TALAL MOUALLA Talal Moualla's CV Wrote about him Virtual exhibition About the exhibition Poetry Publications photo album Home page meeting arabic plastic arts international plastic arts
|
جاليرهات العرض تهرم واللوحة تهاجر الى مدن جديدة
الباحث الجمالي جيرارد كسير وجيرا: العولمة الفنية تسعى لتوحيد اساليب الفنون
مات في سن الرابعة والثمانين - سلفادور دالي عبقري مجنون لاحقه عقله الباطن
أسواق الضآلة الانسانية ، الذوبان في الشمولية الساخنة للعولمة
الثقافة الالكترونية خارج مرجعيات التشكيل
ترينالي كوبنهاجن للفنون التشكيلية ... المنفى مشاعر قلق وعزلة واغتراب
جماليات الإنسان المدمر: نفي الذات.. وتفكيك الرؤية
نقد النقد التشكيلي..العجز عن قراءة التاريخ
الهوية والذاكرة في التجربة التشكيلية الصينية
بينالي البندقية..مهرجان التغيير والخيبة
تاريخ الفن .. الروح اللغة الاختلاف
في التشكيل اليوناني المعاصر:الانسان يواجه مصيره التراجيدي
في الهوية والذاكرة والتشكيل
نيزا شيفينمون ... نحت الأصول
جاليرهات العرض تهرم واللوحة تهاجر الى مدن جديدة |
|
طلال معلا
هل تاه
الفن فأضاع طريقه، ام ان ما يجري اليوم في اصقاع العالم يكشف عن تغيير هائل في
المفردات القاموسية الحضارية، واعني هنا الثقافية والفنية.. وهذا ما تؤكده الاخبار
المتفرقة في وسائل الاعلام كاغلاق سبعين بالمئة من قاعات العرض الكبرى التي كانت
تضيء سماء التشكيل في باريس، بينما يسهم بعض ما تبقى من القاعات بالترويج لرواسب
الماضي، وتبقى قلة قليلة تعرض فنونا جيدة في ظل فقدان المتفرج النوعي الواعي.
بالتأكيد هناك اسباب موضوعية لهذا الكساد الفكري والبصري، ويمكن العودة به الى الازمات التي عانى منها فن التصوير منذ اللحظات التي اكد التصوير الفوتوغرافي حضوره العالمي كمتحد يعيد نسخ الواقع بدقة علمية عالية، وكذلك ما جرى عقب الحرب العالمية الثانية من تطوير لفن الملصق »البوستر« والتحديات التي اضافها فن الاعلان للوحة غير الواثقة بوجودها الجمالي وبالغاية التي وجدت لأجلها.
لقد وجدت اللوحة، ولا داعي لذكر مراحل وجودها، ولكنها اعتمدت في رحلة وجودها على تكوين مرجعيتها ومصادرها اضافة الى وسائل التعبير، وبتطور كلا القطبين تطورت اللوحة الى ما آلت اليه كإحدى وسائل التعبير الانسانية الثرية التي اختزنت ذاكرة بصرية اخاذة وتحولت الى وعاء معرفي انساني يحتوي الخلق والابداع بكل مراحله التي مر بها.
كما ان
التحديات الفلسفية التي واجهها التعبير الانساني في شموله منذ منتصف هذا القرن ادى
الى تغريب معرفي وفلسفي والى نشوء الفنون المفاهيمية وهذا ما دعمته ثورة 1968
الثقافية.. ونضيف الى ذلك انتقال المركز من اوروبا الى امريكا، وتحول هذا المركز
ادى الى تحول الذوق العام الذي نشأ بعيدا عن التطور الطبيعي لفنون الصورة.. وهكذا
بدأت الصالات الجديدة في امريكا تفرض فنونها وذوقها واختياراتها عبر الاقلام
والنقاد الذين اوجدتهم لهذه الغاية، وبات علينا التلقي فقط دون اي اعتبار لنوعية
الفنون الموجهة الينا.
ان التحديات التي واجهتها اللوحة بتطور تقنيات الصورة في مجالات الكمبيوتر والتلفزيون جعلت منها قالبا دون قلب ينبض مما ادى بنظارة اللوحة التقليدية ان يدفعوا بحماسهم الى المتاحف التي تحفظ الاعمال الابداعية كشاهد قضى نحبه ثم استقر في ظلال القاعات بعد ان كانت الحركات الثقافية في العالم تنبض بتجارب
الرسامين والفنانين، يغنون بمواقفهم النظريات الفكرية ويؤسسون لاتجاهات ومذاهب ومدارس في الفنون والوجود.
اكثر ما ألغى دور اللوحة في حياتنا المعاصرة هو هذا الفصل بين الفنان والجماعة.. وبعد ان كان الفنان وثيق الصلة بالجماعة وعاداتها وثقافتها يحاورها ويبني موقفه على اساس من الجدل معها، اضحى خروجه عنها يعني الغربة والالم..
لكن
هذا المفهوم لم يعد محققا بعد نشوء دور الفرد والتركيز عليه في عالم العولمة على
انه كائن يعبر عن حقيقته عبر فردانيته انه كون مصغر يجد حقيقته في الاسواق
الاستهلاكية الكبرى التي تحوي كافة احلامه معلبة وجاهزة، حيث كل شيء يتحدث عن نظامه
الخاص في الحياة المسلعة المرتبطة بجماليات التسويق والربح وقباحة الخسارة والكساد.
وليس الفصل بين الفرد والجماعة الا انعكاسا للفصل بين الانسان والطبيعة، فالانسان الذي تعامل معها على مدى تاريخه على مستوى الكتلة يتعامل معها الان ويتفاعل على مستوى الطاقة..
اي انه يتجاوز الشكل الى التركيب وهذا ما ادى الى علمنة الفن في احد اطرافه.. وبعد ان تعامل الانسان مع الطبيعة بناء على حساسيته وضمن الحدود، التي امنتها الرؤية الطبيعية له، سنرى ان هذه النظرة ستمتلئ بالقلق وهو يبدأ نظرة »ماكروسكوبية« للطبيعة، وستتغير معطيات الرؤية الذرية لموضوعات الفنون التشكيلية، وما نريد الاشارة اليه هنا ان المدلولات الجديدة للنشاط الحسي الانساني بدأت تأخذ وتائر جديدة على مستوى الذات والطبيعة والاخر.
ويجب ان نتذكر
ونحن نندب المتغيرات الحاصلة في الفنون ان علم الاثار لما قبل التاريخ كشف بأن
الانسان العاقل عند ظهوره قبل حوالي اربعين الف سنة نقش وحفر ونحت ورسم صورا
واشكالا معظمها من الحيوانات بدرجة مدهشة من الواقعية.
الباحث الجمالي جيرارد كسير وجيرا: العولمة الفنية تسعى لتوحيد اساليب الفنون |
طلال معلا
مناقشة الآخر، قد تعطي الاجابة المتممة، وقد تبقى في اطار المحاولة للخروج من اجابات اعتدنا عظاتها وتصورات مطلقيها، انما محاولة مستمرة للكشف عن اجزاء من تقنيات التفكير ليس إلا وقد تكون الجهود المتشظية لتحويل الحوار الى جزء من مشروع ثقافي تعريف بفعالية فهم العالم، وفهم الذات، والانتظام في موقع يكفل تحقيق الخبرة التي تجمع بين جدية السؤال ومشروعية الاجابة اذ يشكل كل منهما دفاعاً انسانياً عن معنى التطور والتنوع والاهتمام بالذاكرة والرغبة بالتكامل الثقافي والفكري اي الدعوة الى الامل عبر لغة الابداع التي مازالت مهامها محصورة في تلوين صورة الانسان وجعله اكثر توازناً في انتقاله بين حالات الرضى عما يبحث عنه والاستياء مما حققه، والالحاح الدائم على ان يكون حاضراً في اختياراته الابداعية ليس خارج العالم، بل في مركز تناقضاته وانقلاباته وتعارضاته.. انه مشروع الانسان للانعتاق من اوهامه والبقاء في اطار المسئوليات التي تدفعه يوماً بعد يوم للثقة بنفسه، وبتجربته وبرؤيته.
وتعزز الحوارات امكانية استعراض المعلومات ومحاولة النقد وابراز الرغبة بالحديث في مجال من مجالات الفنون بحثاً عن القيمة المعنوية او الجوهرية للابداع، ومازال الانسان مثيراً للاسئلة فإنه سيبقى طالباً لما يدهشه ولما يروي حاجته لايجاد الاجابات على قضاياه الاساسية في الوجود.
الباحث الفني والمعماري الفرنسي جيرارد كسيروجيرا منظر وناقد فني، كتب عشرات الكتب في مجالات الابداع الفني والمعماري المتنوعة، مراقب ومتابع للحركات التشكيلية في العالم، وخاصة ما يتعلق منها في آسيا والشرق الاوسط، وكل ما يطال هذه المحامل من متغيرات مقارنة بالتطورات المباشرة او غير المباشرة التي تجعل الصورة بشكل عام الايديولوجية الجديدة للتأثير في العالم.
ـ العالم الذي تزداد نزاعاته، يحمل ايضا مشاريع ابداعية وثقافية للخروج من حالته الكابحة للتقدم، والانشطة الفنية الكبرى، التظاهرات والمؤتمرات، البيانات الفنية وغيرها جزء من تخليص الانسان من ازماته، كيف تنظرون بشكل عام الى فعالية كالبينالي، وما هو وجه المقارنة بينها وبين باقي البيناليات الدولية التي تزورونها؟
ـ انها زيارتي الاولى لدولة الامارات، لكن وعلى مستوى العالم العربي فقد شاركت في مهرجان اصيلا في المغرب وبنيالي القاهرة الدولي، واعرف بينالي داكار الافريقي جيداً اذ شاركت فيه ثلاثة مرات، ويمكن ان احكم بالتطور على بينالي داكار الذي تأسس منذ عشر سنوات لاسباب تتعلق بالصرامة والقوة التي تمارسها لجنة فرز الاعمال والانتقاء، وقد تحدثت الى اعضاء هذه اللجنة وعلمت مثلا بأنها قد اختارت خمسة ملفات فقط من اصل ثلاثمئة ملف قدمت من السنغال، كان بينالياً مصغراً لكنه يتمتع بالجهد والتضحية ولذلك سيكون هناك رأي آخر غير راض بالتأكيد، وكل من يعمل في مثل هذه الفعاليات اعتاد على ذلك.
في القاهرة كانت العروض متفرقة وموزعة على اماكن متباعدة، على عكس مركزية العرض التي تمت في الشارقة، وهذا يساعد النظر على التمركز وعدم التشتت، اما نوعية العروض فكلا البيناليين، القاهرة والشارقة يهتمان بالعروض الغربية والعربية، كانت هناك مشاركات واسعة من اوروبا مثلاً وقد لاحظت الاهتمام العربي بانتقاء الاعمال المتميزة، وما يلفت النظر فعلاً في الامارات هو كثرة الاصدارات النظرية المرافقة للبينالي والتي تمنح الفعالية وجهة نظر، ومحاولة تفكيرية وتغييرية، انها ثروة النشاط التي تضاف الى ثورة التنوع وغنى الاهتمام بالتنظير.
قد لا نجد هذا في فعاليات دولية اخرى لاسباب اقتصادية، لكنها تساعد على تجاوز الكثير من معيقات الايصال التي تقوم بها الفعاليات الفنية، اما على صعيد النوع فإني اشير الى ان فعالية الشارقة مازالت تهتم بالتصوير اكثر من غيره.. ستبقى التناقضات والاختلافات التنظيمية قائمة بين مثل هذه الانشطة فلكل بينالي لونه، واصوله، وتوجهاته، ومشاركوه واختيارته العامة.
ـ قد تكون الفعاليات العامة دعوة للمبدعين لاعادة بناء روح المجتمع مثلا وابتكار انساق تخيلية او مرئية، هل يمكن الحديث عن خصائص محددة لبينالي الشارقة؟
ـ قلت ان الرسم او التصوير يطغى على آلية العرض وان زدنا فإنا نقول بأن تطبيقات هذا التوجه يشملها العرض ايضا بينما نتحدث اليوم كثيرا عن التكنولوجيا الجديدة كما نتحدث عن الصورة والعمل بالكمبيوتر، عن الصورة الرقمية، وهذا ما لم أره هنا وهو سؤال مشروع يطرح على مثل هذه التظاهرة الدولية رغم ان هذا البينالي يحاول التفرد بشيء آخر على صلة بالصورة، كذلك ليس هناك فوتوغراف او سيباكروم وقضايا تتعلق بالعروض الجسدية وهذا تلقى اهتماماً واسعاً.
لقد كرست الصورة ثقافتها ومهماتها وخاصة الفوتوغرافية، انها تدفع الى القسوة والعنف احياناً بسبب التطرف في العالم، اما في الفن التشكيلي فالقضية اشمل وهي على علاقة غير منطقية مع فن متخصص بمجتمع محدد، حين نحتاج الى الحنين سنرى تأثيرات الشوق والحنين وتأثيرات الشباب التائه في المجهول.. الصورة ثقافة تمنحنا تنوعاً ايحائياً.
في البيناليات او التجمعات الفنية نهتم الى جانب الصورة بصناع هذه الصورة قد لانجد اختلافات، والناقد يلاحظ مثلاً كثرة الاعمال التي تهتم بالوجه، او الجسد وهذا ما لم نعهده في بلدان الخليج العربي سابقا وهناك تطور كبير في التأثيرات التي تطال التعبير عن الطبيعة والوسائل التي ينجز عبرها العمل الفني «الخشب وغيره من المواد الطبيعية».
بالمقابل نجد اعمالاً كثيرة لا تهتم بتجسيد الاشياء كالخط والرمز والايحاء وما يمكن ان يكون نصف تجريدي، اي المنظر التجريدي، اضافة الى الاعمال التي مازالت تهتم بالفنون الهندسية، والتأسيسية وهي فنون تنفي علاقتها بالرمز او الحركة وتؤكد على الخيال الذي تديره الوسائل الطبيعية.. لقد لمست غيابا للفنون الذهنية او المفاهيمية وحضور خجول للصورة ولفن النحت، وقد يكون السبب بالنسبة للنحت صعوبات النقل.. لكن السؤال الاشمل من كل ذلك هو: هل لهذه الصور باختلافها معنى لعالم اليوم؟
واستطيع الاجابة بالايجاب بكل تأكيد كونها تعكس حياة الاجيال الانسانية والفترات المتلاحقة التي عبرتها فنون الانسان، انهم المبدعون الذين يتواجدون في هذا البينالي او في اي مكان آخر.
ـ نتفق معكم بالتأكيد حول كثير مما تشيرون اليه، لكن الامر مازال مثار جدل ونقاش حول الانتقالات المفاجئة والقسرية من عالم الواقع الى عالم الافتراض وكل ما لحق البصر وعلاقته بالمدركات البصرية المادية ومختلف المؤثرات التي كانت تبني الصورة، ما هي تحفظاتكم تجاه هذا التحول؟
ـ عندما نتحدث عن الصورة فذلك على علاقة بنظافة البصر، ومهما كان الأمر في قبول التغير او رفضه، فهناك انسان يقود الجهاز، ووراء الكمبيوتر احساس انساني يعبر عن تحققه، وهذه الخبرة هي التي تقبل او ترفض، يظهر ذلك جلياً في عالم الاحساس بالمادة، او باللون، او بالشكل على عكس ما نجده في الجانب الاملس للصورة، وسيبقى التحكم بالصورة بطبيعة الحال، نحن لا نأبه بالاحداث كوننا نهتم بالخلق الفني وهذا يشير الى ان هناك مقاسات مختلفة لابداع الصورة سواء اهتمت بالانسان او بالمادة، او بالمؤثرات.. بالبيئة.. الخضرة، الماء.. الخ، انما مادة المبدع، والشباب اليوم يقوم بذلك وبشكل تقليدي ايضا رغم ان كبسة زر تبدع الصورة، نحن نخشى من الافراط في استخدام هذه السهولة لانها ستنتج صورة ميكانيكية.
ـ في اطار هذا التخوف، هل تعتقد ان الجنوب يمكن ان يكون منقذا للفن مرة اخرى على غرار ما حدث في القرنين الماضيين؟
ـ هذا ما يحدث شيئا فشيئا اليوم، وعبر جولاتي في العالم اطلع باستمرار على ثقافات هي محط بحثي ودراستي للامكانيات التجديدية التي تكمن فيها، انه البحث المستمر في الحوار الشامل بين الشمال والجنوب، بين البلدان المتطورة ثقافيا وتلك الاقل تطورا لاسباب سياسية واقتصادية او عقائدية.. الهوة تضيق يوما بعد يوم لان البحث قائم في مختلف الجهات، لقد ذهبنا للاطلاع على تجارب فنانين يعيشون في بلدان كنيوزيلاندا الجديدة، زيمبابوي وغيرها وهناك على هذا المنوال مبدعين في العالم العربي ينتجون ويحققون ذواتهم كما لاحظناه ان هناك عديدا من العرب الفنانين الذين اوجدوا لهم مكانا مميزا حتى في الغرب وحققوا نجاحات، المهم هو القدرة على تصوير الفن، ولهذا فاني ارى ان على الحكومات ان تساعد فنانيها على الانتاج وفرض وجودهم في العواصم الاجنبية، فليس هناك فرق بين الفنون الانسانية اي لا يمكن ان نقول بفن راق وفن متواضع، هناك فن بصفة عامة والفنان اما ان يكون جيدا او لا يكون.
في أمريكا اللاتينية كانت الدعوة في فنونهم شديدة الارتباط بالتحرر الاجتماعي وتلمس الحداثة والتأكيد على الهوية الذاتية، هل هذا ما دعا تاريخ الفن للاهتمام بتلك الفنون في القرن الماضي، أم ان هناك تأويلات أخرى؟
ـ فن امريكا اللاتينية بقي مدة طويلة منغلقا على نفسه، ربما بسبب البعد عن المركز، او لنقص وسائل الاتصال والاعلام على عكس ما يجري اليوم حيث يمكن عبر الانترنت الاتصال بأي نقطة في العالم، بل والتواصل مع أي شخص، وقد حققت التطورات الاعلامية معرفة عدد اشمل من الفنانين كانوا فيما سبق مجهولين بالنسبة للمهتمين بتأريخ وتوثيق الفنون.
تجار الفن اهتموا بامريكا اللاتينية وشكل اهتمامهم ظاهرة فيما بعد دخولهم فنزويلا والارجنتين وكولومبيا، تشيلي والمكسيك والبيرو اننا نتذكر البلدان الكبيرة، كما يجب ان نذكر ان عددا كبيرا من المبدعين هناك توجهوا الى باريس للدراسة وقد كانت مركز العالم الفني، نذكر منهم سوتو، اوكروزيناسي بنزويلا ونيركريت وفيا مستاج، كابا بيرو من كولومبيا وسنروخو من المكسيك، كوهو لويس، كويفس او كوسمان من البيرو.
كل هؤلاء وما يمكن ان نضيفه اليهم كمارثا كولوفين من التشيلي جاءوا الى العواصم الاوروبية لتعلم الفن.. انهم جيل الشباب الذي حقق وجوده فيما بعد وحقق الى جانب ذلك ايجاد سوق اللاتينو امريكي في نيويورك، انها بورصة الفن وهذا ما ساعد في اندماج الفنانين اللايتنو امريكيين في الفضاء العالمي للفنون.. انها ظاهرة طبيعية ان نرى فنانين ذوي مقدرة ينشئون مراسم لهم في نيويورك وباريس ومدريد وفي ذات الوقت. اما المبدعين الذين لا يملكون الامكانيات فانهم يقومون بتبادل الفنون بين الدول، هذا يساعد على توحيد وجهات النظر او الانخراط فيما يدعى اليوم العولمة الفنية وهي فكرة سائدة حاليا تسعى لتوحيد اساليب الفنون الحاقا بالتطور السريع لوسائل الاتصال والاعلام وبالتعاون مع بعض الجهات الحكومية، هذا ينطبق ايضا على الظاهرة التي سألتني عنها في امريكا اللاتينية.. وبما ان البحث لايزال جاريا عن المبدع اينما كان فاني اظن ان في الخليج العربي فنانين يمكنهم ركوب قطار التطور الخاص بفنون اليوم، وبينالي الشارقة بات يقدم ويعرف بفنانين يمكنهم الخروج الى العالم.
ـ بورصة نيويورك الفنية كانت نتيجة تمركز الفنون في امريكا بعد سقوط امبراطورية الفن في اوروبا، وموت بيكاسو، انتم لكم تحفظاتكم حول انتقال
المركز؟
ـ المشكلة معقدة، توازيا مع ما حدث في الولايات المتحدة والعودة الى فن اوروبا القديم، اضحت امريكا المركز المالي للفن منذ الستينيات، واخذوا اهميتهم لانهم القادرين على تسعير الفن او تسليعه، رغم ذلك فالفن في باقي المناطق لم يتوقف عن التطور، بل ان المبدعين خارج امريكا كانوا اكثر اهمية، وهنا لابد من التذكير بأن امريكا لم تقدم اية حركة فنية وحركة فن الحدث ما هي الا امتداد للفن التجريدي بفرنسا وما عدا فنون اللاواقع وفن «اتس» ما نشاهده لا يعدو ان يكون من مشتقات الفن المؤسس، الامريكان حقا لم يقدموا جديدا برغم فكرهم، كذلك في الازياء والموضة، هناك حركات انتقال ذهاب واياب، الحقيقة ان ردود الفعل كثيرة، واغلب الناس مازالت تهوى مشاهدة التصوير وهم يمارسون الرسم وهذا ما يودون شراءه.
ـ اذن مازال سؤال الهوية مطروحا على الابداع؟
ـ لا احد يمكنه نفي انه قد اتى من مكان ما، دائما اقول ان في نهاية ساقي توجد قدمي، وهما مرتبطتان بالارض، الهوية شيء مهم جدا، ورغم ان الفن اليوم عالمي الا انني لا استطيع تفريق فن خاص بالعرب واخر خاص بأوروبا او بأمريكا اللاتينية، كون وسائل الاتصال والاعلام ستذهب بنا جميعا الى ما يدعى عولمة الفن.. مع ذلك انا ادعوا دائما للتمسك بخصوصية كل فن من الفنون وانتماء هذا الفن.
مات في سن الرابعة والثمانين - سلفادور دالي عبقري مجنون لاحقه عقله الباطن |
تناحر مع جماعة السورياليين فأبعدته من صفوفها عامل المنتجات الصناعية باحتقار وشوه الآلات كان يتصرف دائما بما لا يرضي الآخرين
اعداد ــ طلال معلا: في العام 1989 توفي الفنان السوريالي سلفادور دالي عن عمر ناهز 84 عاما، وقد استحق كل الأوصاف التي أطلقت عليه كالعبقري المجنون الهذياني بنتيجة الأفكار والتصرفات والسلوكيات التي ميزت حياته الفنية والنظرية، وخاصة أثناء اقامته في الولايات المتحدة الأمريكية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، حيث كانت صرعاته الاعلانية تحتل مركزا مرموقا في الصحافة مما جعل اسمه معروفا لدى الملايين من الأمريكيين، وكان قد رسم في بداية العقد الأربعيني لوحات عديدة لشخصيات مهمة وثرية ومشهورة، ولدت علاقته الوطيدة بمنتج الأفلام السينمائية جاك وارنر الذي رسم دالي صورة شخصية له تطلبت خمس سنوات من العمل المتواصل عليها، وقد احتوت أفلام هيتشكوك بعض المشاهد الحلمية التي صممها دالي لكنه لم يتمكن من انتاج الفيلم السينمائي الخاص به الذي كتب السيناريو له بعنوان »نقالة اللحم« وكان قد صمم ديكورات مسرحية وصمم ملابس لقطع بالية كما حاول الدخول إلى ميدان تصميم المجوهرات وألف أكثر من ثلاثين كتابا وصمم أزياء لعدة دور أزياء مشهورة وشارك في مؤتمرات ثقافية عديدة شملت مدنا أمريكية وأوروبية. ونتيجة لهذا النشاط الدائم بدأت جماعة السورياليين تبخيس قدر دالي الفني باطلاق تسمية »حجب الدولارات« عليه وكانت جماعة السورياليين قد استقرت في نيويورك في تلك الفترة، وازداد الاهتمام الاعلامي بها، فخصص رئيس تحرير مجلة »VIEW« شارلز هنري فورد سلسلة من أعداد مجلته للتحدث عن السوريالية »فيو« والسورياليين، وقد أصدر الفنانون السورياليون فيما بعد في العام 1942 مجلتهم التي حملت عنوان »777« التي ساعدت في ابراز تأثيرهم على الحياة الثقافية في البلاد. ونتيجة التناحر فيما بين جماعة السورياليين وسلفادور دالي أبعد دالي من صفوف الجماعة فاستمر كفنان سوريالي منحرف تماما كما ذكر في مذكراته وانطلق غازيا السوق الدينية واتخذت الأشكال الفضائية التي تكشف عنها أوراق كرنب والصوفية النووية المحتواة في قرن وحيد القرن أهمية عظيمة في أعماله الجديدة، وفي هذه الفترة نرى دالي مترددا على مستوى القصد من أعماله كما على مستوى الأسلوب ، إذ أوجد الرباط بين فرويد والكثلكة الرومانية حقيقة جديدة تستند جزئيا على اعادة بناء الماضي وعلى الفظاظة التي يولدها العقل الباطني ، ولهذا نلاحظ حدوث تغييرات واضحة في أسلوبه كميله للرومانسية في تعامله مع الألوان أو تلطيف الأشكال التي كانت في السابق محددة بوضوح أكبر. وابتداء من العام 1950 بدأ دالي يعمل على نشر صوفيته الأمر الذي جعله يجتاز سلسلة من المراحل المختلفة والخضوع لتأثيرات فنية متعددة فمارس تأثيرا على اللاإرادية في التعبير التجريدي، وما مارسه في انجاز رسوم لكتاب سرفانتس »دون كيشوت« مما تولده كرات مملوءه بالحبر تقذف على كليشية معدة للطباعة، هذا الأسلوب أعطى بعدا حيزيا جديدا للوصفة »صيد سمك التونة« أو »صعود القديسة سيسل« وغيرها من الأعمال الضخمة الموزعة في أنحاء العالم، وخلال هذه المرحلة أطلق سلفادور دالي نظرية جديدة هي »نظرية دالي الفضائية« التي أكد فيها انها ستنفذ فن الرسم الحديث.
