ملخص
لكتاب

التربية
العامة
رونيه
أوبير
ترجمة:
عبد الله عبد الدائم
فصل:
المعلومات
الاجتماعية
1- الكائن
البيولوجي و الكائن الاجتماعي
تبين
البيولوجيا للمربي مكانة الطبيعة في الإنسان إذ أن هذا الأخير هو أحوج
من أي كائن آخر إلى عون بني جنسه نتيجة لما يعانيه من ضعف ، وقد أتاح
له هذا الضعف أن يكتسب طاقات أخرى معوضة في الحياة الاجتماعية التي
تزوده بمجموعة من التعاليم عن طريق التربية ، فتحل لديه إثرها تجربة
الأجداد أو السابقين محل الغريزة ، بل هناك من ذهب إلى القول بأن لدى
الكائن البشري ظاهرة هامة تتمثل في أن المراحل الأولى من نمو
الجنين ما هي إلا إعادة
و تكرار للوظائف البدائية التي مرت بها الإنسانية، حتى أن " ستانلي هول
Stanley Hall
" قد نقل
هذه الفرضية إلى ميدان علم النفس ، بيد أن الكائن الصغير منذ ولادته
يكون على تماس مع بيئة عصره، وفيها يبدأ تكيفه.
وقد
يعترض معترض على أن هناك مجتمعات حيوانية، غير أن الظواهر الاجتماعية
لمثل هذه المجتمعات لا تتعدى جميعها إطار الفعاليات الغريزية، أو
امتداد لهذا الإطار، وبالتالي تظل ظواهر بيولوجية لا غير، أما
المجتمعات الإنسانية فهي تحظى بالطابع العقلي إلى جانب بعض الشروط
البيولوجية إلا أن الجماعات الإنسانية التي يشاهدها قد بلغت جميعها
مستوى من التكون الاجتماعي يجعل الأمور في نظر العلم تتبدى كما لو كان
الشيء الاجتماعي نتيجة تحول
مفاجئ ، أو انقطاع بين البيولوجي و الاجتماعي، و لهذا كانت
التربية تتصف بالدرجة الأولى بطابع الاندماج في الجماعة، زيادة على كل
هذا ، فليس ثمة مجتمع إنساني لا يتصف بهذه الصفات الأساسية الثلاثة :
امتلاك اللفظ، امتلاك الآلة ، امتلاك الطقوس. وكلها تتبلور عن طريق فعل
التربية .
فالمجتمع يتكون من جملة من التصورات الجماعية ، حيث أن اللغة
ليست عبارة عن أصوات ، بقدر ما هي جهاز من المعاني، والتكنيك كذلك
تجربة مكثفة، والطقوس هي الأخرى تكون مثقلة بالرمزية و التأثير السحري
.
ومن
وجهات النظر هذه كلها، فهي تجل من تجليت الحياة الروحية أو هي الرمزية
التي توجد بين مجال البيولوجيا و مجال الوعي، والتربية تعمل على كشف
هذه اللغة الرمزية التي يصبح بفضلها الكائن البشري عند امتلاكه لها
واستعمالها جزءا لا يتجزأ من الجماعة .
2-
بنية الظواهر التربوية و وظيفتها الاجتماعية
إن
تاريخ الظواهر التربوية يُظهر لنا الطابع الاجتماعي للتربية من خلال
هذه النتائج :
1:- ليس هناك من مجتمع إنساني ، مهما كان ، دون نظام تربوي .
فالمجتمع يتجدد باستمرار عن طريق دخول أعضاء جدد صغار، الذين يعدون
أعدادا مسبقا للدخول في شكل من أشكال الحياة الاجتماعية، فالمجتمع ينظر
للوليد نظرته لكائن غريب لابد له من طائفة من الطقوس لكي يغدو مقبولا
في الجماعة.
