TALAL MOUALLA

Talal Moualla's CV    Wrote about him    Virtual exhibition    About the exhibition    Poetry    Publications    photo album    Home page    meeting     arabic plastic arts    international plastic arts

 

 

سعاد العطار.. تعيش معصوبة العينين في لندن منذ ربع قرن

بينالي الشارقة الدولي للفنون..حوارات الفن... حوار الجهات

السردية البصيرية ورؤية الموقف

التشكيلي السعودي عبدالعزيز عاشور ، وهج الذات للسيطرة على تداخلات العقل

التشكيلي ثائر هلال.. التعاقب فصاحة الزمن

التشكيل.. ثقافة التحولات

في المعرض العام العشرين لفناني الامارات ...اتجاهات واحلام تستنفر البصر

التشكيل المحلي: صورة المكان في الذاكرة

على مقوص ..السر ويوتوبيا الخيال

احمد معلا: يصيغ سيرة جديدة للحواس ويراجع طفولة لم تبلغ ذروتها

الابداع يكشف أسرار الحياة

 

 

سعاد العطار.. تعيش معصوبة العينين في لندن منذ ربع قرن

 طلال معلا

في التجربة السابقة لخروج التشكيلية العربية سعاد العطار من العراق الى لندن تعرف المشاهد الغربي عبر لوحاتها على الصدى التحديثي الغربي الذي حملته مع جيلها من الغرب، وعبر مدوناتها الصباغية لحركة النور الداخلية في اللوحة واعتماد التوتر الذري لحركة الاشكال الهندسية، نلاحظ الطريقة التي اتبعتها لتحقيق تقنيات متعددة جراء الفتح المعرفي الذي حققته اثناء دراستها في امريكا.

وبتحقيق المعارف النظرية والتفاعل التطبيقي معها استطاعت سعاد (مع جيلها) رسم بعض الافكار الشكلانية في المجتمع التشكيلي العربي، والتي كانت ضرورة حققت ظواهر ستقبل النقاش لاحقا في مختلف العواصم العربية، وسنجد ممثلين لهذه الظواهر من الفنانين المحققين لصيرورة الفن كحاجة اجتماعية بالتأسيس على (المركز)، وبطرح التساؤلات البصرية التي اثارتها تجارب التحديث في الفنون العربية اعتمادا على اعلاء الذاتية، والاستفادة من المتغيرات الفلسفية العالمية للنأي عن الموضوعية ومحاولة تضمين السيرة الشخصية او ما يمكن ان نطلق عليه تجاوزا السيرة البصرية للفنان التي شغلت الفن العربي في مرحلة السبعينيات.

لقد استمر التجاذب والتنافر في تلك الفترة ما بين الطبيعة كسلعة تهيمن على الحوار البصري ومحاولات التساؤل لبدء الحوار مع المشهد الحداثوي العالمي، الامر الذي سيعزز مواقع فنانين ويثبت خطواتهم البحثية وهم ينسلون من اسار سلطة الطبيعة ظلا ونورا وعمقا ولونا مستعيرين خطابا بصريا ينفتح على ما يناقض التوجهات التي كانت سائدة، رغم التشابكات التي حصلت واثر سيماتها الجديدة التي اوجدتها التنويعات التي انتظرناها لبدء قراءة الواقع التشكيلي العربي.

في تلك الفترة بدأت التشكيلية سعاد العطار تتقصى امكانات النور في العمل الفني كمعادل يخرج الاشياء من خفائها وغيابها، وقد عملت واثقة بمغامرتها لتحقيق عزلة للنور بعيدا عن مساقطه الواقعية او الحياتية التي كانت تفرقها في ظلمة تقود المخيلة الى بؤر التهيج ـ وهذا ما ستعود اليه لاحقا - فقد اسست لتحقيق حدود قصوى للنور البصري المنطلق من ماهيات الاشياء، دون اية اشارة الى مبعث هذا النور، فسطح العمل الفني الاصلي ببياضه الناصع سيكون بديلا عن اية بؤرة طبيعية (نار، شمس، قمر) ولن يكن هناك زمن لاستمرار هذا النور، فهو نور فلسفي فزه عن الفيزياء، وستكون مهمة الفنانة تلوين العتمة المنطلقة من التضاد مع هذا الفيض المهيج لامكانات التأويل.

التكوين الشكلي تشكل لوحة سعاد العطار (مدينتي) تطورا ملحوظا للاستفادة من معمار النور، الذي تكتشف من خلاله بنائية لا يمكن استيعابها الا من خلال الحقيقة التدميرية لتعقيدات الرؤية المباشرة لمعنى العمارة او اسلوب بناء اللوحة التي وعلى الرغم من التطور الهائل في وسائل تلقي العمل الفني، الا ان استيعاب حرية المبدع في ان يحقق ما يريد ستبقى مثار جدل، خاصة حين نشير الى ضروريات مجتمعية للفهم او الاستيعاب او التفسير كانت تسير متساوية مع الطروحات الايديولوجية في المنطقة العربية.

ان تحقيق التغيير سيستلزم اعادة صياغة الظواهر التشكيلية وستكون سعاد العطار في مواجهة مع مواقفها الفكرية والتقنية للابتعاد بلوحتها عما اصاب التشكيل من تلوث بفعل النظرة المؤذية لمعاني التحديث او بلورة الرؤى، ولن يكون من السهل الادعاء بامكانية استيعاب الواقع غير المتكافئ الا من خلال الاعمال التي باشرت اهتمامها بالاسطورة.. ومحاولة دغدغة الرؤية بالعودة الى التكوينات الشكلية في هيئة ميثولوجية او في تنظير بصري لظواهر تعتمد القالب الاكاديمي للبوح بمشاعر التحديث.

ترافقت الاشارات البصرية الميثولوجية مع تصعيد استخدامها الادبي وخاصة في الشعر، وكثر الحديث عن الاسطورة في المجال النظري والتطبيقي، لهذا نرى مزجا حادا فيما بين الراهن المعاش وضرورة التحديث دون النأي عن طرح قضايا الهوية والوطن في الاعمال التشكيلية، ولقد تم التأكيد على هذا المزج فيما بعد بالاسقاطات الاسطورية على موضوعات ملحة لتصدير الراهن التشكيلي في حال يشير الى غير ما يبطن من ازمات سنعترف لاحقا بأنها واحدة من ازمات الابداع العربي.

غربة.. عربتين واذا كان لابد من الاعتراف بالوهن الذي اصاب جسد التشكيل في نهاية السبعينيات والذي ادى الى هجرات متتالية للمبدعين العرب ستكون سعاد العطار مواكبة لهذه الهجرات، فإنه لابد من الاعتراف ايضا بأن هذه الفئة من الفنانين الذين سيكتسبون خبرة تدريجية بالاحتكاك المباشر في المجتمعات الاوروبية، وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذلوه في المجال الاكاديمي والبحثي الا اننا سنرى ان اهتمام المنطقة العربية بهم لن يتعدى الاهتمام السياحي او التفاخري لبعدهم عن مراكز الخلل او الحراك الثقافي والسياسي والاجتماعي، ولن يحقق تواجدهم في الغرب تبديلا لصورة المنطقة في وعي الاخر، بل سنلحظ غربة يفاقمها الخوف من العودة الى الرحم وسيبقى التعاطف مع الوجدان المجتمعي اقصى امكانات التعبير او الابتكار.

ان وعي الذات ومتطلباتها للتمايز والتفرد ستغدو خارج ايقاع الزمن ولهذا سنلحظ الاعياء الذي اصاب اكثر من مبدع عربي حاول اقفال عينيه عما يجري في محيطه الغربي، معللا الآمال بابراز اهتماماته الوطنية او العربية، فبدا وجوده سياحيا لعدم سيطرته على محددات الفكر الممثلة للهوية، »اذ ان هناك اختلافا جوهريا بين بنيوية الظواهر الجامدة والفكرية، فبينما تكون الاولى خاضعة لقوانين ثابتة ولتصادفيات طارئة، تحدد وجودها وحركاتها، او تؤطرها، فإن الثانية تكون خاضعة لارادة الفرد والسلوكيات البيولوجية المتوارثة، ولذا فإنها تتضمن العقلانية والاعتباطية والفنطزة والاوهام« بتقدير المعماري رفعت الجادرجي.

العودة الى التقليد كما فعل غير فنان عربي، قامت سعاد العطار مؤخرا بالتقلب في اكثر من اتجاه، وشرعت على استحياء دغدغة احاسيس السوق الفنية باطلاقها مفهوما آخر للنور الذي بدأته في وطنها وفقدته في سنوات غربتها، النور الذي يقسم الغزالي السالكين اليه بعدة مجموعات:

المجموعة الاولى، حجابها ظلام الحواس، فلقد تجاوزت مرحلة الاهتمام بالنفس وهمها الوحيد هو معرفة الربوبية. المجموعة الثانية: حجابها نور مختلط بظلام الخيال رغم انها تجاوزت مرحلة الادراك بالحواس. المجموعة الثالثة: حجابها الانوار الربانية، لكن القياس العقلي يشوش عليها المشاهدة (مشكاة الانوار).

وسعاد العطار لم تتجاوز بالتأكيد المجموعة الاولى في اعمالها الاخيرة التي سيطر الظلام على اطرافها بينما تركت مركزا لانطلاق النور، اطرته بهياكل نوافذ أو بوابات.. وها هو القمر يعود متألقا ليلقي بظلاله الذهبية على القباب الوهمية.. القباب التي لا تتجاوز حالتها الارضية بينما خط الافق يسير متعرجا بل متألما ليعلن النظرة الغربية لمفهوم استلهام الف ليلة بعيدا عن اعمالها التي استلهمت بها شجرة الحياة.

الحداثة موقف فكري قبل ان تمارس كمغير للمفاهيم، واشباع الحاجات الجمالية يبقى مرهونا بالحيز الزمني المهيمن على عطاءات الفكر البشري وفي الوقت الذي يسعى التشكيل العربي لبحث توجهاته وخصوماته ومستقبله، نرى غير تجربة عربية تحلق في فلك ما انتجه الغرب في القرون الوسطى، وهذا لا يعكس معاني العودة او التراجع فحسب وانما لابد من الاشارة الى ان الاشكالية في هذا المقام تمثل اشكالية عقلية.. اذ لابد من الاشارة الى التخبط الناتج عن ملابسة ظروف الاتجاهات الجديدة والتناقضات التي تفرزها والارباك الفكري الناتج عنها ما يتطلب وعيا عاليا وتوازنا تجاه الاستلاب الذي تفرضه الخصومة مع المتغيرات او ما يحققه القمع المعرفي الجديد.

في هذا الاطار، فإن العودة الى التقليد لا يتعدى كونه قمعا اخر تمارسه سعاد على ابداعها ووعيها، وتحقيق ظاهر لاغترابها الثقافي والاجتماعي يمثله غياب الجدل والحوار فيما بينها وبين مفردات عملها الفني الذي كنا نأمل ان يتطور بابراز اهم تشكيلات شخصيتها كحاضن للوجود الانساني ان لم نقل الوطني، وهذا ما دعاها لتكرار مشهدي عبرت عنه اعمالها الاخيرة التي غابت عنها الحياة او لنقل الحرية بمفهومها الاشمل

بينالي الشارقة الدولي للفنون..حوارات الفن... حوار الجهات

: طلال معلا

في مجال الفنون التشكيلية المعاصرة، يلاحظ أي متتبع للانقلابات استمرار التأكيد على هوية المحامل التعبيرية البصرية، وهي وان تدنت مستويات توصيلها او خطاباتها، فإنها مازالت محط أنظار المجتمعات، ومازال الحماس لميادينها الجمالية مطلباً مجتمعياً وتنبؤياً لظواهر الانتقال من موقع الى آخر، كما ان تلازم الحاجة اليها مع ما تعيشه من تناقض داخلي يساعد فئات على فئات لتحديث المحامل والدفع بها الى مواقع الاعتراف النقدي، وقد يسمو الأمر ببعض المبدعين ليتحولوا الى نماذج يشار اليها والى مواقعها بكثير الاهتمام والتقدير.

ويتوسط هذه التجليات الابداعية احياناً عدم الرضى المؤقت عن الاستفزازات البصرية التي يقدمها التجريب والبحث، لأسباب على صلة باعتبار الطليعة الابداعية لا تتطابق والخبرة اوالارث، اضافة الى ان المحدثين والداعين لمشروعات التغيير في بداياتهم ينطلقون من أسس نظرية لا تستوفي شروط تحقيقها، ولهذا يكون الحكم جائرا على التجارب الاولى امام الحضور التاريخي لوجهات النظر المستقرة على هيئة اتجاهات او مذاهب او مدارس، تحاول الطليعة اقصاءها عن موقعها بغية التحديث والتنويع واعادة صياغة القيم الفنية وفق ما يقتضيه الزمان الجديد ومعارف العصر وماهيات الفلسفة الجديدة، وضرورات التفكير المستمرة بجوهر العمل الفني.

في هذا الاطار، تلعب المعارض الكبرى، والبيناليات، وأسواق الفن والحركات النقدية، والمنشورات المتنوعة ووسائط الاعلام الحديثة دوراً بارزاً في إضفاء الشرعية على الفنون، كما تلعب عكس الدور بنزع هذه الشرعية عن أطراف فنية او اتجاهات لا يسوغ وجودها اي امر، سواء بصراع الأجيال، أو صراع الافكار والايديولوجيات ومحامل التعبير، ولا يعود الاعتراف العام بشكل او مضمون او اتجاه ملزماً، كون معارفه النظرية قد احتجزت في اطار زمني مضى ولم يعد على صلة بالحياة المتدفقة، هكذا يذهب قرن ويأتي اخر، او هكذا تتغير وظائف الفنون المتنوعة، الابداعية، والنظرية، والمعرفية والتربوية والمنفعية وغيرها من الوظائف.

في المنطقة العربية، ورغم مضي القرن العشرين المتآزر مع حظوظ المبدعين التشكيليين في صراع اثبات الوجود، نلمح اهمية صوت الافراد في التأسيس للفن التشكيلي العربي، ورغم عديد التنبيهات لضرورة ان تأخذ المؤسسة الثقافية والفنية دورها في توجيه دفة الابداع التشكيلي والاخذ بيد المبدعين لتوليد النداء الجماعي الذي كان يمكن ان يؤكد الحضور النقدي والتأسيس لفلسفة الجمال العربي المعاصر، الا ان كل ذلك بقي خارج وحدة المشاعر البصرية، وقد يكون الربع الاخير من القرن العشرين بلور بعض المعارض الكبرى والبيناليات، نذكر منها بينالي القاهرة وبينالي الاسكندرية، وترينالي الغرافيك وبينالي الشارقة الدولي للفنون، وهي الى جانب اعتبارها تظاهرات تعوض الفنون عن احتياجها للانتقال والانتشار الا انها حققت فعلا اعادة بناء ما هو مبعثر في التشكيلات القطرية لاستعادة المكانة والدور في المهام الحساسة التي على الفنون ان تقوم بها لتعبر عن مسئوليتها وأحكامها وحماسها لاستعادة التصور الجمالي والوجود الابداعي والجدال النظري وتأكيد الصلة بين كل ذلك وأطراف الحياة الجديدة التي باتت تقلص العالم لتنشئه على هيئة الذات، المشروع الموسوعي الذي يتجاوز القراءات المعلوماتية، والمركز الجديد الذي تدور في فلكه تآليف التاريخ الاولى، الذات التي تدفع بها الفلسفة كي تكون انطولوجيا الهوية وآفاقها.

في بينالي الشارقة الدولي للفنون، يعلو الاهتمام بالجوانب النظرية، وضرورة الوقوف امام الحركة التشكيلية العربية، تاريخياً، ونموذجياً.. قطريا وجماعياً، فرديا ورسمياً وبالتوازي المباشر مع التجارب الانسانية الدولية، وحيث يبدو الالتزام باعتبار الحوار مصير الفنون في سعيها الى تحقيق النموذج او الخروج منه، باعتبار التاريخ حاضنا للوثائق الجمالية، وللمفاهيم التي تكونت بفعل الوقائع الابداعية التي كونت مجالات الرؤية العربية، فميزتها، وحددت خطابها التطوري.