صعود السورياليين لقد كان دالي فنان الاشكالية بامتياز في مسيرته ضمن جماعته السوريالية وخاصة في العام 1934، حيث أقيم أول معرض مهم للفنانين السورياليين خارج فرنسا التي احتضنتهم، وكان ذلك في الولايات المتحدة، وتزامنا مع هذا المعرض أقيم معرض للوحات دالي في برشلونة، وآخر في بروكسل، وكان هذا العام زمن الخير للجماعة السوريالية فبدأت معارضهم بالانتشار في العالم كما اقيمت مواقع ثابتة لعرض أعمالهم في كوبنهاجن وبراغ وطوكيو وهولندا وتشكلت في هذه الدول جمعيات للفنانين السورياليين المحليين. وقد أقيم في العام 1936 معرض ضخم نظمه رولاند بنروز في لنذن بالتعاون مع جماعات الفنانين السورياليين الفرنسيين والبلجيكيين عرض فيه لوحات ورسوم وملصقات وتماثيل ومؤلفات أدبية وأعمال فنية افريقية ورسوم أطفال وقد عرض دالي اثنتي عشرة لوحة في هذا المعرض. خلال افتتاح هذا المعرض كانت امرأة ترتدي زيا طويلا أبيض تتنزه عبر أروقة المعرض ووجهها مغطى بالكامل بورود وضعت عليها حشرات حية، وتحمل في احدى يديها نموذجا لساق آدمية، وفي الأخرى قطعة من لحم البقر النيء، وافتتح المعرض ملهم السورياليين »اندريه بريتون« الذي ارتدى سترة وسروالا بلون أخضر ويضع في فمه غليونا أخضر اللون وصبغت زوجته شعرها باللون الأخضر، أما سلفادور دالي فقد ظهر مرتديا لباس الغطاسين وعندما سأله أحدهم عن عمق غطسته أجاب بأنها تصل حدود اللاوعي.. اللاوعي الذي جعله فيما بعد يرسم اللوحة التي مثلت انتصار خياله »cannibalisme d`automne« التي يبدو فيها رجل يقوم باذابة نفسه لتنتشر المادة المذابة على طاولة صغيرة قريبة ويحمل بيده سكينا وشوكة ليأكل جسده المذاب وكان قد رسمها في العام 1937، وسنجد ان هذا الوعي مكنه بعد انقضاء سنتين من اللقاء مع سيجموند فرون بواسطة الأديب ستيفان زويج حيث قال فرويد »لم أر في حياتي نموذجا لاسباني أعظم كمالا من دالي«. لقد عامل دالي المنتجات الصناعية والآلية باحتقار شديد ومتوحش فعبر عن ذلك في لوحاته ، وقد شوه الآلات بأقصى درجة ممكنة فالسيارات التي تظهر في أعماله انما هي في أوضاع لا تساعد على تشغيلها، ولهذا قال دالي: »الآلات محكوم عليها بالكسر والصدأ والعقول الميكانيكية مثل التلفزيون تقتل خيال وروح الانسان«. وما بين العامين 1937 و 1939 زار دالي ايطاليا ثلاث مرات وكانت روما الكاثوليكية قد دمرها التجديد الحديث الذي أمر موسليني به، وتعددت زياراته للمواقع والأماكن لتحقيق مشاريعه بحثا عن الايحاء ، كما فعل في زياته لمدينة أما لفي لانجاز مشروع باليه واجنر أو زيارته لمونت كارلو لانجاز لوحته »لغز هتلر« وهكذا نرى ان شهرته سبقته إلى الولايات المتحدة حين زارها في العام 1939 بسبب رسومه الني نشرها في مجلة أمريكا ويكلي عن مناظر مدينة نيويورك، ومن ثم الأعمال المتنوعة التي قام بها في المدينة فيما بعد كتزيين الواجهات وهكذا كانت أعماله الصلفة تدفع به دائما إلى سدة الشهرة وخاصة موقفه من الحكم الفرانكوي في اسبانيا الذي دفع جماعات السورياليين لنبذه واهماله بقرار جماعي منهم. وهنا قرر دالي ان يصبح رئيس الحركة السوريالية العالمية. ولم تستطع الحرب الثانية ان تخفف من حدة التوتر بينه وبين معارضيه الذين رحل أغلبهم ذاك الوقت إلى الولايات المتحدة في حين كان دالي يوطد علاقته بالتقاليد الفنية الإيطالية، فقد بدأ كتابة مذكراته وتعمق في دراساته الجمالية واعاد توثيق ارتباطه بما أسماه أفلاطون الرقم الذهبي وبدأ تطبيق ذلك على أعماله منقادا لتوجيهات ضميره في محاولة للاقتراب من المثالية الافلاطونية، ولهذا فقد اهتم من جديد بدراسة فنون عصر النهضة والهندسة والرياضيات وعلوم التشريح، وهكذا بنى لوحته »ليديا« و »العشاء السري« المحفوظة الآن في المتحف الوطني للفنون بواشنطن، وقد كتب في مذكراته انه رسم هذه اللوحة انطلاقا من الرقم 12 اشارة فلكية ، 12 تلميذا حول المسيح، وقد عنت هذه اللوحة لدالي التكامل والتركيب ونشأة الكون والايمان.
تلميذ نموذجي لقد كان دالي يتصرف دائما بما لا يرضي الآخرين لقناعته الذاتية بأهمية ما يفكر به وضآلة ما يقتنع به الآخرون، ولهذا فإنه ومنذ اللحظات الأولى لدخوله الاكاديمية حاول ان يفعل ما يريد وهو يخطو خطواته الأولى حين تقدم للامتحان في اكاديمية الفنون الجميلة حين قرر اهمال شروط الامتحان المستوحى من موضوع كلاسيكي وفق مقاييس وقواعد محددة ودقيقة، ومع ذلك فقد وافقت اللجنة على قبوله تلميذا في الاكاديمية، فكان مثال التلميذ النموذجي المتابع والمهتم بزيارة متحف برادو، حيث كان يمضي الساعات الطويلة مسمرا أمام لوحات المشاهير، وعندما كان يعود إلى الاكاديمية كان يرسم رسوما تكعيبية للمواضيع التي شاهدها في تلك اللوحات، إلا انه اختلف في ذاك الوقت مع سيد الفن التكعيبي خوان جريس. كانت مرحلة الدراسة في الاكاديمية من المراحل القلقة التي عبرها سلفادور دالي بمشقة جراء خيبة الأمل التي أصابته من الاكاديمية التي أحس أنها لن تفيده بشيء، وفي تلك الفترة اكتشف الشاب دالي العالم النفساني »فرويد« من خلال كتابه »تفسير الأحلام« فتأثر كثيرا بما أورده فرويد فانطلق يفسر أقل عمل يقوم به على هذا الأساس، في هذا الوقت لم يغب عن بال الفنان التطور الفني والأدبي في أوروبا، وخاصة المذهب الدادي في الفنون والآداب الساخر من كل القيم المعترف بها. بعد انقضاء مدة ابعاده عن الدراسة في أكاديمية الفنون في مدريد عاد إليها كثائر غير محترم، ثم بعد ذلك درس المستقبلية الايطالية وبالأخص المحاولات المستقبلية في تمثيل أشياء متحركة، وفي العام 1924 اهتم بالمدرسة الميتافيزيقية وبمبادئها التي وضعها »شيريكو وكارلوكارا« فظهر تأثير شيريكو بوضوح على مستوى لوحاته في استخدام البادرة الحسية للرسم المنظوري، ثم أيد ما كان يفعله »بيكاسو« في توجهه لايجاد بنيات كلاسيكية وأساليب تكعيبية تمكنه من ضمان بقاء ما تبقى لتنظيم فوضى روحه وهكذا زار دالي بيكاسو في باريس عام 1927 وقال له باحترام شديد »لقد جئت خصيصا إلى باريس لمقابلتك قبل ان أزور متحف اللوفر« وخلال زيارة بيكاسو لبرشلونة فيما بعد زار بيكاسو معرضا للوحات دالي وعندما عاد إلى باريس تحدث بيكاسو عن دالي بحماس إلى وكيل أعماله والمشرف على بيع لوحاته. مع ذلك لم يستجب دالي لوكيل الأعمال بل فضل زيارة باريس مباشرة حين استقبله الفنان الاسباني خوان ميرو في عام 1928 وساعده على التعرف على المجتمع الباريسي وسهل زيارته لتريستيان تزارا الدادي القديم، وأهم تجار اللوحات في باريس وأهم الشعراء والمخرجين أمثال بول ايلوار وبونويل الذي أشرك دالي معه في فيلم »العصر الذهبي« المليء بمشاهد العنف والثورة. أثرت باريس على الفنان الملتهب، ورغم النجاحات المتلاحقة فإنه كان يسعى لأكثر مما يحصل عليه، فابتعد عن أصدقائه وأضحى يمضي الأوقات في المقهى زائغ العينين وشعر بأن الجنون بات قريبا منه، فقرر الهرب والعودة إلى اسبانيا، وفي كاداكويز عادت إليه تخيلات الطفولة ورؤاها الغريبة، فكانت أول لوحة سوريالية يرسمها في حياته وسماها (leJeu lugubre) وقال عنها في مذكراته: »كنت متأكدا بأني الرسام السوريالي الحقيقي والوحيد وعلى الأقل استنادا إلى المفهوم الذي وضعه اندريه بروتون منشئ السوريالية للفن السوريالي«. ذهب دالي بعيدا في ملاحقة ايحاءات عقله الباطن لدرجة انه وضع أمام سريره مرسما عليه لوحته غير المكتملة لتشحذ أحلامه ويوجهها نحو تطوره الفكري.. ثم كتب: »في يوم من الأيام سيضطر الناس إلى الاعتراف بصورة رسمية بأن ما يعتبرونه حقيقة وواقعا ملموساً ليس سوى وهم أكثر خيالا من عالم الأحلام«. نفذ سلفادور بين العام 1933 ــ 1936 بعض الأعمال الأدبية و ساهم في تحرير مجلتي (دفاتر الفن، مينوتور) واستوحى موضع مقالاته من مختلف المصادر وبدأ يميل إلى تصوير التشوهات العظمية في جسم الانسان وبالأخص في رأسه معطيا بذلك اشكالا مشوهة مثيرة للاشمئزاز، وكتب فيما بعد مجموعة قصصه (وجوه مستترة) وانجز رسوما لكتب وكتّاب منها »خمسون سرا في فن السحر« والكوميديا الإلهية لدانتي وكتب »مانيفستور الصوفية« وفي العام 1954 نشر كتاب (شارب دالي) بالتعاون مع فيليب هايسمان وكتاب (دالي يتحدث عن الفن الحديث) ثم في العام 1961 أعاد نشر كتابه (الحياة السرية لسلفادور دالي) وفي العام 1964 منحته الحكومة الاسبانية أحد أرفع الأوسمة الاسبانية تقديرا لجهوده من أجل اسبانيا وتثمينا لأعماله الفنية ثم نشر كتاب (يوميات عبقري) وفي العام 1973 افتتح في مسقط رأسه متحف دالي بمبادرة منه ثم في عام 1982 منحته الحكومة الاسبانية لقب مركيز دي بوبول وفي هذه السنة توفيت زوجته (جالا) .. انه العبقري المولود في 11 مايو عام 1904 في فيجويراس في مقاطعة كتالونيا الاسبانية.
»إذا كنت تقوم بدور العبقري فسوف تصبح عبقريا في يوم من الأيام« »عندما كان عمري ثلاث سنوات أردت ان أصبح طاهيا وعندما بلغت سن السادسة أردت ان أصبح نابليون بونابرت.. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف طموحي عن الازدياد والنمو«.
أسواق الضآلة الانسانية ، الذوبان في الشمولية الساخنة للعولمة |
طلال معلا
كلمة مطر, او برق, او رعد.. كلمة كهف, او بيت او حتى ناطحة سحاب, كلمات طمأنينة, وسكينة, ودفء.. وكلمات اخرى كثيرة, بات تردادها مثيرا للسخرية في عالم اليوم.. عالم الثورات المتوازية والمتقاطعة, الشفافة منها والقاتمة, التي لا تعبأ بالسحر او الرقي او الاشباح او القوى المجهولة..
وكلمة ثورة في عمقها لا تعني الا الصراع, او هي افضل تجلياته
الايديولوجية. لقد باتت الارض بمجملها البيت الذي يلجأ اليه الانسان, بعد ان ولى
عصر الصراع على النار او الكهف او النبتة, وضاعت المجموعات البشرية في فوضى النفي,
وفوضى اللاحدود, والامكنة مترامية الاطراف, حيث لا جغرافيا تحد خيال الانسان, (فمن
ثقافة العظام الى ثقافة الفضاء) ومن ثقافة المسمار الى ثقافة الالكترونيات الدقيقة,
ومن السماء باتساعها الى شاشات الارقام والحواسيب متعددة الجنسيات, والجميع يدفع
ثمن المكان الجديد الذي سيختارونه في هذا العالم الجديد جدا, المكان الافتراضي الذي
سيقنعنا جميعا ـ على هذا الكوكب ـ بأننا لا نملك حدودا, لا نفسية ولا روحية.. لا
وطنية ولا قومية, وستتآكل مقولات التاريخ حين سنكتشف عاجلا فقدان الأنا في كافة
ابعادها الانسانية الوجودية, كونها (التاريخ والهوية, والتحقق الحضاري, والذات
العربية, والاسلامية) , والاسباب الداعية لهذا الفقد اكثر من ان تحصى او تحصر في
اتجاه واحد, فالانسانية التي عاشت على خبرات بعضها البعض سواء بالولاية او بالتحاور
او التجاور او الوصاية او الانتداب او الاستعمار او الاغتصاب او التبادل ـ وهذه
العبارة لا تقتضي المعنى السياسي وحسب ـ وهذه الانسانية مدعوة بحكم وجودها للتجانس
في الزمان والمكان كحال فنونها او آدابها او علومها لاثبات قدرتها على الاستمرار
ولتجديد جاذبيتها وتمركز هذه الجاذبية حول القيم التي سيطرحها التبدل الحاصل بفعل
علاقته بالواقع المعيش, المتأثر بالتطورات الحاصلة في مناحي العلوم وسيطرة النظريات
الجديدة التي يجهلها العالم الجديد المدعو للتغيير.
اختزال الاصوات لم يحتج الغذاء الى وصفات سحرية كي تؤمنه
البشرية, وهي التي لم تستفد ـ حتى اليوم ـ الا من واحد بالمئة من مساحة الارض
للاستثمار الغذائي, الارض التي توفر الحقول الشاسعة لنمو الآلاف من الانواع
النباتية والحيوانية التي اسهمت في تطوير النظريات الغذائية, فمن مقولة من اليد الى
الفم, الى الامن الاقتصادي, الى عصر التسليع في ظلال التسليح, بقيت اليد تحتل
موقعها في الحوار الانساني سواء الايجابي منه او السلبي, فاليد التي كانت تقبض على
السيف هي التي خطت بالتقنيات التي اختزنتها الفلسفة والعلوم الاولى واعادت صياغة
الاصوات في اشكال متناهية الاختزال ساعدت الانسانية على صياغة تاريخها فكانت
الابجدية الاولى والرسم الاول وكل ما انطلق في رحلة الخبرة والتجربة بدءا من الكهوف
ومحاولة قراءة الرمزية التي تكرر اكتشافها في الشمال والجنوب, الشرق والغرب وكل ما
سيقودنا الى فطرة الانسان الاول الذي عالج موضوعاته بنفس السوية من الذكاء, الانسان
المرتحل الذي سيهتدي فيما بعد الى المركز وينشئ المركزية كمفهوم شامل هو ذاته الذي
سيتمركز من اجل بناء الثقافة التي بدأت بكتابة الانسان لتاريخه ورسمه ونحته, بأدوات
اخترعها, وطورها, وتبادلها مع المراكز المجاورة ليعلن (عصر المدينة والفروق الطبقية
والحقوق والواجبات) المدنية التي تميزت بالصروح المعمارية فائقة الدقة والخالدة على
مر الازمان, والتي (شكلها الانسان ليأنس فيها الى ما سرقه من الآلهة) .. او الخوارق
التي دجنها كالنار, اخت الشمس (رفيقة الانسان في رحلته المعرفية على امتداد حياته
التي يمضيها تحت سقف بيته, او مشغله, او معبده) الذي ميزه الفنان, واعتنى به ايما
اعتناء, فزخرفه ووشاه ولونه ونحته وانتحى به بعيدا عن ماديات الدنيا وقشورها
وزوائلها ليصفي الوجدان الانساني وينحو به باتجاه قداسة المبادئ والقيم التي حفزت
الفنان على تجاوز آنية الزمان ومظاهر العمل الفني للارتقاء الى الابدي غير المحدود
معتمدا على فطنته ومعلوماته وتقاليده واعرافه ومشاعره واحاسيسه وتجاربه, وهو
(يستعين بجسمه, وعلى الاخص بيده التي هي الاداة الدربة او العصية لانجازه) ..
والفنان الذي يعتمد على الفكري والبصري واليدوي انما يحاول اقامة التوازن النهائي
لموقعه التاريخي والجغرافي والمعرفي وباحثا عن مصادر الاشياء والاشكال والرموز
كالمصدر التجريدي الذي يستنبط منه الاشكال والمصدر الواقعي الذي انشأه بمراقبة
الطبيعة ومصادفاتها ومحتوياتها المختلفة من حيوان (المصدر التمثيلي) والمصدر
الحسي الناشئ من الاحتياجات المهنية والنفعية. ويرى رينيه هويج من المجمع العلمي
الفرنسي بأن (اليدوي والبصري والفكري في تبدل مستمر, فاليدوي يتطور مع تطور الاحوال
العملية, والبصري مع تغير المظهر الذي تحدثه الاجيال المتعاقبة على اطار الحياة,
بيد ان الفكري هو الاكثر تجددا في سير دائم هو سير الانسانية. ذلك ان الذي لا يفتر
يتعدل هو الرأي الذي يبنيه الناس عن الواقع والتفسيرات التي يعطونها له. ومن هنا
فكل شيء يكون مترابطا في عهد معين, وقد لا يدرك المرء لأول وهلة الصلة بين العالم
الذي يستنبط قوانين والفيلسوف الذي يضع نظريات والكاتب الذي يعرب عن انفعالاته
وخواطره والفنان الذي يبدع صورا او انغاماً, على ان جميعهم في اللغة الخاصة لكل حسب
نهجه, يعبرون عن نظرة زمانهم الى الواقع.. ففن حقبة معينة يوافق فلسفتها وآدابها
وعلمها, كما يوافق حالتها الاجتماعية والاقتصادية. ليس هذا وحسب بل ان اية محاولة
لفهم فن من الفنون تقتضي التعرف على نشأة الانسان, حيث حكاية الفن هي حكاية
الانسان, والتعرف على المعمار مثلا يقتضي دراسة ظروف نشأة الانسان ومدى احتياجه
لتطوير افكاره في انتقاله من الكهف الى الكوخ المصنوع من اشجار الغابة ثم المسكن
الذي اهله للوقوف على اعتاب الحضارة, وارتباط هذه المراحل بالقنص في الحالة الاولى
وبالرعي في الحالة الثانية والزراعة في الحالة الثالثة.
انتقال الافكار لابد من التنويه بأن العديد من الفترات الثقافية اتخذت اسماءها من انماط الزخارف الفخارية التي ابدعها الفنانون.. ومع تذكر الوقائع الاولى لاسلافنا نتذكر ما كنت قد بدأته من حديث عن المطر والطمأنينة, واللحظات الحرجة التي جعلت الفنانين ينتقلون في التاريخ والجغرافيا, الزمان والمكان ويتغيرون بتغير المجتمعات ويتطورون بتطور الحضارات منذ اللحظة التي امسك بها الانسان قطعة الصوان ونحت منها تمثالا الى اللحظة التي يمكن فيها ان نحضر كل معارض العالم على الانترنت, والقاسم المشترك هو اننا مازلنا حتى اليوم نجهل الدافع الذي حدا بالانسان الاول كي ينحت تمثاله مهما بالغت الفلسفة في اعطاء التبريرات للاجابة عن مثل هذا السؤال البسيط وكذلك الدافع الذي يذهب بالناس اليوم لاكتساب الخبرات المكثفة المؤدية لاستنباط القيم الجمالية.. الحجر الاساسي في صنع الحضارات. اني اذ اتذكر الوقائع الاولى لأسلافنا اتذكر اللحظات الحرجة التي تجعل الفنانين ـ مثلا ـ ينتقلون من مكان الى اخر, ولكل فنان اسبابه الخاصة التي لا تشبه غيرها, ولكنها تجتمع على قضايا ثابتة مثل ما اشار اليه فرانسيس جوردان في كتابه (دروس في الحماقة) حول مجموعة اللوحات التي حصلت على الجوائز الرسمية في فرنسا في الربع الاخير من القرن التاسع عشر, وألحق بالكتاب قائمة بأسماء الفنانين الذين عاشوا في الفترة نفسها ولم يحصلوا على جوائز ولم تعترف بهم الدوائر الرسمية, وتضم القائمة اسماء (دييجا, سيسلي, بيسارو, ماتيس, روو, دوفي, سيزان, مونيه, رنوار, روسو جوجان, لوتريك, بونار) والواقع ان هذه الاسماء هي التي عاشت وعاش فنها من بعدها, في حين ان (مجموعة لوحات المصورين الاكاديميين الذين ـ حظوا بالجوائز ـ لا تعدو ان تكون اكداسا من الادعاء المتغطرس والتفاهة المتعجرفة, والرياء المتخم) على حد تعبير الدكتور عز الدين اسماعيل. الرسام ينتقل في المكان كي ينتقل بأفكاره, ولهذا فإن التساؤل يكون جادا حين نتساءل عما جعل بيكاسو يهجر اسبانيا الى باريس, ويجعل جوجان يهيم في تاهيتي ورامبو في عدن, ومحمد عمر خليل في امريكا, ومروان قصاب باشي في المانيا, الهولندي في فنرسا, والفرنسي في مصر والمصري في ايطاليا, والايطالي في امريكا.. ما الذي يدفع بالفنانين لتبادل مواقعهم وتنويعها, وفي اي اطار حضاري ومعرفي قاموا بانتاج ما ساعد على تشكيل صورة واضحة لعصرهم, فمنحوه من الخصوصية ما زاد من التأثير بالمذاهب والاتجاهات التي تلتها, لنسدل الستار الحديدي على صرعاتها, وصراعات الفلسفة التي سادت معها لننفتح مرة اخرى على عصر جديد مازلنا نعيش ارهاصاته الاولى, ليعيد الى الاذهان عصر الاسطورة.
اسطورة العولمة: العالم كله صحراء.. او يتمنى ان يكون كذلك, غربة تأكل اهلها, والارقام هي نحن المجردون من قيمنا, المتشيئون في اسواق الضآلة الانسانية.. هل هذا ما ذكره اندريه مالرو (ان كل ما هو داخل الانسان يتطلع الى ابادة الانسان) . العالم كله صحراء, وما يحف باقصاده (حرب تفرض غاياتها على عصر الحضارات والثقافات والتقنيات والاتصالات. وبعد ان حلت الكتب المقدسة وكتب التاريخ والآداب والمعاجم مكان ميثولوجيا الشعوب القديمة), يعود التاريخ ليفرض ميثولوجيا جديدة, ليست غايتها تفسير العالم, والعلاقة الانسانية الحيوية بموجوداته, بل هي ميثولوجيا لفرض (الطوفان السلعي الجديد) الذي يحيل كل شيء الى (قيم جديدة) وحيل جديدة ومحاكمات جديدة تمحي فيها ادوار تعارفت الانسانية على وجودها. اسطورة التصحر, اسطورة الالكترون, اسطورة الصورة, اسطورة الارقام والاعلان والاتصال والانتقال وقتل المسافات وبروز مواهب اختراق الحدود وصياغة الذات الفردية في مواجهة (الفلسفات التي تحولت الى ارث جامد, وتراث يمكن النظر اليه بحياء).. وقد يكون سؤالنا عن انفسنا وعن ثقافتنا وفنوننا مثار جدال في اطار هذه الغيبة التي تفرضها ظروف عدم وضوح (النظرية العولمية) المطروحة بالرغم من الاحاديث والمؤتمرات والابحاث والكتابات التي شغلت وتشغل بال المثقف العربي, واختلاف الرؤى حولها كحال الاختلاف على كل شيء, رسميا وشعبيا وفرديا, فقد اختلفت آراؤنا حول الحداثة وما بعدها, واعتقد انه لم يطرح شيء على بساط البحث الا واختلفنا فيه الى ثلاثة اتجاهات: الاول مؤيد والثاني معارض والثالث توفيقي يدمج ويلغي. وهذا (الانشطار الثقافي) مميز اساس لهويتنا الحضارية بدءا من الموقف من قضايا (التثاقف) وخوض غمارها, الى الرهانات على (التغريب) والموقف من التراث, ودور اللغة في بناء الانسان معرفيا ومجتمعيا ومدنيا وتنظيم الحياة الثقافية والاجتماعية. واعتقد اي بإشارتي الى اللغة انما اعيد ما علمه (دي سوسير) (بأنها منظومة من العلامات, ليس بينها وبين ما ترمز اليه علاقة طبيعية, بل علاقة اصطلاحية) اذ تتغير العلاقات الاصطلاحية كليا بفعل المصطلحات الجديدة التي تفرضها القيم المتغيرة في ظلال (العولمة) وكان الفن محض نسخ للاشياء لحسر بعده الجمالي, ويدقق (ستراوس) هذا التحديد المكاني في (فكره البري) فيقرر (ان الفن يقع, من هذا المنظور, في منتصف المسافة بين المعرفة العلمية والفكر الاسطوري او السحري) . والفن هو الذي يؤمن عملية مرور الفرد من الطبيعة الى الثقافة. على ان ما يهدد الهوية في العولمة هو ما نعلمه عن قوامها, ومؤداها, وهي تعبر عن مظان الفرد وتذيبه في الجماعات في محاولة لاعادة هيكلة الجماعة, وهذا ما يغيب عن ايديولوجيا العولمة الجديدة التي اساسها الفردية, وفقدان الخصوصية, والهوية الوطنية, والقومية, والذوبان في (الشمولية الساخنة) خارج الوظيفة الاجتماعية. والبروز عبر (الوهم) الذي يحيي البعد الامتلاكي لدى الانسان وتضخيم ذاته التي لن تتآلف مع الذوات الاخرى, فتغيب التجمعات والجماعات والاتجاهات والنزعات ليبرز (الفنان المتوحد) اذ لن نشهد ما شهدناه حين تحرك التيار الانطباعي, ليرفض البعد الاكاديمي الضغاط بكلكله على الفن الكلاسيكي, والقاضي بضرورة احترام النماذج عند مباشرة مواضيع العمل الفني. وضد هذه الاكاديمية راحت الانطباعية تلهث وراء الموضوع (النيىء والفج) .. ومع ذلك, فإن هذا الموضوع النيء, ظل موضوعا للتمثيل والتشخيص والتملك, ليس في اعمال ما اعترف عليه من رواد المذهب الانطباعي بل وامتداد في التاريخ حيث يمكن الملاحظة (على جدران كهف بيش ـ ميريل, وبجانب بقع حمراء, توضع اخيلة وطيوف اشتراطية تنتهي بحدها الاقصى الى مجموعة من الحيوانات, يمكن التعرف على حيوان الماموث, وفوق البقع الحمراء يمتد رسم طيفي, يفسره الكثير من الاختصاصيين كرسم (انطباعي) مقلد للثور, صدر قوي ممتد الى الاسفل, الى مخروط يغطي رأسا منكسا, ونحن في هذه الحالة امام ثور جاهز للهجوم) .
