ما هو الحل؟

***

 

لا أخدع القارئ الذي لم يتعود منى أبدا خداعا.. وليس لدى أي حل سحري.. ولا حتى أي حل جديد..

إن الأمة الإسلامية تواجه أشرس عدو في تاريخها.. وليس أمامها من سبيل إلا أن تواجهه و أن تخوض معه حربا متعددة المستويات كي تمنع شره .. ليس عنها فقط.. بل عن الدنيا بأسرها. فذلك العدو ليس ضد الإيمان فقط.. بل هو ضد كل قيمة نبيلة في هذا العالم.. وليس ضد الله فقط.. بل هو ضد الإنسان بكل ما يحمل هذا الاسم من معنى.. وهو فضلا عن ذلك ليس ضد الوجدان والروح فقط .. بل ضد العقل أيضا..

عدو يشكل ببنيانه المرحلة الأعلى من العصابات الإجرامية في التاريخ.. عصابة بحجم قارة وسيطرة علي مساحة العالم.

وليس أمام المسلمين أينما كانوا مجال للاختيار.. فالأديان الأخرى والفلسفات الأخرى والنظم الأخرى إذا استسلمت لعصابة الشيطان تلك فإنها ستستبدل دنيا تملكها بدنيا أخرى.. وليس المهم هنا إن كانت الدنيا الجديدة أفضل أم أسوأ.. فالمحصلة النهائية بالنسبة لهم يمكن اختزالها في جملة واحدة: استبدال سيد بسيد.

بالنسبة للمسلمين لن يكون الوضع هكذا.. سوف يكون استبدال نعم.. لكنه استبدال الشيطان بالله.. والكفر بالإيمان[1] ..وسوف يكون خسارة الدارين..

وليس أمامنا من سبيل لمواجهة هذا الطاغوت إلا بالوحدة الإسلامية ..

وليس أمامنا من طريق إلا إعادة الخلافة.. فهي  كما اتفق الفقهاء فرض كفاية إن لم يقم به أحد أثم المسلمون جميعا.. إنه فرض كفاية يتحول الآن وقد نكص عنه الجميع إلى فرض عين.. إن كتب الفقه ممتلئة بمئات الأدلة الشرعية على وجوب الخلافة،  حتى لقد بلغ الأمر أن الصحابة قد قدموها على دفن جسد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى..

إنها آتية لا ريب فيها  فعسانا أن نكون قوما يحبهم الله ويحبونه فننال شرف البداية..

نعم..إنها آتية  لا ريب فيها.. فالحديث النبوي  الشريف يقول:

تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة  فتكون  ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا فيكون  ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها،  ثم تكون ملكا جبريا، فتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت.. ( رواه أحمد)

***

نعم.. عائدة هي الخلافة.. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم  وكذب العلمانيون والمستغربون بمراكزهم الاستراتيجية.. وكذب فوكوياما وهننجتون وماركس والفندي وفؤاد زكريا ووزارات الثقافة في العالم العربي وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم.

إنني واثق أن القارئ قد يندهش من ندائي ذاك.. فهو ضحية أبشع عملية غسيل مخ في التاريخ مورست لتشويه فكرة الخلافة.. بينما هي في الدراسات النظرية أعلى أنواع الحكم وأرقاها.

فأنواع الحكم – عبر التاريخ كله – تنحصر في أربعة أنواع  ..

النوع الأول هو حكم الهوى المطلق، حكم قرصان استولى على سفينة لا يهمه إلا ما يحصل عليه حتى لو غرقت السفينة ومات كل من فيها.. إنه يدرك أن كل يوم يستمر فيه في الحكم ضد التوقع والمكسب.. ولذلك فإن شعاره : انهب اليوم ما لن تستطيع أن تنهبه غدا.. ووسائله  إلى ذلك ارتكاب كل الجرائم والموبقات. وليس عند الناس – في هذا النوع – أي أمل.. لذلك فهم يتحينون الفرص للانقضاض عليه.

النوع الثاني أذكى.. وهو كحكم الإقطاعي الذي يملك الأرض ومن عليها.. وهو يدرك أنه لكي يستمر فلابد من قليل من الرعاية للأرض وللعبيد.. ولابد أن يرفع حوله مجموعة من هؤلاء العبيد كي يكون حاشية تقوم بدور النخاسين ومروضي العبيد.. هذه الحاشية تتكون من وزراء و قواد وكتابا ومفكرين وبعض شيوخ.. وهى تمكنه من الأمة من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإنها تقدم للأمة نوعا من المخدر.. إذ بنفس طريقة أوراق اليانصيب.. يمكن أن يكون عند أي واحد من الأمة الأمل في أن يرتقى ذات يوم فيرتفع من عذابات فئته إلى تنعيم طبقة الحاشية. وبرغم أن هذا الأمل لا يكاد يتحقق فإنه يمثل صمام أمان قد ينفس عن جزء من الغضب المكتوم عند الناس.

وفى هذين النوعين يكاد ينحصر الحكم في عالمنا الإسلامي.. وفيهما ينحصر كل أنواع الحكام مهما تغيرت ألقابهم.. ملك أو رئيس أو سلطان  أو أمير أو إمبراطور.

النوع الثالث من الحكم هو الحكم من أجل مصلحة الناس والوطن لا من أجل مصلحة الحاكم. و هو أرقى بلا شك من النوعين السابقين.. وهو يراعى كل مصالح الناس في الدنيا.. ويحاول دائما أن يقيد الحاكم لمصلحة الناس.. إلا أن درجات إحكام القيد تتفاوت كما تتفاوت أيضا درجات إخلاص الحاكم لشعبه أو خداعه له. إلا أنه في كل الأحوال يبدو في الظاهر مخلصا للقانون الذي ارتضاه الناس.. أو على الأقل حريصا على إخفاء جرائمه عن عين القانون.. وفى هذا النوع من الحكم يمثل نضج الشعوب وقوة الأجهزة المختلفة فيها قوة رادعة تمنع الحاكم من التغول.

وهنا أريد أن أنبه القارئ إلى تطبيق خطير لا يشكل نوعا رابعا.. بل يشكل مزيجا من الأنواع الثلاثة.. نظام عابر للقارات.. مزيج شيطاني لأنه تخلص من عوامل الفناء الكامنة في النظامين الأول والثاني مهما طال الزمن.. وقد استفاد من عوامل الثبات في النظام الثالث كي يكرس كل المظالم والشرور ويستثمرها.. فكلما زادت هذه المظالم والشرور كلما ازدادت فوائده. هذا النموذج تمثله الآن : الولايات المتحدة الأمريكية.. والتي تحكم شعبها بمواصفات النظام الثالث لتضمن الاستقرار لنفسها.. وتحكم حلفاءها بمواصفات معدلة للنظام الثاني.. وهى تطوير من مواصفات الإقطاعي الذي يستثمر أرضه إلى  صاحب المصنع وكيف يتصرف مع الموظفين أو حتى الشركاء الأصغر الذين يريد أن يضمن ولاءهم بالإغداق عليهم كي يحتفظ بهم كحلفاء و أعوان.. وهؤلاء يمثلون معظم أوروبا (إسرائيل جزء من النظام الثالث.. جزء من أمريكا) أما روسيا والصين فتمثل حالة انتقالية قد تصعد إلي أن تحكمها الولايات المتحدة بمواصفات النوع  الثاني أو تهبط لتعاملها بمواصفات النوع الأول... ثم يأتي بعد ذلك العالم الذي  تحكمه الولايات المتحدة بمواصفات النوع الأول.. حكم الهوى المطلق. حكم السيد والعبد مع غير المسلمين.. وحكم الشيطان للإنسان مع المسلمين.

النوع الرابع من الحكم هو حكم الخلافة..

وهو يعلو هذه الأنماط جميعا، إنه لا يسعى إلى مصلحة الدنيا فقط بل مصلحة الدنيا والآخرة جميعا، إنه نظام آخر، مناف للأنظمة السابقة جميعا، وفيه – كما يصفه ابن خلدون باقتدار – يكون وازع كل واحد من الأمة نابعا من داخل نفسه، ألا وهو الدين، وكان أسلافنا الصالحون يؤثرونه على أمور دنياهم و إن أفضت إلى هلاكهم.. ويضع ابن خلدون كل أنواع الحكم في القاع والخلافة في القمة ، ويوافقه في ذلك عبد الله العروى ويضيف أن العصبية والعقل لازمان لبناء الدولة، وقد يزيد التمسك بالشريعة من تماسك هذه الدولة واستقرارها، لكنه لا يحولها أبدا إلى خلافة، ففي مثل هذه الدول، يخدم الحاكم الشريعة ظاهرا لأنها تخدمه باطنا، فالهدف من إقامة الشرع هو دوام الملك وتوطيد النفوذ، أما الخلافة فهي شئ آخر، فالعقل فيها ضروري لسياسة الدنيا، لكن ما يميزها عما سواها هو هدفها الأخلاقي، إن العقل قد يجسد العدل أو الحرية أو الأمانة أو الوفاء أو الإخلاص أو النقاء والطهارة – على سبيل المثال- في معان نسبية محدودة( أكرر أن الولايات المتحدة كرائد للحضارة الغربية تشكل نقيض هذه الصفات جميعا فلا عدل ولا حرية ولا أمانة ولا وفاء ولا إخلاص ولا نقاء ولا طهارة، وهذا ما عنيته بإلحاحي في أكثر من مكان من هذا الكتاب بأن الولايات المتحدة ضد العقل).