2:- ليس من تربية بلا مجتمع ، فليس ثمة إنسان يبقى مستسلما
لحياة بيولوجية خالصة ، و لا يستطيع أي فرد أن يبلغ بذاته وبقواه
المراتب العليا ، لكن الحياة الاجتماعية هي التي تمكن من التخلص من
الحياة البيولوجية لبلوغ الحياة الروحية ، لدى يجد الفرد نفسه مزودا
بقوى ليست قواه الذاتية المشغولة بعمليات الحياة البيولوجية و إنما هي
خاصةً جميع الوسائل الخارجية التي تقدمها لها الأجيال العديدة التي
سبقته " إن كل تربية تتم إذن بواسطة الجيل الذي بلغ مرحلة الرشد ، فغدا
بسبب ذلك الحامل الفعلي لتلك التجارب الإنسانية المتراكمة
"
إن
التربية هنا كفعل ، موجهة من طرف الراشد بين الصغار الذين يكتسبون منهم
الوسائل الخارجية و يستفيدون من تجاربهم السابقة حتى يستطيعون التكيف
مع وسطهم.
3:-إن إهمال المجتمع للمصير الفردي هو إهمال لتطلعاته الخاصة .
و على العكس عندما يظهر الاهتمام و يتبدى في العقلية الجماعية للمجتمع
، يصبح النظام التربوي من المرونة بحيث يتلاءم مع شخصية الكائن الذي
يطبق عليه، فيولد مفهوم احترام الكائن الفردي للطفل ، ويغدو عاملا
أساسيا في العمل التربوي ، وتأخذ إذ ذاك التربية طابعا خاصا ، هو طابع
تكيف متبادل بين الكائن الصغير وبين الجماعة التي يعيش بها
.
4:-الوظيفة الرابعة للتربية هي تكيف الفرد داخل الجماعة ، أي
تكيف الكائن من وجهتي النظر التشريحية و الفيزيولوجية مع البنية
المورفولوجية للجماعة و مع آليتها الوظيفية . فالكائن الصغير يؤخذ بيده
في أن يتمكن من الإسهام
دون ما جهد في طراز حياة الجماعة و عاداتها و نظام مؤسساتها و عواطفها
و معتقداتها ، فالتربية الاجتماعية التي يتلقاها ، ما هي إلا مرحلة من
مراحل الحياة الروحية .
5:-إن وظيفة التربية و غايتها ، من وجهة النظر الاجتماعية،
الإبقاء على النموذج المكون لمجتمع معين :النموذج الجسدي ( لبنية وطراز
حياة المجتمع )، لنموذج القانوني ( جميع مؤسساته ) ، النموذج النفسي (
المعلومات النظرية و المعتقدات العملية )، ففي نظر" رونيه أوبير"
التربية هي حفظ و إبقاء . أي أن كل مجتمع يحاول أن ينقل العناصر
الإنسانية و الثابتة في
طبيعته للصغار . وهذا الطابع المحافظ للتربية يزداد وضوحا
بمقدار ما يقع التمايز في وظيفة التربية و بمقدار ما نكل أمرها في
المجتمع إلى طبقة من الناس هدفهم الوحيد هو المحافظة على الثقافة التي
تلقوها.
6:- من نتائج التربية الاجتماعية أنها تقدم شكلا جديدا و "
مسكنا " و نظاما من ضروب السلوك الجسدي و النفسي ليست شروطه متضمنة في طبيعته
البيولوجية .
فالتربية الاجتماعية ستخلق كائنا جديدا سيبدأ بالدخول في صراع
مع الكائن الجسدي ويقوم بجهد للتخلص منه ، ونعرف أن أعنف الدوافع
الطبيعية هي الدوافع المتصلة بالنشاط الجنسي ، لدى نرى الزجر الاجتماعي
يتجه إليها أكثر من غيرها.
إن
التربية الإجتماعية ، عندما تنتزع الكائن ، تجعله يشعر وكأنه مقذوف به
خارج جسده ، وقد يقع أن يكون من نتيجة هذا الانقسام مع الذات ، أن تنمو
في ما تحت الشعور خائفة من النزعات العميقة والقوية .
وحسب
دوركايم " أن وجود قيم وأفكار و معتقدات اجتماعية لا تساعد الفرد في
هذا المجتمع على فهم متطلبات مجتمعه ، بل تزيد أيضا من شعوره بالانتماء
لهذا المجتمع ، مما يجعله يضع هذه المتطلبات في مرتبة أعلى من حاجاته
الشخصية ، و يحاول جاهدا أن يسعى إلى تحقيقها .