الجوهر الجديد ابعد من رأي يان ايلينيك الاخير الوارد في كتابه الفن عند الانسان البدائي يمكن ان نقف على النماذج المتكررة او الرموز والعلاقات التي تحولت فيما بعد الى مفاهيم اولية شكلت جوهر الانطلاقات الفنية في العصور المختلفة, حيث (يشكل اختزال التعبير درجة غير منظورة في العلاقة مع الشكل الاصلي المستقل) والمنتمي الى حدود سحيقة العلاقة مع الاشكال المميزة لاطراف ما ندعوه الهوية او مميزاتها الفنية لحضارة من الحضارات او شعب من الشعوب, والتي تتكرر بايقاع يقود للتأكيد على تفصيلات تولدها انطباعات التلقي لهذه الاشكال وفق امزجة الشعوب واستعدادها الثقافي, ولعل ما اشرنا اليه مما يمكن ان يهدد الهوية يمر عبر نزع الترابط الايقاعي فيما بين المكونات الجمالية لهذه الاشكال والذي يدفع الى الغاء كل ما يفسر الترابط بين المشاهد ومراحل الوصول الى التقنيات النهائية لانجاز مثل هذه الاصول التعبيرية. ولعل ما يشكل هدفا لقطع الصلة مع التطور التاريخي للفن, هو دفع الجهات المنتمية لابداع هذا النوع من الفنون او ذاك باتجاه الانحطاط, ومن ثم احتواء تلك الجهات تحت شعارات العصر وفنون العالم الواحد التي تدعي فيما تدعيه, خلق الانسجام فيما بين الاصل والمفهوم, لبناء مصطلح مشترك, يفرض نفسه على العلاقات فيما بين الانسان والطبيعة, يكون نبض هذه العلاقة, وايقاعها الشمولي الذي يرتقي بالشكل الى مراحل التعبير عن الجوهر الجديد, مفاهيم العولمة والرغبة باعلاء صوتها الخشن على حالات التوازن التي حققتها الحضارات الانسانية في تقلباتها العاصفة باتجاه تحويل الانتاج الفني الى سبيل تفكير ومعرفة حيث تكون طرق التعبير او التفكير مستنبطة من الجوهر الاجتماعي, اي (ما راكمته الأجيال من خبرة تقرر مسبقا اشكال حياة وفعل من يعيشون الان). والذين يشكلون هدف الفكر العولمي الساعي لتقويض قوى النشاط الذاتي للمجتمعات البشرية ودفع طاقتها الجمالية بكل ما اختزنته على مدى الازمان للخروج من مساحة وعيها وتوترها الذاتي وحقول خيالها الى يباب التشرد خارج حركة الواقع الى ما يوصف بالواقع الارفع او الاسمى او المطلق, الذي تمتلكه علوم المستقبل وليس حركة الحياة.. علوم المستقبل المهندسة الاساس لمجتمع المعلومات العولمي.
الصورة الموترة عالمنا متوتر الى الصورة التي تجعل خطابه الفلسفي غائب برمته في حضور النزاعات السياسية على الاسواق, وتسليعه للثقافة, وتحويلها الى صناعات ثقافية تخضع للمعايير الجديدة التي تفرضها التناولات السياسية, من مثل وصف النظام الاعلامي بأنه نظام للانتاج الصناعي, (وقد بدأ عدد كبير من الباحثين من جنسيات مختلفة اعادة النظر في الافكار النقدية التي وضعها اصلا في عام 1947 هو ركيمر وادورنو, حول الانتاج الصناعي للسلع الثقافية, ثم تعميقها بواسطة التحاليل المنهجية, واكد هؤلاء المفكرون الذين ينتمون الى مدرسة فرانكفورت ان الثقافة (الجماهيرية) في القرن العشرين تنتج في ظروف مشابهة لظروف مصانع فورد للسيارات, والانتاج الثقافي الذي يتم توزيعه بكميات كبيرة وبمواصفات قياسية ويكون متجانسا, لا يتأثر وحده بهذه الظروف الصناعية في الانتاج والتسويق, وانما عملية الابداع الثقافي نفسها يطرأ عليها تغيير عميق وتتأثر بمنطق الربح, وعندما حلل الباحثون المعاصرون العلاقات بين الظروف الاقتصادية وانتاج الاشكال الثقافية, اكدوا على النقل الحاسم للمنطق الرأسمالي والفعلية التقنية في نظام تصنيع وانتشار المنتجات الثقافية التي يتم تداولها بواسطة وسائل الاعلام التقليدية وبواسطة المخترعات التكنولوجية الجديدة في مجال الاعلام والاتصال او بواسطة بعض الصناعات المرتبطة بها مثل الاعلام والسياحة, (انظر ثورة الاتصال ـ فيليب بروثون ـ سيرج برو ـ دار المستقبل 1993). ان المتحولات الثقافية التي اشرنا اليها, تكون خاضعة لسياسيات ونظريات تحركها هيئات او مؤسسات مكلفة اساسا للتحضير لهذه الانقلابات الاساسية في البنية البشرية, عن طريق احداث طفرات في ماهية الانسان (كنظرية الانسان الجديد الموضوعة من قبل توربرت وايز 1942 مؤسس علم الاتصال والتحكم ـ السيبرنتيكا), هذه النظرية التي يتبعها شرح (الايديولوجية الجديدة) للاتصال, وصولا الى (المجتمع الاتصالي).. وبذلك فإن الاجهزة ستركز على مجتمع دون اخر, ضمن التعريفات المؤسسة للحلول العولمية المقبلة, فمن مجتمع الاتصال, الى مجتمع المعلومات, الى المجتمع الاعلامي, الى المجتمع المعولم الذي سيعصف بالتركيبات مجتمعة لصالح خصوصية المركزية المتسلطة, وبناء المجتمع الاستهلاكي, عبر اجهزة (التسوق التفاعلي) ليضحي العالم منساقا تحت سطوة التقنية, وخاضعا للمتعهدين متعددي الجنسيات وكبار العملاء الاقتصاديين الذين لن يمكن محاورتهم الا عبر اجهزة الاتصال (اي من خلال قيم مختلفة تفرضها العلاقة الجديدة, او الحوار الجديد فيما بيننا وبين الآلة الحديثة) . وطالما ان هذه الآلة متمركزة في الغرب, فإن الحديث عن المركزية الغربية سيبقى عنوانا رئيسيا في العلاقة بين الشمال والجنوب. وقد أدت البحوث ومراكزها ومفكروها ـ في الغرب ـ الى توليد مجموعة هائلة من المصطلحات التي لا يمكن اعتبارها الا نتاجا طبيعيا للنظرة الغربية التفوقية في انتاج المعوقات الاساسية لوعي الاخر, سواء في قراءة ذاته, او هويته, او تكوينه الثقافي والروحي.. وبالتالي فإن هذه المفهومات النقدية والاصطلاحية تسلب من غير الغربي كينونته الانسانية, وخصوصية فعله التاريخي والحضاري.
الاكتشاف الابداعي يذكر شكري عياد في كتابه المذاهب الادبية والنقدية مختصرا صريحا لأزمة الحداثيين العرب في جوهرها, وهو ما يمكن ان يتمم التوجه الغربي لتفكيك بنى الاخر المعتمد اساسا على تجاربه.. ان الحداثي الغربي له حضوران يحرص عليهما قدر استطاعته: حضور في مجتمع الغربي, وحضور امام مراكز الثقافة الغربية. وحضوره في الثقافة العربية واضح: فهو يحارب التخلف والجمود في النظم والمؤسسات, كما يحطم التقاليد اللغوية والفنية. ولكن حضوره في الثقافة الغربية غير بارز ولا مميز, لأن هذه الثقافة تمر منذ فترة غير قصيرة بعصر من التجريب في كل ميادين الفكر والفن.. فالحداثي العربي في محيطه العربي يقف ضد الجمود والتخلف, وفي حضوره الغربي يقف ضد الثقافة التجارية الرأسمالية.. الخطر في بيئته العربية.. يأتيه من كونه غير مفهوم في حين ان الخطر عند انداده الغربيين يأتيه من اغراء الانحدار الى السوقي, ويظل الحداثي الغربي عندهم وعند قرائهم غير مفهوم ايضا, لأنه يحطم قيودا لا يشعرون بها, ويهاجم محرمات لم تعد عندهم بمحرمات. هذه الاشارة تؤكد ازدواجية الموقف الثقافي بين الولاء والانعتاق للمركزية الغربية, وقد كانت الحداثة الغربية مرتبطة الى ابعد الحدود بهذه المفاهيم, مع النهوض الاستعماري الغربي, وفرض قيم المجتمع الصناعي على الشعوب الاخرى بالقوة, تحقيقا لمفاهيم نشر الذات الغربية ذاك الوقت, بدعوى الحداثة المتمثلة في تحقيق الحلم الغربي بالانتشار, عبر (الثقافة والعلم والقوة) لفرض اوروبا كموجه للحضارة الانسانية التي تولد القيم والمعايير والنظريات. فنرى الى اي مدى تم ربط الحركات الابداعية بها, وكذلك النظرات الفلسفية والتحليلية, وسيكون تاريخ الفن ـ مثلا ـ شاهدا اساسيا على هذا الربط, متمثلا منذ البداية في رحلات الفنانين الى الشرق, وتأكيد ان نظرتهم تقع في حدود (الاكتشاف الابداعي) المتساوق مع (الاكتشاف الجغرافي) الذي ادعته الاساطيل والجيوش والغزوات التي توجهت الى جنوب وشرق المتوسط, وهذا ما تم فعلا منذ توجه ديلاكروا وكلي وجوستاف كليمت وماتين وبيكاسو.. وكافة الفنانين في تلك البلدان للاطلاع على خصائصنا حين رافقوا رحلات الغزاة, او حين قاموا بذلك لأهداف معرفية خالصة, ليقدم الجميع صورة سياحية للشرق تفرغه من محتواه الروحي, وتقدمه كطبق مبهر للمتلقي الغربي القابع في تلافيف الغريزة المادية, وروائحها المنطلقة من التصور القاصر لحكايات ألف ليلة وليلة, التي تضيء (مجتمعات خام) لا تعدو كونها ادوات لإبراز المركزية الغربية كمؤسس للحضارة الانسانية بتجاهل الحضارات الاخرى (العربية والاسلامية والكونفوشية والفرعونية والفينيقية.. وغيرها) وتدعم الحضارة الغربية (الرومانية واليونانية) كأسس لقراءة التاريخ, بالاعتماد على منتجاتها وفنونها وفلسفتها, ولبناء ركائز جديدة لعلوم الاستشراق التي احدثتها المركزية الغربية لتغيير حقائق الدلالة والبنية, عبر نظرة استراتيجية متكاملة, وضعها الغرب, وحققها في فترة من الفترات دون ان يعبأ بتجربة او خصوصية, او مفاهيم وقيم الآخر.. اي اخر.
استلاب الواقع ان الواقع التشكيلي في شرق آسيا واليابان ـ اليوم ـ سيكون مثالا واضحا للاستلاب الواقع على العمل الفني في تلك البلدان, بدءا من طريقة انشاء الصالة المعنية بعرض الاعمال الفنية, وانتهاء باساليب واتجاهات الانتاج الابداعي العام, الذي يبدي تبعية واضحة تفرضها العلاقة الاستلابية فيما بين المركزية الغربية وفلسفة المجتمعات الاخرى في صياغة ذاتها, بما يحدد هويتها وسبل ممارستها لفعالياتها العامة. ويتم ذلك في اطار المجتمع الاستهلاكي المعولم الذي يحدد قيمه ومنتجاته. (وقد استكمل هذا النظام بنيانه عبر تطويره لعلوم تطمح الى احتواء الازمنة الاجتماعية والتاريخية في طيات ما بناه من مذاهب فكرية مختلفة تقدم نفسها اسسا مرجعية لأية محاولة تستهدف النظر في سنن هذا النظام وسياقات تشكله, وطرق اشتغاله المختلفة. واذا كانت هذه العلوم تطرح نفسها اداة كاشفة لأغوار هذا النظام وما يختزنه من عناصر مستترة, وتيارات دالة على معالم توازنه وتطويره ونقاط اختلاله وازماته, فإن هذه العلوم لا تخرج عن كونها انظمة معرفية مشدودة الى رحى النظام الاكثر ثباتا وديمومة, فهي في جهدها الدؤوب لالتقاط سنين وايقاعات المادة المتكسرة, تبقى عينا يقظة, ترهف السمع والنظر في تعيين ورصد التقلبات, والمساهمة في اعادة ضبطها بما يتناسب مع الاسس العامة الناظمة لمسار التحولات والتغييرات الحادثة) . (الاخر في منظور الفكر العربي الحديث ـ د. حسن الضيقة ـ ص 130). فالنظرة المتفوقة الى ابداعاتنا لا تخرج عن كونها نظرة مبنية على مجموعة الافكار المسبقة التي قسمت العالم الى قسمين غير متكافئين, قسم ناظم للحضارة وقسم مستهلك لها, الاول يتمثل بالمجتمع الغربي الحديث والثاني بباقي المجتمعات الانسانية الجامدة, التي من المفترض ان تكون معطلة الامكانات منشغلة عن شئون الابداع التي تطور الواقع وترسم خطواته الى المستقبل. وما يهم في هذا المقام تحويل المجتمعات الاخرى الى مجتمعات استهلاكية, ومن وجهة نظرهم فإن (انشغال المرء بالفنون والاداب وشئون الفكر, يؤدي حتما الى تقليل استهلاكه من الخدمات والسلع, فالانسان الذي تتركز اهتماماته على احتياجاته العقلية والروحية سيكون سعيدا ان هو خلا بنفسه في داره يقرأ او يفكر او يستمع الى الموسيقى او يمارس هواية, اما من لا تشغل ذهنه اهتمامات عقلية او فنية فعادة ما يصاب بملل قاتل ان هو لزم داره, ولا تفلح افكاره في صرف الملل عنه, فيلجأ عندئذ من اجل الترفيه عن نفسه الى شراء سلع يحسب انها تعوضه عن فقره الروحي.. مثل هذا الشخص هو المستهلك الامثل وهو الهدف الذي يستهدفه ارباب الصناعة والتجارة وتخاطبه اعلاناتهم وهو الخليق بالرعاية والتشجيع والجدير بالثناء) . (جريدة الحياة ـ العدد 1315 ـ حسن احمد امين).. بينما يبقى المثقف عرضة للسخرية, وهدفا للازدراء يجب تعطيل قواه الحيوية, والتطويرية, والانفعالية.. الم يقل سقراط هذه العبارة اثناء تجواله في السوق (الا ما اكثر الاشياء التي لا اريدها) .
الثقافة الالكترونية خارج مرجعيات التشكيل |
طلال معلا
لم يقصد (مانيه) احضار الصورة الى مقدمة تفكيره حين رسم لوحته (غداء على العشب), الا ان الصورة بموقعها المفهومي باتت واضحة في نفي لوحته للوحة (حفل في قرية), ليس على صعيد الشكل وانما في عمق الهدف التصويري الغربي وهذا ما جعل احالته المجازية تجابه برفض عام ورد فعل بسبب ما تشتمل عليه من نفي لمفهوم (الأمثولة الاغريقية) واستبدالها بـ (الثيمة) وحسب, ويرى جيل دولوز في كتابه (الصورة ــ الحركة) ان مانيه (لم يتردد في تضمين لوحته عناصر من الحاضر, وبالتالي نزع الطابع الاسطوري عن كل من الثيمة وعن خطاطاتها, وهو بصنيعه هذا انما كان يهدف الى نفي الماضي وبعث نظام مستحدث).
الانزياح عن الممكن
يعقب على هذا النفي الباحث محمد بن حمودة في كتابه قضايا الاستيطيقيا: (بيّن إذن أن ما يصدم في لوحة مانيه هو رغبتها في الانزياح عن كل صيغ الممكن, والتطلع الى حضور حسي يمثل ضمنه الحاضر الصرف خاصة وخميرة وجود مكتنز ومشبع وذلك بشكل يحرره من كل أصناف الارتهان: الارتهان بالزمن, الارتهان بالمرئية, والارتهان ـ خاصة ــ بالخيال. على النقيض من ذلك, ما يبهر في لوحات (مانيه), وكما لاحظ ذلك (جايتن بيك) بصوابية هو اشتمالها على (ضرب من الحضور الصرف للصورة).
هذا الحضور للصورة هو التعبير الابداعي عن الثورة العلمية الحديثة. وهي الثورة التي عبر عنها (دولوز) بأوجز قول وأبلغه حين قال: (لقد قامت الثورة العلمية الحديثة على ارجاع الحركة ليس الى لحظات بارزة أو مفصلة, بل الى أي لحظة من اللحظات... وإذا كانت عديد الدراسات قد أكدت على دور (مانيه) في التمهيد لنشأة السينما فذلك لأنه الأول الذي حاول العبور من التصوير بحصر المعنى الى التصوير الآني, وبالتوازي, في وقت كان فيه العلم الحديث لا ينفك يحل التعاقب الميكانيكي لكل اللحظات محل النظام الديالكتيكي للصور والأوضاع).
شعائرية المستقبل
إن الاشارة الى العلاقة متحولة الصلة بين التصوير كفن مكاني والزمن لابد وأن تحيل الى المزيد من الاكتشافات والاستنتاجات المتعلقة بماهية كل منهما, باعتبار المكان حيز التفكير الصوري التقليدي الذي يحتوي على الرؤية التشكيلية, سواء في التصور الانساني الأولي لهذا المكان أو ما تعاقب فيما بعد على تفعيله لتشييد الأفكار والاتجاهات والمذاهب بدءاً بالرسوم الاحتياجية الأولى على أجزاء الطبيعة ومكوناتها وأغوارها وحتى الفنون المفهومية والانتقائية والتقليلية والتلفيقية التي اسست لمعالم التشتت المكاني في مفهوم اللوحة المسندية للانطلاق نحو عالم أكثر غرابة
وتفوقاً يؤدي الغاية من الانتقالات السريعة في عالم المرئيات التي تؤكد تفوق الزمن في استلام زمام المبادرة في العلاقة مع الفنون المكانية المختلفة في محاولة واضحة وصريحة لنفي مبادىء النظريات الجمالية التقليدية والتنويرية والنقدية والطعن في مصداقية استمرار المنهج الجمالي مقارنة بالواقع الافتراضي الجديد الذي يزيح كل شيء ليعلو زمن الوهم على محاور المستقبل ولتتراجع الايديولوجية التي رسمت علاقة الفن بالمتعة والمنفعة والمجتمع والسلطة والمتحف والصالة لتذوب في المعادلات العلمية ومنافي الحواسيب التي تؤسس لإعادة بناء الاسطورة الالكترونية على أساس زمني حي ومتحرك بعجائنه الافتراضية التي تفتح الجدل على شعائرية المستقبل مع الألفية الثالثة.
لم تكن
الأمور بحجم المفاجأة التي يتحدث عنها بعض الباحثين فيما يخص الحواسيب وعلاقتها
ببناء عالم الاتصال الجديد, فإحدى النقاط التطبيعية البارزة للكلام عن الاتصال في
المجال التقني (هي بدون شك مشروعات ادخال الآلية في مجال اتخاذ القرار, وكان
البرهان القائل بأن أهمية الآلات الجديدة تنحصر في قدرتها على الحلول محل صانع
القرار البشري الذي مني بالفشل, ومن اوائل البراهين التي عرفها الجمهور الفرنسي,
وقد صور أول مقال نشر في الصحافة الفرنسية في ديسمبر 1948 وكان من تأليف الأب
(دوبارل) وأعلن فيه عن وجود الحاسبات, هذه الأجهزة على انها (الآلات الحاكمة)
المستقبلية, المؤهلة بفضل (قدرة منطقية على اداء العمليات البشرية) لسد النقص الذي
بات واضحا في العقول والأجهزة المدربة على السياسة). (ثورة الاتصال).
الأنا الافتراضية
هكذا نما هذا الحاسوب منذ منتصف القرن الآفل, وشب على بناء الصور وتدخل في المعارف الانسانية التقليدية وأبدى موقفه من الانحرافات الفلسفية والنقدية لعالم التصورات الجديدة وطريقة تقديم الروح المشتركة التي تمزج الأنا الواقعية التي اشتغل عليها الابداع طيلة العهود السابقة بالأنا الافتراضية...
الذات التي تنبأ لها بالموت العديد من الفلاسفة, الذات التي هي الفن في اختصاصنا, الإرث الانساني الذي لا يمكن للنبوءات الطوباوية ان تلغيه أو تنفيه أو تميته, ولا يمكن بأي حال اليوم قراءة ما يجري من تحولات في عالم الفنون الا في اطار التجربة الكونية لمفاهيم الفنون الانسانية باعتبارها تجريباً مستمراً لاستيعاب العالم الفيزيائي والميتافيزيقي, الحقيقي والافتراضي المنفتح على الزمان باعتباره وجوداً في الزمان متحولاً ومتطوراً ومتغيراً.
(منذ اثنين الى ثلاثة ملايين سنة مضت, تظهر الآثار الأولية لأكثر الثقافات قدما, حيث تعلم الانسان ان يحضر ادواته, وبدأ (تدريجيا) يبني سكنه الأول, ليتبعه لاحقاً بممارسة الفن. فإذا كان التطور الفيزيائي استمر (14) مليون سنة, فإن التطور الثقافي, وبالحكم بنتائج التنقيبات الانثربولوجية والأركيولوجية يشمل طوراً قصيراً نسبياً (حوالي 2 ــ 3 ملايين سنة) والتطور الثقافي والبيولوجي مرتبطان مع بعضهما بشكل وثيق ولا يمكن النظر اليهما بشكل معزول عن الآخر, فمنذ لحظة ظهورهما كانت الثقافة واحدة من اهم عوامل التطور البيولوجي.
الى جانب هذا التدريج أو الترتيب الزمني لابد من ملاحظة ان الانسان كان يبني لغة ابداعه, اللغة التي تحتمل شروط التطوير بتطور المفاهيم, وكما اقتضى الانتقال من الكهف الى المزرعة تطوير اللغة وتعقيدها فإننا اليوم نفضي الى الشروط التي تمليها طريقة انتاج الصور في زمن لا يمتلك مناهج المجاز والبلاغة التقليدية وانما يركز على الذاكرات الافتراضية التي تبتكر الشخصية
الوهمية في سياقها الزمني, الشخصية الرقمية والضوئية والفضائية التي لا يتمكن المكان من تقييدها في مواجهة الزمان الاتصالي الجديد وزمن الحضور الكلي والشامل الذي يكشف المكان ويفضحه...
وما نراه واقعاً على المدن الانسانية اليوم ينطبق تماماً على فضاء اللوحة أو العمل الفني الذي ما زال يرسف في أصفاده التاريخية إذ لم يعد زمن الضوء هو الزمن الحقيقي للعمل الفني بل الزمن الذي ينفي مواصفاته. ولهذا يرى علي حرب في حديث النهايات ان مهمة الفكر تتغير بفعل التحولات التي طرأت على المدينة والساحة العمومية...
(فالفكر والابداع والوعي والحرية والمساهمة في تحسين شروط
الحياة أو في مواجهة الأخطار التي تتهدد المصائر, انما هي صناعة وميزة لكل فرد منتج
في مجال عمله أو فاعل في بيئته وعالمه, ربما آن الأوان للتفكر والعمل معاً وفقاً
لمبدأ المسئولية المشتركة, حيث لا أحد أولى من أحد بالحقيقة والحرية والعدالة
والهوية والذاكرة. هذه هي المدينة الاومنوبوليتية العابرة للهويات والانتماءات
بفضائها السبراني وتشكيلاتها المجتمعية المفتوحة والمرنة. انها, وعلى ما أوثر
تسميتها, الحاضرة المجازية التي تجعل البعيد قريباً بقدر ما تجعل القريب بعيداً).
الثقافة الالكترونية
في الفنون اليوم تنشأ لغة تختار مفرداتها من الشروط الفلسفية والنظرية الجديدة, آلة تصوير الفيديو مثلا, وشاشة الحاسوب, وسماعة الهاتف, سبل حديثة لانتاج الصور على غير ما عهدنا أو طورنا في مؤسساتنا الجمالية... لغة أخرى تعلن استقلالها وتختار وسائل اعلامها لغاياتها الذاتية فهي لم تعد وسيلة لإبراز غيرها... انها شعائر تعيد صياغة الفضاء والضوء والساحة والصالة والمكان والمضمون والمبدع والمتلقي الذي كان مشاهداً فأضحى مستخدما ومشاركاً... و هي السبل التي تجعل تاريخ الفن ينجز مقولاته ليبدأ تاريخاً مختلفاً مادته الثقافة الالكترونية وتقنيات الثقافة الإنسانية الجديدة التي تخاطب الأحاسيس البعيدة بذات المستوى الذي تخاطب فيه الأحاسيس القريبة وتجعل من المباشرة الأولى للابداع خطوة من اجل المباشرة الثانية التي تنأى عن مرجعيات تحققها.
في عمل تركيبي قدمه الفنان (بيل فيولا) بالفيديو وأسماه (مدينة الانسان) يظهر ميزان الخوف والرجاء في مشاهد القيامة التي استمدها من القرون الوسطى وقد نفذ العمل ليعرض على شاشة كبيرة حائطية, قسمها الى ثلاثة أقسام (يرى في الجانب الأيسر مركبات على طريق سريع محيط بمدينة جبلية, توزعت البيوت فيها على غير انتظام, وفي الجانب الأيمن طقطقة النار الصاعدة من بيت يحترف, أما في الجزء الأوسط الذي يشكل ضعف مساحة العرض فنرى مشهداً لأناس يقومون بأشياء مبهمة, ويرى فيه منبراً شبه دائري ومشاهدين وسامعين ويتقدم من حين لآخر شخص كأنما يريد ان يدلي بشهادة أو برأي...
فكأنه مشهد من جسلة لمجلس النواب أو من جلسة لمحكمة, وفيما تتابع الصور الالكترونية بهدوء على نحو لا يكاد يلحظ يبدو كأنما تنفتح قبور, وتخرج منها زرافات من المبعوثين يوم الحساب لينصرفوا الى القدس السماوية او الى مهاوي الجحيم). انه المذبح الالكتروني, أحد الاعمال التي منحت مصنعاً للذخيرة قيمة جمالية تعتمد على التقنيات الرقمية بتحويل مفهوم هذا المصنع من منتج للقتل والدمار الى متحف صاخب بالأعمال الفنية المشابهة لهذا العمل والتي قام (كلوتس) بجمعها في مركز الفن وتقنية وسائل الاعلام الذي اقيم في مصنع السلاح المذكور.
