة قائلاً: أصبحتم إخواني تحت سنجق (راية) رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن شاء الله مع شيخكم وإمامكم وشيخنا وإمامنا المبدوء بذكره رضي الله عنه قد تميزتم عن جميع أهل الأرض فقهائها وفقرائها وصوفيتها وعوامها بالدين الصحيح0000 حتى كشف الله لنا ولكم بواسطة هذا الرجل حقيقة دينه الذي أنزله الله من السماء000 هذا وأنتم إذا عرفتموه من حيثية الأمر الشرعي الظاهر فهنا قوم عرفوه من حيثية الأمر الباطن000 ونفوذه من الظاهر إلى الباطن ومن الشهادة إلى الغيب ومن الغيب إلى الشهادة ومن عالم الخلق إلى عالم الأمر وغير ذلك مما لا يمكن شرحه في كتاب!!0 فشيخكم عارف بأحكام أسمائه وصفاته الذاتية ومثل هذا العارف قد يبصر ببصيرته تنزل الأمر بين طبقات السماء والأرض!!000 فالناس يحسون بما يجري في عالم الشهادة وهؤلاء بصائرهم شاخصة إلى الغيب ينظرون ما تجري الأقدار يشعرون بها أحيانا عند تنزلها!!0000 فوالله ثم والله ثم والله لم ير تحت أديم السماء مثل شيخكم علماً وعملاً وحالاً وخلقاً واتباعاً وكرماً وصلاحاً في حق نفسه000 ما رأينا في عصرنا هذا من تستجلى النبوة المحمدية وسننها من أقواله وأفعاله إلا هذا الرجل000)اهـ المراد. ثم دعاهم إلى الصلوات الخمس والتهجد وأن يفتحوا ما بينهم وبين ربهم فإنهم إن فعلوا هذا كله (رجاء أن ينفتح لهم معرفة حقيقة ابن تيمية)!![22] ثم مع هذا الغلو ذكر أنه (لا يدعى فيه العصمة!!) وأنه يوصي أن يكون الإنسان (عدلاً في المدح عدلاً في الذم!! لا يحمله الهوى على الإفراط!!). ثم اتهم مخالفي ابن تيمية من علماء عصره بأنهم مصابون إما في عقولهم أو في أفهامهم أو في صدقهم أو في أعمارهم!! ثم ختم الرسالة بالاستغفار من (الخطأ والزلل)!! هذا نموذج واحد ما تدري من أين تأتي له!! والذي يهمنا هنا أنه لم ينكر هذا الغلو الذين طبعوا هذا الكتاب سواءً من الأخوة سلفية الأردن أو سلفيتنا هنا مع أن أكثر بضاعتنا إنما هي في ذم غلو الصوفية والشيعة في شيوخهم وعلمائهم!!
[1] وأئمة الشيعة إلاثنا عشر هم أئمتنا أيضاً لكننا لا نعتقد فيهم العصمة ولا نغلو فيهم ونحبهم حبنا لأمثالهم من الصالحين بل أكثر من حبنا أمثالهم لقرابتهم من النبي (صلى الله عليه وسلم)، علماً بأن الثاني عشر مختلف في ولادته . [2] طبقات الحنابلة (1/13). [3] مناقب أحمد (597). [4] مناقب أحمد (188). [5] مناقب أحمد (197). [6] مناقب أحمد (550). [7] مناقب أحمد (189). [8] طبقات الحنابلة (1/388)، (2/63، 234، 241)، ومناقب أحمد (191). وهذا غريب مع أن الحنابلة يحرمون التبرك بقبر النبي (ص) وهذا تناقض، وأنا ممن لا يرى التبرك لا بقبر النبي (ص) ولا بقبر غيره من الصحابة والتابعين فكيف بغيرهم؟. [9] مناقب أحمد (370). [10] مناقب أحمد (549). [11] مناقب أحمد (513). [12] مناقب أحمد (555). [13] مناقب أحمد (557). [14] مناقب أحمد (562). [15] مناقب أحمد (563). [16] مناقب أحمد (563). [17] مناقب أحمد (564). [18] مناقب أحمد (567). [19] مناقب أحمد (580). [20] مناقب أحمد (584). [21] مناقب أحمد (580).
|