 أما في الخلافة فإن هذه المعاني تتحول إلى مطلق، فالشريعة كما يقول ابن قيم الجوزية هي عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه. لا تطبيق الشريعة إذن ولا حتى الجهاد ما يجعل نظام الحكم خلافة – كما يدعى المستشرقون-  فنظام الحكم لا يكون خلافة إلا إذا نظر إلى ذاته كأداة في خدمة هدف أعلى، نعم، لا تكون الخلافة خلافة إلا إذا تجاوزت أهدافها الذاتية، وتجاوزت خطوط خرائط الأوطان  وأعداد الناس المحصورين فيها..  فمهمة الخلافة ليست الوطن فقط وليست تحقيق الرخاء الاقتصادي فقط ولا اكتساب المهارات العلمية فقط فكل ذلك مرتبط بالقيم الأخلاقية.. بالغذاء الروحي الذي توفره للناس كي يكونوا أكثر عدلا و أكثر صدقا و أكثر وفاء و أكثر أمانة و أكثر نقاء و أكثر طهارة.. وأكثر إنسانية.. إنها تعلمهم أن الله أكبر فلا كبير سواه.. وأنه هو الخالق فلا معبود سواه.. وأن عرض الدنيا زائل وبذلك تحارب الجشع والطمع والشذوذ والإجرام وتحول الإنسان إلى وحش مفترس أو إلي شيطان مريد.. تعلم الإنسان كيف يكون حرا فلا يخاف إلا الله.. وتعلم الحاكم أن الحكم بينه وبين الناس ليس هواه  أو نصوصا دفع حاشيته لوضعها كي يتحكم بها في الناس حين تتحول القوانين إلى أسلحة الأقوياء ضد الضعفاء..بل الحكم هو الله والحكم لله والمرجعية كلام الله الذي لا يستطيع الحاكم تغييره بهواه وإلا حق للأمة عزله..  إنها رسالة في الأرض كلها وللبشر جميعا.. نعم.. هي ذاك.. وهذا هو سر رعب إمبراطورية الشيطان –أمريكا وحلفائها ووكلائها ورعاياها- منها.. إنهم يعتبرونها أخطر من أي سلاح دمار شامل يمكن أن نقتنيه.. لهذا يتعاملون معها بفزع من يدرك خطورتها على حضارتهم إذا عادت.

***

مع الأنواع الثلاثة الأولى للحكم يمكن أن تكون للتاريخ نهاية بانتصار النموذج الثالث على النموذج الأول والثاني.. وهذا ما روج له فوكوياما  ونظّر له صمويل هننجتون وبرنارد لويس..وليس هؤلاء أول من روج فرية نهاية التاريخ.. فقبل قرنين أعلن الفيلسوف الألماني "هيجل" أن التاريخ انتهي عام 1806 عندما انتصرت فرنسا علي بروسيا، ثم أتي كارل ماركس لينقض هيجل ويضع تصورا مخالفا لنهاية التاريخ بالشيوعية ليأتي بعده ماكس فيبر منتصرا لمواطنه هيجل وواضعا نهاية معدلة للتاريخ بالرأسمالية!..