وفي عمل (لأجنوس جونتر) اسمه (عالم الريح الغربي) يرفرف علمان بتأثير مروحة ذات صخب, في حين يتغير الرمزان المرسومان عليهما, وينتقلان من راية الى أخرى, فإذا ما تأمل الناظر للعلمين برهة لاحظ ان احدى سلاسل الصور تمثل العلم الامريكي والسلسلة الاخرى العلم الذي كان للاتحاد السوفييتي فهذا الصراع العنيف بين النظامين تحول الى لعبة من ألعاب الريح).
وبتجاوز أعمال كثيرة مماثلة سواء في ذات المتحف لـ (شتيفان فان هوين) و(فالتر جريس) و(فرانشيسكا ميفريت) أو لمشهورين أمثال (فابرتيسيو بليسي) و(سوزي هاج) اللذان قدما الى بينالي الشارقة الدولي للفنون وجانوت سايمن وغيرهم ممن جعلوا هذا الفن يتجاوز مرحلة التصميم التجريبي, مرحلة البدايات الساذجة حين كان الحاسوب يحاول ان يظهر مقدراته الذاتية المدهشة... انها أعمال تكشف عن مهارة وذكاء الثقافة الالكترونية ولا تتمثل أهميتها في أنها تحاكي تقنياً ما كان يمكن تمثيله بـ (الرسم, أو التصوير, أو النحت).
الصور: للفنان الايطالي فايريتسيو بليسي
برونكس 1985
بومباي بومباي 1993
متعلقات الفقراء 1992
الكريستال السائل 1993
غرفة البحر 1990
روما (2) 1988
ترينالي كوبنهاجن للفنون التشكيلية ... المنفى مشاعر قلق وعزلة واغتراب |
طلال معلا
يهتم ترينالي كوبنهاجن للفنون التشكيلية بالفنون المنتجة خارج الحدود الجغرافية لبلد المبدع, اذ يشمل كافة المبدعين من انحاء العالم المختلفة بغض النظر عن الجنسية والمعتقد واللون, وهي فكرة لاقت الاستحسان والنمو وبدعم مؤسس على النظرة الجديدة الى وجود وتحقق وطن بدون حدود جغرافية.
وقد اسهم في تأسيس هذا التوجه مجموعة من الادباء والفنانين منذ ما يزيد بقليل على العشرين سنة, ويصدر عن هذه الجماعة مجلة تلي انعقاد كل دورة من دورات الترينالي كوثيقة تهتم بالابداع بعيدا عن السماء الاولى التي هي سماء المبدع بسبب النفي او الهجرة, وتعتمد في تمويلها على الجهات الثقافية العديدة المهتمة بتفاصيل هذا الموضوع الثقافي, ويقام بالتوازي مع هذا الترينالي حلقة بحث (سيمينار) يشارك فيه الفنانون المشاركون في الترينالي والادباء والمفكرون الذين يتناولون بإبداعاتهم ادب وفن المنفى من خلال المحاور المختلفة كما يشارك بهذه الفعالية الثقافية ناشرون ودوريات تهتم بفكرة الفعالية وبالعلاقة بين النفي والتعبير الفني والمسائل التي يثيرها قطبا هذه العلاقة.
وفي حين يتفاوت فهم ظاهرة النفي والمنفى بين مبدع واخر الا ان المعرض الريادي (تحت سموات مختلفة) يبقى مجهودا هائلا اضطلعت به مجموعة فنانين يعيشون منفيين في الدنمارك وكان تساؤلهم المذهل وحصاده كابوسا لوجستيا في تنسيق وتنفيذ مأثرة عظيمة (زج ثمانين فنانا ومنظمة معا) وتمكن المعرض من جمع معلومات حيوية وانتقالية عن خبرات مكتسبة في مجرى عملية المنفى نفسها, واقترن المعرض الاساسي بفعاليات ادائية وسلسلة من الصالونات (ندوات, لقاءات بعيدة عن الشكليات استطاعت ان ترقى بخبرتها وجهودها الى مستوى العالمية.
ولي غريبا ان يكون منظم هذه التظاهرة الفنان عباس الكاظم الذي يساعده فريق هيئة تحرير وطاقم مسئول عن المشروع, ويذكر الكاتب شاهين ميرالي تحت عنوان (الفوق والتحت) بأن عباس الكاظم استطاع مع فريقه ان يدعم هذا المشروع في اطار المدن الثقافية الاوروبية واصفا في غضون ذلك مفهوم المنفى على جدول العمل دون مواربة.
والفنان الكاظم نال جائزة بينالي القاهرة السابع عن عمله وطني (سرير بلا شبكة) كما نال جائزة اليونسكو في ذات المعرض, وقد وضع الفنان المغترب من بغداد الى روما, ثم الى كوبنهاجن, المتنقل بين قاعات العرض والفعاليات الدولية في هولندا وبريطانيا والمانيا وايطاليا والقاهرة وغيرها من العواصم, وضع (الوطن) العراقي في سرير قديم منتصب فوق هرم رملي بدون قاعدة تحمل من تراوده الرغبة الانسانية المشروعة في الاحتماء بدفئه والرقاد في احضانه.. ان عمل (الوطن) اكثر من رمزي ويفسره عباس قائلا:
الوطن سرير بدون شبكة يرقد عليها المرء. وتنوب عن قاعدته اخرى رمزية معكوسة الخيال في مرآة زجاجية تغطي سطح الهرم الرملي, ولا يخفى الرمز على التأمل, فالقاعدة الوهمية الرمزية ليست الا خيال ذكرى القاعدة الحقيقية المفتقدة.. انها مجرد صورة في الذاكرة.. انها سراب ويمطر (وطن) الناظر اليه بالرموز الواحد تلو الاخر, فعلاقة المرآة بالرمل هي علاقة السراب بالصحراء, وخيال القاعدة الضبابي يشبه علاقة المنفي بوطنه..
ان (وطن) تجسيد لمأساة الصورة عندما يكون الوطن مجرد هيكل في الذاكرة, ينتصب على هرم رملي متحرك معتمدا على قوة الرياح المقبلة غدا.. ربما تلتهمه الرمال, من يدري؟
رمل وزجاج وحديد والوان.. تشكيلية من الوان (البيكمنت), ايقاع هارموني وفكرة طريفة من نوعها هي تلك المرآة وعليها فيلم شفاف طبعت عليه صورة قاعدة السرير الغائبة, والمرآة ترد الصورة معكوسة.
وقد نجح عباس في تكوين صور وايحاءات بصرية من خلال حركة المرآة المعكوسة والتي تصنع بؤرا ضوئية مشتتة على السطح الوهمي المجرد, كاسرا بذلك استاتيكية التكوين وصلادة المعدن الحديدي المتمثلة في اضلاع سرير بدائي هش.
وبمجابهة امكانيات الفنان عباس الكاظم الابداعية بالحماس النظري والفكري له نلمس معنى اهتمامه بترينالي كوبنهاجن (تحت سموات مختلفة) ومعنى اختياره المنفى كموضوع محوري وكهاجس دائم يعرض لمختلف وجهات النظر الابداعية بفتح النوافذ والابواب على تجارب ابداعية انسانية وهنا يتساءل كنعان مكية احد المتداخلين في موضوع الندوة عن كلمة (منفى) كما يتساءل عن الصلات التي تربط بين فكرة الفنان هذه وشروط وجوده منفيا, وهل بوسعنا رؤية هذه الصلات, حقا, في الاعمال الفنية التي تقارب الثمانين المعروضة في هذا المعرض.
الغريب حقا ان الفنان حين يجري وضعه في هذا النوع من الصور, يصبح شرطه كفنان هو ذاته شرط المنفى. فالفنان (رجلا كان او امرأة) منفي اصلا بحسب الطريقة ذاتها التي اختار المجتمع الحديث ان يعرفه بها.
عرضت اعمال الفنانين في (اوكسنهالن) وهي ملحمة ثم تحويلها في الحي الجنوبي الشرقي من كوبنهاجن فكانت موقع الحدث وسياقه بكل تأكيد وقد وفرت ستة آلاف متر مربع من حلم متقطع يراود منظمي المعارض.
وفي ارضية هذا (المسلخ) يتعرف الزائر على شبكة الصرف المفتوحة التي لابد انها لعبت دورا حيويا في الحفاظ على نظافة المكان من الدم (استعارة مؤسية لدور غالبية المنفيين الذين هربوا من اوطان نازفة ليجدوا انفسهم في قعر الهرم من المجتمع الذي يستضيفهم).
ولقد ذكرني هذا المكان بمكان مشابه تماما, كنت قد شاركت في العام 1991 بالمعرض الدولي المسمى (لوجوس) وهو في مدينة بادوفا بايطاليا حيث تم تحويل مسلخ المدينة القديم الى قاعة كبيرة للعرض ويذكر شاهين ميرلي بأن (تحت سموات مختلفة) يتناغم تناغما جيدا مع مجموعة معارض اخرى اقيمت في عواصم اوروبا الرئسية وخاصة معارض (the other story) جاليري هيوارد ـ لندن ,1989 و Le Magicien de terre (مركز بومبيدو ـ باريس 1990) و il sud del mondo في كوميون دي مارسالا ـ صقلية ,1991 وعلى الغرار نفسه فإن معرض (تحت سموات مختلفة) يقطع ويشكل التاريخ التفسيري الخطي المفترض للحداثة وما تلاها من (ما بعد الحداثة).
في المقدمة التي كتبها الروائي جمال محجوب لـ (كاتالوج) المعرض نقرأ التالي: (كلمة المنفى لها صدى ذو طبيعة شبه رومانسية, فكرة التضحية النبيلة, بترك البلد الاصلي, متجها نحو مستقبل غير واضح من اجل بعض المبادئ التي يعتنقها البعض, اليوم الواقع يختلف قليلا.. ونية هذا المشروع هي في الاساس التحقق من المعنى الاوسع لاستخدام مصطلح المنفى في العالم الحديث).
وعلى هذا الاساس تتم الاشارة مثلا الى ما شهدته الحركة الفنية الالمانية من نزوح هائل لفنانيها الى الخارج اثناء صعود الفاشية بينما نزح قسم اخر الى منفى داخلي في مناطق المانيا النائية للعمل بخفاء في مشاريع ومواضيع تهتم بمشاعر القلق والعزلة والاغتراب.. والى نزوح الاعداد الهائلة من المنطقة العربية والافريقية والصينية باتجاه بلدان اخرى بحثا عن الفرص التاريخية التي تجعلهم يتبادلون الحوار مع المتغيرات الدولية في مجالات الفنون المختلفة.
ان احدى قيم المشروع والمعرض الرئيسية لـ (تحت سموات مختلفة) هي توفير الفرصة التاريخية لهؤلاء الفنانين في اللقاء والحوار وفي تبادل تجاربهم الفنية. وبعكس الكثير من المعارض المهمة التي اقيمت في اوروبا في السنوات الاخيرة مثل معرض (سحرة الارض) بباريس, ومعرض الجنوب للفن المعاصر في صقلية بايطاليا يشير وليد ستي الى ان الاهتمام تركز على اعمال فنانين من جنسيات محددة فيها, فإن هذا المعرض بطبيعته وسياسته والموضوع الذي اختاره (المنفى) اكد على الانتماءات المختلفة للمشاركين, اثنيا وقوميا ووطنيا.. انهم فنانون من اوروبا واسيا وافريقيا والامريكيتين يعيشون ويزاولون عملهم الفني تحت سموات مختلفة ليست سماءهم الاولى وبيئتهم الاولى..
هذا الانسان ليس باللاجئ, او المسافر او المغترب العادي, انه الفنان الذي يشترك مع زميله الفنان الاخر في الكثير, وقبل كل شيء في امتلاكه هذه اللغة ـ الاداة الفنية.. ربما اختلفت اللغة, الثقافة والقومية الا ان الفن هو الاداة المشتركة للتعبير والتي تخاطب وتتواصل لتتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية, بعكس وبالرغم من شروط المنفى.
تجريديون وتعبيريون وتجريبيون واستعاريون. دنس فيرلوج من فرنسا, الدنمارك, ميكل تجوفسكي من انجولا, هولندا, دودي رومانتي من رومانيا, الدانمارك, آزاد نانكلي من كردستان, ايطاليا, البانو الفرد من سويسرا, ايطاليا, جيلا كو ماري من الهند, لندن, واخرين امثال كارل آجرس من المانيا, ايطاليا, تاكارا اليابان, فان كوانك, فيتنام, فكي ستبتو, التشيك, بترا ارندت, المانيا, ايطاليا, مريام لابلانت من كندا, روما, بدرو دي كروز من الاورجواي, السويد, منقذ سعيد من العراق, هولندا, فلورنس بكو من فرنسا, ايطاليا, وغيرهم من الفنانين المتميزين.
مع ذلك لابد من الاشارة الى ان اغلبية المشاركين يعيشون ظروفا متقاربة في اوروبا, وهم متجاورون مع معطيات ثقافية متقاربة بالرغم من اختلاف الانتماءات الاولى وتباعد الثقافات الا ان ذلك لم يعط المعرض الشرط الكافي لبناء ظاهرة من شخصية المعرض التي عانت قلقا تعبيريا, ولم تستطع خيمة المنفى ان تظلل الجميع, كما يشير وليد ستي ـ بمعنى ان شرط المنفى لم يوحد المستويات المختلفة بقدر ما ابرز اوجه التقارب والتضاد.
الفنانة والباحثة اللبنانية (مي غصوب) اشارت الى الاخر والاخرية وعلاقة ذلك بالهوية وتطرقت اليها في اطار دلالاتها الاصطلاحية ورأت ان (تحت سموات مختلفة) قد تجنب استخدام اي منها (فهل تعمد ذلك يا ترى؟ ام انها طريقة لابقاء المناظرة مفتوحة حول معنى التعددية الثقافية والفن في المنفى او التقاليد المحلية والهوية؟ وتقول: (المنظمون يستطيعون اعانتنا في هذا المجال, وانا يعجبني العنوان وابهامه لأني على اقتناع بأن الابهام اقرب الى الواقع (لا اجرؤ على القول انه اقرب الى (الحقيقة) لأن هذه الكلمة خلافية للغاية ان لم تكن مخيفة). وليس الامر سهلا لأن اللقاء مع (الاخر) اكان ذلك في الفن والابداع, او في القنوات الاجتماعية, كشاف على الدوام. ويكون
كشافا عن انفسنا اكثر مما عن الاخر. ونحن والاخر ابهام اخر يواجهه الفنانون بحدة شديدة اليوم).
لقد اشارت مي غصوب في كتابها (العرب في لقطة فيديو) الصادر في العام 1992 الى ذات القضية حيث كتبت (اننا نعيش عصرا مضادا للايديولوجيا, ومضادا للكلية الامر الذي لا يزعج ولا يخيف, فآذاننا وعيوننا, وجلودنا ايضا, تتعرض لما هو كوني تعرضها لحقائقه المتعددة. والحال ان التعددية في احسن معانيها, لا يسعها النظر الى ذاتها الا وهي منتمية الى ما بعد الحداثة. فقد جربت حظها مع الحداثة واعتقدت انها تستطيع حل تناقضاتها من ضمن هذا النطاق, غير انها اكتشفت طبيعتها الحقة من داخل ما بعد الحداثة, اذ هنا لا تذهب التناقضات الى حسم يكون في مصلحة احد الاطراف المتناقضة.
نعم انا لا اشعر بالذنب حيال المجتمع الذي تعود اليه اصولي, فأنا اشمئز من الكلية واعرف انها لا تملك قيم انقاذ تدعيه. وبهذا المعنى يمكنني بفرح ان اخون تلك الطريقة التي تطرح المشاكل بموجبها في العالم العربي, ويمكنني ان امضي مأخوذة بسحر ما بعد الحداثة).
ان المواجهة مع حقيقة الارتباط بالذات والجذر والسماء تقود بمباشرة الى حياة الصاقية يعيشها المبدعون فيما نتعارف عليه بعالم الاخر حيث تركز الخطاب على الغرب بتطابقه في اذهاننا مع هذا المصطلح للمرجعية التشكيلية التي تبني نواحي الذاكرة, وكوننا نمثل الاستلاب الذي نعاني منه بارتباط ذواتنا بكينونة الاخر ولهذا يسعى مبدعو المنفى لتأكيد حضورهم على اعتاب هذا الاخر, والاحتفاظ بطروحاتهم اللاتوافقية غالبا مع الالتصاقات التي يؤمنها التوجه الى الغرب والوقوع في اسره وتحت سلطته, والامر لا ينطبق فقط على المبدعين العرب بل يشمل كافة التجارب الى تطرح في اسار الاغتراب, اي اغتراب, عقلي او اجتماعي, وكل ما يطرح مفاهيم التخلي او التناسي للبنية الاساسية لادراك بنية اخرى تطويهم تحت اجنحتها في ظل ظروفها وتوجهاتها.
قد يعني المنفى الانفصال, هكذا.. بكل الابعاد التراجيدية لهذا الفهم, ولكنه بالتأكيد مستقر لعدم التوافق وموئل للاغتراب, مأزق الانسان المعاصر في التعبير عن عجزه.
جماليات الإنسان المدمر: نفي الذات.. وتفكيك الرؤية |
طلال معلا
عندما يختلف الدارسون حول مفهوم الهوية, فإن ذلك يشير مباشرة الى خلل في التعبير او التبليغ مؤداه ان حوامل عناصر هذه الهوية ومشّكلاتها الأساسية بما فيها وجوه الابداع والابتكار والخلق تعيش حالة من الاختناق, أو أنها قد بدأت تنزاح عن الأهداف والمرامي التي تنشدها. قد يكون ذلك بفعل الظروف والمتغيرات الثقافية والصراعات المستجدة حول المفاهيم الفلسفة التي بخلخلتها للمفاهيم السائدة إنما تؤسس لمعارف وعلوم تطال الموقف من الزمان والتحديات التي تواجهه قياسا بالمتغيرات التي تطال المكان وجمالياته التي يتهدد كيانها بمجرد الانزياح الفلسفي الذي يؤثر على مجمل العلاقات المرتبطة بهذا المكان سواء اللغة أو الحضارة او التاريخ والوظائف الناتجة عنها.
ودون ان نسعى لما سعى اليه النقد التشكيلي منذ سبعينيات القرن الماضي حين جد البحث في مفاهيم الهوية وضرورة التأكيد عليها بتأصيلها في اطار النظرة الاستبدادية للمشهد الرسمي آنذاك باعتباره فضاء التحول الى قيم مجتمع الحداثة, فإننا لابد نذكر النزعة الفطرية لدى هؤلاء النقاد لمقاومة الدعوات للعودة الى الذات باعتبار الهموم القومية أولوية على الفنان ان ينخرط فيها بالتعبير عن مطامحها التي هي مطامح كل الناس, وباعتبار الفنان احد الاشكال المميزة للمثقف العربي بما يمكن أن يشير اليه من طليعية اجتماعية وسياسية تعكس الدور المهم الذي سيلعبه الفن للتعبير عن هذه القضايا.
لقد ارتبط الفنان منذ ستينيات القرن الماضي بالمؤسسة الثقافية أولا وبالمؤسسة السياسية ثانيا, منخرطاً في لعب دور لم يرض ـ تاريخيا ـ اهمية الفن, قدر ما خدم وارضى الفئات السياسية التي كانت في جوهرها تقود التطور الابداعي التشكيلي الى مجالات مغلقة بدعوى الجماهيرية احيانا وبما حددته بعض هذه المؤسسات بالمنطلقات النظرية والفكرية والايديولوجية التي ضيقت كل مجال لينقلب العارف بحجة التطوير والتحديث الى جاهل بما يجري حوله في العالم وبما كان يعلي من وتيرة خضوعه لهذه الايديولوجيات معتبرا ان الاقدام والشجاعة في اطار الهموم الوطنية والقومية هو في الخروج من التاريخ الى المستقبل حيث لم يكن بانتظارهم سوى الجدران المصمتة التي تغلق الدروب الى الوراء والأمام معاً.
ابرز ما لفت انتباهي في زيارة قمت بها الى رومانيا منذ اعوام ما أكده كل فنان زرته هناك او ناقد التقيت به حول الشرخ العميق الذي عاشه المبدع طيلة فترة الايديولوجيا, واخص ما اصطلح على ترديده (الهوة العميقة بين الممارسة والفكر) او ما يمكن ان نشير اليه تحت مسمى الفصل المحكم بين العمل والفلسفة, فالفنانون التشكيلون كمجموعة مثقفة عاشت حالة نفي عن ذاتها طيلة سنوات, وقد شاهدت أعمالا فنية لدى رواد في هذه الفنون في مختلف المدن لم يكونوا يستطيعون ان يطلعوا عليها حتى اصدقاءهم الفنانين, وبمجرد التحول النقدي والسياسي في جوهر الواقع لذاك البلد انتصرت وظيفة الفن الشاملة لتاريخ الذات الانسانية على القوالب الخدمية التي كان يدور في
فلكها كل من السياسي والفنان بان معاً, وحيث لايمكن أن نحاكم الطفرة فإننا لابد ان نحدد مدى الانسجام الذي تحققه الحرية ما بين سحر العطاء الابداعي والدافع له سواء أكان هذا الدافع عقليا أو روحيا.
إن الإنسانية التي ملت مقولات التثقيف المجتمعي بعد هذا التراكم الخطابي على مدى الحضارات تقف اليوم غير منضبطة في اعتباراتها التنبؤية ازاء النموذج الجديد لنصوص الثقافة المرئية, حيث اضحت الصورة المادية التي قوامها المادة والشكل والدلالة, من كلاسيكيات التعبير بمواجهة الصورة الوهمية التي تعيد صياغة الانسان وصياغة العالم من حوله في اطار اللغة الجديدة التي تقسر الآفاق على استيعاب ابتكارات الذهن الايحائي والمجازي.. وبكل الأحوال فإن الصورة التي اصبحت من علامات الدلالة, تحولت في الاطار التشكيلي الى وسيط أو حامل يختبر كل ما يضاهي الواقع ويتعالى عليه لانتاج المعاني.
الفنان العربي الذي اغضبته احيانا اصوات النقاد وهم يحتجون على عطائه او تبعيته او انبهاره, يقف اليوم على حدود الجماهير المذهولة بممكنات العصر والذين لا يقوون على معرفة حقوقهم على الأقل او متابعة المصطلحات التي باتت تكوكب كل شيء بما فيها الفنون, وما يجري اليوم في الانتقال من الحالة الفنية التي كانت سائدة الى منتجات الثقافة العولمية انما ينبه الى الاختلاط الذي يستحق التحليل من قبل المفكرين فيما عليهم ان ينبهوا اليه من غياب للعقل وكل ما يجعل الانسان عرضة لعبودية الرقابة الشاملة على تركاته من خلال التقنية المتطورة التي ستطال الذات بالالغاء التام لتجعلها رهينة هذه السلطة الشاملة التي فقدت صلتها بالتاريخ وبمعاني التقدم بعد ان لاحت في فضائها شارات (التوحش) بدلا من التحرر.
لقد
بات الفنان العربي يحس بالمخاوف التي تقصيه عن فعل الخلق الفني باعتبار الالهام
فعلا سابقا على الرؤية التقنية السائدة اليوم في فنون الأنظمة الحاسوبية او
الاشعاعية, الأمر الذي يقصي الخبرة المعرفية, الفكرية والمهنية, وان كان في الغالب
مازال ينتج المحامل التقليدية التي لا تفصله نهائيا عن مواقع الخوف التي ذكرناها,
إلا ان استمرار التجمعات التنشيطية لذهنية الفنان العربي كالبيناليات المحدودة في
بعض البلدان دون غيرها, المنفتحة على تجارب غربية وشرقية طالتها آليات التغيير في
الربع الأخير من القرن الآفل, هذه الفعاليات تلعب اليوم دوراً نموذجيا في تسهيل
عمليات انتقال الولاء الجمالي من نموذج إلى آخر باعتبار (ان الفكر في آخر القرن
يتخلص ببطء وبصعوبة من الحنين الى الكائن, حنين لم يعد يسنده الرفض الصائب لحاضر لا
يحتمل ينبغي التفكير في مجتمع حاضر, ونقده, وتحويله, مجتمع اكثر مرونة وتنوعاً).
ولعل المتابع لمسميات وثيمات بينالي القاهرة الدولي او بينالي الشارقة الدولي يلحظ هذا الاهتمام ببحث القضايا المتعلقة بأزمة المبدع العربي بل والاسراف احيانا في تجسيد القلق البادي على سحنة المنجز التشكيلي العربي, يلخص ذلك المشاركات النقدية العالية السوية في الندوات الفكرية الموازية التي جعلت الجدية عنوان الحساسية التنظيمية دون ان يعلو شعور على الشعور بإظهار الحقائق كما هي في اطار ازمة العدالة الجمالية التي يجري البحث عنها من قبل المبدعين عموماً.
ومع بداية هذا
القرن, لن يستبعد النقد التشكيلي التنوع الذي بات يطال كل جوانب الفروع والأصول
باعتبارها انماطا قد لا يتفق مع جوهرها إلا انه لن يتجاهل التضخم الذي يطالها بفعل
التسارع المجازي للصورة ومتتالياتها الاشارية الوهمية, البيئة المبتكرة لتناول جوهر
الانسان المدمر والمتحلل الذي يتخلى شيئا فشيئا عن حيويته وضميره وذاته لصالح ما
يدعى بالتعددية التي تتجاوز المكان والزمان الأمر الذي ينعكس ايضا على متلقي الفنون
وحيرته تجاه ما يجري بعد ان
ان كان يستمتع بما يثير حساسيته ويمنحه الوحدة مع قيمه في كل مرحلة من المراحل التي يخطوها لبناء صورة العالم كما هي.
محاولاً ان يطفو على امواج الصراعات موضوع
المتغيرات التي تجعل المتحف يأخذ شكلاً مغايراً لمهمته التربوية والصالة ايضاً التي
يتقلص تواجدها في الحياة الثقافية, وبعد ان لعبت دورها المتميز في مجتمعات الطبقات
بدأت تختفي في مجتمعات الامم الشمولية اللهم الا ما تفعله بقايا الصالات للاشارة
إلى تاريخية دورها والمبادىء التي حملتها في زمان من الازمان.
ان السوق الذي يرسم الهوية الثقافية للمجتمعات هذه الايام هو المنتصر باعتباره يمتلك ادوات الانتاج الايهامي, ولهذا فإن (آلان تورين) يرى: (ان عالم اليوم الذي ترى بعض العقول المستعجلة انه يتوحد حول قيم غريبة انتصرت على الفاشية والشيوعية وقومية العالم الثالث, هو في الواقع ممزق بين العالم الموضوعي والعالم الذاتي, بين النظام والفاعلين.