ان فكرة التقريب بين الأعمال الابداعية، ولقاء المبدعين للتداول والتحاور والتشاور والالتقاء والاختلاف، حجر زاوية اساس في بينالي الشارقة، واذا كانت الاطلاقيات خارج حدود قوانين التاريخ فان حرية الحوار والعرض يشكلان اساسا مهماً في بناء الافكار والتصورات التي تعيد الفنون العربية الى واجهة الاهتمامات، بجعلها مرغوبة من قبل النقد اولا وجمهورها ثانياً وبالتالي فان اجتماع هذه الاعداد الكبيرة من اعمال المبدعين في مكان واحد يتصل مباشرة بالقيم التحليلية والتربوية التي تقدمها هذه العروض الشاملة، والتي لا يمكن فصلها عن بعضها او النظر اليها مجزأة، لان اجتماعها ضرورة من ضرورات احيائها. وقد تمكن بينالي الشارقة عبر دوراته الأربع التي انتشرت على العقد الأخير من القرن الآفل ان يحقق هذه الحيوية بتطوير آليات اشتغاله على الفنون الانسانية معتبراً كل دورة من دوراته اساسا للانطلاق في شمولية الدورة المقبلة، ولعل الوقائع الداخلية المكونة للبينالي قد نوعت الوظائف التي تغنيها الذاكرة الجمالية، كما ان الافكار الموروثة التي تحملها فنون العالم الى الشارقة تشكل المحترفات الدولية المتزامنة، وبذلك فما يقع عليه النقد والتوثيق والتلقي سيبنى وفق التصورات والمستويات التي يفرضها هذا النموذج مطلقاً الفعالية من اطارها المكاني او الشكلي الى ابعادها المستقبلية وبمقدار ما تقدم التظاهرة الصراع الجيلي او ما تبرزه من تناحر ثنائية القديم والجديد فإنها تعيد تركيب المشهد الفني الدولي على غرار ما تمرحله الفلسفة وتصوغه التصورات وتقلبه العواطف والأحاسيس.

وفي مشروع البينالي رؤيا واضحة، تمر عبر المعرض العام الذي يعني تجاور التجارب الدولية الرسمية، العربية والاجنبية، الى جانب التجارب الفنية الفردية من مختلف دول العالم، رسماً ونحتاً وحفراً وتنصيباً، وهذه كلها تخضع للتحكيم في مسابقة شاملة حددت جوائزها. يضاف الى ذلك المعارض الشخصية للمبدعين والمعارض التكريمية لمن قدموا خدمات ابداعية في أوطانهم والورش التجريبية للمبدعين المغامرين الباحثين في التغيير وفي مركز مشروع البينالي تقع الندوة الدولية الموازية التي رافقت دورات البينالي، والتي تطرح التحديات الفنية والاشكاليات النظرية موضع البحث فيدعى اليها نخب النقد في العالم، ينظمهم موضوع واحد متعدد المحاور تشكل مخطط الحوار لأيام، كما يدعو البينالي الكتاب والباحثين والنقاد للمساهمة بكتاباتهم في ذات الموضوع وتنشر هذه الابحاث في كتب ودفاتر فنية نعتبرها بحق ذاكرة البينالي وتاريخه.

بينالي الشارقة الدولي الذي تنعقد دورته الخامسة، يتوجه الى العصر والى القرن الجديد، بخصوصية الصراع الذي تحياه الفنون التشكيلية في العالم، وبالانزياحات الجمالية للمضامين الفنية التي يفضح العلم اسرارها يوماً بعد يوم، وسيكون الجمهور في مواجهة روحية مع الجوهر الجديد الذي تسعى الفنون لتحقيقه ولعل في عنوان الندوة الدولية الموازية ما يفسر مستقبل الفنون «حوارات الفن ـ حوار الجهات» خصوصاً حين يشكل الاهتمام بتصحر الفنون مواجهة مع اشكاليات الهوية، وبكل ما يربط المبدعين بحساسيتهم التاريخية والذاكراتية.. وحيث يقصي التغيير المجتمعات ويبرز الذات، سيبدو الخطاب اكثر جرأة في طرح مشروع الابداع الانساني خارج العقائديات الاطلاقية وسيكون استنطاق الحقائق مهمة مباشرة لن يسد السعي اليها اي شيء في أروقة البينالي وندواته.

لا نهاية للفن، فالوظائف التي تتغير تحل محلها وظائف اخرى يعبر عنها الفن، ومن يعتقد بأنه لم يعد بالامكان ان نستمد المتعة الجمالية من الفنون الجديدة هجرة خياله.. فالابداع يمتلك حدسه وعلينا ان نتأمل الطروحات المعرفية الجديدة في اطار حقيقتها وحقيقتنا.

السردية البصيرية ورؤية الموقف

: طلال معلا

تتضمن الاحالات الحسية في مشاريع الفنان احمد نوار تصورا شخصيا لحركات يبنيها الذهن وهو يعمق علاقته بموجودات تستمد مصادر تحققها من الواقع المرئي ومن الرؤيا المستقلة عن هذا الواقع,

وليس في ذلك اي تناقض مع لجوئه الى الحدس لاكتناه بواطن التفاصيل المتمثلة بخواص الاجسام التي يتسع مجال رؤيتها وهي تحقق فعل الدفع الى الملامسة البصرية التي يقتضيها التصرف التصويري في الاحالة الى النسب الطبيعية, وفعلا فخواص النموذج يقترب من مركز تصويب المشاهد المتفاعل مع عمله الفني في مختلف المراحل التي مرت بها تجربته الذاتية.

وسواء لوّن نوار مستنسخاته الروحية او عفرها بظلمة الاسود فإن تصور المتصور يبقى الجزء اللافت للانتباه العام في استغلال المسافة ما بين الوهم والايهام به, اذ لا مكان مباشر للصورة المجسدة بالتشخيص, وكل ما يداعب الفنان بتحقيقه على هيئة جسدية او حدثية انما يقتضي الانتقال السريع الى الفكرة ـ الزمن, حيث تتعاقب الابعاد الجمالية للتأمل في ما تدعوه العامة (القدر) الذي يقتضي الاستسلام لروح الايقاع, المدونة لعقلية لا تقارب المشابهة, او المحاكاة, قدر ما تقارب اسطورة الزمن المعاش, ونقله من حيز التحقيق بفعل ما مضى منه الى حيز التجسيم, استعدادا لوصل الصلة بمرآة الروح.

واذا كان الباحث الصديق احمد فؤاد سليم يرى بأن العمل الفني عند نوار هو (لوجوس الشفافية, النقاء الذي يدعوه ـ اي نوار ـ ليكون مباشرا وتلقائيا ومنخرطا في الخارجي, كونه ـ اي هذا الخارجي ـ هو الذي يكرس اللحظة المبدعة, ويتجاوزها من العام الى الكوني في رحلة الكشف عن المعرفة وتمثلها ـ مثلا في وجوه الغيوم ـ كما رسمها, نوار, على النحو المثالي Rialism - Super, الى لحظة (انتاج المعرفة) التي هي اثر لتلقي الصدمة بين حقيقتين: جلال الوجه, وجلال الجبل).

اذا كان احمد يراه على هذه الصورة, فإن ما يراه جانبا حقيقيا لا ينفي تعدد الوجوه, او الصور التي يمكن ان تحققه هذه الرحلة المرآوية بين الصورة ومصورها.

او بين العقلية وحيز اهتمامها, فما يشي بتشخيصه لا يعدو ان يكون مكانا كأي مكان اعتدنا تحققه في المنظور البصري, وكل الامكنة خاضعة في عالم الفنون الى المحاكاة وهذا ما لا نلمسه في انحراف الاشكال الوجهية التي تحمل في ماهياتها شروط تذوقها وانساق تحريرها من البعد الاغريقي الهندسي, لتغدو المشاهدة حميمية, الى درجة ننسى بها الدوافع النرجسية لقراءة تفاصيل الوجوه او لتذهينها بمقاييس الانتقال من الواقع الى الاسطورة او احتمالات عكس هذا المفهوم.

في كلام احمد فؤاد سليم يقين فذّ, وبصيرة تتجاوز الدوائر التي تربطه بالتاريخ الطويل لعلاقته مع الفنان احمد نوار, ولهذا فالحقيقة المتاحة لنا في مطبوعات الفنان المختلفة تحقق نموذجا كتابيا فاعلا يفضي الى مقاييس الرؤيا البصرية التي سعى لها الكاتب كي توازي عمل الفنان اذ اضحى الامر بالنسبة لنا ـ كمتابعين عن بعد لتجربة نوار ـ ان نلمس التأطير التنظيري الذي تحدثه الكتابة في تلقي الجذر التصويري لنوار, واذا صح القول بأن ما يفعله النص في الموقف من العمل الفني يشكل ناقلا للمجال اكثر من الصوت الذي يكتنزه بداخله, فان التلازم بين هذا النص ومتعلقاته يجعلنا ننسج مادة مسبقة التفسير والتأويل, وهذه مهمة تنظيرية نشعر بالحاجة إليها كفنانين وان كان النقاد القادمون من عالم الادب يدينون هذه الفسحة التنظيرية ويشيرون غالبا الى انها تمثل تعاليا في استيعاب المنجز الجمالي. في العشرين وجها فيوميا, او في الكف المشهرة او الرافضة او المستسلمة لمشارط الزمن, في حضارات الموت على بشرة جبل ابو غنيم.. في صور نزع عنها الصوت وقطع عنها الحوار يفضل الفنان احمد نوار ان يطرح مسألة الانتماء بشفافية فضائية تعكس الى جانب القوة والثقة سردية بصيرية تجعل العين تبني السيناريو المتجدد لكل مشاهد تحت عنوان ان الموت وجه ملازم للحياة, بل ان الحياة ليست اكثر من همس الموت.. بهذا المعنى الجدلي تتماثل مستويات قراءة الموقف الثابت للفنان ند كان جنديا على القنال وحتى اليوم, ولعل اشتراك الحساسية الكامنة بتلك المرعبة على جبل ابو غنيم تحيل الى مصدر صياغي لما يحققه نوار في التذكير بالماضي, الزمن الذي لا يمضي لارتباطه بالحق والعدالة, حيث تشكل عداوة القاتل توافقا منطقيا مع حدة الشكل الذي ينتجه وهو يستحث مصادره لتأكيد ان الموت في هذه الحالة ليس الانتزاع من الواقع بل هو السعي الى الحياة والحرية.

ان التجربة الشاملة لنوار وهي تمسرح الشكل في ابعاد اللوحة لا تدفع الى مجانية ذوقية اطلاقا, فالرموز جزء من الفعل الخلاق, وهذا الجانب الشعري في تدفق الوعي, امر بغاية الحساسية يفرض حسن الانتقال من مقصد الى اخر ومن بهجة الى اخرى, والفارق بين البهجة والندب ليس بعيدا, اذ تلتصق المتناقضات تلاصق الابيض والاسود, والغائر بالنافر, والفارغ بالمليء, والحق باستلاب هذا الحق.. ولعل الترادف الموضوعاتي في تجربة نوار يوجه الى سياق نضالي يختلف عن الشعاراتية البصرية التي هدم بها بعض الفن العربي, اذ يسعى الى كنه من العدالة يختلف في رهافة تحققه واستقراره في روح العمل الفني.

حين مر المشرط على كف الفنان بدا جوهر العصب المصقول بمرايا ماء الدلتا, وعلى ايقاع النبض كان ارث الارادة بتوهج في ضوء يسقط من القلب مباشرة الى تجاعيد التصوير القديم والحديث والموجود, وبالتقاطع الذي احدثه المشرط في الكف افقيا وشاقوليا كانت هيئة العمل الفني الذي دعاه الفنان (دعوة موجهة للعالم لتحقيق السلام العادل لشعب فلسطين وكانت ابعاد الجرح 5.14 * 5.13م وعلى الدم كانت صورة الصمت ترتجف وقد علق فوقها: (من دير ياسين ومدرسة بحر البقر.. وصبرا وشتيلا.. الى قانا.. (52) مقبرة حفرت في حديقة مجمع الفنون بالقاهرة, هو عمر اغتصاب فلسطين).

فالمقابر ليست سوى فتحات ملهمة كمثل فتحة العين في الجسد, والمقابر المحفورة تطل جميعها على نيل مصر.

التشكيلي السعودي عبدالعزيز عاشور ، وهج الذات للسيطرة على تداخلات العقل

طلال معلا

برؤى روحية, وخيال مغامر يجول بحرية في أنحاء الحضارات المتعاقبة على خطوط الزمن, وفي لحظة ليست في المستقبل ولا تنتمي الى الماضي, يعيد الفنان السعودي عبدالعزيز عاشور صياغة مشروعه البصري متأملا البعد الجمالي لعديد العناصر المكونة لحساسية سطح العمل الفني باعتباره موطنا خصباً للتأمل والحركة, دون ان يفصله فاصل عن معرفته البصرية واكتشافه المبكر لوظيفة البحث بعيداً عن التقريرية النظرية التي تقود غالبا للوقوع في أطر الحدوث والآنية التي تجعل الالغاء والنسيان بديلان للتغيير الذي ينشده عاشور حين يسترجع موتيفات السيطرة على المساحة, وبما يجعل العين تنصاع لمجموع الاشارات المولدة لاغراء متابعة المزايا التي تربط الروح بالتفكير.

عاشور, الفنان الشاب المثقف, يجانس الفته للجدل والحركة مع ايقاع شرقي للالوان, يتحول الى موسيقى تصوب ايقاعاته التي تعلي وهج ذاته لتسيطر على تدخلات العقل, كمعادل رياضي يظهر احيانا على سطح العمل الفني سواء عبر التشكيل الطبيعي للضوء ــ الزمن او عبر الطبيعة السرية للتقنيات التي تتخلى عن طبيعتها لطرح اسئلة عن بناء اشكال تتقافز في مقاييسها لتأليف حدود بسيطة للتلقي.. واذ لا يضع عاشور شروطاً مسبقة لصياغة السطح فان خطوطه ومساحاته تمتد من اليمين الى اليسار او من الاعلى الى الاسفل دون ان ينبع توصيف لمركز او بؤرة لسطح اللوحة, وهذا لحساب ان الاشكال تملك مراكزها الخاصة, التي يدور في فلكها توصيف بنائها او تفكيكها, وكل ما يسلسل تصورات المشاهد عن يقينية وجودها والشك في بلوغ احتمالات كمالها, وهي بمقدار بساطة تشكلها انما تعيد فهم ذات الفنان حيث يمكن اعادة ما ارتآه (باشلار): (ليست البساطة في الأشياء, انما البساطة في الذات التي تتمثل الاشياء وتتخيلها وتتصورها.

ان الاشارة الى التساوق بين ذات المبدع وموضوع ابداعه, انما يوضح الوعي النظري عالي السوية الذي يشكل نسيجاً مترابطاً من الخبرة والاكتشاف المعنوي والبصري لتجسيد الرؤيا في زمن يرحل من اللامرئي المثالي الى اطار الصورة التي تشتمل على كلية الدلالات المادية لعوالم عبدالعزيز عاشور التي يراها الباحث (علي اللواتي) بأن الذهن لا يملك ازاءها الا ان يتلمس لفهمها قراءة زمنية تكون بمثابة الخيط المنقذ من التيه, وما ذاك في الواقع, سوى عيب في الذهن ذاته, وقد جبل على استقراء التتالي في كل ما يقع تحت الادراك, واسقاط بنيته الاستدلالية على الاشياء, اتقاء لرياح التعبير العاصفة. ويتأكد ذلك بعبارة (قبل الما بعد) يلقيها الفنان كتعويذة لمن يريد النفاذ الى متاهاته الكونية, فتحيل على زمن اسطوري قد يكون مرادفاً لحاضر مستحيل, وقد لا تكون اكثر من مجازفة جميلة لا تظفر منها بسوى مجاز عابر.

الواضح ان تلك العوالم تنشأ من مسافة مزدحمة متدافعة, وتتنوع بل تتناقص منظوماته الشكلية مؤكدة مخاضها القلق, او كواقع متفرد في اطوار او حالات مختلفة من سيرورة التشكل, فهي

احيانا مادة هلامية تتحرك على نحو غير منتظم في غبش غير منتشر, وتارة اجزاء من الهلام متجمعة في تكوينات تنتقل تدريجياً من الانفعالية الى هويات شكلية ولونية واضحة. وتحدد حيزا يصل احيانا الى الايهام بالمنظور. وفي طور اخر برز هاجس بنائي يغطي الحيز الاصلي بستار متجانس من الخطوط الافقية يخفف من حركته المنفلتة. ويحدث ان تنتهي البنائية الى تربيع صارم يحول اللوحة الى بنية سردية).