في تصور إمبراطورية الشيطان لانتهاء التاريخ يأتي القضاء علي الإسلام على رأس الأولويات.. غير مسموح له أن يتألق بقيمه الباهرة.. وبعد ألف عام أو يزيد من الكذب والتشويه وقلب الحقائق فقد آن الأوان لحصاره والقضاء على كل قيمه النبيلة. ومن المؤكد أن أحد المحركات القوية لموقف إمبراطورية الشيطان هو دراساتهم عن المستقبل.. تماما كما فعلوا مع الاتحاد السوفيتي حين دلت دراساتهم المستقبلية في منتصف القرن الماضي أنه لن يأتي عام 2050 إلا والاتحاد السوفيتي بلد إسلامي يشكل المسلمون 60% من سكانه ومن هنا كانت ضرورة تفكيكه. ومن المؤكد أيضا أن تلك الدراسات المستقبلية قد وضعت خططا لاستيعاب الجمهوريات الإسلامية التي انفصلت عن الاتحاد بعد طول احتلال ومنعها من الانضمام إلي أمتها الإسلامية – وفى هذا الإطار يأتي غزو أفغانستان-. ثم أن هذه الخطط لابد أن تكون قد تعدت لما هو أبعد من ذلك فالإحصائيات الحالية حول نسبة نمو أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام تفيد أن نمو اليهودية بالسالب.. أي أنهم يتناقصون.. وأن نمو المسيحية يشكل 50% بينما نمو المسلمين 250%.. وذلك خطر بالنسبة لهم .. وهذا سر حرصهم المسعور علي برامج تحديد النسل بين المسلمين.. هذا خطر.. لكن هناك خطرا آخر أكثر بما لا يقاس.. خطر رصدته علوم المستقبل.. ذلك أن عدد الوثنيين في العالم أكبر من عدد أتباع اليهودية والمسيحية والإسلام.. هؤلاء الوثنيون متمركزون في ثلاث دول هامة: الصين والهند واليابان.. والتقدم التكنولوجي في هذه الدول مضطرد.. ومع التقدم العلمي والإنساني سوف يكون مستحيلا على رعاياها أن تواصل أحدث علوم التكنولوجيا والفضاء من ناحية وعبادة الأوثان من ناحية أخرى. ومن المرجح أن تمر هذه الأمم بفترة من الإلحاد. لكن رعايا هذه الأمم يملكون ثراء وجدانيا وسيكونون بحاجة لما يشبع أشواق أرواحهم. ومن الصعب أن يجدوا تلبية لهذه الأشواق في الديانة اليهودية، فهي من ناحية ديانة طاردة ومن ناحية أخرى فإن كتبها الموجودة لا تغرى أبدا بالانضمام إليها. بل ربما تكون صفات أوثانهم  أسمى بكثير من صفات إله اليهود المعاصرين. يبقى التنافس بين المسيحية والإسلام. ما ينطبق على اليهودية ينطبق إلى حد ما على المسيحية على النظام الأمريكي، خاصة بعد التلاحم العضوي بين اليهودية والمسيحية هناك، على أن هناك مشكلة أخرى من المؤكد أن تؤرقهم، فتحت رايات الصليب قادت بريطانيا حرب الأفيون ضد الصين، وتحت رايات صليب آخر ضربت الولايات المتحدة اليابان بالقنابل الذرية.وبالإضافة لهذا كله فإن من الصعب على هؤلاء الباحثين عما يروى أشواق أرواحهم، أن يجدوها في ديانة يهجرها أصحابها. الخطر إذن على إمبراطورية الشيطان أن يدخل كل هؤلاء إلى الإسلام. ولما كان هذا التحول قد يحتاج إلي قرن من الزمان فإن المهمة العاجلة أمامها هي أن تحطم الإسلام خلال هذا القرن. و إلا فإنه سيحقق انتصارا كاسحا علي الحضارة الغربية، المسيحية اليهودية.

على أن ما يمكن ملاحظته بوضوح هو أن ما تفعله أمريكا الآن يكاد يكون هو بعينه ما حاولت بريطانيا فعله في القرن الماضي. يتساوى ذلك في إيران والهند وآسيا الوسطى وتركيا والبلقان والعالم العربي.  ومجهودات اللورد كرومر لتشويه الإسلام وتقديمه في صورة مزرية هي ذات ما يحاول الأمريكيون الآن فعله، مع فارق القوة لصالح الأخيرة وفارق الدهاء والخبث – ولا أقول الحكمة-  لصالح الأولى. بل إن المنافسة بين الإسلام والمسيحية علي إسلام الوثنيين إنما هو تكرار لما حدث مع إمارة موسكوفيا منذ ألف عام[2].