ونحن نرى منطق السوق العالمي ينتصب في وجه منطق السلطات التي تتكلم باسم هوية ثقافية, فمن جهة يبدو العالم كلياً, ومن جهة اخرى تبدو التعددية الثقافية لا حدود لها. كيف لا نرى في هذه التمزقات التامة تهديداً مزدوجاً لكوكبنا؟. وبينما يسحق قانون السوق المجتمعات والثقافات والحركات الاجتماعية. يحبس وسواس الهوية في تعسف سياسي كلي بحيث انه لا يمكن ان يستمر الا بالقمع والتعصب. ليس التفكير في تاريخ الافكار وحده هو الذي يحثنا على اعادة تعريف الحداثة, انه المواجهة العادية بين ثقافتين ونموذجين للسلطة هي التي تجبرنا على جمع ما كان منفصلاً, لكن دون استسلام للحنين إلى وحدة الكون المفقودة.
يبدو ان العواصف التي ستطال التشكيل الغربي في العقد المقبل وما يليه ستكون اعنف من كل المواجهات التي خاضها الفكر الجمالي العربي لاسقاط اصنامه والاحتفاظ بروح حريته ومبرر وجوده.
نقد النقد التشكيلي..العجز عن قراءة التاريخ |
طلال معلا
مراجعة النقد التشكيلي في الجانب المتصل بما هو مؤثر في حياتنا الثقافية، والابداعية، عبر تحليل المبصرات، يجعلها مرتبطة بالحاضر، ومعبرة عن زمنها الخاص، الذي يبرز حدودها الابداعية، وامكاناتها الخاصة، وظروف تخلفها عن تأكيد وجودها الحي، والاسباب التي تحول دون ربطها بتيار، او تيارات كان من الممكن ان تتولد لربط حركة النقد بما هو منتج في العالم، خاصة بعد اتساع رقعة الثورة المعلوماتية، وربط العالم بشبكات من المعلومات تتجاوز ما كنا نتوقعه في هذه المعالجة التاريخية. اضافة الى مشاركة نقادنا في عمليات تبادل المعلوماتية، واشتراكهم في تحرير المواد الصحفية في كثير من الصحف الصادرة في اصقاع العالم. مما يؤهلهم لوضع خطاب فني يحمل خصائص النزوع الى تراكم المعارف الموضحة لحال التشكيل العربي بعمومه، والمقاربات التي تجمع حدود التجارب القطرية الى بعضها كنسيج ابداعي، تتكامل خصائصه بتكامل الذات المبدعة، بعيداً عن صيحات الاتباع والوقوع في مغناطيسية ابداع الآخر البصري النابع من التقليد الذي تكلم عنه النقد لاخفاء العجز في قواه التحليلية، وابتعاده المقصود عن تشكيل نظرية تهتم بالتعبير البصري واقامة ركائز ثابتة تتمحور حولها مجموعات المبدعين وهم يحاولون عرض تصورهم للحياة الصورية بمفهومها الواسع، والاخبار عن المرئيات العربية المعاصرة من خلال مقولات العصر، ونماذجه الفلسفية التي تشير الى دلالات بصرية متغيرة، ومختلفة، ومتضادة، بحسب تسجيل تلك الظواهر بوصفها ناتجة عن منهج تصوغه مناهج الفن الحديث في العالم بالعودة الى الذات كمعادل للوعي الذي يقود الى حقيقة العلاقة بين المرئي والرائي ومادة الرؤية فكيف نرى، ومن الذي يرى، وهل تشكل المادة البصرية المنتجة مادة رؤية تستحق ما تولى من اهتمام، ام انها لم تصل الى هذا الاهتمام بعد.
لا نختلف كثيراً، او لنقل ان الآراء تتعدد حين نقول: ان من يرى هو الذي يمتلك وعياً بصرياً للجوانب الفنية والتقنية والتاريخية لعملية الابداع البصري، بل ان قراءة امكانيات هذا الرائي تقود الى الحضور العالي السوية المميز لارتباطه بالحركات الفنية بحيث يستطيع ان يوضح الاضاءات اللازمة حولها، واساليب العبور الى فهمها، كمنتجات ابداعية ليست معزولة عن الفعاليات الاجتماعية والفكرية.
واذا كانت الافلام النقدية في المراحل المرافقة لهذا التراكم البصري عاجزة عن مواكبة التطورات السريعة والمضطردة فغالباً ما كانت تختفي عجزها خلف سلسلة طويلة من الاحباطات، حاولت ان تلصقها بالفنون البصرية، وليس ادل على ذلك من الاتهامات المستمرة بتبعية هذه الفنون للغرب، والتندر بالمؤثرات العربية على بول كلي وديلاكروا وفازاريللي، وغيرهم ممن بتنا غير راغبين بترداد اسمائهم في كتاباتنا كأبطال تاريخيين يقودون كل مراحل الابداع العربي في المجالات البصرية المتنوعة (يلاحظ غلبة الفنانين العبرانيين)، ولا يكاد يخلو مقال كاتب تشكيلي من هذه الشكوى، التي لا تشكل اكثر من عجز واضح عن قراءة التاريخ، والسبل التي تساعد على اعداد امكانات التواصل فيما بين اطراف العملية الابداعية.
ولست انكر نهائيا الدور الكبير الذي لعبه النص النقدي الغربي في قراءة الاعمال الفنية في الغرب، كما اني لا ابتر علاقتنا بهذه النصوص او الفنون التي تم تطبيق العمل عليها اكاديميا وفعليا في اغلب المحامل القطرية.. الا ان ما اعنيه هنا ان النقاد والتشكيليين العرب غالوا في مصادرتهم للمبدع العربي، تغطية لقصورهم التصويري واخفاء لعجزهم عن الاهتمام بمتطلبات الحركات الابداعية البصرية في العالم العربي، واذا كان انسحاق مبدع النص النقدي العربي امام مثيله الغربي مثار نقاش، فإن المبدع البصري التشكيلي في منطقتنا قد تجاوز هذه العلاقة منذ فترة طويلة، اضافة الى تجاوزه لمصائب الواقع الثقافي والفكري العام في الدول العربية. ان ابداع العمل الفني يخضع لنظام الروح الباحثة في كل لحظة من لحظات تألقها وتصورها. وما يتجاهله النقد ان العمل الفني لا يريد ان يحقق في امور الحياة مكاسب تضيف حقائق جديدة بقدر ماتريد ان ترسم صورة امكانات البحث وتوجيه الممارسة باتجاه ثقافة العصر، لاغناء لغته واعلاء اقتران الانسان بطبيعته البشرية، لتجاوز وتخطي ما نفترض اننا بدأنا به من رؤى تتجاوز ما يمكن ان نراه في حياتنا.
فأهمية العمل الفني الذي يجب ان يلقى اهتمام النقد والنقاد انما تتجلى في الامكانات التي يخلفها للحوار، سواء فيما بين الفنان وعمله الفني، او فيما بين المتلقي والعمل الفني، او فيما بين المتلقي والفنان. واعتقد ان الاهم هو ما تثيره العملية الفنية بمجملها من حوار فيما بين المتلقي وروحه او ذاته او تركيبته، فمن خلال هذا الحوار يلمس الناقد السوية البصرية التي تعيشها الحركات الفنية، وما استطاعت ان تعكسه من قيم ترفد الحياة بطاقة الاستمرار والعدالة والجمال، متجاوزة قلق العصر، وتناقض الفكر واهتراء الاخلاق، بالتأكيد على ممارسة العملية الابداعية التي نرغب ان يمارسها النقد من منظوره وموقعه واهتمامه الانساني.
واذا كنا نشير دائما الى القيم الايحائية التي يقدمها النحت اعتماداً على ما يبثه العمل الفني من ايحاء، فإن المقصود هنا ليس التطابق الايحائي قدر ما نشير الى الرسالة التي يحملها كل من النقد والتشكيل خارج اطر التعقيد الذي يطال ميكانيكية انتاجهما، فكل منهما يحتاج الى موهبة متميزة كي يقدم الحوار المطلوب منه فلسفيا واجتماعيا ومادياً، وبما يحقق صلة اي منهما بمسائل علم الجمال الانساني وقوانينه، وتحليلاته، وكل ما يشير الى انهما يبدعان الحياة في محيط ظروفها المعرفية.
الصياغة البصرية، ونقدها،سائل او حوامل اشمل من الكوادر العامة التي تقود الى حرفيات تجمد بمرور الزمن ولا نعيشها القول بنكهة الهوية، لأن ما ندعوه الجوانب التحريضية للتصور وابداعه، الاشارات التخييلية ستكون آنذاك بعيداً جداً عن فضاء الانتشاء بما يضيف الى التجربة ولن يكون بمقدور النقد تحقيق عدالة المحايدة في النظر الى العمل الابداعي، ومنتجه، فرداً كان ام جماعات، كما ان الحوار الذي قدمه التصور سيفقد حرارته الدرامية وقواعد صياغة ايقاعاته البصرية.. اي ان اللغة التي يمكن ان تضبط العلاقة فيما بين المبدع التشكيلي والمبدع الناقد ستكون عرضة للتهتك والابتعاد عن معالم التصور وساحات الاشتغال به.
ولكي لا يبدو ان هناك صراعاً بين التشكيل ونقده او الاحالة الى قضايا ايجابية بمواجهة اخرى سلبية لابد من الاشارة الى ان نسيجاً واحداً يفترض ان يجمع كل منهما، اذ لا تشكل الاشارة الى تناقضها احياناً اكثر من احتساب التعامل مع تركيبتهما وخصوصية المذاكرة التي يقتضيها استقطاب المحتوى العام للادراك الجمالي الذي نحققه عبر اي منهما. فهما قطبان للاستقبال، نقوم عبرهما بتلقي الافكار (البصرية والنقدية) وكل ما يعين على التنبؤ والابتكار ورفد الطاقات المبدعة او الكشف عن الرسائل المخفية التي تقدمها الفنون لشعوبها في اطار التساؤل الاول الذي كنت قد اشرت اليه، من يرى وماذا يرى.. ولعل السؤال الاشمل الذي كان على النقد ان يعمل عليه هو: كيف نرى؟ هذا السؤال الذي يشتمل على التراكم الحضاري الانساني وخصوصية هذا التراكم لدى مختلف الحضارات انما يجيب بشكل تلقائي على جوانب مهمة في رؤية الثقافات البشرية على مدى الازمان، ولا يمكن ان ننفي تجلياتنا في المساهمة بصياغة اطراف من هذه القضية الشاملة سواء بالابداع اوالابتكار او التقليد والمحاكاة او الاحتكاك والحوار، ولن يعيب مطلقاً تسمية الاشياء بمسمياتها والوقوف على مشهد الحقيقة التشكيلية العربية انطلاقاً من حقيقتها التاريخية والحضارية والانسانية.
الهوية والذاكرة في التجربة التشكيلية الصينية |
طلال معلا
الذاكرة مشروع الذات في اختياراتها التحررية والانقلابية، لبناء دور نقدي للابداع، وعندما نتمكن من بناء وادارة هذا الدور تكون هذه الذات على ابواب ارادة تحقق لها التحول من هيئة الى اخرى، اي بناء دفاع بصري يعزز التدرج في القبول وتجاوز القيود المفروضة ومن ضمنها التداول المعاصر للأفكار التشكيلية التي تتكامل بفعل التجربة والممارسة والتراكم، وبفعل المزج بين التاريخ وسلطان الواقع لإنجاز ما يمكن تعريفه استناداً الى المعطيات الفكرية والفلسفية التي تشغل العصر وتمهد للاسباب التي تضم خبرات الابداع الذاتية الى المنجز الانسان الشامل،
وهذا ما كنت اشرت اليه في المقال الاول بالتصور الذي تنجزه التجارب الوطنية والقومية لنقل تجاربها التشكيلية الى المحافل المركزية لوضع التاريخ الذاكراتي جنباً الى جنب مع التاريخ الشخصي للفنانين، اي ابراز التقاليد الثقافية التشكيلية في صعودها بالاستناد على حجم العمل المنجز وصدقه في التعبير عن الرغبة في الانجاز لابراز امكانات التكيف مع نظم الابداع الانسانية التي تتجلى في الدعوة الى الهوية حيناً والنائي عنها حيناً..
التركيز على القيم المشتركة وتحويل الروح الى قوى سياسية، ولعل ما تواجهه الدول الصناعية الكبرى يدل على انها لا تسير في اتجاه التحضر قدر ما تدمر مجتمعاتها، اذ ان توحيد الماضي والمستقبل يسحق الحاضر ويلغي الفضاء العام الذي تتخبط فيه الاختيارات العامة.. وليست الحرية الشخصية وحدها هي التي تدمر، بل ان الانتماءات الثقافية تدمر كذلك، الشمولية تدمر المجتمع كشبكة من العلاقات الاجتماعية المنظمة حول قدرة متزايدة على الانتاج، وتستبدل بها تعبئة هوية لخدمة قوة جماعية.. ويحل التاريخ محل المجتمع.
هذا ما يراه آلان تورين في فقده للحداثة، اما الناقد التشكيلي الصيني «لي تسيانج تشينج» فانه يرى بأن الصينيين قد تعرضوا خلال القرن العشرين ـ وخاصة المثقفين ـ وبشكل مستمر للتأثير الجسيم لما يمكن دعوته التفتيت الثقافي، وبذات الوقت فان انهيار الثقافة قد لعب دوراً فاعلاً ادى بالناس للبحث والتحول الى هوية جديدة، وبالتحديد التحول الى نظام جديد من القيم الثقافية.
وقد ارتكز اختيار الصين للواقعية في بداية القرن المنصرم على مفهوم جديد يهدف للمشاركة في العالم الحقيقي، والذي كان يختلف آنذاك عن فلسفة الانعزال التي انطوت عليها ثقافة الادباء التقليدية، ولعل في عدم اختيار الصين للفنون الحديثة التي كانت رائجة في الغرب، ان المفكرين والفنانين في تلك الايام قد آمنوا بأن الفن الغربي الحديث والرسم الصيني بحسب تقاليد الادباء منحازان للفرشاة الحرة وللتعبير الذاتي وانهما بعيدان عن الواقعية وعن الواقع الموضوعي، ويمكن ببساطة القول ان تلك الضربات الحرة انما تمثل الذاتية والهرب من الواقع، والانعزال، بينما تمثل الواقعية الموضوعية المشاركة في الواقع، والاستنارة، وقد شكل هذا الخيار نقطة البداية بالنسبة للجهود الصينية في بنائها هويتها الجديدة.
شكل الاهتمام بصياغة هذه الهوية، الامل في فتوحات تتجاوز المجتمع التقليدي آنذاك، وكأن قوة التحرر انما تكمن في الرؤية الجديدة التي ستحمل مصالح الايديولوجيا، وتنقل الذات الابداعية خارج حدودها والتنعم فيما بعد بمرحلة يخيل للناس فيها بما تولده الاعمال المنجزة من متعة في حين كان العالم يهرول في ازمة مختلفة تكلله شهوة الاستهلاك، باحثاً عن اجزائه المتشظية.. وقد ترتب على التفكير الجمالي والبصري في الصين ان يقدم نظام قيم يتناسب والافكار العامة المطروحة بادخال اسلوب فني جديد، فظهرت الواقعية على السطح اذ صاغها «ماو» على هيئة واقعية ثورية بخصائص صينية مميزة، ورغم هذا التحويل الايديولوجي فان شروط الواقعية ذاتها بقيت دون تغيير..
اي منذ الثورة
الفرنسية وما تلاها في الثورة الروسية، والنازية، وعصر لينين وستالين وما جرى في
الصين خلال الحقب
الوطنية وفي فترة ماو، حتى الثورة الثقافية الكبرى.. التزمت الواقعية في الفن وباستمرار بوجهة النظر الاجرائية والسياسية التي فرضتها ايديولوجيا الدولة، فهي لم تمتلك نظام قيم جمالية يمكنها استغلاله وتحقيقه.
ولقبول الصين هذا التصور، والاقرار به اسباب وعوامل لا شك يعزوها الباحث «تشينج» الى عوامل ثقافية ذاتية قادت الفن باتجاه ما يعبر عنه في المقولات والشعارات «يجب ان يروج الفن للاخلاق» او «روج للاخلاق بتلقين الدروس».
منذ سلالة السونج، وتصوير الادباء المثقفين، وما كان يشكل التيار الرئيسي من الفن الصيني، انفصلت الاخلاق عن التصور المنفعي للفنون، اضافة الى ان الفن الصيني ـ من الناحية الجمالية ـ لم يسع للاخلاص للحقيقة الموضوعية كالواقعية الغربية وذلك راجع للروابط الحميمية بينه وبين فن الخط.. وفي هذا المجال فان الحرية المميزة لحساسية الفنانين الافراد كانت اشمل في الفنون الصينية، والحرية في هذا المقام تمثل بالتأكيد العنصر الاكثر اهمية في الفن.
لمدة نصف قرن، منذ العام 1930 عندما ظهر اسلوب الرسم بالحبر المرتكز على الواقعية وحتى اواخر السبعينيات عندما انتهت الثورة الثقافية الكبرى، بقي هذا الاسلوب هو المسيطر في تيار الواقعية، الا انه لا يمكن ان نغفل بأن وجهة النظر التقليدية «تراث الادباء» قد استمرت في التعبير عن رأيها بطريقة او بأخرى، وقد استطاعت بعد الثورة الثقافية الحصول على الموافقة من السلطات بالقفز الى مكانها الصحيح ليبقى السؤال: هل تستطيع هذه الشجرة التي شاخت وهي تحمل ندوب المعارك ان تزهر ثانية؟.
في نهاية السبعينيات برزت ما يدعوها «لي تسيانج تشينج» بفترة التفتيت الثقافي الثانية، الصدام الذي اججته التغيرات في الغرب، والتي انتشرت كالهشيم في النار عابرة الارض نتيجة حلول عصر المعلومات والتطورات الدولية على الساحة السياسية والاقتصادية والثقافية والتي سرع من وتيرتها مقولات العولمة، ما اضطر الصين لفتح ابوابها مرة اخرى ليكتشف الصينيون الهوة الشاسعة التي تفصلهم عن العالم ووجد الفنانون انفسهم منقطعين ـ بلا رجاء ـ عن الفن العالمي.
ويقع اللوم في تفتت القيم الثقافية الصينية الى حقيقة ان اتجاهات ابداع الفنون العصرية بمجملها «تقاليد التصوير بالحبر حسب تراث الادباء ـ الواقعية المحدثة ـ والحداثة» لم تتمكن من صياغة نظام تحولها من الثقافة التقليدية الى ما ندعوه اليوم الفن المعاصر، وفي معظم الحالات فان تلك الاساليب بقيت متباعدة عن بعضها، بل انها كانت تصطدم فيما بينها باستمرار، الامر الذي كان يشتت طاقات المبدعين ويدعوهم للاعتماد على قوى من خارج ساحة الفن لمساندتهم.
فالواقعية، الى جانب التصوير التقليدي بالحبر، مثلا دون شك التيار الرسمي القويم لتقاليد القومية الصينية، وللثورية في العصر الحديث. وقليل جداً من الفنانين الممثلين لهذه الاساليب يهتمون بمواجهة القضايا التي يتعرض لها عالمهم فيعيدون تشكيلها لتغدو في اطار الفن المعاصر، ويمكن القول بأن «التكنيك» وتحسينه مازال يشكل هدفاً للفن في الصين، والسبب يكمن في ان الصين غير قادرة على بناء نظام قيم يتناسب وثقافتها المعاصرة الخاصة، فهي مازالت متعلقة بأطلال المدارس الفنية المختلفة وببعض الجماليات الكلاسيكية المنفصلة عن الواقع، واقع الناس المعاصرين.
الفن
المعاصر، الذي تأثر بالفن الغربي الحديث والمعاصر، يقدم وعوداً براقة في عالم الفن
الصيني، لدعوته الى استقلالية الفن والى طريق الحداثة، والمحاولات لا تتوقف اليوم
للانعتاق من الاغلال الفنية التي فرضتها ايديولوجيا الدولة في الفترات السابقة،
ولهذا فقد بات يبحث عن قيمه الخاصة والعودة الى فضاءاته الثقافية، والامكنة النابضة
بالروح والعقلية المعاصرة، ولعل التحدي الكبير الذي يواجهه الفن الصيني اليوم وهو
يستوعب التجربة الغربية ومدى تأثيرها على الفنون هو نبذ الاحتواء في نظام القيم
الغربي، فتطور الفن الصيني المعاصر خلال العشرين سنة الماضية كان اساساً عملية هضم
وامتصاص لمفردات الفن الغربي الحديث والمعاصر، وبفترة وجيزة شاهدنا كيف قلد اجمالاً
كل الاساليب الغربية في القرن الماضي، وقد اعتمدت التيارات الفنية المختلفة في
الصين في تشكلها على نوعية المعلومات القادمة من خارج البلاد وهذا ما اكد لظهورات
التأثر بالعولمة وهيمنة الغرب.
وفي حين كان الفن والفنانون في الصين يسعون للانخراط في المتغيرات التي تؤسس لهوية معاصرة فان الخطر بدأ يعاود ظهوره فيما يمكن ان نعتبره استقطاباً شكلياً للفن الصيني في المحافل التشكيلية الدولية الغربية مثل بينالي فينيسيا والدوكومينتا في كاسل حيث بدت الامور اكثر تعقيداً اذ كان مقياس اختيار الاعمال استفادتها من الرموز الصينية السطحية والاشارة الى الخصائص الفريدة التي يسهل فهمها، ولهذا نرى تصريحاً للناقد «تشينج» في المؤتمر الدولي لمنظمي المعارض الصينيين «اغسطس ـ 1998» يقول فيه: «الاعمال الصينية التي تشارك في المعارض الكبرى الغربية لا تتعدى ان تكون مقبلات خفيفة على المائدة الدولية، فالمعارض نوع من اللعب، وتحكم العالم الفني الدولي القوانين الموضوعة بمفاهيم غربية ومحددة بالنظم الدولية السياسية، ولهذا يختار القائمون على مثل هذه المعارض «من الصين وغيرها» الاعمال الموافقة لحساسيتهم الخاصة، والمتشابكة بطريقة او بأخرى مع النظم السياسية القائمة، وقد يختارون اعمالاً محددة دون زيارة البلد المقصود، فعجائن المقبلات اسهل اختيار، وهي تطابق فكرة تذوق الغربيين للطعام الصيني، ودون ادنى شك فان للفن الصيني خصائصه الفريدة، والتطرق اليها يقود الى مسالك شائكة كما هو الحال في تعريف المطبخ الصيني.
لا يريد الصينيون التشبث بافكارهم وتقاليدهم الى الابد، ولابد انهم كغيرهم من المحامل التشكيلية الدولية ينشدون الاستفادة من منطق تطور الحياة ولعلهم يودون الاستفادة من فرصة التحولات الدولية لوضع شروطهم لقواعد الجمال في فنونهم المعاصرة، وما يجب ان يقال هو ان الفن المعاصر لا يمكن ان ينعزل عن جمهوره في الصين، اليوم، وفي المستقبل، او عن الحيز الجغرافي الشاسع الذي تمثله الصين.. واذا كان القائمون على اعداد المعارض الدولية او المشاركين بها يبدون ملاحظاتهم على لعبة ادق استيعاب لمفهوم الفنون الصينية الناهضة اليوم التي تؤسس لموضوعاتها واساليبها وتقنياتها وبالتالي فهي تحاول ان تفرض هويتها في الحيز الكبير للعبة المعارض الدولية.
وفي كل الاحوال، ومهما اختلفت وجهات نظر الصينيين حول فنونهم، او اختلفت مع آراء مثيلاتها في التجارب الآسيوية، فانه يجب الاشادة بالجهود الساعية لطرح القضايا الجمالية على موائد البحث والمؤتمرات واخضاع الخلافات لنقاش جاد فيما بينها من جهة، ثم فيما بين تلك الفنون وفنون الغرب التي تحاول تثبيت الثوابت، وتقويم الزمن لصالحها بابتداع آراء وسطية فيما بين الشرق وغرب الغرب «القارة الامريكية»، حيث لم يعد النهوض الجمالي الآسيوي المبشر الوحيد بإزاحة المراكز عن مواقعها، فقد مارست امريكا هذا الدور منذ ستينيات القرن الماضي، وهي تجني ثماره اليوم، تلك التي نجدها في آراء العديد من النقاد والاكاديميين والباحثين في قضايا الجمال في آسيا بحثاً عن مكان يتموضعون فيه في التاريخ الجمالي العالمي.
الناقد الياباني الشاب «ناواراجي نوي» يذكر في كتابه «اليابان، العالم المعاصر، الفن بأن يابان ما بعد الحرب ليس لها تاريخ.. واذ تشير مثل هذه المقولة الى القدرية والابواب المغلقة، فهو يسعى كغيره من الباحثين الشباب الى حذف الوحشية من التاريخ، اي من الذاكرة، وهذا المنطق لا يخص شعباً دون آخر ففي روسيا نشأت منذ البيروسترويكا ما يمكن دعوته «مدرسة الذاكرة» في الادب، وهي مدرسة تحاول عبر الذكريات ان تعيد صياغة ما حدث، وهذا الامر وارد ايضاً في اوروبا الشرقية رغم ان المشاكل لا يمكن حلها بتجاهلها او الدعوة الى حذفها من الذاكرة ونسيانها، فالطريق الى الحرية والابداع لا يكون الا بالحفر عميقاً في جذور المشكلة، سواء في الصين او في الفنون العربية، او اليابانية او غيرها مما يستحق التواصل معه لتخطي الازمات التي تواجه الانسان المعاصر، وتواجه فنونه وثقافته.
بينالي البندقية..مهرجان التغيير والخيبة |
طلال معلا
بينالي البندقية التاسع والأربعين، والذي ينعقد كل عامين ضمن آلية اختيار دقيقة واحدة، يعتبر مهرجاناً حقيقياً لمتغيرات الفنون في العالم يجري التحضير والإعداد لها على مدى عامين كاملين من قبل فريق عمل متخصص ومتفرغ يسعى لإيضاح الأهداف وبرامج العمل وسبل الجذب ومواقع التحديث في المنظر العام لجسد الفنون التشكيلية في العالم، وهو بهذا المنظور يؤكد سلطته على فهم التوجهات وبناء مسارها عبر اختياراته للفنانين من اصقاع العالم ومشاركات الدول والأجنحة والفعاليات الفردية المنتشرة في أجزاء المدينة التاريخية وفي قاعات متاحفها وصالاتها المختلفة، إذ تتحول المدينة الى منتدى بصري على مدى ثلاثة اشهر اذ وجه الكوميسير العام لهذا البينالي الدعوة الى اكثر من مئة فنان عالمي للمشاركة في موضوع هذه الدورة (منتدى الأفكار) اضافة الى عدد مماثل ملأ ما يزيد على الستين جناحاً وصالة،
وقد انقسمت العروض فيما بين الحديقة (جارديني)، مكان العرض التقليدي حيث الأجنحة العامة للدول ومنها مصر، الدولة العربية الوحيدة التي تشارك في هذا البينالي كونها تملك جناحاً خاصاً بها منذ عشرينيات القرن الماضي، حين كان حكام مصر يتشبهون بأوروبا، ولعل بقاء هذا الجناح اضافة الى الاكاديمية المصرية في روما من اهم المنجزات الفنية التي جعلت حركة التواصل بين الفن في مصر و فنون أوروبا قائمة حتى اليوم، باعتبار ان العرض في هذا المستوى المهم يشكل اختباراً دائماً للتوجه الفني القائم فيها.