بهذه الاشارة الاخيرة الى البنية السردية يحقق التوصيف المباشر لسطح العمل الفني لدى عاشور تجسيدا صريحاً لاعادة بناء الاشكال الموازية التي يحفرها الفنان على جدران اتصالية افتراضية تمزج اللاهندسي بفراغ الضمير الذي ينشأ موازيا للادراك المتراكم بفعل التلاشي الذي تفرضه الاحجام والمسطحات اللاعضوية والتي تكابد للوصول الى قبضة الزمن, باعتباره الفعل الشعري الذي يجعل عملية التلقي بعيدة عن المؤثرات الخارجية, وشعرية الزمن هذه تحدد بشكل واضح الغاية من التجريد الغنائي الذي يفرض قواعده وشروطه في أعمال عبدالعزيز عاشور, واذا كنا ننظر بتمعن الى الحرية الشاملة التي ينجز عبرها الفنان اعماله, فان طبيعة هذه الحرية تمتلك ــ دون شك ــ معايير شديدة الوطأة على (المقاييس الوزنية والايقاعية) التي تشكل المفاهيم المختلفة المنشودة والتي يشير اليها اللواتي في اطار البنية السردية.

لقد اهتدى عاشور في مراحل تجربته الى مجموعة من القيم اللونية والشكلية والايقاعية المهيمنة على اعماله الفنية وعلى دلالاتها ومستويات تعبيرها لاستجلاء الهدف الرئيسي في خطابه التشكيلي الاجرائي الذي لم يشر حتى اليوم الى يقينيات اسلوبية يمكن ان تؤطره او تهيمن على انشطة بحثه الدائمة في مختلف مجالات تحقيق العمل الفني. ويرى د. احمد نوار ان استخدام الفنان عجائنه اللونية ببراعة فائقة في بناء ملامس مختلفة مرنة ومتحركة تغري بالتجريب والاكتشاف المستمر, كما حقق الفنان توازناً بين الألوان الباردة والدافئة, حركة الاتصال بين جزيئات لون واخر واندماج خليط الالوان في نسيج بناء العناصر, كما اهتم بتنوع الملامس دون اسراف يحول هذا التأثير الجمالي الى عمق تعبيري يسري في شرايين هذا النسيج الملمسي, لوحات عاشور منظومات متراكمة المفردات والعناصر, فالعناصر تشغل فراغ اللوحة بكامله وتتحرك فيه سلبا وايجابا وبعدا وقربا وتمددا وانكماشاً, وفي خضم هذا التفاعل التشكيلي يتجلى العنصر البشري او يتوه مكسبا هذا التفاعل حيوية هائلة).

من المهم الالتفات الى الصيغة الجمالية التي تبرزها تجربة عاشور في اطار التجربة التشكيلية العربية الشابة التي اخذت على عاتقها الالتفات الى تحليل معطيات هذه التجربة والوقوف على القيمة الاتصالية التي تبرزها عبر مراحل التاريخ المختلفة لتمثل انسجام النظرة الى الهوية او ما يشير للتفكير بهذه الهوية التي تبرز خصوصية التفكير والتجربة والبحث لابتداع كينونة تشكيلية تعنى بالجوهر وبالانتماء لهذا الجوهر باعتباره حيز المغامرة الدائمة للابداع.. المغامرة التي تحجب بمقدار ما تتيح الكشف, المغامرة التي هي الفن في قفزاته لتسييد لغته باعتبارها الاصل الذي (لا يوصف او يرمز) في سعيه الى الحقيقة التي ينتفي وجودها بمجرد الوصول اليها.. ولعل هذا الفهم السحري لمحايثة وتحيينات الحقائق لزمان ومكان انجازها يجعلنا نتوقف في المجال الذي يتجزأ الى مجموعة من المجالات تماثل الانقسامات التي يلجأ اليها عاشور حين يشظي عمله الفني الى مربعات على هيئة متواليات هندسية الطابع تشظي الشكل وتفجره بكامل مكوناته باعتباره (بناء ذهنيا) يمتلك من المرونة ما يجعله مظهرا فعالا لنقل الرسائل الاشارية في خطابه التبادلي الذي يتم بين الاجزاء المكونة للجمعوية التقليدية.. اطار اللوحة العام والصياغة المسنديةلاختيار الفنان ميدان بصيرته, ومحور تصوراته.

 

التشكيلي ثائر هلال.. التعاقب فصاحة الزمن

: طلال معلا

في الاعمال الاخيرة التي انجزها الفنان ثائر هلال، يلحظ المتتبع لهذه التجربة تبدلا شفافا في المعابر التقنية التي يحاول ان يسيطر عليها، ويسعى عبرها لمد اهتمامه البحثي على الصباغيات المشكلة للمساحة العامة والاساسية للوحته، واذا كان ممكنا تقسيم هذه الاعمال الى نوعين من حيث الحجم، كبير وصغير، بمعنى الاهتمام بمدى توسعه في مجالات التقنية اللونية، واعتبارها جسرا وحسب، للاهتمام بالهواجس الايقاعية لعفوية المعنى، فإن هذا التقسيم سيبدو حادا بمقابل الخبرة التي بدأت تظهر بوادرها الطيبة في ملاحظة ثائر لتبدل معاني الايقاعات او النبضات المعبرة فيما بين كلا الحجمين، وبالذات مايمكن ان يشار اليه في تضاد الكتلة مع الفراغ، الكتلة المتناهية في التضاؤل والتجزؤ بمقابل كونية الفراغ وفضائية الحيز الذي تسعى فيه الاشكال كي تمتلك امكانية التموضع الرياضي، اي الاستقرار الموسيقي المحسوب سلفا من قبل الفنان.

الاستجابة للشكل

بثقة، تكتسب الاشكال المبنية على قاعدة المماثلة المشاهدة الواقعية وتحقق استجابة شعورية بمجرد انتمائها المزدوج لعالم اللوحة في اعمال الفنان، واقول «المزدوج» كونها تؤدي الى وظيفة شكلية هامة في الاطار التجريدي العام للعمل الفني من جهة، وتعني من جهة اخرى وضوحا انطباعيا يحققه تلمس معناها وشخصيتها التي تساعد في جعل هذه المفردات تتوجه مباشرة الى البصر ليس عبر انتمائها لاي من الحالتين، وانما باعتبارها تؤسس تكوينات شعورية تحفز البصر على قراءة الزمن المتعاقب على هذه الاشكال الاشارية المنسقة.

ويبدو ان هلال غير معني بنقل المظهر الطبيعي للاشكال قدر ما يؤكد على احتمالات تبدل معانيها التخييلية وهي تمنح المتفرج فسحة معقدة يختلي فيها بعواطفه ليقرأ الطريق الى الادهاش باعتباره مستقبلا لاهتياجات هذه الاشكال وهي تتخلى عن انتمائها الواقعي مستجيبة لمغامرة الفنان المتجانسة مع واقعها البصري وقواها الصورية التي تسطع بشمولها على مساحات واسعة هي مساحات البادية السورية التي ولد الفنان على اطرافها والتي تتضمن استقراءه لمعاني الحياة في الاماكن الخالية من شروط هذه الحياة، انه معني هنا بالنبض الانساني الذي توقعه خفقات قلب يمتلك الانتماء للواقع ايضا ولغير هذا الواقع بالمعنى الدلالي، وهو اذ يكتشف توقيعات هذا النبض ويحيلها الى صور ذهنية، يثبتها بمهارة وحذق في نسيج الصورة التي تمور بأحلام الفنان وانفعالاته الذهنية والصور المختلفة المستمدة من المواقف والاحاسيس والعوالم الطبيعية والشعورية.

ان تصويره للعصافير والطيور والبشر، الجنائز والتجمعات، الاشياء ومفردات الطبيعة، في ادني

شكل محتمل وبمقاييس تنتمي عكسا للمساحة الشاسعة التي تشكل مدى التجربة على مقدار لوحة واحدة قد تصل الى عدة امتار بينما تشكل المخلوقات المختلفة تناهيا في الحجم باتجاه الاقل والاصغر والادنى في سلم الهباء الشكلي الذي يعكس رد فعل الفنان على علاقته بما حوله وكل ما يتحرك معلنا السيطرة والقوة والجبروت في فرض الصلة غير المتكافئة في الحوار الثقافي والفني بين الذات والآخر، الشمال والجنوب، الفوق والتحت، وكل ما يدفع المواقف باتجاه عدم الاستقرار ـ على الاقل بصريا ـ وكل ما يولده تضاؤل البصر الغريزي في مسح العالم كقوة تعجز حينا بعد حين على تعيين الشكل وانتمائه وتفاصيله.

ولهذا فإن ادراك المساحات الواسعة لاعمال هلال سيكون مرتبطا حكما بالعلاقة بين المبدِع والمبدَع، اللذين تتضاءل حدة ارتباطهما ببعضهما تخييليا وحضاريا مع نشوء كل ما يقصي احدهما عن الاخر لنكتشف تحقيقا اخر للشكل تتحكم به وتوجهه الاساطير المستقبلية التي تجمح لإلغاء العلاقة المادية بين الحواس والعمل الفني تحت الضغط الهائل لسيطرة نظريات العلوم واعلانها عن انتاج الصورة اللا حواسية، الكشف الذي سيغير معنى الخيال والتصور وبناء المصادر الشكلية للغة البصرية.

سطح الحاضر

حين ننظرالى النقاط المكفنة بالبياض والتي تلفها العتمة، ونجد انها قد تبدو على ارتباط بالحركة اللولبية لرقصة الدراويش في تناسقها العلوي وصقالة معناها وسموه فإن احاسيسنا سترتبط مباشرة وعبر المراقبة لحركتها المتوزعة على برهات متعاقبة لانهائية سترتبط بما يمكن ان يعثر عليها البصر من معنى للزمن الصوفي بحيث يمكنه ان يسميه او يصفه، الزمن التعبيري الذي يحقق الدلالة للشكل التائه بين الواقع والتجريد اللاشكلي انها نقاط حمراء ترسم شبح الراقص وهو يتحول الى روح نبصر عبرها الفعل الذي يختبر دواخلنا التخيلية، وهذا ما يجعل الحيوية الجسدية للراقصين تختزل في التوليد المستمر للزمن، سطح الحاضر الآثم الذي يحتاج الى اعادة طلائه بآهات الوجد وصرخات الاستغاثة التي تحققها اكثر من مفردة في اعمال الفنان ثائر هلال.

وبرؤية اشد رهبة توصل ثائر الى سكب الصور على سطح القماش بعد اذابتها بسائل الزمن ليقوي الارتباط بالطاقة السحرية لمعنى الحاضر كواقع معاش وملموس وشديد التأثير على رؤية العالم وفق لحظاته الراهنة، وليس عبر الاساطير او الخيال المستقبلي، وهو وان بقي مأسورا في هذا الاطار للمكونات المعروفة «النار والهواء والماء والتراب» فإن ألوانه تتضافر مجتمعة لانتاج مساحات مفعمة بالتوتر من كل ما يهدد هذه الاساسيات الفيزيائية التي سيعني غيابها تنبؤاً بالموت والفناء التي يسبقها زمن مفعم بالخوف والتشاؤم واليأس والخوف من المجهول.

وثائر هلال ليس الوحيد الذي يسعى الى هذه التفريعات والتنويعات الزمنية ولكنه يتميز في هذا الاطار عمن يقاربونه في التوجه بأنه يعتمد على التوازن التوصيفي للاحجام الصغيرة، اي ان «العضوية» تتحقق في الاشكال المصغرة بينما تسيطر «الهندسية» على ظاهر المساحة الكلية للعمل، وفيما بين العضوية والهندسية لايبدو الزمن مؤطرا بأبعاد العمل الفني بل هو مستمر في كل الاتجاهات، بمعنى ان ما نراه محددا بأبعاد اللوحة هو سطح الحاضر، اليومي البصري الواقع في مجال التلقي الابداعي، اي انه لامجال مطلقا لوجود ما ندعوه حشوا ادبيا في الاعمال التصويرية التي تنشد الروعة والجودة الشكلية انها فصاحة الزمن تتجلى في صورة البصيرة.

سكون الجوهر

تبرز الاشكال المختلفة على السطح التصويري الاسر بتجرده من عناصر الواقع، وكافة الدلالات الجسدية لتتيح للاشكال ان تتداعى في بؤر متعاقبة ومتواترة افقيا ورأسيا وبصيغ تركيبية تجعل التلقي يكون على ثلاثة مستويات الأول: الاشكال النافرة التي تتداخل في الموقع الواحد لتحقق نقطيتها، او نتوءها، عن بنية السطح الاستوائي، الذي يشكل المستوى الثاني، فيما يكون المستوى الثالث متمثلا بجوهر العمل، الذي يعيش حدوثه في تصفحنا لكل مفردات المستويين الاولين، وكما نتعامل مع الجدران التي تفصلنا عن الحقائق فإن امتداد اعمال ثائر هلال يحيل الى الامتداد الجداري الذي يتوقف عنده البصر كعازل وعر لايمكن تجاوزه الا عبر الدواخل التي تبصر الالهام، الجوهر الساكن الذي ينتظر العيون كي تحرره من اعماق الاشكال واللااشكال.

ان المواجهة مع المشغل الجداري باتساعه وشموله تحقق ذات الاشكالية التي تجعل المتلقي يتضاءل في مواجهة المتاهة الهندسية بحيث تبدو حدقات عيوننا اقل بكثير من استيعاب مساحة التفكير التي تكثف مشاعر الفنان ورؤاه للحدث التشكيلي البصري والذي يعني الانشغال الدائم بانتاج العمل الفني الموحي الذي يعادل علاقتنا به، تماما مثلما تتعادل موجوداته مع الفضاء الكوني المشتمل عليها.

لقد استطاع ثائر بهدوء روحه ان يوضح الكثير في توصيفاته التصويرية وخاصة ما اشرت اليه في التعامل مع المظهر السطحي للعمل الفني الذي يشكل جغرافية الموقع البنائي لمدينة الغموض، نقطة التمركز لرؤيا المشهد الشمولي، والصورة المكثفة لمظهر القيم في تبدلاتها الشكلية.

 

التشكيل.. ثقافة التحولات

طلال معلا

 

كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له, وزاد شعوري بأنه غريب عني, وكلما زادت معرفتي بأوروبا, زاد حبي لها وتعلقي بها, وزاد شعوري بأنها مني وانا منها.

هذه الكلمات للكاتب سلامة موسى في كتابه (اليوم والغد), جزء من توجه ساد مع الدعوة الى النهوض والتنوير في المنطقة العربية, باعتماد المنهج الغربي والانبهار به والتبعية له, ويرى الباحث والمؤرخ الجمالي د. عفيف بهنسي بأن مسألة الهيمنة التي تناولت الذاتية الثقافية بالعمق, يجب ان لا تحول دون الاعتراف بتفوق الاخر والسعي الى تجاوزه, ولكن على الرغم من جميع مظاهر التقدم ومحاولة العودة الى الذات, فإن الحوار مع الغرب مازال فاشلا, ولعل السبب كامن في عدم الثقة المتبادلة, فالغرب مازال لا يثق بأهلية الشرق على النهوض, ولا يثق الشرق بالغرب, طالما يعتمد منطق الغطرسة والتهديد. واذا كان انبهار سلامة موسى وطه حسين وغيرهما بالغرب جزء من آلية الاستلاب التي وقع في اسارها المبدع العربي في اطار الصورة التي كان عليها حال الثقافة والابداع في المنطقة العربية, وما يتمثل من تبعية وشعور بالدونية والاحباط التي عاشها الانسان العربي, فان كل ذلك يقع في الحوار الشمولي والتاريخي الذي يختصر العلاقات التصادمية او التوافقية او تلك المتبادلة بين المجتمعات.

لم تكن الغاية من الاشارة الى قول سلامة موسى ادانته, او الوقوف موقف العداء منه, او من غيره, لأن كلامه يقع في السياق التاريخي للفترة التي قيل فيها, وبما يدفع ـ ربما ـ الى تجاوز حالة التحدي التي كان يعيشها المبدع العربي في اختياراته الاساسية للتعبير عن الحلم ومعاني الحياة العميقة المتمثلة في مشاريع نهضوية كبيرة استطاع الغرب ان يبلورها على اكثر من صورة بالتوافق مع النظم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي حققها الفرد في الغرب في انطلاقته نحو حداثة اسسها على مقاسه وشروط اختلافه عن الاخرين.