إنه استمرار للصراع لم يتوقف من جهة الغرب أبدا، وهو صراع لا يمكن أن يصل إلى حل، لأنه صراع بين مواقف نهائية، إن الغرب يرى في الإسلام خطرا عليه، ثم أنه لا يعترف بأنه دين سماوي، دعنا مما يقال في المناسبات للمجاملة، إنه يرانا متخلفين ومكامن للإرهاب قد تنفجر فيه في أي وقت، العناصر الأكثر حكمة ترى رؤية أخري لكن النتيجة لا تختلف، إذ أنها تري أن الإسلام هو النظام الوحيد القادرعلى تقديم منظومة فكرية منافسة للغرب، وذلك يجعلهم يصلون إلى ذات النتيجة، وهى أن الإسلام دين خطر، ويجب مواجهته وتحجيمه. عليهم إذن أن يضغطوا على المسلمين، ولو أن الإسلام منظومة بشرية – ومتخلفة وبدوية أيضا كما يرى الغرب- لأمكن التفاوض حول بنوده، لأمكن التنازل عن نقطة هنا أو نقطة هناك، وربما أمكن التنازل عن المنظومة كلها، المشكلة أننا نرى أن الإسلام دين سماوي،  بل الدين السماوي، وهو إما أن يقبل كله و إما أن يترك كله، فالتنازل عن آية واحدة من القرآن كفر. مما يجعل المشكلة تصل إلى نقطة الاستحالة. فالغرب غير قادر مهما بلغت قوته على إقناع المسلمين بالتنازل عن بند واحد من منظومتهم الفكرية، والمسلمون غير قادرين مهما بلغ ضعفهم على التنازل عن آية واحدة من القرآن أو حديث نبوي شريف. ويبدو أن الغرب الآن يسقط في مستنقع صنعه هو، فالتنازلات التي قدمها العالم الإسلامي منذ الشيخ محمد عبده إلى الشيخ سيد طنطاوى قد فتحت شهيته للمزيد، ورغم أن هذه التنازلات كانت موجعة إلا أنها لم تمس جوهر الدين ولا شكله،  و أقصى ما وصلت إليه هو تغليب رأى ضعيف على رأي قوى في الفقه،  ولكن الاستجابة أوهمت الغرب أنه يمكن أن يتقدم  أكثر، و أن المساومة على الفقه يمكن أن تمتد للشريعة، وهذا محال مهما كانت قوته ومهما كان ضعفنا، وربما يحتج أحد بأن الغرب نجح في تركيا، لكنه لم ينجح، ولم يلمس التغيير إلا فئة عفنة، كالتحالف الشمالي، وكالفئة العفنة في كل بلد من بلاد عالمنا الإسلامي، فئة النخبة المسطرة، لم ينجح الغرب أيضا في البوسنة والهرسك ولا في كوسوفا فبقى الإسلام في قلوب الناس رغم تعرضهم للمذابح والتنكيل، بل لم تنجح روسيا القيصرية رغم كل وحشيتها في التأثير على المسلمين.. ورغم الفارق الهائل في القوة بين الطرفين.

ولما كان تداول الأيام بين الناس أمرا يؤمن به الطرفان فلا قوة تستمر ولا ثروة تستقر، ولما كان الحق مع الإسلام والقوة مع الغرب، فإن الغرب يدرك أنه بمجرد أن يفقد القوة فقد انتهت منظومته الفكرية، ومن هنا سعاره، لا لوضع نهاية للتاريخ ، بل لتجميده، وهو أول من يعلم أن هذا مستحيل، لذلك، لا يستعمل المنطق بل، يزيف المنطق.

لقد نجح الإسلام في الانتشار دائما رغم أنه يفرض على الناس واجبات وتضحيات قد تصل إلى الاستشهاد، ولم ينجح الغرب في الانتصار إلا بالقوة العمياء أو غوايات المال واللذة، نعم،  ينتشر الإسلام  ولو مع افتقاد القوة، وينحسر الغرب إذا فقد القوة. وليس ثمة مناص من استمرار الصراع.

الصراع إذن مستمر، وهو مستمر في بلادنا وليس في بلادهم، هم الذين جاءوا إلينا، ليس لأننا إرهابيون أو أننا نريد فرض ديننا عليهم، بل لأنهم هم الإرهابيون وهم الذين يريدون إخراجنا من ديننا. لسنا نحن الذين نريد فرض عقيدتنا الصحيحة في الوجود عنهم.. بل هم الذين يريدون فرض عقيدتهم الشيطانية علينا.

إننا واثقون من أننا على حق ومن أن ديننا حق وواثقون في وعد الله لنا بالنصر إن لم يكن في حياتنا ففي حياة بعدنا ولنا الجنة إن شاء الله.