خيبة وحسرة
لم تؤثر كثيرا الافكار والآراء التي قرأتها قبل سفري لحضور فعاليات هذا البينالي واعتبرتها آلية تتكرر عادة في عجالة الكتابة عن الانشطة الكبرى، ولعل الاتفاق العام للنقاد الذين حضروا هذه الدورة التاسعة والأربعين للبينالي، على اعتباره (خيبة أمل فنية) لأسباب مختلفة يأتي على رأسها ان كل ما هو مهم في عالم الفنون موجود ـ تقريباً ـ في مدينة البندقية، وان عدم اكتشاف صالات.
وإذا كان مثل هذا البينالي الضخم يتيح فضاء مهما للحوار بين الفنون الانسانية عموماً، فإنه لحظة بلحظة لا يتوانى عن متابعة فنون الآخر، كمقولة اكدتها المشاركات المختلفة لمهاجرين من أوطانهم يبدعون تحت سموات اخرى، وظروف أخرى، الأمر الذي يقدم رواجاً اصطناعياً لأجنحة تعيد صياغة الفنون الوطنية مع تنامي العولمة الثقافية.. انه الفن الذي لا يتوانى لحظة عن استحقاق الاعجاب به رغم اننا نفاجأ غالباً بما ينزاح من عوالم ومقولات، وما يضاف من موضوعات وأساليب واتجاهات.. فالعمل الفني مفتوح على البحث.
القضية التي تعكس مأساوية الانقلابات الفنية، على الرغم من واجهة انقلابها المسلية، وكل ما تحققه الفنون في توجهها الى الاستغناء عن المنفعة.. والعمل الفني الذي يستمر بطرح الحماس الانساني ضد ملوثي البيئة والانسان يدعو في جانب آخر من البينالي الى العودة الى البداوة،
والمفاهيم الموازية لقيم البدائية للتخلص من الارث الثقيل الممزق للعلاقات الانسانية. والذي نستشعره من خلال المراجعة التحريضية للفنون المختلفة حيث كل واحد يحمل على كتفيه هموم الوطنية، والهوية، والخصوصية، والتميز الثقافي.
يعتبر
النقاد هذا البينالي فضاء للحوار اذن، وللتنافس ايضاً، في متتاليات الفيديو،
الفوتوغرافي، التنصيبات، والنحت، ومن الصعب الاتفاق على ان ما ينتجه الفن في العالم
هو حقاً ما يتنافس في أروقة وصالات بينالي فينيسيا، إلا انه لا يمكن ابدا اعتبار
هذه الفسحة الزمنية التي يلتقي فيها الفن الانساني خارج التاريخ الجمالي، وقد اسهم
منسق هذه الدورة (زايمن) بتحقيق هذا التنافس بمهارة ماثلت تنظيمه لدورات سابقة،
ولعل الغرابة في هذا تكمن في اختيار (ايطاليا) لمنسق أجنبي لمثل هذه الفعالية
الوطنية والدولية شديدة العراقة، يأتي على رأس فريق العمل الذي لا يهدأ هو يقيم
التوازنات بين الهويات الفنية المختلفة، المشاركة، أو المختارة ـ في الحقيقة ـ لمثل
هذه المشاركة،
وقد أكد لي السكرتير في زيارة أخيرة له قبل البينالي اهمية الحوار الذي يقيمه فريق العمل مع الجهات المختلفة للتوصل الى اختيار صحيح للمتنافسين على تغيير صورة الفن في العالم، أو على الأقل التوقف عند الحالة الراهنة لما يجري في اتجاهات الفنون الدولية سواء كان على ارتباط مع الحياة أو كان مناقضاً لتحقيقها، داعياً الى الناشر فيها، وفي كل الأحوال فإن بحثاً عن الجوهر يأمل المشاركون تحقيق وجوده عبر هذا التراكم الانتاجي الكبير، يقف وراء القصد، وهنا يمكن الاشارة الى اهمية التشاؤم الذي أبداه النقاد التشكيليون وهم يشيرون الى خيبة الأمل التي نوهت بها قبل قليل والمنحصرة الى مستقبل الفنون في العالم وآفاق تحولها باعتبار ما يجري عرضه اليوم مؤشراً حقيقياً لما يمكن أن تكون عليه في المستقبل.
أي جوهر
في هذا البينالي، حيث لا تنتمي الاعمال الفنية الى قيمتها المتخفية أو التحكيمية، حتى تلك التي تحاكي الفوتوغرافي، أو الديجيتال، وهي بأحسن أحوالها، والتي تقصد أسلوباً مشتركاً. هذه الأعمال تعرض لا تستعرض جوهراً جديداً، حتى العمل النحتي المتميز للانجليزي رون مويسك المدعو «الولد المقرفص» والذي يمكن الاشارة اليه كأحد الأعمال المتميزة جداً الى جانب عمل (المسيح الأصلع) لمارك والينجر حيث بلغ ارتفاع العمل الأول خمسة امتار، وقد اتاحت الواقعية المفرطة لجمهور البينالي الوقوف طويلاً امام مفهوم جديد للتعبير النحتي الملون، وهذا ما استطاع ان يعرضه التنصيب الذي قدمه كل من (ماك جي، باورس وجيمس) عن السوق والمنجز في هذا العام، حيث حمل الفنانون هذا السوق الى صالة العرض بتفاصيله مستفيدين من تجربة عرضهم الاول لإنجازه في العام 2000 في الولايات المتحدة، فهم يؤكدون على توجههم التقليلي والاختزالي دون ان تغدر التفاصيل الجوهر الذي يشير الى عالم الاستهلاك واهمية السوق الجمالية في تشكيل المباديء الجديدة التي تقتضيها التحولات الراهنة. لقد ازدحمت الصفوف أمام الجناح البريطاني فعلاً لمشاهدة عمل (مارك والينجر) المدعو (المسيح الأصلع) والذي عرض في العام الفائت في ساحة (ترافالجر) فقدم هذا العرض الدعاية اللازمة له، ما أثار العديد من أسئلة النقاد والجمهور حول أهميته خاصة وهو يبدو في الصالة في غاية البرودة والحياد، لقد وصفه أحد النقاد بأنه يبدو «كشخص يقدم المناشف في حمام البخار»، مع ذلك فقد بدا شديد التميز ضمن عروض الجناح البريطاني الذي عرض فيلمي فيديو. احدهما لرجل أعمى على درج كهربائي في محطة مترو، يمشي دون ان يتحرك من مكانه والآخر لبوابة الدخول الى صالة مطار (الحد الفاصل لولوج المملكة) وقد صاحب هذا الفيلم موسيقا ساخرة للفنان (أليجري) الناقدة (جنفييف بريريت) كتبت في «اللوموند» مشيدة بتجربة الألماني (جريجور شنايدر) الذي يبحث منذ عشرين عاماً في موضوعة (المنزل ـ العقل) والذي أشاد التحكيم بجهوده في هذا المجال مما جعل الحشود تستمر
في صفوف طويلة للاطلاع على هذه التجربة.. انه (البيت الميت)، غرف داخل غرف، ومتاهة الممرات التي تتدلى من سقوفها اشكال هلامية.. انه ومنذ العام 1985 مستمر على هذا البحث هادفاً للتأكيد على النجاح الذي لاقاه في العرض الذي قدمه العام الفائت في لندن (القيامة).
تجارب ملفتة
لم يكن الوضوح في الطرح وحده ما شد الجمهور الى بعض التجارب المتميزة، ولا حتى الواقعية المفرطة التي قدمها (روبرت جوبر) في الجناح الأمريكي، حيث تتجلى المباشرة في أعلى امكاناتها، اذ قدم مجموعة نحتية بسيطة ومعقدة بآن معاً، والدخول في مقولات تشكل قناعاته المتكاملة عن قضايا العصر في اطار تقليدي قديم (ستريوبور، خشب، بلاستيك، زجاجات، قصاصات جرائد، أدوات تنظيف الحمامات). لقد حاول ان يعيد صياغة نصوصه البصرية عن تلك القضايا بعيداً عن قدسية الاكتمال، مكملاً بذلك توجهاً عاماً في بلاده حول الاشياء والتشيؤ، لكن بغاية الشعرية والتحليل النفسي المتقدم والمنغلق بذات الوقت.
الواقعية المفرطة لجوبر، تقابلها موهبة الكوري (دو هوو سوه) في عمله المتقن (الشخص ـ الآخر) المنفذ بالشرائح المعدنية (قلادات معدنية لماعة يضعها الجنود في رقابهم للتعريف بهم، وتوضع في افواههم حين يموتون)، انها هوية الشخص، تتشكل من الموجة المعدنية التي يبدأ بها من خارج الغرفة ليدخل البصر مع الانتظام المعجز الذي يشكل (الشخص ـ الآخر) بلباس مقدس لامبراطور شرقي.
جماعة «كراكينج آرت» قدمت مثالاً وخطاباً بيئياً عبر (1350) سلحفاة نفذت بالفايبر وبأحجام مختلفة، توزعت في الممرات الخارجية للقسم الأساسي من البينالي (جارديني) حيث المشاركات الدولية وقد طليت جميعها باللون الذهبي مشكلة نداء صارخاً للعالم لانقاذ السلاحف (سلاحف في فينيسيا)، وقد ظهرت في الممرات وكأنها تقود المشاهدين الى مواقع ابلغ واقعية خاصة وهي تبدو هاربة من مكائن الفن (موتوسيكل قدمه أناتول لاكنر من بودابست) في تأكيد على (الفن الحركي) الذي كان يمكن مشاهدته وهو يستعرض تغير تلقيه مع اختلاف المشاهد والأزمان، إذ يمكن امتطاء أية دراجة وقيادتها في ممرات الحديقة للتنقل بصعوبة بين الأجنحة والمشاركة في صياغة موضوع واقعي يكون المتلقي الجزء الفاعل فيه، خاصة وهو يقدم عبر هذه الآلة بربط ايهامي بين مختلف هويات المشاركين في الاجنحة المختلفة.
على هذا الاساس لا يمكن اقصاء ملاحظة التقارب البحثي فيما قدم عبر التنصيبات من قبل (ارنستو نيتو) من (ريو دي جانيرو) والفنان (ريتشارد سيرا) من سان فرانسيسكو، رغم ان مادة الأول كانت القماش الشفاف الذي ساعده على بناء تصور لمكان (تيهي) بينما قام الثاني الذي يلغي الإنسان عبر إلغاء ذاكرة الحس المتعلق بالجاذبية واحتمالات المعرفة المسبقة للأماكن بإقصاء الوضوح عن الأهداف الأولى لتحقيق علاقة صحيحة وحيوية بالمكان.. وعلى هذا الأساس ايضاً أدخل جماعة (هيلي جلوبال آرت تور) بقيادة (ميشيل شميتز) طائرة هليكوبتر الى مكان مغلق، هو واحد من خزانات الميناء القديم واحيطت بمجموعة معيقات معدنية علقت عليها اوراق صغيرة ورسائل تحمل التحيات للفنانين المشاركين، وقد حاولت المجموعة الاشارة الى ان هذا العمل البالغ الواقعية، ليس عملاً فنياً، قدر ما يمثل طلباً لمساعدة الطفولة في جنوب افريقيا.
الفنان (ماوريتسيو كاتيلان) وهو ايطالي مقيم في لندن ونيويورك، قدم (الآن جدتي)، وهو العمل الأشهر على ما يبدو في (كاتيلان)، اذ يمثل العمل الى جانب الفضاء الشاسع المغلق والمعتم، تمثالاً شديد المطابقة للبابا. وقد وقع على الأرض وفوقه صخرة، التمثال على سجادة حمراء تغطي كامل المساحة لمخزن الميناء الكبير، وقد تمكن الفنان من بيع العمل في احد مزادات نيورك بما يقارب ملياري لير ايطالي.. هذا العمل يحاكي ما طرحه دوشامب من حيث الفكرة وهو يقدم مرة اخرى
الاهمية لفنان يتمثل نجومية فناني البوب في هذه الايام.. وليس بعيداً عن هذا العمل المثير، قدم السويسري (نوت فيتال) سبعون جملاً في الماء، وهو تنصيب اقامه الفنان في مياه الميناء بالقرب من الرصيف حيث تبدو قافلة الجمال تسير بانتظام شديد وبخط مستقيم، ولا يبدو منها سوى قحف الجمجمة (الجزء العلوي) ويمكن مشاهدة التغيرات التي تطرأ على هذه القافلة كل ست ساعات أي باختلاف المد والجزر، ليس هذا وحسب، بل على الخيال قبول هذا التحول السوريالي لقافلة الجمال التي اعتادت الرمال وكثبان الصحارى، وانقلاب مناخها وبيئتها، الى البحر، الماء اللانهائى، كثير من الأعمال المشاركة رمادية، وقد لا تقول شيئاً على الاطلاق،
الا ان اعمالا اخرى استطاعت ان تعيد مقولات الفن، وان تحاول التعبير عن موضوعات العولمة وبناء بعض التصورات عنها، هذه الاعمال وقعت في مغامرة المضامين الجديدة، ولهذا فهي تقول شيئاً قليلاً أو انها لا تقول اي شيء، وهذا ما دعا لمشاهدة اعمال كللتها الالوان واهمية الطرح التقليدي، اي تكريسه دون التفكير بالبدائل الجديدة فمنذ الثمانينيات في القرن الماضي ـ على اقل تقدير ـ وحتى الآن لا تزال سوق الفن راكدة، وقد كان على المنسق لهذه الدورة (زايمن) ان يدفع بالتباري بين الفنانين باتجاه الاكتشاف اكثر، وألا يكتفي بالدور التنسيقي والبروتوكولي.. الاختيار الكبير للمشاركة النسائية كان ظاهراً في الشجب ورفض الموت من التعب والارهاب ورفض طغيان (ماركات) الاستهلاك أيضاً، هذه المشاركة لفتت الأنظار الى حجم المقولات السياسية في الفنون الموجهة الى جمهور عريض يمكنه ان يملها بسهولة، ليس في الاعمال الانثوية وانما في ابداعات الفنانين امثال (سيرجي شوتكوف) من ألمانيا وهو يعرض تركيباً تنصيبياً لمجموعة اشخاص انتظموا في صفوف راكعين وقد غطتهم ملاءات سوداء وكأنهم في وضع المتعبد، بينما تتصاعد اصوات في المكان غير واضحة وكأنها تشير الى كل لغات العالم، لغط وضوضاء، دون أية اشارة الى دين محدد، والمهم في هذا العمل التمثيلية التصويرية التي تنشئ زمنا خاصا بها هو الطقس الذي يستفيد من علاقة الجسد الانساني بالقوى التي تحركه ..
هذه الضوضاء تتكرر بشكل مزعج في فضاء آخر اقترحه الفنان (ماساتوناكامورا) وهو تنصيب باستخدام (لوغوماكدونالد) الاصفر الشهير الذي يلتف متكررا اربع مرات ليلقي بثقل لونه الكهربائي الاصفر متحولا الى بوابات الى عالم من الضجيج الذي تطلقه اجهزة اورغ كهربائي مربوطة باستمرار على دوسات محددة، حيث يشكل الصوت المستمر دخولا قسريا الى بيئة او مناخ غامض، انها الوجبات السريعة التي تشير الى عولمة الهوية.
لقد استفاد الايراني (عباس كياروستامي) من الضجيج ايضا في صياغة فيلمه (عبر النافذة) اذ يكرسه طويلا بينما النظارة وقوف على اقدامهم ينتظرون ان يكف هذا الضجيج .. انها اللحظات التي يأوي بها الانسان الى فراشه لينام بهدوء، وبطلة الفيلم القصير تدخن في الفراش وتقضم شيئا ثم تلم شعرها . من النافذة يقترب اللغط، تتنفس بصعوبة، وتمر عشر دقائق على هذه الحال بينما المشاهدون متسمرون في اماكنهم، لوحة من الازعاج تعيش زمنها الواقعي باستمرار وكلا الطرفين (الحقيقة والوهم) يكاد يهم بالكلام، لكن لا أحد يتكلم. زمن ثقيل وممل وطويل يطرح اسئلة عميقة يكاد الفيلم لا يجيب عنها تحت وطأة الضجيج الذي يقضي على الاحلام.
حيرة الفيديو عموم الافلام المشاركة في الـ (فيديو آرت) تحمل افكارا ومضامين، الا انها بقيت نائية عن جوهر التغيير وآلياته، فسيطرت بذلك التقنية والعلوم على اسباب ابداعها، بل انها ظهرت جلية في الخروقات التي حققتها بعض هذه التجارب ومنها على سبيل المثال لا الحصر «كليب» قدمه الامريكي (كريس كونينغهام) من بنسلفانيا (كل شيء للحب) يقدم من خلاله القدوم الاول للفن، والولادة الاولى لموسيقا الروك ونجومه الذين حققوا نجاحات لا نهائية منذ بروزهم انه يستفيد من هذه الحالة البصرية لتحقيق سمة او طابع صوتي من خلال المونتاج الدقيق لسيرة (روبوت نسائى) ابيض اللون تظهر اجهزته واسلاكه الداخلية في الدماغ والمفاصل والبطن،
ويتميز بوجه رومانسي حالم، يفتح عينيه ويغني (كل شيء للحب) بصوت نجم البوب (بيورك) اختبار غني لنفحات العصيان الستة».
لماذا يتنافس العارضون على القول؟ العرض؟ اظهار البواطن العصيبة للحقائق بعضهم يشي عبر عمله بانه لم يعد يستطيع الصمت، الهذا حملوا اعمالهم الى فينيسيا لتقديم المتعة الجمالية الى جانب الحيرة المطلقة لمسيرة الفنون التشكيلية، وهل كانت هذه المعروضات موضع اهتمام الناس؟ والنقاد؟ لم تبد المدينة البحرية الوادعة فاصلة تماما من وجهة نظر منظمي هذه التظاهرة، وان كانت امراض الناس ومصائبهم غائبة عن الحضور في اطلاقيات البينالي فهذا عائد ـ كما يشير احدهم ـ الى عدم وضوح الرؤية الكونية هذه الايام وهذا ما دعا صيحات الفنانين للتوجه نحو البداوة، وقيم التصحر .. حتى المشاركات الايطالية التي كانت تقدم صرعاتها فيما سبق لم تكن لماعة، وهي بمجملها لم تتجاوز تجربة كل من (ميموروتيللو والليجييروبويتي) وبعض التجارب الشابة امثال (اليساندرو تيزي، ايفا ماريسالدي وماركو نيري).
وقد اعتبر بعض المهتمين ان قيادة المنسق زايمن للتنظيم الدولي اغفل الكثير من المشاركات الوطنية على المستوى الايطالي الامر الذي يشكل خطورة على مكانة المشاركة الايطالية التي بات يدب في اوصالها القلق والوهن، بينما ترى جهات اخرى ان هذه الدورة المخيبة للآمال ليست نهاية المطاف فالوقت مازال متاحا للعب دور في اعرق بيناليات العالم والذي استطاع ان يحافظ على عديد التوازنات في القرن العشرين بمواجهة الانتقالات المنظمة من اوروبا الى امريكا وتكريس المركزية الامريكية للفنون بدلا من المركزية التقليدية في اوروبا والتي بدأت ارهاصاتها منذ ستينيات القرن الماضي.
شمولية وتعدد
ان هذا البينالي وبكافة المعايير النقدية، يحتاج الى وقفات طويلة على كافة مستويات العرض وانواعها، التصوير والنحت والفوتوغراف والفيديو آرت، والتنصيبات والطباعة الملونة، والمشاريع البيئية والجسدية والمواد الفيلمية وغير ذلك من المحافل التعبيرية، كما ان التداعيات التحليلية التي رافقت هذه الدورة لم تستطع ان تفرز أكثر من الصدمة التي تلقتها على المستوى المفاهيمي الجوهري دون الوقوف على التفاصيل الاختبارية ليبقى السؤال الأبلغ عالقاً في الاذهان، من يحدد السوية المشاركة فعلاً، وما هي الأهداف التي تقرها المؤسسة القائمة على تنظيم المعارض الدولية؟ وهل هناك معايير لصفة العالمية هذه؟
بقي ان نذكر انه إلى جانب الجسم الأساسي للبينالي تمتعت فينيسيا بعديد من المعارض من دول كالأرجنتين وهونج وكونج (الصين)، تشيلي، كرواتيا، استونيا، فيروم، ايرلندا، جامايكا، لوكسمبورج، نيوزيلندا، البرتغال، أمريكا، قبرص، ليتوانيا، سنغافورة، سلوفينيا، تايوان، تركيا وأوكرانيا.
كما ان معرضاً شاملاً لتجمع دولي قد أقيم في المعهد الايطالي ـ اللاتيني للدول: بوليفيا، كولومبيا، كوستاريكا، كوبا، اكوادور، السلفادور، جواتيمالا، هاييتي، الهندوراس، نيكاراجوا، بنما، الباراجواي، البيرو، وجمهورية الدومينيكان.
المعارض الجانبية كان لها دور احتفالي بالفنون أيضاً، وبتقديم تصور أوسع لحال الفنون في العالم كمعرض (هكذا إذن) في المتحف العلمي ومعرض (داخل افريقيا وخارجها) ومعرض (عدن في الوثائق) ومعرض (فضاء في فينيسيا) ومعرض (بورتريه المشاهد) وهو معرض لمجموعة فنانين يعملون بالاتصال مع السينما والمسرح والموسيقى والفيديو والرقص والكتابة والعروض المختلفة، وذلك بالتوافق مع حساسيتهم التشكيلية والبصرية، ومعرض (الفن الماركسي والسلطة)
والمعرض الهام (ماء ونار) لفنان العروض الالكترونية فابريتسيو بيلسي، وعرضاً تنصيبياً للفنان ميكي نيلسون كل هذه المعارض الجانبية كانت في فينيسيا بينما قدم البينالي عروضاً موازية على هامش الحدث في المدن الايطالية المختلفة أمثال كوردريبو، وباليرمو وشهد البينالي فعاليات موازية مختلفة كالمعرض الدولي لفنون السينماتوغرافيا والحفل الموسيقي والمسرحي (التنوع الانساني) ومعرض (افتتاح 2001) ومعرض (تخيلات اسطورية) والمعرض المكسيكي الهام للفنانين (فريدا كاهلو، دييجو ريفيرا، وروائع من الفن المكسيكي يأتي على رأسهم الأعمال الشهيرة للفنانين سكايروس أوروزكو، وغير ذلك من المعارض التي تضم فنانين من ايطاليا أو أجانب في غير مكان في فينيسيا وخارجها.
أخيراً يمكن ان نشير إلى ان مسألة الهوية مازالت مطروحة بقوة في الخطاب التشكيلي الدولي، وان ما يبدو على انه تجاوز لها لا يعدو ان يكون توجهاً فعلياً لاعادة تنظيم طروحاتها الداخلية والذاتية، ولا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار ما يجري في ظل الدمج العولمي نأياً عنها، فهذه الدورة من بينالي فينيسيا وان لم تستطع ان تقدم جديداً على مستوى المضامين أو التوجهات الفنية حتى وهي توسم بأنها دورة خيبة الأمل، إلا انها تقدم مراجعة للذاكرة وتطرح مقولة الهوية وخاصة من قبل باقي فئات الفنانين الذين لا ينتمون إلى جغرافية الابداع الغربي الذين يؤكدون بأعمالهم انه رغم تمثلهم للمحافل التعبيرية التشكيلية الغربية فإنهم يؤكدون بشدة عدم انضوائهم في نظام القيم الغربي.
العرض لقضايا وطروحات جديدة في الفنون بعد ثلاثين عاماً، من تصدر الفنون الحديثة قوائم الأولوية في صالات العرض الدولية وخاصة (الفنون المجهزة في الفراغ والفيديو آرت وفن الأداء ومختلف التشكيلات الأخرى) كل ذلك دفع باتجاه فغر الأفواه، ليس دهشة مما ترى العيون، وإنما خيبة وتحسراً على وداع قرن كان آفلاً بالمتغيرات ولم يستطع ان يقدم في استقباله للقرن الجديد فنا جديداً كانوا يطمحون ان يكونوا على موعد معه، خاصة وان سمات العصر الجديد تحمل من الاندفاع الفلسفي والتقني ما مكن احدى شركات الهاتف الخلوي (مجلة فريز الفنية) ان تبعث رسائل مكررة يومياً وفي تواريخ محددة تدل متلقيها على أفضل الأجنحة والعروض اضافة إلى الأشياء التي يمكن ألا نهتم بها، هذا العالم السريع والغامض والمفعم بالضجيج لم يعد الفن فيه (موضع الاثارة).
انه عالم الأخبار السريعة حسب رأي «بيتر بلاجينيس» الذي كتب «ان وضعية الفن الجديدة كأخبار تتصدر الصفحات الأولى تؤكدها التغيرات في ملامح المؤسسات التي تقدم الدعم، ففي الماضي كانت تقتصر فقط على المصارف الكبيرة والباردة، التي تلحق أسماؤها بمؤسسات الفن الحديث لتظهر أنها ليست كبيرة، وليست باردة، ثم جاءت شركات التبغ على أمل تحسين سمعتها، فقد اكتشفت احدى شركات الملابس ان هناك عدداً كبيراً من الزبائن المحتملين الموجودين الذين يريدون ان يظهروا أكثر أناقة في معارض الفنون، والآن حيث تبتلع الرأسمالية الجديدة بوهيميا بأكملها، تأتي (بلومبيرج) التي تعمل في خدمات الأخبار المالية لتمول الجناح البريطاني بمجمله. (بينالي فينيسيا) حاول ان يتعرض للاشكاليات الانسانية، وهو بهذا التوجه يتابع المقولة الكبيرة التي لم تغب طيلة القرن الماضي.