فالتربية بالنسبة لدوركايم تعمل على مساعدة الفرد على إدراك
ذاته الاجتماعية Social Self
وتنظيمها لتفادي الصراع مع حاجاته الشخصية ، ويرى أن ذلك يتحقق عن طريق
التربية الخلقية Moral
Education ،
ويعني بالتربية الخلقية إستدماج الفرد للقيم والمعتقدات الأساسية
بمجتمعه من خلال عملية التنشئة الاجتماعية ، إذ يرى نجاح هذه العملية
يؤدي الى عدم خروج الفرد على قيم و معايير مجتمعه لاقتناعه بصحتها و
شرعيتها ، وهنا يصبح الضبط الاجتماعي ضبطا داخليا ، إذ يعمل الضمير
كقوة داخلية ضابطة توجه
الفرد في تصرفاته و تقييم أعماله ، فالفرد هنا يقوم بدور الرقيب على
تصرفاته لأن الخروج عن القيم و المعايير الاجتماعية يعرضه للشعور
بالذنب ".
7:- في عمل التربية ، لا ينقل المجتمع إلى الفرد جميع مقوماته ،
فالمجتمع هو ما هو عليه
، بنقائصه و عاهاته وشروره ، غير أنه يقوم بتصور ذاته تصورا لا ينطبق
مع الواقع .
وقد
لاحظ" ديوي Dewey "
أن إلى جانب التربية الغير مباشرة ، التي هي جملة الضغط الذي يقع على
الصغير من المؤثرات الاجتماعية ، الخيرة و الشريرة ، هناك التربية
المباشرة ؛ التي تدخل في نفس الصغير من المؤثرات الاجتماعية التي تصدر
عن ذلك المفهوم المثالي الذي يكونه كل مجتمع إنساني عن طبيعته ، وهي
التربية الحق في نظره.
إن كل
مجتمع يلجأ إلى التربية التي ترده دوما من خلال الأجيال الناشئة إلى
شعوره السامي بذاته ،
فهو يحاول أن يناضل ضد قوى الانحلال التي تفعل فيه دوما ، وبذلك يخلق
ذاته بذاته خلقا دائما .
8:- والتربية تلعب من جديد دورها المحرر ، في المجتمع ذاته ،
رغم ما فيها من محافظة و استمساك للتقاليد ، تضعف و تخفت ، فالتربية
المحافظة في جوهرها ، تنزع إلى أن تكون الكائنات الفتية وفق قوانين
الماضي ، لكنهم ينزعون إلى أعمال المستقبل مما يسبب صراعا بين الأجيال
المتعاقبة .
أما
عندما تعرض أمام الكائنات الفتية صورة مجتمع مثالي، فإنهم يجدون القوى
الجديدة التي تزودهم بدعامة يقاومون بها ضغط الحاضر ، يشاركون المجتمع
للارتفاع إلى مستوى أهدافه العليا .
إن
الاجتماعية المثالية تصبح بمثابة النداء الذي يهيب بهم للتحرر من ثقل
الاجتماعية الواقعية.
9:- إن التربية تنزع من تلقاء ذاتها إلى أن تصبح ذات طابع حضاري
مع بقائها اجتماعية ، فالتمرس بمعرفة ماضي الجماعة عن طريق التاريخ ،
وعن طريق العلوم ، كل ذلك يهب الوعي للفرد .
فالمبدعات المختلفة ؛ العلمية و الخلقية و الجمالية ، تؤلف
تراثا مشتركا ، تشعر الجماعات المختلفة أنها أسهمت في تحضيره ، فيحدث
في التربية نوع من انتقال الطابع الاجتماعي عبر الجماعات المختلفة ،
وهذا الانتقال ييسر فيهما فهم طائفة القيم العالية
.
10:-إن في الوجود الإنساني وفي التربية مستويات يرقى إليها
الكائن الفتي واحدا بعد آخر خلال مراحل نموه .
أ: ففي التربية الدنيا يقع
مستوى الاجتماعية المشخصة الذي يتداخل مع مستوى الحياة الجسمية ، وفيه
تنعقد العلاقات الاجتماعية المباشرة وتنتشر معظم الفعاليات التكنيكية :
إن مستوى المتعة الراهنة ، مستوى التجربة و الفكر العملي الخالص في
جماعة لا يجاوز أفقها أفق ذاتها وبقائها .