أما هم فغير واثقين من حداثتهم، وهم يعوضون نقص الثقة هذا بمزيد من العنف والإجرام والمبالغة في استخدام القوة وادعاء التعالي والكبرياء .

الصراع مستمر.. والهجمة شرسة عاتية.. فالشيطان الأمريكي الجديد قد ورث عن أسلافه كل شرورهم وضاعفها أضعافا مضاعفة وفقد في الوقت نفسه كل دهائهم وخبثهم.. ليواصل المعركة بطريقة فجة وحشية مستفزة.

الصراع مستمر، وعلينا أن نقوى من قدراتنا على مواجهته باستعادة الخلافة..

***

مع حكم الخلافة لا يمكن أن تكون للتاريخ نهاية لأن سعى الإنسان فيها هو سعى نحو مكارم الأخلاق..  نحو الأفضل دائما .. نحو المطلق، نحو الله، وليس  من أجل الوصول إلى هدف بشرى هو نسبى بالضرورة، ولأنه نسبى فلابد أن تكون له نهاية.

ليس أمام العالم الإسلامي من سبيل آخر.. فالأمر ليس أمر أفغانستان ولا طالبان ولا أسامة بن لادن ولا العراق ولا مصر.. الأمر أجل و أكبر.. الأمر أمر لا إله إلا الله محمد رسول الله.. الأمر أمر القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.. الأمر أمر المحافظة علي المعني الأسمى للوجود وعلي الغاية من الحياة …والمسألة هي إباء الإنسان أن يكون حيوانا لا تهمه إلا الوسائل..  أو عبدا للشيطان.

ليس أمامنا من سبيل آخر سوى الخلافة فبدونها تبقى البلاد الإسلامية ممزقة، وتبقى الشعوب مفرقة، ويظل كل مجهود نبذله هباء تذروه الرياح أو كمن يحرث في البحر..  وبدونها تبقى إمبراطورية الشيطان تتحكم في رقابنا، وتنهب خيراتنا، وتوقع بيننا الشقاق، وتنصب علينا وكلاءها حكاما علينا.. وبدونها ستبقى الشعوب الإسلامية في كل أرجاء الأرض  تقتل وتشرد وتهدم معابدها وتدنس أعراضها، وليس من منقذ، فللمسيحية دولها المحورية التي تقلب الدنيا من أجل مسيحي، ولليهود دولتهم المحورية التي غزت لبنان من أجل جرح يهودي، حتى البوذيين لهم دولتهم المحورية.. إلا الإسلام..

وبدونها ينحرف التاريخ عندما نتوقف عن الكينونة أمة وسطا شهداء على الناس..

وبدونها يبقى المسلمون غير العاملين بجد لإقامتها في الإثم وفي غضب الله، وإن صاموا وصلّوْا وحجّوا وزكّوْا. فالعمل لإقامة الخلافة هو الآن فرض عين، في أقصى طاقة وأقصى سرعة.

ليس لنا من سبيل آخر وقد أحيط بنا.. لأننا حتى لو ازورّ بنا الهوى عن الآخرة فطلبنا الدنيا وحدها فلن تتاح لنا ولن تباح .. لأن التطور الذي مر به الغرب كان تطور القرصان القاتل  الذكي العالم الذي استخدم مختلف أنواع العلوم والتكنولوجيا فوصل إلي منصب الملك فلن يسمح  للص آخر أن ينافسه.. وقد يسمح للخونة منا  أن يكونوا عبيدا وخدما برسم رؤساء و أمراء وملوك.. أما نحن.. الأمة  فلن نكون إلا محل النهب والسرقة والقتل والتنكيل.. لن يرضي عنا القرصان الشيطان أبدا إلا حين نتبع ملته.. وحتى لو فعلنا ذلك فسوف تظل لديه عوامل تجعله يضعنا في الدرك الأسفل من الدنيا مثل اللون والجنس والثقافة والتقدم بالمعني الغربي .. ثم أنه لا بد للص من ضحايا يسرقهم فإذا ضم كل الناس إلي العصابة فممن يسرق؟!

ولو أننا رضينا بالدرك الأسفل من الدنيا فسوف نبوء بالدرك الأسفل من النار..

ليس أمامنا من سبيل  سوى أن نبدد غربة الإسلام فينا..وأن يعود مرجعنا وغايتنا ..

من يريد الدنيا فعليه بالإسلام..

ومن يريد الآخرة فعليه بالإسلام..

ومن يريد الآخرة والدنيا فعليه بالإسلام..