تاريخ الفن .. الروح اللغة الاختلاف |
طلال معلا
في رحلته، عانى الفن من قضايا ومسائل هي تاريخ الانسان، ولا شك ان الجوهر الانساني في هذا التاريخ كان الاكثر تأملا في مفاهيم الحقيقة المبنية على تناقض الثنائيات بدءا من ثنائية الخير والشر وانتهاء بثنائية القبيح والجميل وكل مالم نتمكن من الوقوف عنده لاسباب تتعلق بتحقيق هذا الجوهر الانساني الذي يعني التطوير والتجاوز اكثر مما يعني الوقوف على هيئة او شكل او حقيقة بعينها.
فالانسان يجسد قفزاته الحضارية في آليات التبادل والحوار والانتقال والاستفادة من تجاربه وخبراته المتراكمة وفي صياغة خطابه المتجدد المعبر عن قضاياه المعاصرة ومختلف المسائل الفلسفية والابداعية التي تعبر عن احتياجاته وتأكيد انتمائه لحركة الحياة التي تفرز ثقافتها وتكون افرادها، بل وتبني خيالاتهم وفق منظومات الرموز والقيم والوسائط والآليات والقوانين.
حوارات وثقافات
اقول الانسان كونه المعني بالحضارة، والحواضر، والذاكرة، وازمنتها، وكل مايتعلق بمعاني التبادل الثقافي، واذا كان ماقدمته شديد الاطلاق، فان التركيز على موضوعنا (الذاكرة ـ الهوية) لا ينظر اليه من هذه الشمولية وحسب، بل ان الاشارة الى الاختلاف في وجهات النظر، والتراثات، والتوازنات انما هو اقتراب لا نفور،
ودعوة لتحقيق تجانس تعددي، قد يمثل زماننا الالكتروني، اليوم شكلا من أشكال الحلول التي تؤكد على التعدد الحضاري، والتنوع الفكري فيه والذي يمتلك تفاصيل واشارات التطور المستمرة في تغير الازمان، والمواقف والعصور، اذ تصرح كل حقبة عن نفسها وعن هويتها، وذاكرتها.
وبمقدار ما تشير اليه وسائل الاتصال في عصر المعرفة، وما استطاعت ان تحققه في عصر التقنية الا ان كل ذلك المتضمن فتوحات ومسائل اعادة تشكيل الهوية وفق منظومة المتغيرات التي تشكل العولمة احد اركانها بمقابل استفادة الثقافات الانسانية من مضموراتها الارثية باعتبارها فنونا متجانسة الركائز لا يمكن القفز عنها والغاؤها لتعميم مقولات الآخر الوحيد الذي لايريد ان ينكشف، بمقدار مايريد ان يثبت ثقافته وقيمه الفنية والجمالية،
وهذا مايجعل هذه النقطة الاكثر حساسية في نقاشات النقاد والمنظرين في المؤتمرات المتعددة والندوات المتناثرة في الشمال والجنوب على حد سواء، مثيرة مختلف القضايا والمصطلحات التي تناقش هذا الحقل بالغ التعقيد دون ان تصل الى نتائج ابعد من الحرص من مقولات هذا الآخرالوحيد، الذي يمتلك كافة الوسائل التي تضمن له القوة والتفوق في تثبيت مختلف المناقشات لصالح الصراعات التي يفرضها الاختلاف.
تراكمات الذاكرة
الاستاذة «كارول شيبارد» من جامعة اوكلاند بنيوزيلندا ترى ان الافكار تتداعى حول الثقافة والتعددية، وانتقالات الفنون عبر الثقافات، حقل بالغ التعقيد يخضع يوميا لمناقشات جديدة ومتباينة: صراعات الهوية، الخصوصيات الثقافية، اساليب واشكال الفنون التي لا يمكن ان تعلي من شأن الاجتماعي والبيئي والتراكمات الثقافية وتأثيراتها على تجارة الفنون الدولية ..
تساؤلات تتعاظم حول كيفية تضمين الفن لخصوصية ثقافية، وبروزه دوليا بما يؤهله للتواصل والحوار الخلاق، ان السعي الى تضمين الفنون تراكمات الذاكرة المحلية تشغل الجميع، ونحن ضمن هذا السياق نحلل كيف نستطيع في منطقة جغرافية نائية
وقصية على المحيط مثل نيوزيلندا ان نكون، وذلك بتوضيح خلفيات معقدة ومتشابكة عبر نماذج لفنان شهير في مواجهة القرن المقبل بحثا عن تميز ومكانة».
قالت (شيبارد) كلامها في السنة الخاتمة للقرن الماضي، رغم كل التأكيدات التي يفرضها الآخر من ان العولمة ـ مثلا ـ حقيقة ماثلة، وان ثورة الاتصالات والاعلام الرقمي ستوحد الشعوب والمعلومات والنظم وتقرب بين الناس في العالم، ولعل هذا ما يدعو الباحث والرسام البرتغالي فرناندو آجويار للقول: اخطر ما في العولمة هو الشباب، حيث المجلس والمأكل، القيم والتقاليد واحدة، من امريكا الى افريقيا وآسيا واوروبا واستراليا وكذلك استخدام اللغة الانجليزية لغة حديث يومية. ولعل (آجويار) في اشارته الى لغة الحوار الوحيدة الممكنة (اللغة الانجليزية) يؤكد ارتيابا عاما يطال المواقف الثقافية والفنية في انحاء العالم، بل ان الكثير من الباحثين يشيرون الى هذه اللغة المركزية التي لا يمكن الحوار الا عبرها،
ولهذا تشير الباحثة الكورية (إن يونج آهن) الى المعنى الصافي او الترجمة الحقيقية، اي تقليص الاختلاف بين الاصل وترجمته في عملية مستمرة والحاجة اليها قائمة .. هذه الحاجة مقرونة بفاعلية تحقيق لغة عالمية واحدة، اذ يشكل تعدد اللغات استحالة لترجمة مركزية الخطاب، وفي كل المؤتمرات لابد من المرور عبر اللغة الانجليزية، ولعل ما يستعصي على الترجمة يخلخل الفكرة القائلة ان قراءة اختلاف الآخر ممكنة دائما.
الحوار العالمي
(ان يونج آهن) تشير بوضوح ـ اذن ـ الى رفض حركة فن الشعب في كوريا في نهاية القرن العشرين لعالمية الشفافية الحداثية حين اعتبرت العناصر الجمالية المحلية وهي تستجيب لبناء صيغ موازية تحت غطاء الحداثة وما بعدها انما تعيد الانسحاب من التاريخ ولهذا كانت حركة الـ «مينج جونج» التي اعادت اكتشاف جذور الفنون المحلية في اللغة، والثقافة، والتراث الكوري المحلي ووسط مواطنيه،
وهذا ما اوعز للحداثيين الكوريين الى اعادة تقييم ثقافتهم الخاصة وتراثهم الذي ينتمون الى حقيقته .. اي اعادة تركيب الهوية الكورية منذ بداية الثمانينيات في القرن المنصرم، والتي نقرأ الكثير من الملاحظات المسجلة على تحولاتها، ومنها الاشارة الى ماحصل من اختزال في هوية الفن الكوري، وحصر روح هذه الفنون بخاماتها وتقنياتها او بالتقاليد المحلية،
وذلك سعيا للموافقة بين الاصل وامكانية ترجمته الى لغة الحوار العالمية التي ذكرت في البداية بأنها لابد أن تمر عبر وسائل وتقينات الشبكات العالمية للوسائط الاعلامية الالكترونية، التي تشير اليها ظروف القرية العالمية ذائعة الصيت او ما يقال بانه الحقيقة المركزية لقوة الثقافة والفنون المعولمة وذلك حين نفهم بان الحدود الوطنية والثقافية تتضاءل معانيها في الذاكرة بوتيرة اسرع كلما تسارعت تقنيات الاتصال بالانتشار، وان تحقيق ذلك يدفع (بالضرورة) للدخول في الحوار العالمي.
الخروج على المناظير
وسواء قصدت الباحثة استحضار اللغة لاضاءة العلاقة التخيلية للشعوب والسبل التي تقتضيها اللغة للوصول الى هذا المتخيل ام لا، فان ضياعا واضحا لمعالم هذه الصورة يؤكد ابتعادها عن جوهر الذاكرة التي تؤكد على استحضارها، بمعنى ان الوعي المتخيل انما هو جانب اساسي في اللغة الرمزية التي نعتبر الفن احد وجوهها،
بل ان هذه اللغة الرمزية ـ على تعدد وجوه تحققها انما تسعى دائما لاعتبار الانسان مركز الوجود .. وبكل الاحوال فان هذه اللغة تجمل المفاهيم المتضاربة حول موضوعات الفن وهي التي تسعى لتغيير الحدود التاريخية والجمالية والتقنية التي تربط العمل الفني بزمنه وتؤدي في الغالب الى خروج على المناظير المؤسسة في حدود الواقع والثقافات، وكل ما يطال الحوار الدائم والتجربة الخيالية والتواصلية بين تاريخ الفن وتاريخ الروح.
بالمقابل فان اللغة كأداة لدى (فوكو) انما هي (اللغة التي تسمي وتقطع وتؤلف، وتربط وتفكك الاشياء .. وعندما تقوم اللغة بدورها هذا تحول تتابع الاحاسيس الى لوحة وتقطع بالمقابل استمرارية الكائنات الى خصائص». وهذه اللغة انما تنحصر في
الاطار التصوري الذي يؤدي في الفنون الى ابتداع عوالم موازية تقف كالظل للعالم الواقعي الذي نعيشه والذي يشير اليه الباحث (محمد عابد الجابري) حين يذكر في احدى دراساته بان هذه العوالم ( هي عوالم تصورية، اعني ان تعاملنا معها ، سواء في اطار الدين او الفلسفة او العلم،يقوم على مجرد التصوير لا غير.
تشرذم الخصوصيات
هل هذا ما يجعل الفن العربي حتى اليوم نائبا عما يجري من تطورات في المسرح الكوني الفني، وهل لهذا السبب لم تبتدع المخيلة العربية حضورها الواعي والفاعل والايجابي في بؤرة الصراع الدولية فيما يخص المحامل التعبيرية المولدة والتي تعكس الظواهر التي نراها في المجتمعات الابداعية الاخرى كالذي يحدث في امريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا والدول الاشتراكية سابقا ام ان سلبا يمارس على صيرورتها تذكيه احداث سياسية وفكرية تعمل على نفي تحققه .. بل قد نستطيع القول بأن التسلل الى ساحة المتغيرات الابداعية الفنية مازال مرتبطا بمجموعة المتغيرات التي لم يتم تحققها بعد في المجتمع العربي.
لا ينبغي الجزم باجابة محددة حول هذا الموضوع، خاصة على الصعيد العربي، لانقسام التشكيل مثلا فيه الى لغات قطرية، ولتشرذم خصوصياته الفنية في عوالم تسعى الى اهداف قد تبدو متماثلة في جوهرها الا ان السبل والآليات والطرقات التي تسلكها تعكس الازمة الحضارية التي تعيشها الثقافة العربية وهي تسعى لصياغة مشروعها.
واذا كانت قلة من الفنانين قد استطاعت ان تلامس حقول الزمن الالكتروني فتقصلت المسافات فيما بينها وبين لغة الحوار العالمي، فان هذه القلة انما دخلت هذا المضمار من بوابة اللغة المفروضة التي تحدثت عنها الباحثة الكورية، اي عبر تعبيرات الآخرين، والذي يحلو للبعض تسميته بالحوار الحضاري العولمي، لابل يؤكد بعضهم الى ان سيطرة اللغة الواحدة على سائر اللغات لا يمكن ان تخيف احدا، وهذا ما يذكره (علي حرب) في كتابه حديث النهايات: «لاخوف من ان تسيطر لغة واحدة على سائر اللغات،
فالحياة تولد الشبيه بقدر ما تولد المختلف، حتى الولايات المتحدة التي يخشى من هيمنتها، لا تشكل عالما واحدا متجانسا وانما هي عالم مفتوح على المختلف، ونسق مركب يستوعب المتعدد والمتنوع، كذلك لاخوف من سيطرة لغة الرقم الالكتروني، الشاملة والباردة، على لغة الكلام الحميمة والفردية، فلغة الحاسوب هي في النهاية امتداد للكلام البشري الذي يشكل اساسها وشرط امكانها».
تقدم رؤية (علي حرب) تطلعا الى المستقبل في ضوء ما يتغير وكل ماينقلب «المكان، الزمان، الحضارة، الذاكرة، المدينة والمجتمع، الواقع والحقيقة، الثقافة وصناعة الحياة» ولا ادري ان كان نفي الواقع بكل مجرياته يمكن ان يحقق السبيل الى الواقع او الى الوعي الذي يقصده الكاتب، خاصة حين نعيد التساؤل الذي يطرحه (هيجل) كيف يستطيع الوعي ان يمتص ويدخل في بنيته ماليس هو؟ اي كيف يكون السلب سابقا على الوعي، وهذا مايعيد صياغته (سامي ادهم) في كتابه ما بعد الحداثة، حين يكتب «كيف تقوم قوة عمياء، غير واعية لترفع الوعي الواعي».
في ظل هذه المقولات تحتاج الفنون، ومنها الفن العربي ـ للسعي الى اعترافات دولية بوجودها، بان تترجم الى اللغة الفنية العالمية المعاصرة، اي الوقوع في براثن عدم التكافؤ والهيمنة وكل ما قام النقد برصده حين اعتبر الفنون في الاطراف انما هي فنون تابعة تسعى للحصول على التقدير والاعتراف بوجودها من قبل الخطاب النقدي الغربي، اي عبر لغة الهيمنة الفنية للمركز،
ولعل المتابعين لمشاركات الافراد والدول في الانشطة المركزية الاوروبية يرون نوعية المشاركات التي يوافقون على عرضها، ويتأكدون من انحدارها الى مستويات لا تمثل الرؤيا الحقيقية للفنون في بلدانها، اذ بدلا من التوغل في خصوصيات الابعاد الجمالية والنفسية والفلسفية والعقائدية لشعوبها تقوم بتقديم القشور الفولكلورية والموضوعات الوسطية النائية عن اللغة الام .. فمثل هذه الانشطة تقبل مشاركة المنفيين من لغاتهم. او ما تؤكد الباحثة الجمالية الكورية (آهن) على انه ميزة القرية العالمية وهو ان مواطن القرية العالمية لابد ان يكون اجنبيا.
في التشكيل اليوناني المعاصر:الانسان يواجه مصيره التراجيدي |
طلال معلا
لا تتوقف روح الانسان عن المغامرة، اذ لا تعترف بالحدود او الطرق المسدودة في سعيها الى التطور والبحث، مهما كان الانتقال بسيطاً او غير ملحوظ بالقياس الى الزمن. واذا كانت التجارب الانسانية المعروفة وخاصة في مجلات الفنون توحي ـ احياناً ـ بتوقف العجلة عن الدوران بنتيجة تكامل عوامل الكبح والاقصاء لامكانات الروح المغامرة فإن حيوية الحياة وتجدد امكانات الرؤية وصعود المفاهيم الفكرية تعيد للمواهب البشرية اثارتها وتوازنها واحتفالها بعبقرية الاستمرار، فتاريخ الانسان هو تاريخ تطوره، وتاريخ تحرر العقل من قيوده ومعيقات تنظيره للمستقبل. الامر الذي يجعلنا ننظر الى فنون اليوم في اطار القراءة التاريخية والتطويرية لها منذ الفنون البدائية، اي باعتماد القيمة التراكمية للخبرات الانسانية في تأرجحها الحضاري لبناء الكيانات التشكيلية المتميزة في الشرق والغرب، الشمال والجنوب.
ولا ينفي ذلك التوجه العام للاختيارات الابداعية ما نلمسه احياناً من تناقضات بين المشروع العام للتجربة والمشاريع الجزئية التي تقدم حلولاً فلسفية لفترة زمنية تجيب على القضايا الاساسية في الوجود وكل ما يتعلق بالاجابات المحتملة على الاسئلة التي تولدها ازمات الانسان وهذا ما نلمسه في اكثر من تجربة تشكيلية حاولت ان تبدع فنونها بالاستناد الى مقاييسها الخاصة ونظمها الفلسفية والنظرية، بل وفي اطار بيئتها وما تقدمه للتأكيد على الهوية الذاتية، ولا ادل على ذلك اكثر مما نراه اليوم في الفنون اليونانية كأحد اختيارات الفنون الغربية التي ارسوا تقاليدها في التاريخ وكان للفنون الاغريقية ما كان مما سطرته صفحات تاريخ الفن والنظريات الجمالية والفلسفية والتي سنقفز عليها للوقوف اليوم على الخيال اليوناني عبر بعض الامثلة من فناني اليونان.
تعكس الحركة التشكيلية في اليونان ـ في العشرين سنة الاخيرة من القرن المنصرم ـ الحركة الدولية، والتوجه العام في الفنون، سواء في اوروبا او امريكا الشمالية، ولهذا ترى النافذة اليونانية «اثينا سكينا» نوعاً من وحدة الحال بين ما يجري اليوم في اوروبا وامريكا ومثيله من بلدها الذي يتميز بموقعه الوسطية بين الشرق والغرب.. الا ان الفنانين اليونانيين لم يتقبلوا الافكار الجاهزة التي كانت تصلهم من تلك المصادر بشكل مطلق وانما عبروا عن المزايا المتماشية مع تجاربهم وتوجهاتهم.. وهكذا فقد بدأوا اعادة انتاج وصياغة الافكار، وكذلك الاجتهاد في اساليب التعالم مع الخامات المكتشفة حديثاً.
لقد استطاعت الثورة التقنية لفت الانتباه الى ما احدثته من متغيرات في الفنون الانسانية على صعيد الصورة بشكل عام مروراً بالصورة الفوتوغرافية والفيديو آرت والفنون الرقمية، ولم يتعامل مع هذه المحامل التعبيرية المولدة الا قلة من الفنانين اليونانيين، ولعل الذين تعاملوا معها، انما فعلوا ذلك بكثير من الحذر دون الاعلان عن رفضها كلياً. نلمس ذلك حقاً في الاجيال الجديدة التي عاشت وخبرت الكثير من اعادة صياغة الافكار الماضية وهذا طبيعي في بلد حضاري كان له التأثير الكبير على الفنون الانسانية عبر الصروح والشواهد والنظريات والفلسفة والمتاحف والمؤسسات، الامر الذي يجعلنا ندرك مدى التأثير على اخلاقيات الابداع الفني في هذا البلد سواء في انماط الاكتشاف والتعبير او عبر الابداع وبيئته العامة، خاصة وان الفنان في هذا البلد يحس بعبء الثقل الحضاري والمعرفي بما يشكله من تحد لظروف تحقيق الجديد والمختلف في عالم الفنون اليوم.
في اليونان كما في باقي الدول الاوروبية، تتشابه التوجهات العامة للفنون، ويلمس المتابع ما يحاولون التركيز عليه لتمييز هويتهم الذاتية وصياغة تمييزهم، وقد استطاعوا تكريس عدد من الاسماء المهمة على المستوى الوطني والدولي خلال القرن المنصرم، وهذا ما احاول الاشارة اليه عبر طروحات مجموعة من الفنانين والفنانات ممن يمكن الاشارة الى تفردهم ونضوجهم من امثال لينا بيبي، انتوناروبولوس كريستوس، باندونا ايميليا، ماريا سيبريانو، يانيس ميخاس، ثاناسيس بانايوتو، ناكيس تاشوجلو وانيتا اكزانتو.
لينابيبي وتآكل الزمن: تبدو اعمال الفنانة لينا كألعاب، او وسائل ايضاح في الماورائيات، اذ تتذبذب الاجساد الرخوة وتتمايل في
توق ظاهرة الى الثبات، او ان اشخاصها تنتظم في صفوف، قوية المظهر، الا ان بنتها الشمعية تدل على هشاشة بيئتها ويزيد في هذا الاحساس التعامل الزئبقي الذي يزيد الاعمال قدماً بما يشير الى انتقالها في الازمان المختلفة، ولقد اختارت في اعمالها الشمعية هذه التركيز على النظام من الجسد الانساني كاقسى ما يمكن ان يواجه التبدل والفناء بمقابل الزمن، في صراع ظاهر بين المادة وزمن هذه المادة.
ومنذ
انجازها لاعمالها الزيتية المبكرة، يلحظ المتعمق جسماً انثوياً مصقولاً منفلتاً من
ضربات ريشتها، فعلاقتها بالجسد قديمة، واحساسها به يرتبط بعمق الميثولوجيا، يدل على
ذلك حالة البلل المغلفة لهذه الاجساد وكأن آثارياً قد اكتشفها للتو، بكامل الحلة
التاريخية وجلال قدمها، وعلى هيئة التابوت، تبدو العلب كالجسد الانثوي.
موضوعها المحوري تآكل الزمن، والجسد وسيلة الفنانة لولوج الذاكرة ففي اية لحظة يمكن ان تنفتح بها هذه العلب الرمزية تظهر طاقة المقاومة في الذاكرة، مقاومة الزمن التي تبدو في نظريات اشخاصها.
تجمع الفنانة في رسمها صوراً فوتوغرافية قديمة لاشخاص غير معروفين، وهي تجمعها لسبب بسيط تحدده نظريات الاشخاص الى العدسات، اذ يعكس النظرة الى الكاميرا العلاقة بالمستقبل، العين التي يمكن ان تبث الحياة مستقبلاً في الجسد الفوتوغرافي، والفنانة تبحث دائماً عن ديمومة للزمن تتجاوز امكانات الجسد الانساني وهذا ما يتجلى في عملها (علبة المجرات) وهو عمل حديث ثبتت النجوم والمجرات على سطح الغطاء من الداخل، بينما السائل الداكن يعكس هذه النجوم في جسم العلبة الاساسي، هكذا تبحث عن نقاط انطلاق رمزية ولا نهائية تتجاوز ديمومة الجسد، وديمومة الحركة التي نلمسها في اهتزاز السطح الداكن. وفي عمل اخر ينام جسد شمعي، انساني مصغر بسلام وهو يتشابك مع جذور نباتات حقيقية وطبيعية (رمز الانبعاث) في دلالة تتكرر في مختلف اعمالها، وهذا ما يدفعنا للتفكر بالزمن.. انها حاجة نفسية انسانية وهي على ما يبدو موضوعية ايضاً كوننا نشترك مع الظواهر المحيطة بمركزية الانسان الذي وعى الزمن من تفهم غاية تبدل الفصول ومارسات الحياة ذاتها.
لقد حاولت بيبي ايجاد ادوات للقياس من مختلف الظروف الطبيعية، وقد ادركت ان الفن يمكن ان يكون وسيلة قياس يمكن الوثوق بها خاصة حين تتكلم عن الحياة، ولأنه بذات الوقت يمكن ان تعيش الابعاد الطبيعية والنفسية وبطريقة تستحوذ الاحترام لتسجيل ما تشعر به عندما نعلم اننا محاصرون بمعارفنا المحدودة، اجسادنا، واعمارنا هي المؤشر الزمني في هذه العلاقة، ولعل الطريقة التي نعبر بها بعض الاحيان عن هذه العلاقة هي الشهادة الثابتة لفكرتنا عن المصير الانساني. هذا هو الصندوق الذي نفتحه، ونعيد فتحه اكثر من مرة، هكذا نعيد التفسيرات الواقعية والمثالية عن اجسادنا ونحن نكتشفها كل لحظة، على مسار تحولها الزمني، ويتعرف المشاهد على نفسية مندهشة بما حولها، وبذات الوقت فانها متفكرة فيه، داعية لولوج معالمه الظاهرية الى ما هو اعمق في الزمن، فأعمالها بسيطة وواضحة من الناحية التشريحية الشكلية، ويعيد البعد الايديولوجي في هذه الاعمال الابعاد الغائبة عن الفنون التشكيلية المعاصرة، والتي كنا نلمسها في الحقب السابقة، ويدل على ذلك البنية الشكلية للموضوعات النحتية، فثمة تشابه مع نحت المعابد القوطية مثلاً، وفي احد الاعمال يبدو آدم وحواء وهما يطردان من الفردوس العدني مكللان بالذنب، وحيدان في فراغ قائم الالوان.. انه موضوع انجيلي يعيد صياغة مشاكل الانسان في الحضارة الغربية الحديثة، الذي يعيش في زمن الانخطاف بدل ان يستقر في زمن الفردوس الخالد، زمن الجهل المبارك لمصيره، الزمن الذي يحقق سعادة الانسان لكنه لا يفعل متمثلاً بقول فاوست المكلل بالحزن اذ كان يحاور (مافيستوفوليس) محاولاً كسب الوقت: «درست الفلسفة، الطب، والدين. وها انذا لم ازدد حكمة عن ذي قبل مع كل هذه المعارف».
الحقيقة ان الحركة التشكيلية المعاصرة في اليونان تحمل عديد الاختيارات في التعامل مع الارث الانساني وليست بيبي الوحيدة في جرأتها المتمثلة في اختيار الموضوعات، او في منحاها التحليلي الذي تدفق عبره بالتفاصيل والطريقة التي تبرع عبرها باستخدام وسائلها التعبيرية، ويمكن الاشارة بسرعة الى بعض هذه التجارب امثال: انتانارو بولوس كريستوس الذي يستوحي الاساطير وخاصة اتلانتا الضائعة التي تحدث عنها الفيلسوف افلاطون في حواره (تيماوس)، وبذلك فهو يزاوج بين خياله المعاصر والاسطورة الابداع سلسلة من اللوحات ذات الاحالات الفانتازية كتصوير الحيوانات والنباتات والكائنات التي كان يفترض ان تعيش في اتلانتا بالرجوع الى النصوص المنسية، وهكذا يشكل الفنان اعماله من تفاصيل واجزاء خرائط الخيال حيث الصورة والنص يكملان بعضهما البعض لتحقيق الصلة بالمكانة الحضارية والمعرفية لفنونهم.
ايميليا باندونا التي تعتمد في اعمالها على المواد والالوان الطبيعية، مستلهمة افكارها من تحولات القمر المختلفة، وكانها تتأمل عبور وتغيرات الزمن والفصول وتأثير ذلك كله على الحياة البشرية، ففي اقمارها تحقق منجزها لطبيعة سماوية بينما تلجأ في فراشاتها ذات الدلالة الزمنية القصيرة على عمرها، للاشارة الى الحلم المتلاشي، انها صلاة للعودة الى البراءة المفقودة انما عبر بيئة مصغرة تخصها وتجسدها في اعمالها.
ماريا سيبريانو: تستوحي اعمالها من التقاليد والطقوس وتجسدها في اعمالها النحتية التصغيرية (المينماليست) على الجدران وفي الفراغ.. ترينا قطعاً من الطبيعة بنظرة حداثوية.. مذنبات، نجوم بعيدة دون الاحساس بما يفصلنا عنها، انها تتساقط كشتاء فضي على الارض او هكذا يكسو الارض بلون سماوي يزيح من خلاله القيمة النهائية، وهي تشترك مع الفنان (يانيس ميخاس) في التوجه التصغيري التي يستوحي منها ومن الهندسة الوضوح والصرامة وهذا ما يذكرنا بمفاهيم النظام، والايقاع، والنسب. ميخاس واضح اذن فيما يريد التعبير عنه، ويذهب الى اهدافه مباشرة، عبر حوار جدي مع تفاصيل موغلة في قدمها، الا انها متطابقة في ذات الوقت الذي تفسح فيه للمتلقي ان يبدل موقفه من العمل وعبر الطريقة التي يتأمل من خلالها المفاهيم المعرفية اذ تحاول اعماله هذه ايقاف المرئي كونها تمثل اقل ما تجسده.