وانما الغاية من ذلك محاولة الاشارة الى الحاجة التي دفعت الانسان للبحث عن سبل للتحرر من ثباته ووقوفه في مواقع يعتقد بأن جدرانا ساذجة تفصله عن الخروج منها, والمضي الى فضاءات تتيح للمبدعين ان يحققوا افكارهم فيها, في اطار من حرية التفكير والتعبير والايصال, ولعل ما يواجهه المبدع التشكيلي العربي اليوم ليس افضل حالا مما واجهه المبدع العربي ايام سلامة موسى, وما قبله بقليل, فالتحولات التي احاطت بقسوتها التحدي المجتمعي للاعتراف بالشكل الذي آلت اليه الفنون العربية آنذاك, في انتقالها من التجريد المطلق, ومن المحامل الشعبية, الى اللوحة المسندية, التي طالت في بداياتها التشخيص, والمماثلة, والمحاكاة, وكل ما شكل تحديا للقيم والمواد, والمفاهيم السائدة آنذاك. هذه التحولات تكاد تماثل ما يجري اليوم من انعتاق, من فراغ القرون والزمن, اذ يتحول الفن الى مادة يستهلكها سكان التجمعات الحضرية المعنية بالمتغيرات, ومن الحسرة ان نتذكر ان المدينة العربية التي كانت قبل خمسة عشر قرنا تقيم لمولد الشاعر الولائم والحفلات التي يشارك بها الجميع, هي ذاتها المدينة التي لا تقيم الان وزنا لشيء سوى المادة).

العبارة الاخيرة, بل الحسرة التي يطلقها الزميل محمد الغامري, انما هي حسرة يتكرر تنهدها في الحوارات والمنتديات والمعارض, وهو يعزي ذلك مكررا قولا لجيورجي جاتشيف بأن البعد عن الانسجام مع الطبيعة اثر تأثيرا بالغا اذ كان اقدم تاريخ للوعي هو تاريخ الفكر المجازي (الفني) الذي ينطوي على ما للصورة من اسرار كبيرة, طمستها مع الزمن تراكمات بالغة التعقيد.

هل يكون من الممكن تمثل الصورة على هيئة الذات, او الانا؟, تساؤل قد لا يجيب تماما على الحسرة, لكنه قد يهيئ لاكتشاف معاني الفردانية التي تميز الثقافة البصرية المعاصرة في العالم, والافكار المقلوبة على خيارات ايديولوجية مبطنة بالحرية والشمولية, بينما هي في حقيقتها جزء من تنافس فلسفي لصياغة معان عدم الاستقرار الانساني, وكل ما يجعل الصورة الانسانية تجري على غير ما توحي به قوتها وسطوتها. ولا نستطيع بأي حال اليوم نكران التشظي الذي يصيب المحامل البصرية, ليس بسبب فساد الرؤية او انعدام الرؤيا, بل لأن التحولات الوظيفية لدلالات المصطلح الابداعي باتت تقود الى خارج المتوقع, او ما كان التسلسل التاريخي يوحي به, فقد انعدم تقريبا التوافق بين الحياة وافكارها فاصبحت الصورة مدمرة لمبدعها اكثر مما يجب ان تكونه في التعبير عنه او بمماثلته والتطابق مع افكاره.

آلان تورين ينقل عن جريدة اللوموند 8 ـ 9 سبتمبر 1991 ما كتبه سولاج: (الرسم ليس وسيلة للاتصال, عنيت انه لا ينقل معنى, وانما يكون معنى بنفسه, يكون معنى بالنسبة الى المشاهد حسبما يكون المشاهد). ويضيف تورين: (ان تشظي الصورة العقلانية للحداثة, للعقل, يظهر القوى الاربع المتعارضة التي يعرف التأليف بينها المجتمع المعاصر: الجنسية, والحاجات التجارية, والمشروع, والامة. الأنا المتشظية مسقطة في الزوايا الاربع لهذه اللوحة: اذ تخترقها الجنسية, وتقولبها السوق والتراتب الاجتماعي, وتدمج بالمشروع, وتتماهى مع الامة.. والغرب اليوم الذي اثمله نصره على الشرق والجنوب يرتمي بلا ترو في ليبرالية لا حد لها).

واذا كان الغرب يعي بالضبط التناحر القائم من الناحية الفلسفية بين الآفاق السياسية القائمة والآفاق الابداعية, وكيف تحاول الدول رفض الثقافة المعاصرة باتهامها بالرمزية (لأن الرمزية تحيل الى عالم فوق الانسان) فان التنبؤ باحوال الثقافة العربية وخاصة التشكيل يبدو اكثر سهولة في ظل معاني الاستهلاك التي تحيل المجتم على (عالم كبير بانشاء التوافق بين العرض والطلب) بدلا من الحلم السابق بالبحث عن الجوهر وكيفيات تمثيله في العمل الفني, اذ بات الكلام عن معنى الفن ضرب من المبالغة ان لم يكن من النقائص التي يمكن ان توجه الى ارواح المبدعين وهم يعيشون اساسا الانقسام الجلي بين ذواتهم وما يحققونه, او فيما بين وجودهم ووهم التعبير عنه فيتحول التعبير الى قيم زائفة لعوالم باتت في اقفاص الافتراض.. والحق ان درامية الهروب باتت تميز العواطف التي يستجيب لها المبدع في التعبير عن مواقف عمومية فقدت نبرتها الخاصة ووظفت من اجل الاتقاء من رعب الحياة التي تفقد طهارتها.

في كل التحولات تضحى القيم السائدة الضحية الاولى, اذ في ضوء مقصد التغيير تنمو تركيبات موازية واخرى تناحرية تؤجج العمليات الصراعية, واذا كنا لا نحس وطأتها في الانقلابات التشكيلية العربية فإن مرد ذلك الى آفاق الحرية الممنوحة للحوار حول مثل هذه التحولات ويمكن الحديث مطولا في ذلك قياسا الى التحولات التي طالت التكعيبية والمستقبلية والسوريالية في الفنون الغربية على سبيل المثال سواء في التشكيل او الادب او المسرح, وكيف تمكنوا من التعبير عن المتغيرات في الفنون بداية القرن العشرين سواء عبر البيانات والمقالات والندوات والكتابات او عبر الابداعات.

التحول يعني التعرية, والكشف, وفقدان امكانية اجراء المقارنات حيث لا سيادة لمفهوم حتى يستقر, واستقرار الافكار يعني التدجين, اي استلاب الطاقات الذاتية والتحكم بالافكار التي تكرس لانشاء قواعد جديدة وانساق تعني التوحد في العصر والزمان, ولابد ان نعي هنا ان كل ذلك انما يقع في الاغراض التقديرية للفنون التي تعيش ضغطا مستمرا لانتاج صور تؤكد المقاييس التي تقتضيها التحولات, ولا يهم ان كانت تقصد الاثارة او السطوة لاحياء الدور التشكيلي المناط بها, بل يطفو الى السطح ادوار اخرى تنبه الى فهم جديد للارهاق الذي تفرضه المتحولات فقد اعتدنا على مر التاريخ والازمان ان الانواع تنتج انواعها والاشجار تبدع اغصانها وثمارها, وبسبب هذه الحركة الانسجامية المتوازنة في اعماق الجمال يكبر التساؤل الابداعي وهو في خضم الصدمة الحضارية التي سلبت المبدع متعته في ابداع كل ما يحيي التوازن والانسجام وكذلك الارباك وتحريك السواكن.

اننا نتأمل الفن باستغراب بعد ان تداخل الخيال بالعقل والواقع بالافتراض والفيزيولوجي بالرمزي والزمان الاسطوري بالزمان الاصلي والمتناهي باللامتناهي والداخل بالخارج والحضور بالغياب.. هكذا يرشدنا العصر الضال كي نتحول, وكي نصوغ تحولاتنا بمقتضى الروح الجديدة التي تحتل صورنا وصورتنا بعد ان صاغها الضوء والنور. اليوم يعيد النور الالكتروني المكانة للتفوق, فالعالم هو المبدع, والفن الذي كان يغير العالم, بات مكفهرا وهو يفقد قدسيته, ويفقد الانتماء اليه, والتمذهب حوله.. ان الانسان ينفصل عن نفسه مرة اخرى, وبعد ان كان يخشى صورته في الماء, ويطمئن الى صورته في المرآة.. انقلبت العين الجسدية الى عين خلوية صناعية توهم بالانسان بدلا من رؤيته وباتت بذلك اسطورة (نرسيس) اسيرة الثورة الرقمية. ان لم تكن قد دفنت نهائيا في اسرار (الديجيتال) بعد ان توحد المرء بشاشته وفقد مرجعيات الابصار لدرجة تقارب احتجاج (بارت) اذ يقول: (الصورة هي كل مساحة يتم اقصاء جسدي عنها).

 

 

في المعرض العام العشرين لفناني الامارات ...اتجاهات واحلام تستنفر البصر

 

طالما تردد بأن الفن شكل من اشكال الوعي الانساني, او هكذا تبرر المجتمعات علاقتها بانتاج الفنون على اختلاف الحقب والازمان وتشعباتها, وكأن الفنون حامل وعي الافراد والجماعات ومواقفها الفكرية والجمالية, او انها وسيلة مباشرة للتبادل والتواصل تعكس الواقع وتسعى لتبديله وتطويره. ومهما اختلف المنظرون حول الفنون وانتماءاتها وتفرعاتها, الا انهم مازالوا ينظرون الى وظيفتها على ما تمنحه للحياة والواقع من وسائل ومراقبات وتفسيرات وادوار تشكل ادراك الجماعات الانسانية والقاعدة الصلبة التي تميزهم عن بعضهم.

اهمية الفنون تعني اهمية المتابعة التاريخية لاحداثها, وذلك بالنظر الى القيمة المجازية التراكمية التي تتركها, ونظم المفاهيم التي تنتجها بفعل الاستمرار والتكرار والتنويع, والفنون التشكيلية شكل من هذه الفنون المتنوعة, تعالج بالصورة علاقة هذه المجازات بالذات المبدعة اولا وبالذات المتلقية ثانيا, وقد سبق للانسان ان حاول بناء نظم مفاهيمه انطلاقا من حاجته للتعبير, فتطورت انطباعاته وسبل تعبيره عن العالم المحيط به, والفنان الذي نضعه اليوم موضع التساؤل حين ننظر الى اعماله الاولى في الحضارات القديمة, انما كان ينطلق من اسس اشمل من التي ننطلق منها اليوم في التقييم الفني, اذ كانت المصالح والحاجة لبناء التصورات وتوطيد الاختراقات هدفا من اهدافه, وكان على الفن ان يعبر عن قوة الانسان وسيطرته على ما حوله فعليا وشعريا واسطوريا وسحريا لبناء منظومة الخيال التي اسست للأدهاش الذي باتت تمتلكه الصورة فيما بعد وعوالم الافتراض التي تأسر الانسان اليوم.

في هذا الاطار التاريخي يندرج الاهتمام بالمعرض السنوي الذي تقيمه جمعية الامارات للفنون التشكيلية بالتعاون مع دائرة الثقافة والاعلام بحكومة الشارقة, اذ يعتبر المعرض العشرون اشارة تاريخية قبل الولوج في تفاصيل المشاركات التي ضمها المعرض, ففكرة الاستمرار والاصرار على جمع النتاج التشكيلي المحلي (مقيمون ومواطنون) بات امرا مألوفا ومنتظرا على الساحة المحلية. وان كان هذا المعرض قد سجل تذبذبا في محاولته التعبير عن مشروع جماعي لرصد الحراك التشكيلي في الدولة علوا وهبوطا في الاداء والمستوى الا ان اجماعا نقديا كان دائما في صف عدم تغييب هذا النشاط المهم, وهذا ما يحسب في صالح منظمي هذه التظاهرة الضرورية لتوطيد ركائز المتابعة التاريخية لانتاج العمل الفني في دولة الامارات, بل والخروج من هذه الرغبة الى انشغالات فردية شكلت حيز البحث عن تفرد عدد لا بأس به من الفنانين العاملين في رهان على اختصار الزمن للحاق بالمحامل التشكيلية العربية الاخرى.

مازالت الفنون التشكيلية تستأثر باهتمام القائمين على منابر الثقافة, وبرغم الانزياحات التي تشهدها محامل الثقافة التقليدية, الا ان الفنون التشكيلية مازالت تستأثر باهتمام المتلقي, وخاصة ما يطالها في الجانب التجريبي, كونها تعبر عن منشأ ذاتي يقوم الفنان بتحويله الى اهتمام عام

يطال الفكر والحياة, ولهذا فان الجهات المنظمة للمعرض العام العشرون تؤكد على وضع الفنون التشكيلية في اولويات العلاقة مع الجمهور والمجتمع لتقديم الفنان الذي يهتم بالتجديد والايحاء والمقابلة مع الحركات التشكيلية المحلية والعربية والدولية باعتبار المعرض السنوي نشاط بارز للمبدعين في الدولة, بل انه دليل تواصل المبدعين مع الابداع وسلم الارتقاء نحو رؤيا تشارك مثيلاتها العربيات بحثا عن هوية متميزة للفنون التشكيلية وبما يعكس الصلة بالعصر وقضايا الانسان في منطقتنا وكافة المستجدات من حوله. واذا كانت دائرة الثقافة والاعلام تأمل للتجارب ان يتيح لها هذا المعرض مكانا بارزا لتحقيق وجودها وان تكون على مستوى المسئولية التي يحملونها, والتي لا تنفصل عن رسالة الفن الشاملة في انارة الطريق والتعبير عن قضايا الانسان والمجتمعات, فان جمعية الامارات للفنون التشكيلية تؤكد على المحلية فيما قدمت له للمعرض بدأنا بطموح امل ومازلنا نستمر في التطوير الفني, زرعنا الارض والوطن تشكيلا واعمالا وقدمنا مواهب ومبدعين, رسمنا التذوق والجمال, كانت فكرة وحماسا, وكان ايمانا صادقا باهمية المتابعة والتطوير مثل ما تعلمنا الرسم والتعبير كان هناك شيئا ارقى من ذلك وهو التوجيهات السابقة في التأسيس والتكوين على قالب محلي غربي لتنتهي النظرة والبصيرة الى الاطلالة العالمية من خلال بينالي الشارقة للفنون. لابد ان نعي مرحلة الالفية الثالثة التي نحلم بها بمزيد من البحث والدراسة الفنية وصولا الى واقع ومنابع فنية متأصلة ثابتة المعالم, لذلك جاء دور تأكيد الوعي الفني والمتغيرات والمصطلحات وتطورها, وتأكيدا للتطوير فقد تعاملت اللجان القائمة على اعداد هذا المعرض بكثير من الجدية والمسئولية سواء اكانت لجنة التحكيم التي تألفت من عبدالرحيم سالم, طلال معلا, ياسر دويك, بدر عباس, محمد يوسف علي او لجنة فرز الاعمال المؤلفة من عبداللطيف الصمودي وجاسم ربيع وتاج السر حسن, والتي استطاعت ان تبعد الكثير من الهامش والغث عن جسم المعرض فأكسبه هذا العام جدية افتقدها منذ اعوام.

مع ذلك فقد بلغت المشاركات خمساً وتسعين مشاركة لفنانين محليين وعربا واجانب, وكانت نتائج التحكيم في صالح الخبرات والتجارب المتميزة والسيطرة على ادوات الابداع فاستحق الفنان السوداني ضياء الدين الدوش الجائزة الاولى بينما تقاسم الجائزة الثانية كل من الفنانة اليونانية انسا لاندنسر والنحات البلغاري سفلين بتروف وقد استحق الجائزة الثالثة كل من علي المعمار من العراق وعبدالقادر مبارك من السودان.

جائزة التصوير الفوتوغرافي ذهبت للمصور المبدع جاسم ربيع واعطيت جائزة لجنة التحكيم لكل من الفنانين احمد شريف واحمد الانصاري من الامارات.

الصراع الذي يعانيه المعرض العام السنوي ليس صراعا من اجل الاستمرار فقط وانما لابد من الاشارة الى صراع البناء الداخلي لمنظومة الفنون التي يمكن ان ينفتح عليها, والممكنات التي يطالها والتميز الذي يعني فيما يعنيه المغايرة والاختلاف.

