مدن الغيمالحسين خضيري الحجاجي |
||
عصافير القصائد بقلم : علاء الدين رمضان |
||
|
قدم لي الشاعـر القنائي الأقصـري الشاب : الحسين محمود خضيري الحجاجي ، مخطوطة ديوانه الأول بعنوان : " مـدن الغـيم " ، تشمل عدداً من تجاربه الفنية والموضوعية التي تشير بدءاً من العنوان إلى أننا أمام شاعر واعٍ يجيد الصوغ ويكتنـز من ورائه الكثير من الأفكار ، وأنه ليس من أولئك النفر الذين لما يزالون يراوحون بين منطقتي المباشرة والتقرير ، إنه دخل إلى المنطقة التي سماها الفارابي وابن سينا التجاوزية ، إنها منطقة اللغة الوارفة كثيرة الظلال ، اللغة التي يستحقها الشعر ولا يقوم إلا بها . فللشاعر سمته وسماته الشعرية المميزة ، وهو صاحب تجربة جديرة بالتناول والتداول والنشر . يعمل الشاعر من خلال عنوان مجموعته على تكريس رؤيته الخاصة في مقابل الدوافع النسقية الخاص منها والعام مع العناية الفائقة بمسألة الحداثة في الصياغة الكلية على مستوى الصور الفنية؛ والجزئية على مستوى المفردات اللغوية وعلاقاتها الانزياحية ، وكل ما يتصل بذلك من قيم بلاغية وآفاق أسلوبية تتصل بالشعرية ، وفي هذه القراءة المتواضعة سأعمل على عرض التجربة الشعرية للشاعر ولاسيما أنها التجربة الأولى كما سأستعرض فنياتها محاولا إبراز مواطن القوة والتميز التي تؤكد على أن للشاعر بصمته التي من المؤكد أنها ستتضح أبعادها وترسخ من خلال تجاربه القادمة أكثر وأكثر . لكني أشير والمقام هنا يدعو إلى ذلك ، إلى أن ديوان " مدن الغيم " للحسين الحجاجي هو عمله الشعري الأول الذي يجمع في كتاب ، ولا نملك إلا أن ننظر إليه من هذا المنطلق ونحاسبه بوساطة هذا المعيار . يضم الديوان ثلاثاً وعشرين قصيدة سبقتها مجموعة من القصائد القصيرة بلغت ثمان وعشرين قصيدة قصيرة ، في ومضات مكثفة وموجهة وذات دقة وإتقان في الهدف والصوغ ؛ وقصائد الديوان كلها غير مؤرخة ، فهي لا تعين على تتبع التطور التاريخي لفنيات الشاعر إلاَّ أن المتتبع للشاعر ونشاطه المنبري سيكتشف مدى التطور الذي حدث في مسيرته الشعرية من خلال الفارق الفني بين قصائد الديوان وما كان يذيعه من شعره في المنتديات والأمسيات الأدبية في المرحلة السابقة على الديوان . بما أن العنوان يمتلك بنية ودلالة غير منفصلة عن المكونات النصية الأخرى ، وبوصفه بنية علاماتية يحمله التحليل الكثير من الظلال ويستجلي مختزناته من أسرار المتن الشعري ؛ فإن عنوان " مدن الغيم " قد استطاع أن يفرض سلطته العلاماتية على كل قصائد المجموعة بحيث صاراً عنواناً رئيساً لكل قصيدة من قصائد الديوان يليه عنوان فرعي أو هامشي ، فشكل بذلك عتبة التجربة أو المدخل ، وأحدث علاقة غير متكافئة بين المركز ( العنوان الكلي للمجموعة ) وبين الهامش ( العناوين الداخلية ). وعنوان الديوان يتألف من مركب إضافي ( مدن الغيم ) يفيد التخصيص، حيث الربط المعنوي بين المتضايقين، الأمر الذي يحدد أفق انتظار القارئ وتطلعه الاستكناهي وحدسه المعرفي ، ويوجهه لينتقل من الدلالة الحرفية للمفردة إلى ظلالها المكتنزة ، أو ما سماه الإمام عبد القاهر الجرجاني معنى المعنى ، مستعيناً بما يقدمه اللفظ الأولي من قرائن ودلائل على ذلك المعنى الداخلي من خلال العلاقات البنائية ، فالمدن لغة تدل على " المَدِينة من مدن بالمكان أي أقام ، تجمع على مَدَائن ومُدْنٍ ومُدُن بالتخفيف والتثقيل ، وذلك من طريق فَعِيلَة ، أما من طريق فَيْعَلَة فتعني الدين والاسترقاق والاستعباد فيقال للأَمة : مَدِينة أَي مملوكة . أما الغَيْم فيعني السحاب، وقيل: هو أَن لا ترى شمساً من شدة الدَّجْن، والدَّجْنُ: ظلُّ الغيم في اليوم المَطير. يقال أَدْجَن اليومُ إذا أَظلم . وقد غامَت السماء وأَغامَت وأَغْيَمت وتَغَيَّمَت وغَيَّمت، كله بمعنى. ومن معاني الغَيم: العطش وحرّ الجوف؛ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العَيْمة والغَيْمة والأَيْمة؛ فالعَيْمة: شدّة الشهوة للبن، والغَيمة شدّة العطش، والأَيمة العُزْبة . وإذا قمـنا بمـزج الدلالة الباطنة للفظين نستطيع أن نستنبط دلالة انزياحية يشكل أبعادها ما حمله المتن الشعري من قرائن اللغة ، لنستكشف مع الشاعر ذلك الاستعباد والامتلاك والاحتباس ممزوجاً في التغييب والإغماض والحاجة وانعدام الرؤية ومن ثم عدم القدرة على طرحها : فالمدن توحي بالاغتراب والجمود والتردي والغواية والزيف ؛ أما الغيم فيشير إلي الإظلام والتعمية والإعتام فهو الحاجب لضوء الشمس والعائق للنور . وهناك تعالق وثيق بين لفظتي : " مدن " و " غيم "، هذا المركب بهذا المنظور ينـزاح عن اللغة القياسية للدلالة على الزيف الذي يملأ الواقع بين الأرض والسماء. والديوان يحفل بطموح الشاعر وتطلعه لإعادة تشكيل المنظورات وترتيب العالم من حوله ، ومن ثم تغيير وعينا به نمطاً واتجاهاً ، من خلال بنية الانزياح التي يحفل بها أسلوب الشاعر بدءاً من عنوان مجموعته الشعرية إلا أننا نرى أن هناك بنى فنية أخرى كثيرة جديرة بالتناول أو الملاحظة والتوجيه في هذه المجموعة . هناك أمور قد لا يستحسنها الناقد إلا أنها علامات على الفطرة وبكارة التجربة ، ومن المسلم به أن المراس والخبرة في التجارب الفنية التالية للشاعر سوف يصقلانها ، فربما هي الآن مآخذ إلا أنها حتماً ستزول مع الزمن ، ففي قصيدته القصيرة الأولى يطمح الشاعر إلى استبقاء اللحظة والاحتفاظ بنسق الحلم الذي لم يكن هو فاعله ، إذ يطلب إلى محبوبته أن تحافظ على سياق المشهد واستبقاء اللحظة بأن تظل بعد أن رسمت هي منفردة المشهد كاملاً بوصفها الشخصية المحور ؛ فظلها هو الذي عانق ظل الشاعر وكانت كفها هي الحاوية الحاضنة لكفيه ، فما الذي أتاه الشاعر سوى رجاء السكون ؟ ، وهناك كذلك مراعاة التناسب ، فنراه يفرد كفها ويثني كفيه ، والأنسب أن تكون اليدان هما القائمتان بدور الاحتضان وأن يكون المفرد هو المفعول به ، هذا في زعمي هو الوجه الأمثل للجمالية عند تخيل المشهد بينما سيكون الأمر عكس ذلك لو تخيلنا كفاً واحدة تحتضن كفين . ولا يعني ذلك أن الشاعر قد افتقرت تجربته كلها إلى التناسب الدلالي بين معطياتها الفنية والموضوعية ، على العكس من ذلك فتجربته ناصعة في جُلِّها إلا أن ما يثار حول التناسب هنا مآخذ كثرت عبر المتن الشعري حتى نالت من جِدَّته وفنيته ، فالشاعر له نظرات فنية دقيقة التناسب تأخذ جملها وفواصلها بعضها برقاب بعض وتؤكد قدرته الكبيرة على الصوغ ودقته في الملاحظة ، فقصيدته القصيرة الرابعة من المجموعة تعتمد في بنيتها الفنية على اللحظة الجمالية وفي قدرة جيدة على إبراز التناسب الصياغي بين النص والتجربة بوساطة استخدام ما يسمى بألفاظ التوازي ، إذ نجد المحبوبة تفتح شرفتها ، فما