ب:
وفي منزلة وسطى تقع على مستوى الاجتماعية المجردة ، والصفة الأساسية
المميزة له هي التاريخية ، فالمجتمع لا يخرج من حاضره إلا ليجد
لنفسه وجودا أكثر
انسجاما ، في مجموع تطوره ، وإذا ارتفعنا قليلا فوق هذا المستوى ،
وجدنا التاريخية تتفتح هي نفسها لتغدو إجتماعية حضارية ، وتستلزم نوعا
من حاضره المباشر ليتعرف على ماضيه ، دون أن يلتقي بمجتمعات أخرى امتزج
تاريخها بتاريخه .
جـ:
ووراء هذه المستويات من الإجتماعية المشخصة ثم المجردة ثم الحضارية ،
لا يقوم إلا مستوى الروحانية الخالصة ، الذي تعبر عنه الحضارة
الإنسانية الشاملة.
من
البديهي أن ليس ثمة انقطاع بين هذه المستويات المختلفة من الإجتماعية ،
فكل واحد منها متضمن في السابق ويتضمن بدوره جزءاً من اللاحق ،
والتربية الإجتماعية تتبع التطور ذاته ، وقد يحدت حتى في المجتمعات
المعاصرة ، ألا تبلغ غاية المطاف ، على أن كل مرحلة من مراحل التطور
هذا لا يظل هدفها أن تعد للرحلة التالية .
ومن
هنا كانت هذه التربية الإجتماعية بحق تحريرا مستمراً ، وتجاوزا للذات
دائما ، ولكنها لاتنجح في ذلك إلا شريطة ألا تقطع قط روابطها الاولى
.
11:-وداخل منظومة التطورات الجماعية التي تعبر عن نظرة مجتمع من
المجتمعات إلىذاته و الى مجموع الأشياء يثوي دائما الإنسان ومصيره ،
وفي جميع العصور إن الذي يسيطر على جميع النظم التربوية هو الفكرة التي
كونها المجتمع عن وضع الإنسان وواجباته أمام الكون وأمام المجتمع وأمام
نفسه ، فالإجتماعية هي التي تميز الإنسان من دون سائر الانواع
البيولوجية .
وخلاصة لما تم ذكره ، فالتربية تعتبر وسيلة المجتمع للمحافظة
على بقائه واستمراره وثبات نظمه ومعاييره الإجتماعية Social
Horms
وقيمه Values و
خبرات ومعارف الأجيال السابقة ، وتحقق التربية هذا الهذف بنقلها الثرات
الثقافي للجيل الجديد ، وبذلك يكون دور التربية هو تنمية السلوك
الإنساني وتطويره وتغييره لكي يناسب كل ماهو سائد في مجتمع ما
.
فإذا
كان " ديوي " يعتبر التربية هي إعداد وتشكيل الفرد للقيام بأدواره
الإجتماعية في مكان ما وزمان ما ، على اساس ماهو متوقع منه في هذا
المجتمع ، فإن " وليام جيمس " يسير في نفس المسار الذي تحدث عنه "ديوي"
هو أن وظيفة التربية هي إعداد الفرد للإسهام الفعال في تقدم مجتمعه
.
أما
"دوركايم " فيرى أن وظيفة التربية هي استدماج Internalization
الفرد للقيم والأفكار والمعتقدات بمجتمعه من خلال التنشئة الأجتماعية ،
إذ يرى أن هذه العملية تعمل على تحقيق قدر من التجانس بين أفراد
المجتمع الواحد الذي اعتبره أساسا لتحقيق النظام الإجتماعي
Social
Order
بالمجتمع ، وأن وظيفتها أيضا هي الإعداد المهني لأفراد المجتمع
.
أما "
تاكلوت بارسونز " في دراسته للنظام التربوي ، فإنه إعتبر عملية التنشئة
الإجتماعية وعملية الاختيار Selection
وظيفتين رئيسيتين للتربية .
لقد
تأثر " كارل مانهايم " في نظرته للتربية باهتماماته الإجتماعية كعالم
إجتماعي ، فاعتبر التربية عملية إجتماعية ديناميكية ووسيلة المجتمع
للضبط الإجتماعي ، فالتربية بالنسبة له ليست وسيلة لتحقيق غايات ثقافية
محددة مثل تقدم الإنسانية أو التخصص المهني ، لكنها عملية متكاملة تهدف
الى إعداد أفراد المجتع للحياة الإجتماعية ، وتتضمن عملية الإعداد هذه
تدريبهم على ممارسة أدوارهم الإجتماعية المتوقعة منهم بنجاح في مجتمعهم
.