والامر الاخير مرهون بالتفرد في استقطاب الخبرات الفنية المتمكنة والتي تملك حرية ولوج المناطق الابداعية غير الممكنة التي تكون حرية الاختيارات وسيلتها للتعبير عن رغبة بالاضافة الى التأسيس, وهذا الصراع لا تعاني منه جمعية الامارات للفنون التشكيلية لوحدها, بل انه هاجس المؤسسات الفنية العربية في متابعتها للانزياحات السريعة والجذرية لمجالات الصورة التي باتت تحقق انتصارات تقنية عالية السوية بمقابل هزائم لم تعد تنفع معها عمليات الاصلاح او الترميم في اطار الحداثيات التي تبتكر لغتها الفنية عالميا, ولهذا ورغم التطوير الملحوظ في اداء المعرض السنوي فإن تحديا على اكثر من مستوى مازال يشكل عائقا للجدة ومبرر ذلك المقارنات التي لابد من اجرائها مع المحامل التشكيلية الاخرى

ففي حين تجري المقارنة مع ما يجري في المنطقة العربية ستكون بألف خير بالتأكيد لغلبة القديم على الحديث وسيادة التقليد على المحدث فيما ستشكل الاحالة على ما يجري دوليا تجاوزا لابد من التفكير به لتجاوز الافكار التي ستحل محل سابقاتها, وقد اشار المعرض باستحياء الى الرغبة بمعانقة التجارب التي تعتمد التجريب والبحث منطلقها للتعبير عن العلاقة مع العصر وفق مباهج قدمه محمد يوسف علي تطال البيئة والكوكبية وبلاهة الوهم اذ دون عبر قطع الاشجار (كائناته الانشائية) مراجعة تساؤلية كان قد اطلقها حسن شريف وحسين شريف, ومحمد كاظم منذ فترة غير قصيرة لتنظيف اللوحة من ايحاءاتها التقليدية وولوج معان تصل حدود الرثاء على هيئة تعاون تحمل صفات اللا اشياء التي يمكن ان نتابع حوارنا وتحققنا من خلالها, وللشفاء من حالة التصحر والعجز التي باتت تدب في امتلقي الخطاب البصري التقليدي كان لابد من ابراز التناقضات التي تعيشها اجيال التردد على المعرض السنوي.

الامر الآخر الذي ابرزه هذا المعرض هو مدى السيطرة على الحرفة التي كانت ضرورية على مدى تاريخ انتاج العمل الفني, والتي مازالت تشكل الوسيلة الاقوى في تلقي وقبول العمل الفني كونها الحامل الأساسي للابداع والجوهر, وهذا ما زج بالمحكمين للتطابق مع الخبرات التي ساوت بين الحرفة والابداع لخلق مناخ بصري يجمح بالتجربة للبرهان على حضور المبدع وتوسيع الحيز القبولي لشحناته الذاتية, بينما لم تلق التجارب التي تختفي خلف ظلال التقنيات او شطحات الادب وتأثيراته على المجال البصري باعلاء لغة السرد على لغة الرؤية..

هذه التجارب لم تلق اذنا صاغية او عينا باصرة في جدول الاهتمام بها, كما ان فنانين الصدف والمغامرات قد قوضتهم عدم درايتهم الكافية بأزقة الابصار واسترسال الرؤية فلم يجدو في حدود اللوحة اكثر من اشغالها بالوان لم تتعد قشرة العمل الفني.. والحق ان المقارنة ستكون مجحفة ان لم نستثمر المقارنة لنستشف واقع التشكيل الحالي في الامارات والاشارة الى جانب الاستيعاب الكمي للمهتمين بالفن بالذين يشتهون الحلم والتجلي والكشف عن اسرار هذا المحمل التعبيري, ففي رحاب المعرض اعمال تستنفر الرغبة لرؤيتها لجودتها وفنانون مازالوا ماضين في بحوثهم البصرية مؤكدين على استنفاذ كل الطاقات التعبيرية للعناصر التي يستخدمونها في تحقيق منجزهم البصري واخرون اصروا على تكريس مرجعياتهم المحلية والسياحية.. وما بين التصوير والتصوير الفوتوغرافي, النحت والخزف والتركيبات تنوعت الطروحات الفنية لتشير باجماع الى غياب التجريد عن المعرض باستثناء الدوش وسالم رغم العلم بسيادته (التجريد) طيلة القرن المنصرم, ويلاحظ ان الانتماء والاهتمام بالتشخيص كان قاعدة عامة لمصوري هذا المعرض.

وقد سبب هذا الامر قصورا في فهم المتغيرات الدولية التي تهتم ايضا بالتشخيص كطرح جديد لا علاقة له بالمذاهب التي سبقت التجريدية وانما يحمل عناوينه الجديدة وترجيحه البصري للجسد كشكل يستوحي تفسيرا جديدا من أزليته وخرابه اليومي.

المعرض العام العشرون, توليد جديد للمعرض السنوي حمل الى جانب العرض العام تحية لمبدعين مثل تاج السر حسن وعبدالرحمن زينل وبدر عباس مراد باقامة معارض تكريمية شخصية لهم على هامش المعرض وهذا الامر يعيد الى الاذهان الدور المسئول الذي يقع في اطار اهتمامات على هامش المعرض وهذا الامر يعيد الى الاذهان الدور المسئول الذي يقع في اطار اهتمامات المعرض السنوي الذي نتوقع له الاستمرار في دوره التنويري واعلاء قيمة الفنان وابداعه.

 

 

التشكيل المحلي: صورة المكان في الذاكرة

: طلال معلا

الحنين الى المكان, شكل من اشكال التعاطي الدائم مع الواقع, بمختلف مستوياته الواقعية والنفسية, والايحائية وتختلف سبل المحاكاة وألوانها من فنان الى اخر لتكون الموهبة والخبرة الذاتية ادوات الاختيار او الاختزال او التكرار, فالفنان الذي يعي مهمته التسجيلية مثلا هو غير الفنان المحلل لدرجات الانتماء للواقعية, بل وانتقادها احيانا واعادة تأليفها, وقد تعامل مع هذا الواقع العديد من فناني الامارات منذ بداية الحركة التشكيلية وحتى اليوم,

وسواء صاحب الاهتمام والتشجيع هؤلاء الفنانين او تنحى عنهم الا ان ترجيح ارتباطهم القوي بالمتلقي انما يقع ضمن مفهوم الفهم المباشر لتفاصيل المنظر الطبيعي الذي يستمد الفنان منه موضوعا انسانيا يقدم حميمية العلاقة بين العين والمكان, سواء أكان هذا المكان طبيعيا ام صناعيا من بناء الانسان وآثاره واهتماماته.

الاعتماد على الحرفة, او التقنية, او المهارة, موضوع اساسي ايضا في المبادرة الى العلاقة مع الجمهور, وتأكيد ادراجها في منطق وفلسفة المنظور الطبيعي والانشائي المؤاتي لفهم العين للموجودات يسهل ـ دون ادنى شك ـ مهمة الاعتراف بها وتلقيها في اطار بحث الانسان الدائب للسيطرة على الطبيعة ـ الخطاب الازلي الذي جعل الانسان يحقق نجاحاته في بناء تصوراته عن الطبيعة واستبطان هذه التصورات في محاولة لاعلاء الذات واشراكها في فعل ستختلف الآراء والفلسفات حوله فيما بعد بنتيجة المراقبة والملاحظة لمعاني التمايز والاختلاف.

وسواء اعتبرنا التعامل مع الطبيعة او المكان رثاء لها او ابتهاجا باحتوائها للأدوار الانسانية المرئية فإن الاشارة الى ان هذا النوع من الفنون قد شكل ظاهرة في التشكيل العربي عامة والتشكيل في الامارات خاصة هي اشارة الى عميق الاستفادة من المحامل التشكيلية التي ابدعها الاخر في رحم فلسفات مختلفة, بل وتشكل مرجعا خالص التكامل للخيال والعقل في ابداعه لأعمال لاقت من الاهتمام ما يفوق جاذبيتها وانتمائها الحضاري للعصر, ساعد في ذلك الحنين والعشق للموضوعات التي بات يفصل المجتمع في الامارات عنها خطوات واسعة, مما يجعل الرغبة لاعادة التصور واقعة في مقدار الانفعال الذي تولده مثل هذه الاعمال التي تفتح نوافذ من الحاضر على الماضي تذكر الناشئة بدورة التاريخ التي تمضي باتجاه واحد حاملة معها السلوكيات والذكريات وعدم الاستقرار بسبب احلال نظم جمالية مكان اخرى. وبسبب تبدل صورة الحاضر الى ما يوافقه انتاجيا واخلاقيا واجتماعيا. اذ لا مجال للثبات, فالتغيير سنة الكون وقانون تبدله من حال الى حال.

الا ان عديد الفنانين لابد يشيرون بأعمالهم الى حالة من الثبات تطال تجربتهم بالرغم مما يحاولون ان يوصوا به من تغيير في الاساليب او الاتجاهات, ودون اكتراث ـ في اغلب الاوقات ـ بمبادئ التغير الاجتماعي والمعرفي والتقني التي تطال الحراك الانساني في انتقاله من موقع الى آخر. ولا

تشكل هذه الاحالة اي هجوم او صدام مع تلك التيارات, فهي اشكال سائدة في مختلف العصور والازمان, وتتجلى في القيمة التربوية التي تشير اليها وخاصة فيما تقدمه من كشف عن خصائص ومفاهيم سابقة كادت تنتهي او تختفي او انها اختفت فعلا من الحياة, وبهذا نتبادل الحوار معها يكون من منطلق الدلالات التاريخية لمحتوياتها, وهي تلعب دورا توضيحيا للتقاليد والادوار في تحولها من حال الى حال.

ولا عجب فيما نراه من اقبال الفنانين الاجانب على ايقاظ معرفتنا بالنعمة التي نحن فيها حين يتهافتون على رسم رموز تقترن بالدلالات الفاعلة في اهتمامات الانسان المحلي لما تشير اليه في التراث البصري والعقلي والتاريخي, وبكل ما يحقق الذات في تحولها الى الخلف للارتباط بالافكار التي تنأى عن المستقبل وما يمكن ان يدفع باتجاه اكتشاف الرؤى المعاصرة ودمجها في رؤى الحداثة التي تعبر عن اشكال التغير ف يجماليات الانسان الجديد..

ومهما كانت قيمة الاحالة السلفية لابراز الذات التاريخية المحملة برموز التراث وعباراته البصرية.. الا ان انقطاعا عن روح الحياة سيبدو جليا فيما تكرسه مثل هذه الرسوم التي تخاطب الواقع باعتباره جزءا من الماضي لا باعتباره نداء للنقد يتضمن مشروع التعبير عن المعاش. والقضية الاساسية في هذا الطرح هي ما يستشعره المبدع وهو يلح على البحث في الفنون البصرية للوصول الى بدائل ترقى بفهم المجتمع لأحوال الفنون بدلا من اقتيادها الى الخلف. في اكثر رسوم الطبيعة التي تمجد الفهم الاستهلاكي للعمل الفني لا تشارك الروح في تفجير طاقة الجمال في المتلقي, بل ان هذه الرسوم تقسم الموقف منها الى اثنين, الاول يعتقد بغرابة انجاز مثل هذه الاعمال, وهؤلاء يمتلكون روحا نقدية,

والثاني يرى ضرورة انجازها لتأكيد استمرار بؤس تلقيها تحت اكثر من غطاء قد يصل بعضها الى حدود الحديث عن الاخلاقيات الجمالية. وقد كانت مساحة التشكيل في الامارات مساحة واسعة تمثل هذا التجاذب فيما بين الدعوة الاحلالية والدعوة التغييرية, بما حققه ابناؤها الفنانون من انجازات حملت بمجملها اختيارات الانسان المبدع في هذه المنطقة من الخليج العربي. ولقد سعى اكثر من تجمع فني لاستبدال صورة السائد في الفنون منذ بداية الثمانينيات في القرن المنصرم وحتى اليوم, وهي مواجهة يشير اكثر من باحث الى انها تتم في اطار الصراع بين القديم والجديد,

مما يشير الى ازمة تنويرية يعيشها المحمل التشكيلي الاماراتي يسببها الحنين الى الماضي وما تفرزه الحياة الجديدة بمطلقها الفلسفي والمعماري والنظري والاقتصادي من دعوة للتحديث والاستمرار في انتاج ثقافة مغايرة مواكبة لانتصارات الانسان وانحيازه الى خصوصيته رغم ان سرعة التحديث تؤدي احيانا الى انتاج صدامات اجتماعية ومعرفية يعجز التكيف معها وقد تؤدي الى الشعور بمجموعة من الاستلابات الفكرية التي تطال مجالات انتاج الثقافة والمعارف. ان الانتماء لعالم متحرك يمتزج فيه الماضي بالحاضر قد يعرقل عملية الانتاج المعرفي كونه يقدم الماضي بصورة الحاضر

وهذا انشقاق واضح في هوية وخصوصية المجتمع الذي ينشد دائما التقدم والحرية والسيادة كحقوق تعيد صياغة التوجه الفكري وتجيب عن اسئلته الراهنة.. واذا كانت الاحالة الى المكان لا تخرج عن الاطار الحنيني الذي اشرنا اليه في البداية فإن ذلك يدعونا للتميز بين المكان الواقعي والمكان الافتراضي في العمل الفني.. المكان الذي تدلي جمالياته برؤاها التنويرية كلما اوغل المرء في سبره والكشف عن سطوته او ترهله او ما يحاول بعض المبدعين تحقيقه بتزيينه على هيئة ما يكون الجوهر.

 

لقد سعي عبدالقادر الريس باستثنائية مشهود لها ان يكون حياديا في تفكيره البصري اذ تنازعه التسجيل والتجريد, وثمة مغزى وراء ذلك يتمثل باعلانه عن انتمائه لكل ما يبدع, ولعل انجازاته المتفوقة تقنيا ولونيا تنضج في الاجيال اللاحقة قيمة التراث الاصيل وما خلفه الاجداد للأبناء في رحلتهم الشمولية (العمارة والحرف والمهن). حتى ان مرجع العديد من الاجيال الجديدة ينكمش في تصور اعمال هذا الفنان المجيد.

الا ان الرحيل عبر الماضي لا يعدو التفكير المثالي به والانقطاع عن الحاضر (الواقع الحقيقي) وذلك بحصر الوطن في اطار لا يتحرك قد يستدعي الوقوف عند فترة زمنية بما يحيط بها من (نوستالجيا) تؤجج المشاعر دون ان تكون عتبة للانتقال الى مجال ارحب كما كان يحدث في بنية القصيدة الجاهلية على سبيل المثال.

اشير الى خصوصية تجربة الريس ليس على مستوى الانجاز فحسب, بل ما تحققه من صدى تخيلي وايحائي جمالي يطل الوهم الذي ينشئ التصورات الجديدة للواقع الماضي, وبكل ما يمكن ان يجعلنا نتفكر بالمجازات البصرية الواقعية التي استنبطها الفنان من الموثيفات المحلية, وهو وان صورها على نحو شديد المهارة بالمطابقة المنظورية والتشريحية والتلوينية فإن ذلك يذكر بالاحالات المباشرة التي قام بها الفنان محمد يوسف علي مبكرا حين جعل من هذه الموثيفات مادة الموضوع وشكله فاستخدم الابواب والنوافذ والاخشاب والجبس وغير ذلك من المواد التي تشكل جزءا لا ينفصل عن الواقع الواقعي, مستفيدا من غياب استخدامها وندرته لتتحول اعماله الى مفاهيم لا يحدها حاجز عن المتلقي الذي قد يتعامل معها في الحقيقة كنفيسة من نفائس التعلق بالماضي, وقد استفاد العديد من فناني الخليج العربي من هذه التجربة المبكرة فنوعوا عليها وعلى اشاراتها ورموزها الواقعية.

