الصحبة والصحابة بين الإطلاق اللغوي والتخصيص الشرعي |
المقدمة* بسم الله، مبحث (الصحابة) من المباحث والموضوعات ذات الأهمية البالغة في التراث والفكر الإسلامي قديماً وحديثاً؛ لما يترتب عليه من قضايا فقهية وحديثية وإيمانية، وجوانب أخرى تتصل بالجوانب الفقهية والسياسية والشوروية والاقتصادية في الفكر الإسلامي، إضافة لقضايا أخرى ذات صلة وثيقة بهذا الموضوع (موضوع الصحابة). ومن خلال اهتمامي بالتاريخ الإسلامي والعلوم الشرعية من حديث وفقه وعقيدة ( أو إيمانيات)... رأيت أن موضوع (الصحبة والصحابة) من أكبر الموضوعات أهمية، وأشدها حرجاً، عند كثير من مفكري وعلماء المسلمين، بل عند سائر المهتمين بالإسلام ودراسته من غير المسلمين. وقد استعرض علماء المسلمين الأوائل كثيراً من سير الصحابة وأخبارهم وفضائلهم، مع نقد من ارتد منهم أو نجم عنه نفاق أو ظلم أو ارتكب أحد المحظورات الشرعية الكبرى (كبائر الذنوب). ولعل أول من أفرد (الصحابة) بمؤلف هو الإمام البخاري، صاحب الصحيح (256هـ) في كتابه تاريخ الصحابة (لعله التاريخ المطبوع باسم التاريخ الأوسط وقد طبع باسم التاريخ الصغير أيضاً)، وإن كان قد سبقه مصنفون تحدثوا عن الصحابة ضمن تواريخهم وكتبهم التي وضعوها في التراجم كابن سعد (ت230هـ) في الطبقات الكبرى والإمام علي بن المديني (234هـ) في كتابه (تسمية من نـزل من الصحابة في سائر البلدان –مفقود)، و أبوخيثمة زهير بن حرب( 234هـ) في تاريخه، وخليفة بن خياط شيخ البخاري (240هـ) في تاريخه المسمى (تاريخ خليفة بن خياط)، وغيرهم ممن أدخل تراجم الصحابة في تراجم غيرهم من التابعين فمن بعدهم، لكن أول من ألف فيهم خاصة كان البخاري. وتبع الإمامَ البخاريَّ في إفراد الصحابة بالتأليف جماعةٌ من علماء الحديث والتراجم، فصنف فيهم الحافظ البرقي (270هـ)، ثم ألف الإمام الترمذي (279هـ) كتاب (تسمية أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم) وهو مطبوع، ثم ألف أبو بكر بن أبي خيثمة (279هـ) كتاباً بعنوان (تاريخ الصحابة)، ثم عبدان المروزي (293هـ) في كتابه (تاريخ الصحابة)، ثم محمد بن عبد الله الحضرمي المعروف بمطيَّن (ت 297هـ) في كتابه (الصحابة وهو مفقود)، ثم الإمام أبو منصور الباوردي (310هـ) في كتابه (تاريخ الصحابة)، ثم أبو بكر بن أبي داود (316هـ)، ثم عبد الله بن محمد البغوي (317هـ) في كتابه (معجم الصحابة)، ثم العقيلي (322هـ) في كتابه (الصحابة)، ثم خيثمة بن سليمان (343هـ) في كتابه (فضائل الصحابة)، ثم ابن قانع (351هـ) في كتابه (معجم الصحابة –مطبوع-)، ثم الإمام ابن السكن (353هـ) في كتابه (أسماء الصحابة)، ثم الإمام ابن حبان –صاحب الصحيح- (354هـ) في كتابه (أسماء الصحابة)، ثم ابن القطان (360هـ) في كتابه (أسماء الصحابة) أيضاً، وللطبراني (360هـ) (المعجم الكبير في أحاديث الصحابة -مطبوع)، ولابن عدي (365هـ) كتاب (أسماء الصحابة) أيضاً، ثم ابن مندة (390هـ) في كتابه (معرفة الصحابة)، ثم ألف الإسماعيلي (396هـ) (معجم الصحابة)، وكذلك فعل أحمد الهمداني (398هـ)، ثم أبو نعيم الأصبهاني (430هـ) في كتاب (معرفة الصحابة -مطبوع-)، ولابن حزم الأندلسي (456هـ) كتاب مختصر في (أسماء الصحابة)، ثم جاء الإمام ابن عبد البر (463هـ) في كتابه (الاستيعاب في أسماء الأصحاب -مطبوع أكثر من طبعة-) فجمع ما تشتت عند غيره[1]، ثم جاء بعد ابن عبد البر الحافظ ابن عساكر (571هـ) فصنف (معجم الصحابة)، ثم جاء الحافظ عز الدين ابن الأثير (630هـ) ليؤلف كتاباً جامعاً أسماه (أسد الغابة في معرفة الصحابة)، استدرك فيه بعض التراجم على من سبقه وأدخل فيه استدراكات ابن فتحون (520هـ) على ابن عبد البر، واستدراكات أبي موسى المديني (581هـ) على ابن مندة. ثم جاء الذهبي (748هـ) في كتابه (تجريد أسماء الصحابة)، ثم كان آخر المشهورين من المؤلفين في تراجم الصحابة هو الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) في كتابه المشهور (الإصابة في تمييز الصحابة) الذي جمع فيه ما لم يجمعه غيره بفضل اطلاعه على مؤلفات من سبقه وإفادته منها. وقد حاولنا أن نتلافى بعض أخطاء الحافظ ابن حجر ولم نستطع تلافي كل أخطائه، ولعل من أهم الأخطاء التي تلافيناها إخراج كل من لم تثبت صحبته من أصحاب القواعد الثلاث التي ذكرها الحافظ فلا ندخل أمراء الفتوح ولا من شهد حجة الوداع ولا أطفال الصحابة. وكذلك سنحذف من تراجم ابن حجر من لم يثبت صحبته إلا بطريق موضوع ونتساهل في الضعيف بأنواعه من مرسل ومنقطع ومقطوع ونحو ذلك؛ فالضعيف محل تنازع عند المؤرخين أما الموضوع المكذوب فلا نـزاع في اجتنابه وسنلحق بالمجلد الثالث القادم (المختلف في صحبتهم) باباً بعنوان (المختلقون من الصحابة)!! وهذا على سبيل النقد الإجمالي لعمل الحافظ ابن حجر رحمه الله أما النقد التفصيلي فله موضع آخر. هذه المؤلفات كانت في التراجم فقط: كانت المؤلفات التي ذكرناها سابقا هي أبرز المؤلفات التي أفردت في تراجم الصحابة جملة، وعلى هذا فلم أذكر المؤلفات في تراجم أفراد من الصحابة ولا المؤلفات في فضائل الصحابة، ولا المؤلفات في تراجم الخلفاء الأربعة، أو تراجم العشرة، أو تراجم زوجات النبي "صلى الله عليه وآله وسلم"، ولا المؤلفات في مجتهدي الصحابة وفقهائهم، ونحو ذلك مما يطول بنا ذكره.
المطبوع من المؤلفات في الصحابة: ولم يطبع من الكتب المتقدم ذكرها إلا القليل، لعل أشهرها (الاستيعاب) لابن عبد البر، و(أسد الغابة) لابن الأثير، و(الإصابة) لابن حجر، فلا يكاد يرجع الباحثون عند ترجمة الصحابي إلى غير هذه الكتب الثلاثة، وقد يقتصر بعضهم على الأخير، لاكتنازه بالمعلومات وإحاطته واستدراكاته على من سبقه. وقد طبع حديثاً بعض هذه المؤلفات ككتاب ابن قانع وأبي نعيم.
أهمية موضوع الصحابة: وموضوع الصحابة كما تقدم من الموضوعات ذات الأهمية القصوى عند المسلمين في القديم والحديث؛ لاختلاف المسلمين في تعريف الصحابي، وعدالة الصحابة، وفضلهم، وما إلى ذلك، وما يترتب على ذلك من رؤى ونظريات وأحكام شرعية.. الخ، وكان لهذا الاختلاف الدور الأساس في نشوء التيارات الفكرية الإسلامية الأولى، وظهور الفرق الإسلامية من القرن الأول، ثم استمرار الاختلاف بينها إلى يومنا هذا.