كان من القلب الطامح إلى أن تنسكب في دهاليزه عيناها ، فتملأه ، فهنا استخدم الشاعر التناسب الموضوعي بين الألفاظ من خلال استخدام الصيغ المكانية : الشرفة – الدهاليز : فيما تعلن شُرْفَتُها للكونِ بدايةَ يومٍ ملأت عيناها كلَّ دهاليز القلب . القصيدة بها صورة بهية يزيد من بهائها قدرة الشاعر على الملاحظة ومراعاة النظير واستيحاء المتجانسات؛ كما في قصيدة أخرى من القصائد القصيرة : تردين على الحب ألف باب وباب هل يخنق الشمسَ كلُّ هذا الضباب ؟ يعضد ما في القصيدة من قدرة على التصوير والتكثيف والصياغة ، ما شاع فيها من أنساق بلاغية مثل الطباق والمقابلة ومراعاة النظير وغيرها من فنيات ذات دور فاعل في البنية الشعرية إذ أحسن استرفادها واستغلالها من قبل شاعر جيد مثل الحسين الحجاجي الذي أقر له بالإجادة وإن اختلفت معه في بعض طروحات الديوان وفنياته ، فمثلاً في القصيدة العشرين من قصائده القصيرة يقول : أعانق وطني في المنام وأصحو على جند كسرى يقصون أجنحة الكلام فلا أجدني متحمساً للبنية المضمونية والنسق الواعي لهذه القصيدة فأختلف مع الشاعر ههنا في الرؤية من حيث التناسب الدلالي وقد سبق لي ملاحظة ذلك في عدد من قصائد الديوان ، فالشاعر لا يقدم مناسبة مقنعة بين مدخل النص ومنطقه أو بين المدخل والتكملة أو التتميم ، فهو يعانق في المنام الوطن ، ويصحو فإذا جند كسرى يقصون أجنحة الكلام فالتكملة غير مانعة من المدخل ولا تتعارض معه بل هي الباعث الوثيق له ليزداد تشبثاً بالوطن في اليقظة والمنام على السواء ، عندئذ تفرغ القصيدة من النسق الفني لتتحول إلى بنية خبرية مجردة غير باعثة على التفاعل مع طرحها الموضوعي . وكذلك في قصيدته التالية التي اعتمد فيها الشاعر على بنية السؤال : للشبابيك بعدك صمت القبور .. من علم الشبابيك فن البكاء ؟!. فالأمر بالتأكيد سيختلف لو أن الشاعر أخبرنا أن للشبابيك من بعد غياب محبوبته نحيباً ووجيباً ثم تساءل عن البكاء ، أَمَا وقد أخبر أنها ترفل في الصمت المطبق الذي أسنده إلى القبور بقرينة الموت أو عدم رجاء الانبعاث فإنه لا يحق له التساؤل عن شيء من خارج نسق التجربة وهو البكاء ، لأنه غير وارد آنذاك لدى الشبابيك ، وهنا يغيب التناسب ومنطقية البنية من بين أصابع الشاعر عند الصوغ فتضل التجربة ومن ثم تسقط القصيدة ؛ على خلاف اتساق النسق المضموني لدى الشاعر في قصائد أخرى كما في قصيدته القصيرة التالية : البنايات تأكل ظلي .. خذوني لظلي ونحوا البنايات عني فالظل كما هو معروف واقع مجرد يحاكي الملامح دون تفصيل وهو كيان غائم إلا أنه يملك القدرة على الثبوت والبقاء ، أما في اللغة فظِلُّ الشَّيْءِ: كِنُّهُ ؛ قالَ الجَوْهَرِيُّ: هو اسْتِعَارَةٌ، لأَنَّ الظِّلَّ في الحقيقةِ إِنَّما هو ضَوْءُ شُعاعِ الشَّمْسِ دونَ الشُّعاعِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ضَوْءٌ فهو ظُلْمَةٌ، وليسَ بِظِلٍّ. والظِّلُّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: شَخْصُهُ لِمَكانِ سَوادِهِ وهو أيضاً: الْخَيالُ مِنَ الْجِنِّ وغَيْرِهِ يُرَى، وفي التَّهْذِيبِ: شِبْهُ الخَيالِ مِنَ الجِنِّ . والشاعر هنا يقدم من خلال قصيدته تجربة تعبر عن الإنسان المقهور الذي تأكله الحضارة وتذيب علاماته الفارقة وخصوصياته وملامحه وتأكل براحه وامتداده ويؤكد على