كما ان مجموعة المحدثين في الفنون الاماراتية لم يبتعدوا كثيرا عن هذا المفهوم بأعمالهم المتنوعة, معتبرين ان التحول في المفهوم لا يعني التحول الشكلي, فالفكرة هي الدافع الى التشكيل, الفكرة باعتبارها ماضيا وحاضرا, وبمقدار ما تشكل اعمالهم انتماء للذاكرة فانها من الناحية الذهنية اكثر ارتباطا بالواقع المباشر لموجودات المكان, بل ان انبثاق العمل, اي عمل, انما يشكل اضافة حية الى الذاكرة الواقعية التي تتفاعل مع لغة التعبير عن هذا الواقع,

وقد تميز اكثر من فنان في الامارات في هذا الجانب الاكتشافي والتنبؤي للواقع فأهلهم للمرور بمراحل مختلفة, قد تختلف في اسلوب التعامل مع الواقع الا انها تتفق بالاتجاه والهدف لاعادة صياغة الموقف من التراث والواقع والتجديد في ظل التحديثات التي طالت المجتمع, وقد جاراهم بوعي وحذق الفنان عبدالرحيم سالم الذي استطاع ان يبقى محايدا في بحثه البصري دون ان يوغل في تيار او جماعة, فبقي وفيا لذاتيته التي يستلهم منها الفضاء الحركي بمقدرة توازي مرئيات الواقع واحتمالات تحقيقه عبر الحركة, وهو وان كان نحاتا مجيدا فإن هذه الامكانية ذهبت هدرا بمقابل الايغال في تفصيلات التصوير التي لم يقف على جانب محدد فيها بل استمر عبر تجربته الطويلة نسبيا (تخرج العام 1980 من القاهرة) في تنويع المواد والخامات (الحجر والخشب والمعادن, الادوات التراثية, الورق المعدني, الورق الشفاف, النايلون, الاحبار الصناعية, الباستيل, العرض الادائي).
 

وشكلت مساحة الحلم لدى المبدعة نجاة حسن مكي فضاء اللوحة عبر متابعتها للموتيفات التقليدية الانثوية خاصة, فترجمت خامات البيئة الشعبية الى وسائط بصرية يعيد ايقاعها التراكمي بناء المساحة بشكل يجعل الواقع يحضر متحللا من ارثه التجسيدي ليستحيل الى تفاصيل مبهرة للعين في فيمتها الطقسية, موحية بموسيقى حفية, ليست اعلى من صوت الواقع معه. وقد نجحت نجاة مكي في اخفاء لغة شعائرية خلف هذه الموتيفات تضج بالانتماء للأنثى وكيفية ادراك عالمها الداخلي والحواسي بخبرة مستقرة اهلتها لاستكمال حوارها مع المكان, ومع السعي لاستنفاذ الحنين اليه بطريقة مغايرة.

ويمكن القول من هذا المنظور ان المحمل التشكيلي في الامارات الذي وضع المكان كواقع متعدد المستويات في مركز اهتمامه, قد نجح في انتزاع عدد من المفاهيم من بحث المبدعين الذي يتراوح بين الرؤى المباشرة وما فوق هذه الرؤى ليستمر المخاض خارج محاكاة الواقع والوقوع في اسره, مؤكدين على انتزاع الذات من نظريات المحاكاة والبقاء في عالم الانزياح لا الاستقرار اذ لم يتعامل اي منهم مع الواقع على انه امر علوي او تفوقي وانما يروح نقدية غائية استمرت مادتها من الصراع التشكيلي العربي والدولي حول الافكار العامة التي يشكل المكان احد محاور جدالاتها كموقع افتراضي للخصوصية ان لم نقل الهوية.

لقد اهم الفنان في الامارات بهذه العلاقة التواصلية مع الواقع دون ان يذهب به الاعتقاد للولاء المطلق له, سواء من جهة التخييل التي لجأ اليها الريس او لغة استنطاق الذاكرة بما تتالى عليه حسن شريف وحسين شريف ومحمد احمد ابراهيم وعبدالله السعدي ومحمد كاظم وكافة التخارجات التي سعى اليها او ما قامت به مكي من احلال للموثيفات مكان اصولها وما ذهب اليه محمد القصاب ومحمد العبدالله وعبدالرحيم سالم للارتقاء بايقاع العمل البصري ليفيض على الواقع بدلا من تمثله او محاكاته.

على مقوص ..السر ويوتوبيا الخيال

طلال معلا

 

السر، تكتمه تفاصيل اللوحة لدى الفنان علي مقوص، بما تتضمنه من تفاصيل حديثه، وتقاطعات لمحاور انتقال الرؤية بين الافقي والعمودي، وكل عمل من اعماله انما يعيد امكانية النظر الى فحوى اللقطة المنغلقة على ذاتها بغموض، دون ان نلمس اي جهد للانفتاح خارج التأمل، الذي يغذي التناقض الظاهر بين العوالم الداخلية للوحة والعوالم الظاهرية المتعددة، المجسدة لمستويات تشخيصية، تراوح هي الاخرى بين مجموعة الاتجاهات الواقعية والتعبيرية والحسية التشخيصية للنزوع الى هذا السر المعبر عن مستويين من المعاني،

الاول سر الابداع الفني وتجلياته الشكلية والثاني سر الموضوع الذي تلامسه عواطف المتلقي وهو يستعيد العروض الانسانية في تجمعها الاولي، وسواء حدد علي مقوص المكان من خلال رائحته الفلسفية، وبما تبدعه الطبيعة من علاقة متجددة مع الانسان المتشبث بمكانه على ساحل المتوسط، فان تلمس الطقوس، واحالتها من الاسطورة الى الواقع الشكلي في اللوحة هو مايزيد السير كتمانا، وما يجعل الاسقاط الحضاري تدوينا بصريا يخضع لاشارات الصورة التشكيلية وقرارات مبدعها.

سر الحياة

وتبين لوحة مقوص ـ نقديا ـ مدى الجهد الذي يستقصي عبره المبدع مسألة الهوية في اطارها المعرفي، خاصة وهي تتعرض للزمن كاشكالية بصرية (الفنون التشكيلية فنون مكانية) وسواء استنار الفنان بالمعاني الممتزجة للاعياد والاضاحي والقرابين، بما تمثله من فعل اجتماعي وتراثي، وتقاطع كل ذلك بالرؤية البيئية الانسانية،

وبما يعيد الصلة بجدلية الاستقرار والانتقال الانساني في الطبيعة، الاقامة والترحال، الوجود والغناء، وكل ما يؤكد تكامل النقائض الفكرية المعبرة عن السفر في مطلقات التأمل لاظهار عمق الافكار التي تربط الانسان بالمكان، وتبدي في الوقت ذاته مشاعر الفنان بالسمو على العوالم المستمرة بحيث تشكل عيناه مسقط الشمولية العمودية والافقية للفضاء المتشكل على هيئة اللوحة والذي يترجم محاور التقاطع الزمانية والمكانية، الطبيعية والذهنية،

وبكل مايجعل ادوات الحس تنبه الوعي لاعادة تشكيل المكان وفق المجالات الاسطورية التي لونت الذاكرة الانسانية بكل مثير للجدل، وبما يطور علاقة الانسان بخزانه الاكتشافي ليضحى التصور مادة التأمل، والتأمل اداة المبدع لاعادة بناء سطح اللوحة عبر الكائنات الانسانية والحيوانية والنباتية، وعبر علاقة الفوق بالتحت والسماء بالارض، والحياة بالموت، والحقيقة بما وراءها.

انه سر الحياة المتجددة بتجدد علاقة الانسان بفنونه وعلومه وهو يعيد ابتكار الوجود عبر تطوره ومن خلال ما يصل اليه من استنتاجات تفيد تركيب نظم هذه الحياة جزءا فآخر لبلوغ الهدف . الشكل او المعنى او المفهوم، والنقطة الاهم فيما تحاول اعمال مقوص الاحالة اليه هو المغذي التاريخي لمعاني تراكم الخبرات الجمالية والتي من خلالها يمكن الاتصال بالتجمعات الانسانية البكر التي الفت ما وصلنا اليه،

وبادراك ما يعيد مقوص صياغته فاننا نتفق معه على اهمية الخيال المنشيء لهذه التصورات، وقدرتها التعبيرية عن ماهية المجتمعات السورية الاولى والدلالات الفلسفية التي شكلت بذرة الانسان المفكر الذي تمكن من قراءة الاشكال وتحويلها الى معتقدات جمالية.

هل يحاول مقوص حقا تخيل الاجواء التي تعبر عنها اعماله، سؤال يؤكد رمزية محتجبة في الرؤية المباشرة لهذه الاعمال، اذ تشكل هذه الرمزية غلالة امام العين تمنحها امكانية تخيل الشكل المرسوم بابعاد تتجاوز حقيقته الظاهرة، وهذا الحجاب هو الذي يمنح المتأمل القدرة على الانفتاح على شرفات الاحاديث التي تتناقلها الاجيال، ليس باعتبارها وثائق وانما باعتبارها مادة جمالية اشكالية تنتمي للمفهوم اكثر مما تنتمي للتاريخ، اي وفق احياءها المجتمعي الذي عمق دلالاتها وكشف عن امكانية تجذرها في التصور كأثر يعيد صياغة نفسه باستمرار حكائيا وبصريا معا.

يوتوبيا الخيال

ما يتخيله الفنان اذن هو رؤيته التي تعني فيما تعنيه تقنياته لتنفيذ هذه الرؤية في حيز العمل الفني واسلوبه الذي يختصر مفاهيم ثقافية معاصرة واخرى غائبة للتعريف باختياراته الشخصية، ليس كناقل محايد، وانما كفاعل منخرط في كلية البناء التصوري الذي يمارس عبره توجيه الفهم المدفون تحت الصياغات الغائبة، هذا البناء الابداعي الذي لايعدو ان يكون جهدا تأويليا لنصوص بصرية مستمدة من حقيقة الواقع ..

بابعادها الحركية غير المصورة، او غير المتوفرة في الوجود الثقافي الحالي لشعوب المنطقة، تلك التي تعيد تشكيل التشخيصات الواقعية والذهنية لتوصيف ما كان مستبطنا فيها من احداث ورغبات وممارسات تطلق مرة اخرى المدلولات المرئية وبعملية عكسية من ظواهر اللامرئيات التي انحسرت بفعل سيطرة المجرد على الشكل وبما يفسح للفكر السيطرة على المرئي باعتبار الروح عمق المادة.

كل شيء يتغير، وحده المكان مازال يجمع الماضي بالحاضر عبر (يوتوبيا) الخيال الفني التي تعيد صياغة العالم وفق الاماني، والتي يستفيد منها مقوص لرسم عالم متوسطي تتجذر الاسطورة في دقائقه باعتبارها الملاذ الحار للتمسك بفنون المنطقة ورؤياه المسرحية التي تملأ السطح التصويري باعتباره مكانا خاصا لانشاء الزمان،

ولقد عبرت الاحالات المنظورية (عموديا وافقيا) عن عمومية نظرة الفنان الى مشهد الحدث الذي يأتلف بمادة حول شجرة كانت وما زالت رمزا للحياة بابعادها المختلفة، والتي تحتها وحولها تعمد التجمعات لصياغة التفاصيل اليومية المكونة في تجمعها وتراكمها لتأليفات زمنية وذهنية ومادية تمارس في المكان المركزي للعمل الفني.

ولقد اعطى كل ذلك خصوصية احيائية للموضوع التشخيصي بشموليته حين يدقق المتأمل في تفاصيل هذا العمل او ذاك مما يرسمه منذ فترة الفنان علي مقوص.

وصف بصري هل يستلهم الفنان اشكاله من الماضي؟ ام ان هذه التشكلات الصورية توازي زمانا لا يزال بصيص الحاضر يعيش في انحائه.

في اية لوحة يعلو صوت مديح الروح التي كانت تحرك كل الموجودات وتقدم افكار الفنان دون ان ترهق الالوان السطح البصري او السطح الذاكراتي الذي يمثل دعوة بصرية حساسة تلفت الانتباه الى تجربة مقوص البصرية والتي يحاول ان يعيد سرد حياته عبرها، ليس باعتباره فردا بعينه وانما باعتباره موجها لتناقص بصري بين واقع مضى ودخل واقعا ارحب هو ماندعوه المرجع المجازي وبين اختيار للذاكرة منفتح على هذا المجاز بمكنوناته التشكيلية،

وسواء استعان مقوص بالضوء او بالظل فان تخطيطاته المرسومة على هيئة التداعي والاستطراد تمنح الاشكال قيمة حكائية توازي القيمة الشكلية فيضحى المكان نموذجا للوصف البصري وفوهة لصبابة الرؤية يقرأ البصر عبرها ضجيج الحياة بحرية.

شجرة الحياة، شجرة المعرفة، شجرة الخطيئة، شجرة المتوسط، ماهية شكلية ومعنى رمزي يتكرر كمفهوم في اعمال علي مقوص للدلالة على دهرية انتماء البذرة للجشرة والشجرة للبذرة وكلاهما مرهون بتصوراتنا ومحاط بمغامرة الانسان التي تدونها الاجيال، وخيالات الشعوب، والمعارف الانسانية.

فكل شيء حي، والشمس والقمر يتناوبان السطوح على التجمعات البشرية التي قد تنتظر طوفانها او رحيلها، وقد تعلن بعد قليل عن بدء حفلها العفوي وستبدو المسرات عنوانا جميلا لعمر الانسان، انها الخبرة الحضارية التي يعيد مقوص تشكيلها برشاقة احتفالية مباركا خراب عالمنا وغموض مستقبله وتشابك ممراته.

 

احمد معلا: يصيغ سيرة جديدة للحواس ويراجع طفولة لم تبلغ ذروتها

طلال معلا

احمد معلا من قرية سورية مطلة على البحر المتوسط، تختفي تحتها آثار مملكة اوغاريث، فوق احد التلال القريبة من المكان الذي ابدع اول ابجدية مكتوبة في التاريخ. ولهذا فان حوارا تاريخيا ما يزال قائما بين الفنان والفكر، ويمتد هذا الحوار بسطوع ليشمل تناولات مشهدية تمثل احالات لالتقاط مفردات من تلك الحوارات، التي مازالت تعيش حتى يومنا هذا، بكل ما تتضمنه من احاديث فانتازية تتدرفل على سطح من الرغبة باخفاء المعاني، او تفجير الاسئلة الغريزية التي تعيد صياغة موضوعات الحياة .. قليل من الرضا، وكثير من الضحايا التي تعبر عن الخطر والارتعاش في مواجهة اختزال التاريخ الذي لا تكفي ادانته لتمثل ايقاعه، او تشكيل صورته، بل لابد من استعارة الجسد الانساني من كلية الطبيعة لبناء تفاصيل هذه الصور الحوارية، واللحظات الحاسمة التي تعيد ربط الحاضر بالماضي وتثبت القدرات التجريبية الابداعية للاجابة عن اسئلة تشتمل البواطن القصية والتائهة في ازقة الحضارات، اسئلة الوعي الحية التي لا تفنى لبساطتها وروحانيتها وامتلاكها لجوهر التذكير.

حركة الروح:

تشكل الاعمال الصغيرة التي نفذ الفنان اغلبها بشكل بانورامي عرضاني طارئا يستحسن التوقف عنده وهو في خضم انتاج اعمال كبيرة الحجم، اذ تعلن هذه الاعمال عن حدود يريد تفصيلها بدقة كحوادث بصرية وصباغية وتقنية تكمل توجهه العام في السيطرة على المواد التي تسهم في قيادة التجربة باتجاه اكتمال التعبير المشهدي بحيث تغدو السماكات المبالغ بها سينوغرافيا تجمع التحالف الشكلي الحسي، بالتراتب المنطقي لسرديات ينسجها الوعي الغائب بالفترات التاريخية. واذ ينتقل معلا من الابيض والاسود الذي تلذذ بابداعه وبغاية الدقة والاكتمال، الى الذاكرة اللونية المتخمرة، فانه ينقلنا من حالة العري اللوني، والجوهري، الى خضوع للموسيقا اللونية، التي يترجمها الجسد الانساني في حركياته اللامتناهية، الحركة النموذج في استقرارها وترحالها، حركة الروح التي لا تكتفي بطقوسها، وشعرها، وحقيقتها، بل تستدعي علاوة على كل ذلك وجودية تحققها، وتأقلمها مع فطرية الفوضى التي ابدعتها، واصالة الرؤية التي ستستقر عليها.

حسب رؤية الفنان احمد معلا، فان هذه الحركة ترتبط بالضوء الذي يعيد صياغة منظورها، ويربط تمردها بالفضاء المتحرك ايضا الذي يمجد تحققها، ولهذا فان المناخ العام يبقى صراعيا على كافة المستويات التي تقتضيها هذه اللوحات، فما بين التضاد والتناغم، يمكن تلمس التجليات الصراعية التي يلعبها اللون كقيمة، وما بين الحركة والفراغ، والهوامش المكانية، نقرأ التوصيفات الصراعية للحساسية الابداعية، وما بين الكثافة اللونية وشفافية اللمسات، نقرأ الصراع التبادلي مابين المباديء المستقرة وتاريخها التقني .. وتبقى هذه الحركة في النهاية ممزوجة بالحس الثقيل الذي تفرضه السماكات، والمبالغات العجائنية، التي تبذر الجذب والشد الى محيط اللوحة العرضاني الصغير، اي الصورة التي تعيد صياغة الزمن، عبر تحديها لواقعها، وامتداداها في مدركات الفنان الحسية، والذهنية، استمرارا للحوار، او الخطاب التحريضي، الذي يحتفي بتحققه التصوري، وتماسه مع انتقاد التاريخ، وجمالياته، اذ يحتفي الفنان بالموازاة مع التاريخ الداخلي للتصوير شرق المتوسطي، وبمرجعياته التنبؤية، والرمزية لتغدو هذه التجربة نموذجا لمشروع قيد الاكتمال.