مهما
اختلفت التعاريف من حيث الشكل ، فالمضمون يبقى واحدا من خلال ما جاء من
طرف علماء الإجتماع وهو أن التربية ليس لها وظيفة واحدة و إنما لها عدة
وظائف ، فهي تارة تدعيم و تأكيد للقيم الأساسية والهامة في حياة الفرد
داخل المجتمع ، والأنماط السلوكية المحددة ثقافيا ، وتارة اخرى وظيفتها
مساعدة وتنمية شعور الفرد بالإنتماء والولاء لمجتمعه ومؤسساته ونظمه
الإجتماعية ، وكذلك التوجيه والتوعية و توضيح دور المؤسسات الإجتماعية
والأسس التي ترتكز عليها ، كما توضح للفرد أدواره الإجتماعية المرتبطة
بأنماط السلوك المحددة ثقافيا .
3-
الوظيفة التاريخية لمذاهب التربية
إن
الحياة الإجتماعية تاريخيا ، هي الصفة المميزة للنوع البشري ، فهذا لا
يعني أن جميع إمكانيات الإنسانية يمكن أن تكون متضمنة بكاملها في
الظواهر الإجتماعية ، حيث أن ثمة شعوب كثيرة لم تعرف فلسفات تربوية
كبرى على حد تعبير دوركايم،" إن هذه المذاهب لم تظهر إلا في عصر متأخر
نسبيا من التاريخ".
فالنظم التربوية تكون ملائمة تمام الملاءمة لبنيتها وكذا
لوظيفتها ، بحيت أن تكاثر المذاهب الفكرية في مجتمع ما ، من المظاهر
المميزة للأزمات التي تصيبه، وقد بلغت هذه المذاهب التربوية حدا من
الغنى لم يعرفه التاريخ من قبل ، فعلم الإجتماع عندما يبحث عن التقدم
التربوي ، عليه أن يبحث عن معناه في تاريخ النظريات التربوية ، أكثر
منه في تاريخ المؤسسات التربوية القائمة .
فالمذاهب التربوية تظهر خلال لحظات تاريخية تتمخض عن تغيير عميق
في مفهوم الإنسان نفسه ، وتعمل بالتالي المذاهب على إحياء ما هو إنساني
من جديد ، كأن تكتفي بتمجيد المثل الأعلى القديم الذي انتُقص منه، فكل
مذهب تربوي يتضمن قبل أي شيئ ، نقدا يتفاوت في عنفه للنظام التربوي
القائم ، بل أحيانا نقدا للنظام الإجتماعي كله .
إن "
روسو " يفضح التربية السائدة في كليات زمانه ، ويفضح وراءها المبدأ
الذي يقوم عليه كل مجتمع طبقي ، وكثيرٌ من رواد المدارس الحديثة ،
يقرون أن الثورة التربوية المنشودة ينبغي أن تكون ثورة عامة من العادات
والمؤسسات والعقول ، إذ أن كل مذهب تربوي يصدر عن تعديل أو تجديد في
مفهوم الإنسان ولا يمكن
ان يتم إلا في قلب النزعة الإنسانية ، فحتى أقدم المذاهب التربوية و
أكثرها محافضة؛ تحتفظ بالطابع الإنساني كتلك التي تُعزى الى "
كونفوشيوس "، وأيضا المذاهب التي ظهرت في الغرب منذ عهد سقراط ، فكلها
كانت تهتم بما هو إنساني ؛ بالحرية و بفردية الإنسان ، أي أنها ترتد في
النهاية الى فكرة الإنسان و الجوهر ، أي إنقاد الذات حيال الحوادث
الظاهرة أو قُل تلك القوى الخاضعة دوما للقانون ولحثمية التجمد والآلية
، كآلية التقاليد الهيلينية التي ثارت ضد تعاليم سقراط ، أو آلية
السيطرة الحكومية في روما التي قام في وجهها الضمير المسيحي ، أو آلية
الفكر السكولائي المدرسي ، التي هرب منها أبناء القرن 16 عن طريق عصر
النهضة والإصلاح الديني ، وغيرها من الآليات التي حاولت الإرتباط
بالإنسان .