الإسلام الذي لا يستطيع الآن أن يصمد لأعدائه إلا بإعلان الخلافة كي ينفذ المعادلة المعجزة في القرآن الكريم والتي تطالب المسلمين أن يقاتلوا الكافرين كافة.. لسبب بسيط.. هو أن الكافرين يقاتلونهم كافة.

***

يعرف الدكتور ضياء الدين الريس الخلافة ( أو الإمامة)  بقوله ، هي : الحكومة الإسلامية الشرعية، أو كما نقول اليوم : "الدستورية"، أو بعبارة تعين المعنى وتحدده : الحكومة التي تكون الشريعة الإسلامية قانونها الأكبر أو الأم ، وهو ما نسميه اليوم بالدستور، وقانونها الفرعي وهو مجموعة الأحكام التشريعية التي تنظم بها حياة الأمة، سواء أكانت تلك الأحكام تتعلق بالمعاملات المالية، أو الأحوال الشخصية، أو المسئوليات الجنائية أو غير ذلك . وهدف هذا القانون هو تحقيق مصالح الناس في حياتهم الدنيوية والأخروية."

ويقول الأستاذ الدكتور  توفيق يوسف الواعى الأستاذ في قسم العقيدة بكلية الشريعة في جامعة الكويت[3] : " إذا أريد بالحكم تحكيم شرع الله وإقامة تعاليمه ، فهو الإسلام كله بأصوله وفروعه . وقد أمرنا الله بذلك في كتابه وما جاء الرسول – صلى الله عليه وسلم  - إلا لإقرار ذلك في الأرض وإبلاغه إلى الإنسانية "ليكون الدين كله لله ". أما إذا أريد بالحكم: النظام السياسي الذي يقيم الإسلام ويحكم به ويدير دفة المسلمين ويرعى شؤونهم الدينية والدنيوية - فهذا النظام ليس إلهيا، إنما هو بشري الصورة شرعي الأصل  لأنه من الفروض ، ومن أوجب الواجبات في الإسلام ، كما نص على ذلك العلماء.. وأما أنه بشري الصورة: فلأن للأمة اختيار النظام الأمثل في حدود الشورى المؤدية إلى اختيار أفضل الأمة لرعاية دينها ودنياها، كما حددت ذلك الأحاديث الواردة عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ."..

***

أعضاء التحالف الشمالي في كل بلد من بلاد عالمنا الإسلامي .. حثالة الأشرار.. بقايا حملة نابليون وولاة اللورد كرومر  من حكام وولاة أمر ومثقفين ضللوا الأمة فحولوا الأمر من نقاش مشروع  حول الاجتهاد البشرى في كيفية نظام الخلافة من مباحث في كيفية الاختيار والبيعة  والشروط الواجب توافرها فيمن يختار لها ومدة الحكم للخليفة و أسباب عزله..  حولوا النقاش المشروع في كل ذلك إلى شئ آخر..  شئ آخر مروع ورهيب.. وهو ليس حتى إلغاء شكل الخلافة من حيث هي نظام بشرى.. بل إلى نفى لأصل الحكم الإسلامي وتحكيم كتاب الله في الأرض ، وذلك هو الإسلام كله بأصوله وفروعه .

 إن الوضع الذي نعيشه الآن دون حكومة جامعة للأمة تطبق شرع الله – سموها كما شئتم -  هو وضع شاذ لا ينبغي أن يـبقى يوما فضلا عن أن يـبقى أعواما. وضع شاذ فرض علينا في أوضاع شاذة وليس له أن يستمر..

وضع يخالف الشرع: وذلك يكفى.. فلو حسنت النوايا وصفت القلوب يكفي أن نعلم أن شيئا يخالف الشريعة كي نهجره على الفور دونما تساؤل إذا ما كان يتوافق مع النظام العالمي الجديد أو مع مواثيق الأمم المتحدة..!!..

ثم أن هذا الوضع – إضافة إلى المخالفة الشرعية -  أيضا يخالف المصلحة ويودى بنا إلى الخراب والبوار والدمار.. وضع شاذ علينا أن ننهه على الفور.. أو نموت ميتة جاهلية حين نموت  وليست في أعناقنا بيعة.. وبها كرمز للإسلام  نواجه الدنيا ونشذب انحراف التاريخ وشذوذ الحكام.. وننتصر علي مؤامرات عاتية تحاك ضدنا..