مغامرة مفتوحة

عمل واحد، هكذا تشي مجموعة الاعمال الصغيرة المنفذة على الخشب باعتبارها لقطات مقربة .. اماكن مفتوحة على ذاتها، وعلى الرموز المساعدة، النوافذ والاشجار والمناضد، التجمعات والتجمهرات .. الترقب، الحذر، الوشوشة والصمت، الاشخاص المتحركة بين الداخل والخارج، بانورامية المشاهد، ومشهدية الحدث، القيمة المسرحية التعبيرية التي تنفي السكون وتثبت الحركة، استمرار الاطراف بالايحاء بتدوير المشاهد واتصال اطرافها، فرضيات التمثيل التي تقدم الحدث السردي على هيئة الواقع دون تفاصيل او ملامح، او مسميات .. عمل واحد تفصله لقطات مختلفة تشكل الزمن بتعاقب انتاجها، (ريلييف) تصويري،

ملامسه خشنة، تعكس الخبرة الواسعة لمستويات المزج الدقيقة، ولتراتب الطبقات اللونية، التي تمزج الانسان بالطبيعة والذهني بالملموس، وتشي بتشخيصية تنصح فيها فروقات التعبير والايحاء الجسدي، المرأة والرجل .. الألم والفرح، وحشية التصنم، الغربة، الانزواء، الوحدة والعزلة، وكل الصيغ المحركة للمشهد العام.

عمل واحد بالازرق والرمادي، والاخضر، والاصفر تقنية الالوان ، احمر رمادي، اخضر مسود، رمادي ترابي، اعراس لونية، عتمة وظلام، وبؤر النور التي تلغي ملامح الوجوه المتحلقة على ولائم الدسائس، والهزائم .. صحارى، اقبية، مدن واحياء .. كل شيء في هذا العمل الواحد الذي ينظم تقطعه الفنان بحضوره المثقف، يستحيل الى ملامس ونتوءات، تخترق العيون باتجاه الروح التواقة الى لحظة تفوق على ذاتها، او نصر، او بعض عدالة، او اية فارقة تبعث الحياة والعافية في القلب الذي باتت اسراره تنهش ملاحمه، وتطريباته، ومشاريعه، وخيالاته، وتذكراته، وتوازناته، في سعيه الدائم لتجاوز ملامح التصور، وبناء ارادة جديدة للكائنات التي يخفق فيها.

عمل واحد .. مغامرة مفتوحة على اروقة شهوة الرسم، ومفاتن اللوحة ذات الصلة بوجودها، وهويتها، وفضائها، وجوف العذاب الانساني الازلي .. رقصة رسام على موسيقى التطهر من آثام التاريخ والزمن المقلوب واجهزة القطيعة مع الوعي والحضارة والانسان.

اللوحة بيت الوزن

تعبر الاستطالات الدقيقة لأشكال الاعمال عن قلق وجودي معاصر تجاه غياب المعايير التقليدية في رؤية العمل التشكيلي، اذ ترتبط هذه الاستطالة بضغط عمودي على اختيار الرؤى والافكار، يمنحها مجالا ارحب ـ ربما ـ لسرد بصري يستعيد عبره الفنان خطوات الاشخاص، وهي تمضي في حركتها الافقية متماهية مع موضوعاتها، فهي مخلوقات مبنية من عفوية الحركة الحقيقية، وطبيعية تجسيدها المتماوج الذي يصوغ رؤى الفنان لمآلها او مصيرها .. انها تنتهي بملء المساحة الافقية التي تقرب خط السماء من خط الارض، المساحة التي توحي بالامتلاء، لكثافة النسيج الحركي المعبر عن انسحاب باتجاه البدايات، فالمغامرات تبدع قوانينها، وبيئتها، وفضاءها الثقافي، الذي يشكل رغبة الفنان بالتغيير، ووعيه لهذا التغيير .. انه مكان عربي بانورامي وضيق بآن معا، عالم لا يملك من الجدة اكثر من هذا الضيق بالحياة والبصيرة والعقل . .صورة تبدو في مطلقها سؤالا عن العدم، وكل ما يمكن ان تقود الخيبة اليه .. سرير حزين يتذكر توجهه ونقاوته، عبر الحشود التي عزفت فوضاه وانسحاره بالغربة.

قبل سنة تقريبا من الان، وحين كنت اتابع الاعمال الكبيرة جدا للفنان في مرسمه، اجتذبتني افكار حول مدى الحيرة التي يحاول ان يتجاوزها، وحول اذا كانت اللوحة مكان الوزن الذي يترجم علاقة المبدع بسيرته .. انني اعتقد الآن ـ حقيقة ـ بأن جذور الشكل الذي يختاره الفنان تتعلق بمستوى (التغجر) الذي يصوغ حوار الحكاية، الممتدة من التراب الى التراب، الحكاية التي تشكل استذكار المبدع لمستقبله، وبراءة تمثله لماضيه، الذي يأتي بعد ان مضى .. انه يأتي اليوم على هيئة الشق الذي يفصل بين خشابات الباب الخشبي القديم، الذي خففته شمس الانتظار، لذلك يقرب احمد عينيه من هذا الشق الطولاني، ليرى الخطوات وهي تلتهم التراب. فاللوحة عنده اليوم انتخاب قصدي لنصف الرؤية، الممتلئة بالخراب والكوابيس، والمناحات، والاخفاقات والتهويمات .. انه منشغل بالسقف الذي يقترب لحظة بعد اخرى من قلبه بينما العالم في الخارج بانتظار ان يخرج من بئره الى الدرب الصحيح للحقيقة.

لقد تابعت غير مرة الفنان وهو يعرض اعماله الصغيرة على ارض وطاولات مرسمه بالتتالي لمجموعة من الزائرين ومحبي اعماله، وكنت اراقب دهشة المتلقي وهو يضيف هواجسه الى كائنات اللوحات الصغيرة، بينما احمد ينشغل برهانه الاساسي على اختراق الجنس الشكلي للوحة، انها مواجهة مع مخاطر قد لايدركها المتلقي، مخاطر جمالية تفرضها الحرية الغائبة التي يفترض ان تحمي الذات المجربة وتطور من ادائها بدل ان تفتح المجال على مرثيات بصرية فجائعية تمتلك الغاية وتدفع الى خرابها.

رحاب افقية ترى بمقدار ما تعلم، تضمر اكثر مما توصف، ومساحات منعمة بوعي غايتها، ولعل الظاهر المرح للملامح العامة لا يشكل الا انفتاحا على مضمون مأساوي يجعلنا نحس بثقل التجسيدات البشرية وهي تخطو باتجاه عذابها وهلاكها، فثمة ماهو  

مرعب في تكاتف الشخصيات وتجاورها واحاديثها بل لعل تكرار هذه المشهديات يؤكد على حقيقة القسوة التي ترسم هذه الشخصيات كما هي في واقعها وكما تتجلى عيوبها في زهو الحياة المتمثلة في خبرة الفنان وبلاغة صنعته اللونية وطراوة الحركة التي يمرر عبرها مفردات الافكار الجمالية التي تمتع الناظر وترويه بتميزها في الوقت الذي تجعله فيه ظامئا الى اكتمال المقولة البصرية، لهذا فان امرا ناقصا في كل عمل من هذه الاعمال يجعل المشاهد يطلب متابعة رؤية بقية الاعمال لتحقيق الرؤية النموذجية للظاهرة المطروحة، فكريا او تقنيا، ولنتذكر دائما الاحالات العديدة التي تقدمها هذه المشهديات الى التصوير الممسرح الذي يبقى امينا للتوترات الجسدية والضوئية.

اذن هل يمكن القول: ان اللوحة مأزق الفنان، شكلا او مضمونا، وهل هي المرئي الحلمي المتوالد من بعضه البعض عبر طاقة تجريبية تفصل مابين انواع الشكل من جهة، وانواع المضمون من جهة اخرى؟ اذ تشكل ارادة الفنان في الاختيار اساس الفصل مابين الحدس والعقل، ويعتمد هذا الاختيار لدى معلا المزيد من التوتر الروحي والنفسي، كونه يفيض دائما بما هو باطني ومجهول في التوجه نحو انتاج الاشكال الطبيعية او الفرضية وكأنه يعيد صياغة مقولة بيكاسو «في كل مرة ابدأ فيها برسم صورة، اشعر وكأني قد قمت بقذف نفسي في الفراغ. ولست اعرف ابداً هل اني سأقف على قدمي من جديد، ام لا».

بهذا التصور يمكن اعتبار خروج الفنان عن اشكاله وقياساته تطوراً باتجاه تطويع احاسيسه لبناء الصور المتلاشية في لاوعيه الذاتي، وهو بمماثلته الكفاءة المعقدة للواقع انما يلهب خبرته لتجاوز، هذا الواقع وبناء حوار لانهائي مع ذاته اولاً، ومع الخارج ثانياً لتحديد معالم شكل الصورة الطولانية التي تقدم تحليلاً لكيان الشكل الذي يعتمد على سلف منظوري يحمله الفنان خفايا جديدة، تجعل المشاهد مرتبطاً به دون ان يتلمس اسباب ذلك، اذ تشي صراحة الشكل (بكل اختزالاته التشخيصية) بجاذبية حسية وسحراً عاماً يقترب من حدود الشعر ونقاء الموسيقى وقد يكون مرجعه عدم الاكتمال او الاكتفاء فاللوحة كما اشرت لا تقدم صياغات نهائية على كافة المستويات الجمالية والتقنية وهي في ذات الوقت لا تدعو مستقبلها لايجاد مبررات البهجة التي يشعر بها رغم الدراما القاسية التي تعبر عنها وذلك عائد ـ ربما ـ لحجم الوجدانيات والعواطف الملونة التي توحي بها ذكريات الفنان عن الاماكن والاحداث والخبرات الانسانية العميقة، والتي يحولها الفن الى اثار اشارية تجسد ذاتاً تحترم تحققها ووجودها وتسعى عبر ينابيعها الخاصة لتأسيس افكار تصويرية تبرهن نزوع الفنان احمد معلا التحليلي والبنائي في آن معاً.

الحلم البدائي

تختلط في هذه الاعمال الاساطير بالاحلام والتهويمات بالواقع، والشعر بالابتكار والطفولة بالعقل، والباطن بالظاهر لتقدم مخزوناً يتراوح بين البهجة والفجائع. واذ يكتشف الفنان مفاتيح احلامه الاولى التي مازال يحلو له ان يبهرجها ويدفع بها لتكون جزءاً من حياته الفعلية، اي جزءاً من خرافته اليومية المولدة للاسباب التي تربط اعماله ببعضه وتجعل من تأليفاتها الشكلية خطاباً بصرياً توليدياً يعرف بتطور الصور لدى الفنان والتفاصيل الحيوية لمعنى الاشارات التي يشير اليها المعنى الواحد، الساكن في طريقة توجيه الحركة الارتجالية. ويمكن مقارنة هذه التفاصيل بالايماءات المنظورية التي تستغني عن البعد الثالث لتعميم ابتكار ينفي الواقع حقيقة، ويثبته مجازاً، وينسجم مع توتر اللاوعي في انتقاله من الخفاء الى العلن وهو يرسم دلالات شكلية اكثر مما يرسم اشكالا تحاول تمزيق اكفانها لتبلور حالات تحقق وجودها في العمل الفني.

لقد بقي خط الافق كفاصل بين الفضاء والزمن مؤثراً في الاحالة الافقية لشكل اللوحة الصغيرة التي يعيد صياغتها الفنان على هيئة ما عاشت بصيرته في البادية السورية او مقابل البحر الابيض المتوسط.. افقان يتحولان من الزمن الى مفهوم شكلي لم تستطع دواخل الفنان التهرب منها او الاستقلال عنهما رغم تنقلاته العديدة بحثاً عن كينونة شكلية للوحة او صياغة وجودية لمحيط او اطار او جسد هذه اللوحة التي ستغدو مدينة الايقونات، ليس من خلال ثبات المعنى الرمزي لتشخيصها وانما عبر التحويرات الخلاقة التي تشيد الحافز الحركي في هذه المساحات، والحق ان انتقال احمد الى دمشق فباريس واستقراره مرة اخرى في دمشق قد دعم استلهامه لهذا الافق مؤخراً لاستنفاذ الصفات المميزة له وحشوه بمواد يحضرها في مرسمه. وبما يخلق الايقاعات الاثارية التي تقدمها (الريلييفات الموتيفية) التي تشد انتباهنا الى مظاهرها البنائية حيث يتولد الفصل بين النحت والرسم وتهيمن سبل النظر الى العمل على نتائج الرؤية المباشرة له. وكان الفنان قد امضى طفولته الاولى على ساحل المتوسط وطفولته الثانية في البداية السورية (الرقة).

ان الافكار المتولدة من خشونة السطوح ونفورها عن المستوى العام للسطوح المستوية يعيد الى الاذهان العديد من علاقة التصوير بالنحت والحجم بالمساحة والكتلة بالوزن والخامة بمكان توضعها، كل ذلك لتوليد تعبيرات تعيد الى افضاء دينامية تقبله الروحي والاحساس بايقاع حركات الاشخاص في عبورها هذا الفضاء الافقي وتغير طريقة تلقي هذه الحركة بمجرد تغيير موقع رؤيتنا لها، واذ ترحل الجبال الى السهول لتشق رؤية جديدة في بصيرتنا فإن هذه الاعمال تواصل النمو والاستقلال خطوة خطوة لتمجيد علاقتنا بها باعتبارها اثاراً حية تنبض بالاثارة والوثوب والتخطي.

احتفاليات بصرية:

عندما مررت على اكثر من خمسين عملاً صغيراً بسرعة، شدني الامر كي اعيد هذا الفعل اكثر من مرة يومياً وعلى مدى ايام، وكأني اقوم بالتنقيب في موقع من المواقع الاثرية.. او كأني انتظر ان القى شيئاً غير الذي اراه بعيني ولأقل ان اطمئناناً عاماً كان يغلفني وانا افرد الاعمال الصغيرة ثم اجمعها.. افرقها في مجموعات ثم الغي هذا التأليف، وكأني امحق بسرعة ان يعني هذا التأليف ارتباطاً سرياً فيما بينها لنسبة اللون او الاشخاص او الحركة او المقياس، ولعل التراجع عن وضعها في اطار المجاميع عائد للكينونة، والحياة الخاصة التي تتمتع بها كل واحدة من الاعمال. مما يلقي الضوء على القيم التشكيلية الايجابية التي تنتقل بالموتيف من حالته التجريبية الى حالته التي يمكن ان تقاس على مفهوم العمل المكتمل تشكيلياً والذي يكتنز اسراره وخفاياه الابدية ويعيش ظروف اكتماله المعاصرة، اي الحالة التوليدية الابداعية، حقيقة التجدد في نهج الخيال والنزوع الدائم لفتح المجال للحوار مع الزمن.