الفنان (بانا يوتو ثاناسيس) يبدع في اعماله (رحلة الظلال) الوحدة الوجودية المعاصرة للفرد المتجول في اقبية المدن ومتاهاتها السفلية انه يبحث ليجد نفسه في النهاية الحر المأسور داخل اسوارها، فلوحاته نسخة جديدة للتوجه الشعري الى (دينوسيوس سالوموس) كما ترى الناقدة سكينا اثينا، حيث يرينا تفسير الرسام للشاعر، انسان المدينة البرجوازي الذي يواجه مصيره التراجيدي، الا ان وعي الفنان لهذا الموقف يترك له فسحة للطيران خارج الاحكام ولتجاوزها في كل الاحوال.
(تاشيوجلوناكيس) يستخدم المعادن والبلكسي جلاس والاضاءة الكهربائية في اعماله النحتية مستفيداً من التقاليد الثقافية والخبرات الهندسية الصارمة والشاعرية، يجاورهما باتقان لتحقيق اشكال نحتية شفافة مستوحاة من الاشكال الصافية الخالصة كالهرم والمربع ومتوازي المستطيلات والكعب، الا انه يخرج الحياة منها عبر الليونة التي يمنحها للزجاج بينما يتوزع الضوء على حوافها منتشراً من داخلها ليمنحها روحانية الشكل المفتوح، وهذه هي طريقته للتواصل مع المتلقي اذ يوحي بغموض اللغز، معنى الوجود.
وتبدع (ايكثانسوآنيتا) بيئتها، حيث الايقاع والحركة ينظمان اعمالها النحتية في الفضاء، فتمنح كتلها شكلاً فضائياً وكأنها تخط وتمحو بآن معاً، هكذا نشاهد الحركة في السطوح المتذبذبة وهي تمنح الحركة العضوية العامة وجودها عبر الشرائط الملونة الدائرة حول محورها لتوحي بمنبع لا ينضب لهذه الحركة، وكلما تأمل المشاهد العمل اكثر كلما امتلأ احساساً بغيابه.
ولابد ان يلحظ المتتبع لهذه الحركة التشكيلية اهتماماً واسعاً بين الفنانين بقضايا البيئة، والتوجه للتعبير عن قضاياها الاساسية التي باتت تشكل قلقاً ثقافياً عاماً في العالم، ولعل الاشارة الى ما تنتجه الفنانة (بيبي لينا) من اعمال بيئية يأتي في اطار المساعي التي تنبه الى المخاطر الاساسية المحدقة بالبشرية، وهي تحاول عبر انجازاتها التعبير عن طقوس الفعل والنتيجة، تنتج قوارب صغيرة معلقة في الفضاء لتذكرنا بالصور العالقة في ذهن الانسان المتعطش للضوء، وهي تستخدم في اعمالها رقائق الذهب المستمدة في استخدامها من التقاليد القديمة، لكن مشهديتها مستوحاة من المعاني المعبرة عن خصوبة الارض ومشاعر الحب التي تعيش صراعاً بين المثالية والحنين والتوسل للتمظهر، انها تبدع سفناً للأحلام تغلفها الايماءات الصوفية الخالصة.
في الهوية والذاكرة والتشكيل |
: طلال معلا
الانتقال بين القرون، او المضي في الزمن الجاثم على عديد الشهادات الابداعية، يقتضي توفر عناصر محددة لبناء موضوعات العصر الذي ننتهي اليه. ويبرز هذا الامر في الفكر والثقافة والفنون باعتبارها تعيد طرح الذاكرة الانسانية وفق الاختيارات المتجددة، وفي اطار الفضاءات الحوارية التي تعني ايضاً تميز الانقلابات في المفاهيم والرؤى والقيم. اي الانقلاب بالمصطلحات على ما كانت تهيمن عليه في فترة دون اخرى لتحقيق النجاحات التي تؤمن اندماجاً حضارياً لقوى المجتمعات الذاتية.
وقد لاقت الفنون التشكيلية الانسانية في حراكها التطوري الكثير من الصدام في آليات الانتماء الذاكراتية، وبالارتباط بكل ما يعطي منجزها التراكمي ملامح الهوية التي كانت الشغل الشاغل لنقد القرن العشرين الى جانب طروحات الشمولية والعالمية والانتماء للحداثة وما بعدها.. كما ان التحضير لدخول الالفية الثالثة بادراك النظرة الفلسفية للعولمة ومتطلباتها يبرز في السنوات الاولى لهذا القرن عبء التعارض بين العقل البشري ومناهج التفكير التي ينتجها لبناء توافقات تتعلق بالتوازن في العلاقة مع المركز وكل ما يترتب في الابتعاد عنه او في تشظيته على ابعد تقدير.
لا نظن على الاطلاق بان قضايا كالذاكرة والهوية او العولمة هي قضايا تخص المبدع العربي دون سواه، فهي قضايا انسانية تناقشها المؤتمرات والندوات، وتشكل مادة للحوار الفكري والثقافي، ومادة اساسية للنقد بشكل عام ولكل ما تحتويه المجالات والصحف والدوريات والابحاث مما يشعرنا بأننا دائماً في اطار الفكرة المطروحة لتأسيس وجهة نظرنا واضاءة الجوانب المتعلقة بابراز افكارنا وافكار من نحاورهم او باظهار احكام الاخرين على ذات القضايا الجمالية لتوسيع النظرة والاكثار من احتمالات تقليب الامور.
والاشارة الى السطح الرجراج للزمن في ثباته الاصطلاحي بينما تنهض روح الشعوب لتجديد حقيقتها وهي تعيد صياغة ذاتها في مرورها بهذا الزمن. ولا ننكر خصوصية هذه الشعوب في طرح قضايا كما اشرت، بل ان هذه الخواص تمنح الصوت قوته في الاشارة الى قيمة الروح وهذا ما حاولت الناقدة التركية (جالا ايرزن) التركيز عليه في بحثها «هل الفن جزء من الثقافة» حين تكتب: «قد يبدو حقيقياً ان الصغار والهامشيين يريدون دائماً ان يلتصقوا بقيم خاصة اكثر تقليدية، بينما ثقافات الاقوياء سياسياً تأخذ ما يمكن ان تأخذ من الثقافات الاخرى وتستفيد منها دائماً:
والتاريخ يثبت صحة ذلك في فن ما بعد الحداثة اخذ بحث الفنان تعددية لهوية فردية تتناول الجمالي من الشخصي، مما دفع بالاقليمي والفطري الطبيعي الى ان يصبح مرة ثانية قيمة مستعادة.. هناك ذوق السوق وخيارات البيع حسب السياق العالمي ـ احكام القيم ليست حرة دائماً.
ان قضايا الروح (او الهوية) كانت تحل ضمن التركيبة الكبرى للمجتمع وضمن الدين تاريخياً. والفن كانتاج فردي كان وولايزال قضية المجتمعات الدنيوية غير الدينية، اما في الحياة المعاصرة فان الفن لا يمكن ان يكون جزءاً من التقانة: "الثقافة تهم معظم حاجات الحياة، الفن يصبح سلعة ومسألة جمهور الفن ايضاً تصبح قضية.. مسائل المحلية والعالمية في الفن لا تتحدد في اطرها الفنية فقط بل تتسع، ولكن الفن الحقيقي خارج الحدود، بل هو الوسيلة لفهم الاخر والارتباط به».
بهذه الاطلاقية والشمولية عبرت الناقدة التركية عن لغة الفن وضرورة ترسيخها لتمكن المجتمعات من التحاور، بل ان (سكينا اثينا) الباحثة اليونانية في الجماليات ترى هذه اللغة «كائن حي متجدد، متغير، متطور باستمرار تتداخل فيه العناصر القديمة بالجديدة، ويتقبل الفن بذلك باستمرار التجارب الحية الدينامية.. وكل جيل فني له تعابيره وخبراته.. الفن خير اسلوب للتعبير بين الشعوب وافضل وسيلة للتخاطب الرفيع المستوى المعبر عن بيئة محددة.. والفنان يظهر سماته وخصوصيته وذاته فيما يرسم مشكلاً (هويته) ولا ينبغي ان ننظر الى الهوية كعازل بين الفنان والعالم».
هذه المسألة طرحت في ندوة دولية في الدورة الرابعة لبينالي الشارقة (ابريل 1999) وقد تحدث العديد من الباحثين والفنانين العرب والاجانب حول هذه القضايا زاد على الستين مشاركاً في محاور كنت قد اعددتها آنذاك حول ميل المغلوب لمحاكاة الغالب في العلاقة مع الغرب والانبهارية، والاعلائية في تفسير العلاقة مع الاخر والأنا والاخر وسبل صياغة الهوية وما يتعلق بالعولمة وتحديات القرن الحالي وغيرها من المحاور التي تشترك في تطلعاتها لتمتين جسور اكتشاف الفن وتسهيل علاقته بالحياة لتجاوز مشتقات التطوير التي تقتضي الرؤية والتعبير عن هذه الرؤية وكل ما يحلم المبدع بتحقيقه دون كثير حاجة للبرهان على التصاقه به وانبثاقه منه، باعتبار الابداع الطاقة الخلاقة للانسانية التي تنتج الثقافة والفنون والحضارة.
هاريو ايشيرو، رئيس فرع اتحاد النقاد التشكيليين العالمي في اليابان يؤكد ان معنى الهوية في الفنون الاسيوية مركب ويصعب استيعابه، ويقارن في ندوة للاتحاد اقيمت في اليابان بين الفن الصيني والفن الياباني على سبيل المثال لتأكيد وجهة نظره، وفي الوقت الذي يرى ان الحداثة الصينية موقوفة على العروض الخارجية، في اليابان وكوريا وتايوان وغيرها فان فنون التنصيبات وفنون الارض وغيرها هي فنون ليست مقبولة في الصين وعلى هذا الاساس فان تقسيم (ليكسيانتينج) هذا الفن الى ثلاثة مستويات هو التقسيم الصحيح، الاول: الواقعية وما يساندها اكاديمياً، الثاني: تصوير «الادباء» الذي يسعى لاحياء وتطوير التراث والثالث: كل ما ينشد الحداثة.
ويؤكد (ايشيرو) بأن التصوير الصيني يتميز عن مثيله في اليابان بأن الاول وعبر دارسيه الذين تلقوا تعليمهم في الغرب، تمكن من صياغة توجه واضح الى التراث والرسم الوطني بينما شكل التصوير التراثي في اليابان اتجاهين منفصلين كون الثقافة اليابانية ومنذ القدم كانت اقدر على تمثل وقبول الثقافة الاجنبية وهذا ما دعم سبل التحديث في المجتمع الياباني وجعلها بطيئة في المجتمع الصيني، الا ان كلا المجتمعين كانت لهما شروطهما لاصطدام محاولات التحديث بالوعي النقدي فيها.
ويضيف الباحث بان ذات الشيء ينطبق على الفنانين الصينيين في الخارج حسب مقال لـ (جون كلارك) من جامعة سيدني في استراليا، كان قد ذكر فيه: «الفنانون الذين يفكرون بالعودة الى الاراضي الصينية في المستقبل يختارون تصوير المناظر الطبيعية، وهذا الامر وان بدا في ظاهره بانه اختيار فني فانه في عمقه اختيار سياسي لمن لانية لديهم في العودة الى الوطن اذ تسكنهم مسألة الهوية الوطنية،
ولهذا فهم دائماً بحاجة الى مساندة النقاد ومنظمي المعارض حيث يعيشون للتعريف بهم وبفنهم الذي يختلف في بعض جوانبه بما هو متحقق على الاراضي الصينية حيث يمكن الحديث عن ضيق افق النقد بموازاة وقائع الفن الصيني الذي يتحرك في اطر غير معلنة او انها لا تلقى القبول الرسمي على اساس ان هذه الطليعة هي نتاج السيطرة الغربية على الفنون، ولعل هذه الفكرة تتسع احياناً في جنوب شرق اسيا ايضاً حيث يركز اغلب الفنانين على الاستمرار بتصوير الاساطير وفنون العرض التراثية التقليدية ليصوروا مباشرة تناقضات بلدانهم بدل ان يشكلوا امتداداً للحداثة المحيطة بهم.
ان الدعوات الخارجية للفنانين في الصين تتيح لهم اليوم الوقوف اكثر على المتغيرات، كما ان مثل هذه الدعوات في السنوات الاخيرة اتاحت لهم انتشاراً واسعاً في اليابان وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة وفي عروض الدول الاوروبية كبينالي فينيسيا حيث دعي الفنان الصيني كاي جوكسيانج ليشارك في موضوعة (الماضي، الحاضر، المستقبل) كما دعي ثلاثة فنانين لبينالي ليون
، وهنا يجب ان نفهم القصور الاوروبي والدافع القوي لديهم لاحياء قوتهم الثقافية بمواجهة الولايات المتحدة، وهو طموح دعمه تشكيل السوق المشتركة. ويستغرب الباحث هاريو ايشيرو مما كتبته منسقة (الدوكومينتا) كاترين ديفيد بانه ليس هناك داع لشمل الفنانين الحداثيويين من العالم الثالث في المعرض لانهم ـ بشكل او اخر ـ في مواقع بيروقراطية. ولعل هذا السبب يدعو العديد من الجهات في مختلف انحاء العالم لانشاء واحداث منظمات ومؤسسات تحمي فنونها من جهة وتوثق لها وتدفع بها للمشاركة في المحافل الدولية من جهة اخرى،
وهذا ما كان حين اعلن عن تأسيس المركز العربي للفنون في الشارقة الذي يدفع في توجهات لاختراق الحدود وجعل الفن العربي يشارك في مختلف التظاهرات والانشطة الدولية اسهاماً في حوار حضاري انساني، كما ان مؤسسة اليابان لمركز اسيا دعت في الخريف الماضي الى اعادة النظر في الفن الاسيوي المعاصر، واقترح في هذا المجال ناقد تايلاندي انشاء منظمة دولية
مشتركة لتدفع باشراك الفنانين الاسيويين في المعارض الدولية في اوروبا. كما ان اولوية العمل الاسيوي المشترك سيمكن النقاد والفنانين من خلق حوار وتعاون في ارجاء المعمورة عبر صياغة تصور استراتيجي للانتشار والانطلاق في المعارض الدولية التي تشكل صورة العالم والتي يجب ان تكون كافة الشعوب ضمن مقومات وجودها.
في هذا الاطار تأتي الانشطة الدولية في المناطق المختلفة من العالم كالبيناليات المختلفة في اليابان ومصر والامارات وبنجلاديش والمانيا وغيرها الكثير ممن لا تتوفر في انشطتهم المواصفات الدولية الفعلية، كما ان الملتقيات النحتية والفرافيكية الدولية، المؤتمرات البحثية، وغير ذلك مما يمكن ان يؤكد القلق المتنامي لدى المجتمعات لاختراق عزلتها واحتلال موقع لها في التعبير عن هويتها وطريقة تفكيرها والخروج بالتالي من الاطر التقليدية التي حاصرتها..
كما ان ما نلمسه اليوم في بعض الدول الاوروبية كفرنسا على سبيل المثال مما تستشعره من خطر على ثقافتها وفنونها بمواجهة المتغيرات الدولية يصب في ذات الاتجاه لانها تخاف على تراثها وثقافتها وبالتالي فهي تحرص على اسلوب حياتها ونمط تفكير مجتمعها، وعلى غرار حكاية الصراع الحضاري الانساني تهمس ابداعات الشعوب بخطر الذوبان ورياح التنوع واعتبار التقليد وسيطاً قابلاً للنقض اذ يستحيل وراثة الذاكرة دون نفي هذا التقليد، كخطوة اولى للتطوير.
الناقدة كاثرين وبستر تؤكد في بحث لها دعته التعبير عن الذات في محيط الثقافات بأن الفن النيوزيلندي يجهد في بناء هويته، ولكنه يجد النجاحات والتقدير دولياً، ويجد في الوقت ذاته معنى لعيوب ومساوئ البعد عن مركز العالم الفنية، ومن لا يعي ذلك يهاجر في بلدان العالم. تركيبة سكان نيوزيلندا وجغرافيتها وفترة الاستعمار تشكل بعض ملامح صراعها من اجل الهوية، لغة انجليزية (لغة مستعمر)، اقلية سكانية اصلية (الماوري)، مهاجرون من اوروبا واسيا مبكراً جداً تقاليد وعادات اوروبية..
كل ذلك تنهض اليه روح قومية جديدة لتجد صوتها الجديد وتتعلم اغنيتها وفنها.. لقد وجد تدريجياً ذلك الفنان الذي يعبر عن بيئة خاصة في منطقة جزر المحيط الهادي، ويحاول ان يظهر للآخرين تلك الخاصية المحلية ضمن خليط هجين من ثقافات اوروبية واسيوية، ليجد موقعاً بين الثقافات لهوية قومية ناهضة.. الا تستحق ذلك؟!
قد تلزم اليوم بعض كلمات التحذير قبل ان تنهي الافكار الفلسفية ترسيم حدودها واعتبار ما يحصل رؤيا شاملة لاحوال الهوية والذاكرة في اطار الاستشقاقات العولمية والتي يمكن الا تتعدى التمهيد لما هو اوسع تدميراً حسب الترتيب الزمني لأولويات المستقبل، فجاذبية التغيير والتطوير تلغي في تحركها الكثير من التفاصيل الجمالية للفكر الاجتماعي كما ان شمولية التصنيع تتضمن بوضوح جوانب تدميرية للتقاليد التي تسبقه.. وفي هذا المقام يذكر (ايشيرو) في مقال له قصة شخصية حدثت معه فيكتب:
«في العام 1980 دعوت ادونيس. الصديق السوري الذي يعد من ابرز الشعراء العرب، وهو يعيش في باريس ويدّرس في السوربون، دعوته للمشاركة في حوار مفتوح في يوكوهاما وكيوتو، وقد ابدى اسفه حينذاك للحالة الصناعية المتأمركة التي وصلت اليها اليابان في الوقت الذي تمتلك فيه تقاليد قديمة ورفيعة في اماكن مثل يوكوهاما وكيوتو وغيرها،
وخلال رحلة العودة بالقطار من كيوتو الى طوكيو اشرت لادونيس بان رحلة القطار هذه كانت تستغرق نصف يوم وتتطلب المبيت في كيوتو، بينما لا تستغرق اليوم سوى ثلاث ساعات في القطار المدعو «القذيفة»، قلت له بأن كثرة العمل ضخمت الشعور بان العالم قد غدا مقراً مؤقتاً، وان الحياة تعدو وتتلاشى، وبعيداً عن مناقضة الحساسيات التقليدية فالتصنع موجود في ذات الوقت، ولهذا قلت لادونيس بانه نصف محق ونصف مخطئ، وحين سمع كلماتي اطرق تائهاً في افكاره ومشاعره المتناقضة، وقد بدا ذلك جلياً على وجهه.
في جانب من الفن الحديث يكون الاثنان متصلان، التصنيع والتقليد، ولهذا اشار (كوندو) بانه عندما تتوفر عناصر تقليدية في التنصيبات فانه يمكن اعتبار ان الاستشهاد بها واعادة انتاجها انما يتم على ذات مستوى العناصر الحديثة، وقد يكون هذا ما دعا (ميناميشيما هيتوشي) لانتقاد عدم جدوى البحث المحموم لافواج من اليابانيين عن هوية فردية، واذا افترضنا بان دوافعه لهذا الامر كانت سليمة فان نبذه للهوية الوطنية لذاتها هو اما تهور او انه امرلا يطابق الواقع.
نيزا شيفينمون ... نحت الأصول |
طلال معلا
حلم حجري، الهام اولي تقدمه منحوتات الفنانة نيزا شيفينمون التي تحاول الكشف عن الغاز الانسان الدفينة وتعيد صياغة اسئلة الوجود بحثا عن اجابات متحركة، تعكس معاني حركة الذاكرة الانسانية في انتقالها من المادي الى الروحي، وفق الكتل البشرية اليت تعيد صياغة الفراغ بالتجاويف والنتوءات التشخيصية وهي تسعى في توترها الى خلاص ابدي يؤكد معاني الاجابات المحتملة التي تقدمها الذاكرة للتحرر من المباشرة في تقديم الجسد الانساني ودون اللجوء الى الاحالة الجحيمية التي تكون عادة خلفية العذاب الانساني وسعي حدس الفنانة لتشكيل عالم رمزي يهتم بالمعنى اكثر مما يهتم بتفاصيل الاجساد البشرية ورغم ان الحركة العامة لهذه الاجساد تقود الصين الى اللحظات الاكثر تركيزا في اختيارات الفنانة، اي الى الاستفادة من حركة النور في تحركها على الاجساد الصغيرة، الا ان الافصاح عن الدوافع الحيوية لهذه الاجساد انما يصب في الطابع الانفعالي الذي تشي به حركة الاجساد في امتداداها الافقي او صعودها العمودي.
الغاز نيزا هي الغاز الحياة، وتاريخ الطين الوردي يعيد اجسادها بكل الاحناءات الانثوية الى سطوة الفرونات وهن يتدفقن بين اوراق البردي على شواطيء النيل وغرينه الطيني، وتمتد تأملاتها في جذورها المصرية التي تبدو في بشرتها السمراء التي تنم عن عواطف الشرق وسحره، ومواويل الصمت والتعب لتستمر في رسالة الانسان الازلية المتولدة من التأمل فيما لا نعرفه او نعلمه عن متناقضات الولادة والموت، وكل ما تحمله الفنانة في داخلها من الهام يغوص الى اعماق جذورها، وتترجمه ابداعا باشكالها الطينية الممزوجة بالشمع في رحلة العمل للتحقق والتحول الى مادة البرونز .. اصرار تعكسه المراحل المختلفة لانجاز عملها الفني بما فيها انحناءها على العمل لازالة الصدأ عنه وتلميعه بحيث يحاكي رسومها بالالوان المائية والباستيل والفحم والحبر التي تكشف عبرها الطريق الى التشكيل النهائي كل ما تنم عنه الحركات المختارة للنسوة اللواتي يجذبن الانظار الى عواطفهن الغريبة بحيث يضحي العمل النحتي فضاء للتوسل، توسل لمسه، وتقليب النظر في انحائه.
ان ادراك بنية الشكل الكامنة في النحت يحيل الى استخدامات رودان للموتيف النحتي، والذي يمكن اعتبارات الفنانة نيزا قد حاكته في هذا الاطار الضيق، فهي قد بدأت بانجاز الموتيفات النحتية على شكل اقزام صغيرة من البرونز (12 ـ 15سم) وقد ملأت هذه الموتيفات ايحاء وفتنة بحيث يتجلى الجوهر الصلب في الصورة المحسوسة التي تولدها انطباعاتنا عن الكتل التي تضاعف عددها فيما بعد، وتغير نوعها وجنسها، واضحت عالما، يتذبذب، يرقص، يؤشر، يتسلق، بعض على بعض، ومع استمرار التجربة بدأت تكثر اعداد الاجساد لتتجمع في طقوسية اخاذة تكتسب من روح البحر المتوسط الكثير من المعاني لتوليد عالم مرئي تتداخل فيه الاشياء، الطين وغبار النجوم، وتضحي التراتيل والاناشيد التي تطلقها الاجساد ترانيم للخلاص البشري وصلاة ممتلئة بالابدية وهمسات مخلوقات تضج بالصمت والأمل والبؤس .. عالم ينتظر الاجابة التي تعلن قدومه.
«انا مولعة بأمرين، النحت والانسان، ولكني متأثرة ياضا بأصولي المصرية التي اعتبرها اساس مسيرتي الفنية، سواء عبر النحت كقيمة حضارية استطاعت ان تحمل اسرارها وتحفظها على مدى الزمان او عبر المرجعية الاسطورية التي تقدمها». هذا ما تقوله الفنانة وهي تحاول التعبير عن الرموز العامة التي نجد صداها لدى الناس جميعا، مما يتيح لكل مشاهد ان يقرأها وفق تصوره الخاص، ووفق المعاني القدرية التي تجعل احتياجنا للآخر سبيلا لاكتشاف الذات اولا والحاجة للاتحادية ثانيا.
انها دعوة نحو الينابيع الاكثر ايغالا في التاريخ الانساني، سلالم، برج بابل، شجرة الحياة، الواح الشرائع الاولى، ورموز اخرى تعيد صياغة الموضوعات خارج الزمان، الذي يحتاج دائما لمؤثرات حيوية وروابط سحرية .. انه الفن الذي يرسم طريق الانسانية منذ الذات البدائية، وهو ا لنحت الذي يدير ظهره للقرن العشرين ليدخل في زمنه الحقيقي، زمن الغريزة وفوران اللاوعي الذي يصعد عموديا للأعلى متسلقا باستمرار الالغاز الوجودية الدفينة.
من الصعب جدا التعبير عما يعتمل في الارجاء العميقة، غير المرئية في دواخلي، وانا لم انجح بذلك الا عبر النحت» بهذه العبارة يمكن ان نشير الى اختيارها للحقيقة المتحركة التي تكشف اصولنا، رحلة البحث الانسانية والانطلاقة الصوفية لاغلب تكونياتها
النحتية، وهي اذ تصر على هذا المستوى الذهبي فانها لا تنسى قيمة المادة التي تتعامل معها لاجلاء هذه المعاني، كخفة الظلال القاتمة لمادة البرونز التي تشهد على حركة الاجساد الخفيفة التكوينات في تطاريها خارج الجاذبية والتي تبدو في سموها الى الاعلى ورندها الى معاني الخلاص في اعماق السماء، تماما كالنجوم وهي تنشد أغنيتها الازلية عن الامل.
مثالية تحتية تقرب الفنانة من حدود الاحلام، والماورائيات في محاولة للتعبير عن القدر العالمي الذي بات بهم كل كائنات الارض في خضم التبدلات الفلسفية والجمالية الانسانية، وهناك قبل كل شيء الحضور الامثل للقطعة النحوتة ـ على تعدد مستويات التعامل مع الفراغ ـ كالسطح المرهف بقوامه البهي الذي يستمده من تفاصيل الاجساد وجرأة الايحاء التي تعكس وهج المعدن وتتجاوز قتامة ظلاله الى حدود الطبيعة الانسانية التي تحاول ان تستفيد من ايهاميتها المتجلية في كل معاني الصراع من اجل الحياة، ومن اجل المثل الانسانية والمقولات الاولى للفن والحياة معا.