أن مفهوم الظل بالنسبة للشاعر هو الامتداد الأساسي كالجذر من الشجرة بأنه لم يطلب منا أن نعيد له ظله الذي تأكله البنايات وإنما طلب منا أن نأخذه لظله وننحي البنايات عنه هو لا عن ظله وهي نظرة يحاول الشاعر من خلالها معالجة رؤيته للتماهي الحضاري الذي لا يعترف إلا بالكيان المادي للوجود الإنساني دون ظله وجذره وامتداداته الإنسانية والمعرفية والثقافية والتاريخية .. ، وتعد هذه القصيدة على الرغم من أنها قصيدة قصيرة إلا أنها من أجود ما اشتملت عليه المجموعة الشعرية للشاعر الحسين الحجاجي وأشير هنا إلى أن الشاعر قد أكد في موضع آخر من ديوانه على مثل هذا المضمون الذي يريد له أن يستقر في المجتمع ويكون مصدراً من مصادر التسامي فالوجود المادي قد لا يؤثر دون امتداد ، ربما لا يهابنا الآخرون لأشخاصنا وإنما نفرض عليهم احترامنا بثقافتنا وتاريخنا وعطائنا ، وجرياً على هذا النسق فالشاعر عند الحسين الحجاجي يؤثر في مناوئيه لا باسمه ولا رسمه وإنما بأغانيه : يمر اسمي عليك .. تنتقدُ يمر وجهي عليك .. تمتعض تمر أغنيتي .. فترتعد .. ! لقد اعتمد الشاعر في قصائده على العلاقات المنطقية للأشياء وحاول أن يغوص في تلك العلاقات ومنطقها وأن يقدم من المظاهر الدلالية للتجربة الخاص بعد العام منها ، ففي إحدى قصائده القصيرة يقدم ومضة ذات بعد معياري يطرح من خلالها خبراً ويفصل مشتملاته الدلالية ، اعتمد في تشكيلها على الاستغراق والاستقصاء ثم التخصيص والتفصيل وهو ما يطلق عليه بلاغياً ذكر الخاص بعد العام إذ بدأ بالأرض واصطفى من الأرض المعرفة أرضاً منكرة ، ومن الأرض المنكرة اصطفى أرضاً آهلة بالأحبة ثم اصطفى من تلك الأرض قلباً يبدل كل الجراحات طيبا : هناك على الأرض أرض يعانق فيها الحبيبُ الحبيبَ هناك على الأرض قلبٌ يُبَدِّلُ كل الجراحات طيباً وهي رؤية هرمية تنازلية بدأت من خلال صورة الهرم المقلوب من القاعدة وظلت تتحدد وتصير أكثر دقة حتى وصلت إلى رأس الهرم ، نقطة التقاء الهرم بالأرض حيث يستبدل قلب المحب بكل الجراح طيباً وهنا تلتقي القصيدة شأنها شأن مجمل قصائد الديوان مع العنوان المركزي للمجموعة مدن الغيم فالهرم المقلوب رمز الازدحام ورأسه العمق الذي يمتلك العطاء ولكن بلأي شديد وعطاؤه معنوي أي أنه أقل قدرة على التغيير الواقعي الحسي ، وأظن أنني أحتبس نفسي عن درس الديوان من هذه الزاوية وأرجو أن أجد فرصة لاحقة لهذه الوقفة أكتب فيها عن تلك العلاقة بين العنوان والمتن الشعري في المجموعة ؛ كما أشير إلى أن معظم القصائد القصيرة التي طرحها الشاعر من خلال مجموعته ( مدن الغيم ) يمكن أن نسميها ملاحظات فنية لمجموعة من الأحاسيس والتجارب ، إلا أن استخدامه للدلالة وأسلوبه في الصوغ يدلان على أنه شاعر متميز ويمتلك القدرة الفنية التي تؤهله لأن يصبح شاعراً مقدراً ويجعل من تجربته تجربة ذات ثقل فني ، إنه - وحسب - بحاجة إلى أن يصقل هذه التجربة بالدرس والممران والدربة ؛ واستكمال ما ينقصه من فنيات الشعر وأدوات الشاعر ، وهو ما أكدته قصائده الطويلة في المجموعة نفسها ؛ ويَقْدُمُ ذلك الإشارة إلى الشاعر بأن يأخذ العروض العربي مأخذ الجد فقوة النسق الموسيقيّ ، بوساطة العروض ، تكسب الشاعر قوة في الصوغ ، ومن ثم في الحضور ؛ حتى وإن اختار فيما بعد قصيدة النثر مضماراً ومجالاً لصوله وجوله . |
|
|