والفكر التربوي يعمل داعيا للعودة إلى الطبيعة ، أو محاولا في
أحيان أخرى التعالي فوق ضغط القوى الطبيعية والإجتماعية على السواء،
وذلك بأن يُفتح الوعي على أفق روحاني يحرره من كلتيهما . فكل فلسفة تربوية
أو في التربية ، تنبثق من إرادة تحرير الوعي الإنساني ، لكن التاريخ
يبين أن مثل هذه المغامرة لم تنجُ من النزعة الإنسانية ، بحيت عندما
ظهرت التربية المسيحية لتناقض سابقتها القديمة ، تعلقت بتكوين وظائف
نفسية بدت لها معبرة عن صفة الخلق الإلهي الملازمة للنفس الإنسانية ،
أي الوظائف العقلية والمنطقية، ومن هنا وُلدت النزعة الصورية في
التربية ، وكان لها حظ في الإنتشار خلال قرون طويلة (أي التربية
المسيحية ) .
لقد
تغيرت التربية الإنسانية من تربية منطقية إلى أخرى أدبية ، ثم إلى
رياضية وأدبية معا، (وذلك في عصر الأصلاح النابوليوني ) ، ورغم ذلك ظلت
تربية صورية ، فعندما تكونت العلوم والصناعات التجريبية ، وفرضت على
المربين العناية بها ، دخلت كأجزاء مبعثرة ، بحيت أن صلابة النزعة
الصورية التقليدية ، كانت تجعل من العسير عليها أن تتلاءم مع تعقد
الواقع و دروسه ، وليست إذن مشكلة التوفيق بين مطالب الوحدة الصورية
وتنوع مستويات الوجود والعلوم الوضعية بالمشكلة القليلة التي تُطرح
أمام النزعة الإنسانية المعاصرة .
4-المشكلة الإجتماعية للتربية
المعاصرة
يمكن
استخلاص الشروط التي
تطرح منها مشكلة التربية في وجهها الإجتماعي ، إن النظم التربوية لا
تُخلق خلقا مصطنعا
إعتباطيا ، وكل نظام قد تَكون ببطء خلال تطور المجتمع ، معبرا عن بنيته
الفكرية ، إن أي مجتمع لا يستطيع أن يبقى دون أن يحتفظ بالملامح
المميزة لعقليته الجماعية ، أودون أن يحقق التكيف بين ظواهره التربوية
وظروف الحياة الجديدة ، أو لا يعترف بأن الغاية النهائية للتربية هي أن
نحقق في كل وعي فردي القيم الإنسانية التي يؤدي اكتسابها الى كامل
تفتحه ، تلك هي أمور ثلاث ينبغي التوفيق بينها وتحقيق الإنسجام فيها
.
ويتوجب أن تكون الإصلاحات التربوية أعجل وأعمق كلما كان التغير
الذي يحدت في المجتمع أسرع ، فالعالم المعاصر يمضي لتحقيق توازنه عن
طريق إحياء التقا ليد، وبهذا تحكم على الإنسان بالخضوع لضروب من
العبودية يراها غير محتملة ، كذلك محاولة قطع الصلة مع
الماضي
فالإنسان هو الذي
ينبغي أن يحقق وحدة النظام الإجتماعي و النظام التربوي، عن طريق
تحقيق وحدته أولا و إذا
اعتمد اعتمادا قويا على الماضي ، فإنه يقاوم تجزيئ الحاضر له،
وإذا اعتمد اعتمادا قويا على الحاضر تحرر من الماضي ، لذلك يحقق
التوازن بين الماضي والحاضر .
إن
توحيد الإنسان عن طريق التربية
يفترض تكيفه مع جميع البيئات التي عليه أن يحيا فيها معا،
وهذا التوحيد ليس ممكنا إلا إذا كان المجتمع نفسه موحدا ، والإنسان
المعاصر لم يعد مقيدا بالدين ولا بالدولة أو في المهنة ، إنه يحتاج الى
أن يكون مؤمنا متحررا ومواطنا ومنتجا ثم فوق ذاك إنسانا
.
هند
البشريوي