السياسة والصحابة: وكانت السياسة تلعب أيضاً الدور الأكبر في توسيع الفجوة بين علماء المسلمين وعوامهم، ولم يكن الساسة يشتهون الفرقة بين المسلمين لمجرد الإفساد بينهم، ولكن كانت لهم مصالح في تأييد هذه الجماعة أو تلك، ومنها إظهار الحاكم نفسه بمظهر الحريص على سلامة العقيدة والحامي لها ضد الطوائف الأخرى. فلذلك شكَّل مغفلو الصالحين والعوام الساعد الأيمن لكل سلطة تستغل هذه القضية على مر التاريخ، سواءً كان هؤلاء من السنة أو الشيعة أو المعتزلة أو النواصب أو الخوارج ؛ ولعل الخوارج أخف هؤلاء استغلالاً للسلطة. وقضية (الصحابة) من القضايا المستثمرة في تصفية الخصوم، أو كبتهم، أو التضييق عليهم، أو التشكيك في عقائدهم، وتنفير الناس عنهم، وعن علمهم، دون النظر إلى حججهم وأدلتهم. ولذلك نجد أنها تكفي عبارة (فلان يطعن في الصحابة) للقضاء على كل إبداع بحثي عند أهل السنة، كما تكفي عبارة (فلان يثني على أعداء أهل البيت) للقضاء على الإبداع نفسه عند الشيعة. والسنة والشيعة يشكلان أهم فرقتين إسلاميتين من حيث الانتشار، وكثرة الإنتاج الفكري، مع تقدم زمانهما وبداياتهما الهادئة من أيام الخلافة الراشدة، بل إن جذورهما الأولى تمتد منذ عهد النبوة. حاجة موضوع الصحابة للباحثين المنصفين: ولهذا كله رأيت أن موضوع (الصحابة) يحتاج من وقت لآخر لجهود الباحثين المنصفين سواءً من السنة بتياراتها أو من الشيعة بطوائفها أومن المعتزلة أو الإباضية، أو النواصب ، أو الباحثين غير المنتمين لمذهب من مذاهب المسلمين، وهذه الفرق بطوائفها المختلفة هي تقريباً الفرق التي تصنف على أنها ممثلة للإسلام في هذا العصر. نعم الجميع بحاجة إلى حوار، وبحث طويل المدى، لا يكفي فيه مجرد الالتقاء ونقل التشويهات المتبادلة، وإنما يحتاج لبحث هادئ نـزيه منصف، بعيد عن كل مصادرة للآراء الأخرى؛ ما دام أن تلك الآراء تدعي الانتماء للإسلام والالتزام بالمنهج العلمي. لا تقليد!! وهذا البحث المنصف المطلوب من هؤلاء لا بد فيه من ترك التقليد جانباً، والتحلي بالاجتهاد؛ لأن التقليد من أكبر أسباب تفرق المسلمين، ولا يمكن لأي حوار أو بحث أن يؤتي ثمرته؛ ما دام التقليد راسخاً عند هذه الطوائف أو عند كثير ممن يدعي تمثيلها. وبحكم انتمائي لأهل السنة، فإن ذلك لا يجعلني أتعصب لمؤلفاتهم وعلمائهم، فأولئك العلماء من السلف كانوا ينهوننا عن التقليد، فإذا كانوا ينهوننا صادقين فلماذا لا نلتزم بنصيحتهم؟ وإذا كانوا ينهوننا كاذبين فلماذا نتخذهم قدوة؟. على أية حال ؛ كنت ولا زلت من المهتمين بالتاريخ الإسلامي في صدره الأول (السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين) وهذا الاهتمام دفعني للتعرف على المصطلحات التي لها علاقة مباشرة ومؤثرة بتلك الفترة. ومن أبرز المصطلحات ذات التأثير على الفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي وتفسيره مصطلح (الصحبة والصحابة). المصطلح الشائع: والمصطلح الشائع عند كثير من علماء المسلمين وخاصة أهل الحديث منهم في كون الصحابي يطلق على (كل من رأى النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" أو لقيه من المسلمين) مصطلح فيه من التجوز الشيء الكثير، وهذا التجوز كان له أثر سيئ على قراءة المسلمين لتاريخ السيرة النبوية وتاريخ القرن الأول. وسوء القراءة هذه كان لها أثر على الجانب الفقهي والحديثي والأخلاقي عند المسلمين، فاختلطت أمور كثيرة في هذه الجوانب نتيجة تعميم مصطلح (الصحبة)، مع التباين الكبير بين مصطلح الصحبة التي أثنى عليها القرآن الكريم والسنة النبوية، وبين الصحبة العامة التي ليس فيها ثناء ولا مديح وإنما كان إطلاقها لغوياً.