امام هذا الحوار، نعترف بمجموعة من الاجابات المتولدة من اسئلة طموحة، اولها علاقة الماضي بالمستقبل وليس اخرها الحساسية الذاتية المتولدة من جملة التصفيات التي اعتدنا جلد فنوننا بها اقتداء بما يشير اليه النقد الغربي والذي ملخصه ان فنوننا لا تتحرك خارج كونية النظم الغربية المؤطرة للعمل الفني، ولعل هذا الامر من اشد الامور حساسية، في تلقي اعمال الفنان احمد معلا، اذ تشكل المقارنة والمشابهة منطلقاً للوصول الى نتائج تعسفية في اطلاقياتها خارج البحث الرئيسي في حقيقة وجود وتحقيق ممارسات منظورية لا تستند الى مرجعيتها الغربية قدر انتمائها الى المناظير النورانية الداخلية التي تدعم كونية الرغبة بانجاز نابع من خصوصية المكان والافكار والتاريخ، وهذا لا ينفي القول بأن تقاطعاً تقنياً يحصل في آليات انجاز العمل الفني بسبب التراكم التاريخي الذي يفسح المجال لمثل هذا التأثر، الا ان ذلك لا يتعدى البناء الخارجي، اي ما يشكل الحجاب الفاصل عن الحقيقة، اية حقيقة اذن تحاول ان تظهر في هذه الاعمال؟ وهل يحاول احمد ان يرى صورته في بنية التفاصيل والموجودات المتناهية؟

بالتأكيد تعكس هذه المجموعة من اللوحات الصغيرة احلاماً كبيرة عن الذات، يكثفها الفنان في الحركة والعجائن اللونية وباقي المواد التي تصهر تطلعاته في احاديث بصرية واجساد تتزين لمراياه الضميرية، فالسطوحالمستطيلة جداً تمحو مسافات واسعة من الفضاء العلوي، وتكاد تلتصق بالارض التي تحتل كامل الارتفاع، انها في مركز النظر، اي مركز الرغبة، وهي تقدم نفسها في اطار الحيوية الصاعقة لتكثيف الزمن الممتد من البداوة الى الحضارة ومن الظلمة الى النور ومن القبيلة الى المدينة، ولعل الجسد الذي يركز عليه معها في هذه الاعمال حامل زماني يبرز اللحظات الخصوصية التي تحترق برهة بعد اخرى لحكاية لغة هي اشمل من التجسيد الموسيقي لهذا الجسد بكل تمايلاته وانطواءاته ونبضاته التي تؤنس صمتنا وتحتوي مفاهيمنا الجمالية. اذ كل تمايل ظاهر انعكاس لتمايل لامرئي يتكامل واياه لبناء تواصل لا نهائي في سماع الرواية الموسيقية الشرقية التي لابد وشمت رحلة هذا الجسد من الحياة الى اللوحة.

انه الجسد مرتين، مرة حين يرسم واخرى حين يُرسم.. وفي كلتا الحالتين فانه يعني رفضاً للغياب والموت وحضورا للذاكرة التي تحترق لتؤسس صورها.

في كل المراحل التي عبرها الفنان يمكن الاشارة الى دور الذاكرة في بناء التصاقات حيوية بكل ما هو خارج عزلة العصر، اي الاستمرار في بناء التجمعات الانسانية المتوجهة التي تختص العلاقة مع المواسم والولادة والخصب كمنفذ روحاني ـ ربما ـ لما يحمله من رموز واساطير وعلاقات كونية تعيد للمناخ الداخلي استقراره الحضاري. وقد يكون لانتمائه المتوسطي كما اشرت علاقة بالوضوح الطقسي الذي يجعله يعتقد بكثير من الاحتفاليات البصرية كقوى ذاكراتية تعيد للجماعات والتجمعات حساسيتها الموقفية المنصهرة ببعضها دون الانتماء الى الملامح الفردية، وبهذا فإن توحداً واضحاً (الحركة واللون) بالطبيعة والقوى الابداعية العميقة لصياغة بالغة تتجاوز الملامس المرئية الى مستويات التذكر والانخراط في هذا التذكر الايجابي، الاحيائي، الذي

تنظمه الرؤيا والحرفة معاً.

عجائن الخلاص:

لم ينشر اي كتاب تحليلي عن الفنان احمد معلا، وما نشر حتى الان لا يتعدى التوثيق الاعتيادي لبعض المعارض الفردية التي اقامها او شارك بها، ولهذا لم يتطرق اي من النقاد الى الاوساط المختلفة التي تغلف تجربته، او تفسر ما يمكن ان تلعبه الاماكن والظروف في استقبال عمله الفني، باعتبارها وسيطاً ايضاحياً مؤثراً. ولا اود في هذا التقديم البسيط ان احاول ذلك، الا ان هذه التجربة المتوزعة بين مقولة الفن الكلية، وخصوصية التجربة المستقلة في تناول العمل الفني تفسح المجال واسعاً لتناول طروحات وافكار الفنان نظراً للدور التحريضي والانقلابي في آليات التأمل، وكل ما مكن الفنان من ايضاح طروحاته النظرية والاختبارية المثقفة للعين والذهن، لصياغة صورة وطنية وانسانية، تركت دلالاتها البصرية كقوة للفهم والتذوب والخلاص.

ما انظر اليه في هذه الاعمال المصغرة، يفصح لي عن عتاب، اطيافه محفورة في اطراف السنة الشعراء، وكل ما يشف عنه الضوء، وهو يلامس العناصر التي تصل العمل الفني بجمهوره ومتلقيه، لينفذ مباشرة الى تمثل واع للحالة التي ينتج الفنان عبرها تصوره عن الواقع والخيال معاً في اطار التحولات القسرية السريعة التي تبتر في اغلب الاحيان الرابط بين الوعي بالفن والعمل به، ولهذا فقد يجد بعض المبدعين انفسهم خارج تجاربهم للحظات ـ تطول او تقصر ـ ثم يعودون لتجديد وفق آلية التنفس الابداعي التي تتيح للقلب ان يحترق في حمم تفاصيل الحياة وهو يكشف عن موقع السر وسماكته ولونه وتأثيره، ولعل هذا ما حدا بأحمد ان يعيد صياغة المواد التي يرسم بها في اسلوب يقترب من تقديم المادة بمعايير تكونها البدائي، كون هذه المادة الوسيط الاساسي في تقديم الصورة لعقل واحاسيس المشاهد.

هذه العجائن، والمواد التوصيفية، محاولة تجسيدية ظاهرة لنفي الموت، والنأي بالصورة من حالتها المسطحة الملساء الى كيانها (الريلييفي) النافر، الذي يستودع فيه الفنان مالا يمكن حصره من طاقة الحياة، وتاريخها المحفور على عمارة الضمير. واذ يمزج الفنان هذه العجائن بمواد الطبيعة الاساسية، الهواء والماء والتراب والنار، فانه بينها على هيئة الطين وفق توازن مزجي يحاكي علاقة الحضارات القديمة بادواتها كوعي بدائي بالطين الذي يشكل الامتداد الطبيعي للانسان والذي يعيد احمد صياغته خارج شعائره النائسة بين الولادة والموت. فرائحة الموت تحت جلد الحركة التي لا تهدأ في الامتداد والتجمعي التشخيصي المتوالد في تشظي المساحة الى حمم اليفة من المشاعر، تستحيل عبر المهارة الروحية الى قوى يتكئ فيها القلب والتوتر على الارث التشكيلي البصري لنزع بشرة اللوحة بانبثاق كوامنها وتحويلها الى شحنة من الرغبات وفضاء من الرؤى.

بدأ احمد انجاز هذه المجموعة من الاعمال صيف العام 2001 في دمشق بعد عودته من رحلة قصيرة الى اسبانيا، وصادف ان عاد خلال انجاز الاعداد الاولى منها الى باريس بعد ما يزيد على اثنتي عشرة سنة لبضعة ايام، كما ان حديثاً عن رحلة على (طوف) فوق مياه نهر الفرات كان لا يفارقه وهو يرسم حتى ساعات الصباح بشكل يومي ودون توقف، وهذا ما حدا به لترك مهامه في بينالي المحبة الخامس على شاطئ المتوسط ليعود الى حواره البصري مع هذه المجموعة من الاعمال التي تتقلص فترة انجازها الى حدود الجسارة التي يبدلها الفنان في مراجعة طفولته التي لم تبلغ ذروتها بعد.

واعتقد ان ما انجزه حتى الان من هذه المجموعة، قد حقق له سلسلة من الاكتشافات المجازية، اتاحت له الاعتراف بقيمة التصوير الشعري، وحسنت علاقته باعماق اللوحة وكشف حجبها، مظهراً وجهة نظره الشرقية في احياء الجسد الانساني في اطار زماني متعدد المستويات والتناولات البصرية بعيداً عن الزمان الغربي المفرد الذي يقتضي مكاناً مفرداً.. هذه الاعمال تصوغ سيرة جديدة للحواس تمكن آليات التخاطب من بناء علاقات جديدة سيكون على الفنان تحديدها وربطها ببعضها في انجازاته القادمة.

 

الابداع يكشف أسرار الحياة

: طلال معلا

ترتكز اعمال بعض الفنانين المهتمين بمخالفة الموجود والظاهر الى افتراضات على علاقة مباشرة بالبيئة المحلية، معتمدة على الحكمة الفطرية في تناول الوجود الجمالي بكافة توتراته ونسبية تحققه في اطارهم النظري الشبيه بما انبثق في أكثر من مجتمع ابداعي او فني ودون التأكيد على اطلاقية التناول الذي يتضمن ظواهر فنية جرى التطرق اليها في امريكا واوروبا،

وانما عبر المقارنة النوعية التي تجعل من هؤلاء المتناولين مجموعة تجريبية يتولد عنها تبادل التجارب مع الطبيعة من طرف ومع الانسان من طرف آخر محاولة الاشارة الى ضوء جديد يحاول ان يرسخ الاسلوب التجريبي في الفنون المحلية، وهي حقيقة باتت ماثلة في إطار التصورات التي قدمتها مجموعة نعتبرها امتداداً للفنان حسن شريف الذي اتينا على رصد تجربته اكثر من مرة.

من الملاحظ ان المفاهيم التي رسخها حسن شريف بوضع فرضياته النظرية والعملية للخروج مما هو قبلي الى نمط من التفكير الجمالي يتضمن تصورات موازية للحقول التي عمل عليها فيما بعد حسين شريف ومحمد احمد ابراهيم وعبدالله السعدي ومحمد كاظم الذين شعروا بالحاجة الى قواعد جديدة تصف تصوراتهم للنطاق الجمالي الذي يحاولون تكريسه في الأسئلة العامة المعتمدة على ذات الحكمة الفطرية التي طرحها حسن شريف وبما يفعل قيمة الجذر البيئي ويوثق الجانب الروحي في بناء برهان غير منظور في الأفكار التي باتوا يعيدون تشكيلها بنظر فاحص يستند الى وجهات نظر تحولية تبقي في حسبانها ان «الانسان والعالم متآلفان»

وهذا ما قد لا يراه البعض في عجالة الرؤية لأعمال هؤلاء الفنانين الذين يكرسون وجهة نظر خاصة عن موضوعاتهم اكثر مما يحاولون تكريس اعمال فنية «جزئياً او كلياً»، فالمقصود في النهاية تكريس المفاهيم التي سعى اليها حسن شريف في موضوعاته،

ومحاولة بيان الاستبصارات الاخرى التي يمكن ان تجعل تعدد وجهات نظرهم سلوكاً ابداعياً لايجاد «ميثا» بيئية، تشكلها فرضيات لا تعتبر المكان الا حيزاً ضيقاً لتوليد الموضوعات والسلوكات البصرية التي لا تتجاوز ـ بأي حال ـ الجوهري في الفنون، اي كل ما يقارب الحقيقة، حقيقة الانسان في رحلته بين الآنية والديمومة وقيمة الغناء في تشكيل سرمدية اللغة الابداعية التي تعتبر صميم بحث هؤلاء الفنانين الذين تحاول تجاربهم ان تعتبر العالم من حولهم سلسلة متصلة من التعبيرات الجزئية.

لقد حاول محمد أحمد ابراهيم ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ ان يؤلف مجموعة من الكتل المنعزلة عن بعضها الا أنها لم تكن محايدة بالنسبة لبعضها البعض، وبغض النظر عن القيمة النحتية او ما تدل اليه بنية المادة المستخدمة، فان محمد احمد ابراهيم يعتمد موقفاً تجريبياً يعتمد في بنائه على العلاقة الظاهرة بين الطبيعة والانسان ليكشف عن حضور كل منهما في الآخر

وفي اطار من الجذب المتعمد بينهما، اي بين الطبيعة الفيزيائية لكل منهما وطبيعة القوة الحية المستبطنة فيهما، اذ يحقق كل طرف التبدلات اللازمة في توصيف المضمون وبناء الخبرات المنسجمة باعتبار الحياة صفة لازمة لهما، وباعتبار الحقيقة البصيرة التي عبرها يستنطق المبدع مادته للوصول الى أسباب يشير اليها الفن للكشف عن سر التوازن بين المرئي واللا مرئي، ومختلف حالات الوعي بالمتعين والغائب وفي ضوء العقائد التصورية التي تشكل خلفية تتشعب عنها نزعات المبدعين وجنوحهم عن الاستقرار والميل الى الاثارة والمغامرة لتغطية كافة جوانب الروح التواقة للتجريب واعادة التأسيس، فالتجريب لدى محمد احمد ابراهيم، هو ذاته لدى محمد كاظم،

انه تجريب نسبي لا يصل الى حدود اطلاقية بانتهاء العمل الفني وعرضه، واذا كانت تنويعات محمد كاظم على الزمن تتكامل مع تنويعات محمد احمد ابراهيم على المكان الا ان مفهوم هذا التكامل انما يكشف عن وحدة الصلة بالرمزي الكوني الذي لا يفسر الواقع قدر ما يحاول بناءه من جديد.

الزمن في اعمال كاظم بعد من ابعاد المكان في أعمال محمد احمد ابراهيم، وهذا التصور الجوهري لتكامل توجههما انما يؤكد اتصالهما بالذاكرة التي يعمل السعدي فيها للتأكيد على انها قوة جمالية جوهرية تقصد الحكمة في تجلياتها البشرية.. فأعمال السعدي تخاطب الماضي بقوة وهي تتناسب بموادها ومكوناتها والطاقة التي بذلها الانسان في انتقاله من زمان الى آخر، ولعل دراسة حصرية لأعماله تكشف عن انقطاع الناظر او المتأمل عن حاضره ليطالع الماضي باعتبار الذاكرة توازي الحدث المحمول على هيئة عمل فني «مختلف المواصفات» لرؤية احداث الحياة في تطورها، أي عبر الماضي الذي يمكن اعتباره ذاكرة الحياة.

وسواء القت خطوط السعدي وأشياؤه النور على حاضرنا اولا فإنها وبمختلف الابعاد تلقي الضوء على اسرار الإنسان التي تشملها الطاقة الكشفية للحكمة التي تتشكل على هيئة كتل وصناديق وبيوت وعلب فارغة تنطوي على قيم تبادلية مع الحياة شأن اعمال زملائه حيث ينسج الجميع جوهراً بصرياً يؤلف مرحلة من مراحل الوعي الجمالي في المحمل التشكيلي المحلي. لقد تطورت هذه الأعمال لتغدو ظاهرة دون ضجيج، وبتأمل ووصال مع ما يجري حولهم من نمو للمفاهيم التي تقود خطى الابداع في العالم.

ولن يتسنى لنا ان نلم بكافة أحوال هذه التجربة الا عبر القراءة المتأنية للمسيرة التي تطورت عبرها تجربتهم، فانغلاق هذه التجربة على الحكمة يبلغ مستوى آخر في أعمال حسين شريف الذي يستعرض خروج الانسان من الطبيعة الى العلم وبلوغ حقائق تطال حرية الكائن البشري في التعامل مع المادة الاستهلاكية التي كان ينبغي ان تكون اكثر التصاقاً بروح المادة والحكمة من ايجادها.

كون حسين شريف الاستهلاكي، عالم كمي اداتي مفصول عن طاقة اجتياز الحسي، ولهذا فنفاياته تعيد التركيز على التوازن المفقود بين الطبيعة والإنسان وهي تسعى بشيئيتها لطرح الفة مفقودة بين السطح وحقيقته، الكتلة والروح التي كان ينبغي ان تنطوي عليها، ومهما حاولت الرياضيات والعلوم في تنظيمها لسطوحه ان تجهد لاحضار الذات المكونة فان جدرانا من الوهم تصنع عزلة الذات عن حقيقتها الروحية.. انه الفصل بين العقل والمادة وتحدي النظام العام للكون.

اعمال هذه المجموعة، وبعجالة اقول، تبحث في حكمة تنطوي على سر الحياة، ومهما بلغت المواقف في ماديتها ومقارناتها فان هذه الاعمال تتضمن وعياً عميقاً متأصلاً في الذات المبدعة

تسعى لتحقيق التطوير في المفاهيم والاسس والمواد باعتبارها حصيلة خبرة نظرية وعملية تعيد للروح مكانتها في الابداع وتدعو لنبذ الفصل بين الكائن والطبيعة بل انها تدعو بقوة لإدراك حقيقة الكون وحكمة الانسجام معه.. «فالانسان تركيز للعالم الارضي في جسمه المادي، وتركيز للطاقة الكونية في جسمه الروحي».