الصحبة الشرعية الخاصة: فالصحبة الشرعية لا يصح إطلاقها إلا في المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم من مواليهم وحلفائهم والمستضعفين ونحو ذلك، أما الأعراب والطلقاء (مسلمو فتح مكة) والوفود وغيرهم، فليسوا صحابة من الناحية الشرعية وإن كانوا صحابة صحبة عامة من الناحية اللغوية، وعلى هذا فلم ترد في حقهم تلك الآيات الكريمة من الثناء على من كانوا مع النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" أو على المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم كما سيأتي. حقاً إن تعميم فضل الصحبة ومنـزلتها على كل من لقي النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" من المسلمين أدى إلى اختلاف بين كثير من الفرق الإسلامية ولا زال الاختلاف بينها إلى يومنا هذا، إذ أدى هذا التعميم في المديح إلى تعميم فرق أخرى كالشيعة لنصوص أخرى في الذم وأصبح الناجون عندهم أفراداً قلائل.
أهمية التفريق بين صحبتين: ولتحديد مفهوم الصحبة يجب علينا أن نفرق بين المصطلحات الشرعية والمصطلحات العرفية والمصطلحات اللغوية ، إلا إذا تطابقت أو توافقت. فاللغة أوسع دائرة نظراً لدخول المجاز والمشترك اللفظي فيها ثم تأتي دائرة العرف إذ يشترط فيه إلى جانب الحقيقة اللغوية أن يضاف إليه عرف الناس فما تعارف الناس عليه من قولهم: فلان صاحب فلان أو من أصحابه فهو صاحبٌ عرفاً والعرف يتضمن الحقيقة اللغوية لا الشرعية، ثم أخص الدوائر هنا التعريف الشرعي؛ لأنه أكثر تحديداً، ولذلك فالشرع يحكم على العرف واللغة، والعرف لا يحكم إلا على اللغة، واللغة لا تحكم على الشرع ولا على العرف وإنما فيها الحقيقة والمجاز. ولذا سنحاول استعراض مفهوم الصحبة في القرآن الكريم والسنة النبوية وعند العلماء المتقدمين، وفي العرف واللغة، مع أن الموضوع يحتاج إلى دراسة أخرى عن تأثير هذا المصطلح على الفكر الإسلامي أو ما يسمى العقائد والبحث في بدايات تحول مفهوم الصحبة وتبدله عبر العصور وما لهذا التحول من الأثر في تعميق الاختلاف بين المسلمين.
معجم الصحابة: وسيتبع هذا العمل النظري أو النظرية التي بسطناها في هذا المجلد عمل تطبيقي في مجلد لاحق بعنوان (معجم الصحابة) نثبت فيه تراجم كل الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية من المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم.
وأخيراً: أشكر كل الأخوة الذين أبلغوني ببعض الإضافات والملحوظات وشاركوا في إثراء هذا البحث حتى صدوره في هذا الكتاب كما أن الرجاء موصول لكل الأخوة أن يقرأوا هذا البحث قراءة منصفة بعيدة عن المجاملة أو التحامل قريبة من فهم المضمون مع إثراء الفكرة بالنقد والإضافة وإرسال الإضافات والملحوظات على العنوان المبين آخر الكتاب.
حسن بن فرحان المالكي الرياض، 7/10/1420هـ 13/1/ 2000م
* هذا هو (التعديل النهائي) لهذا المبحث وكل التعديلات السابقة غير معتمدة. [1] وكتابه من أشهر وأفضل الكتب المؤلفة في تاريخ الصحابة وأخبارهم، وله ميزة أخرى في صراحته والتزامه منهجا إسلاميا رائعا في نقد بعض من وصف بالصحبة إذا صدرت منه مخالفة شرعية من ظلم أو فسق وما إلى ذلك، فابن عبد البر يجعل الشرع فوق الصحابي، فلذلك نجد بعض المتحفظين من الناس ينتقد كتاب ابن عبدالبر لوضوحه في هذا الجانب، ولا ريب أن ابن عبد البر أقرب للمنهج الإسلامي من كل من نقده، لأن هؤلاء الناقدين يجعلون تاريخ الصحابة سابقهم ولاحقهم تاريخاً مقدساً، بينما ابن عبد البر يجعل القداسة للإسلام نفسه، وعلى هذا فلا يجوز تحميل الإسلام أخطاء بعض الصحابة أو غيرهم.
|