إن الكثيرين – خاصة من طغمة المثقفين - لا يحبذون فكرة المؤامرة وهم في هذا الوضع بين مغفل غبي وبين خائن متورط فتحت نظام حكم العصابة الذي يحكم العالم الآن : من يعترف علي أفراد العصابة يقتل.. ثم أنني لا أقصد المؤامرة بمعناها الساذج البسيط.. وإنما أقصد ذلك المكر الداهية القادر على إلباس الباطل ثوب الحق والحق ثوب الباطل.. المكر الداهية الذي لا يجعل بيتك ينقض فوق رأسك بل يحقن في أساساته موادا كيماوية تجعله مع الزمن ينقض عليك كي يلقي الحمقى باللائمة علي المقادير.. المكر الداهية في مؤامرة عمرها أكثر من ألف عام تنتقل من جيل إلي جيل ومن حكم إلي حكم ومن عصر إلي عصر دون لحظة نكوص أو تراجع.. و أنكي ما فيها أنها ليست خافية كلها.. لكن من ينكرها أمامنا وينكرها علينا هم أعضاء في العصابة أو خدم لها كالحكام والمثقفين.

نعم .. ثمة سلطة ما لم أستطع بعد أن أضع يدي عليها تحيك هذه المؤامرة..  سلطة حاول هربرت أ.شيللر[4]: أن يضع يده عليها إذ يقول: "إن التآمر والمتآمرين لهم وجودهم المؤثر في الحقل الاجتماعي ومع ذلك فإن هذه الأنشطة سواء كانت كبيرة أم صغيرة، تم الكشف عنها أم ما تزال سرية، يمكن تفسيرها في إطار الحقائق الأعمق للواقع الاجتماعي" ثم يواصل هربرت أ.شيللر "إن العملية أكثر التباسا وأبعد تأثيرا نظرا لأنها تجرى دون توجيه مركزي، إنها متأصلة في تدابير اجتماعية اقتصادية أساسية وغير مطروحة للنقاش، تحدد في البداية، ثم تتعزز، وتنطوى هذه الترتيبات التي أُسست وأُضفى عليها طابع الشرعية خلال فترة طويلة من الزمن، على ديناميتها الخاصة كما تنتج أيضا حتمياتها الخاصة".

ينفي أعضاء التحالف الشمالي في بلادنا فكرة المؤامرة ونحن نعيشها واقعا أشد ترويعا من أبشع الكوابيس وما  وجود إسرائيل كلها إلا حلقة من حلقات تلك المؤامرة الكبرى.. وما تولية أمثال حكامنا علينا– أيضا – إلا حلقة من تلك الحلقات الكبرى..

ورغم يقيني ذاك من فكرة المؤامرة إلا أن  الخلاف حولها الآن هو خلاف نظري لا يغير من الواقع شيئا..  فما نعيشه الآن أسوأ من المؤامرة و أخطر..  لأن المؤامرة مهما بلغ استخفاؤها وخطرها يمكن أن تكتشف كلها ذات يوم..ويمكن اكتشاف كل المشاركين فيها.. بل  ويمكن أن  تقاوَم.. لكن الأخطر من حالة المؤامرة هي حالة  فقدان الرغبة - ولا أقول القدرة - على مقاومة المؤامرة.. والأخطر من هذا وذاك هو حالة التدهور العام في كل شئوننا.. تدهور قد تكون فكرة المؤامرة قد لعبت دورا فيه.. لكن الأخطر أنه اكتسب  قوة الدفع  الذاتية التي تمكنه من تدمير الأمة والوطن والدولة والشعب والحكومة والمعارضة بقواه الكامنة دون أي حاجة  لمؤامرات جديدة..

إطار مخيف..

إطار  فقدان العلاقة بين القول والفعل..

إطار استحلال  الحرام وتحريم الحلال..

إطار الخجل مما ينبغي علينا  أن نفخر به والفخر مما ينبغي  علينا  أن نخجل منه ..

إطار  تجاوز الجهر بالفحشاء والمنكر إلى الفخر بالفحشاء والمنكر وإدانة من لا يرتكبهما..

إطار تحولت فيه صلاة الجماعة في بعض بلادنا الإسلامية إلى مسوغ للفصل من العمل.. وفى بلاد أخرى  إلى الاعتقال المفتوح والتعذيب حتى الموت..

إطار يحاول الناس فيه - بعض  الناس- أن يعضوا بالنواجذ على دينهم  و أن يقبضوا عليه  قبض القابض على الجمر، فيقتلهم ولاة أمورهم أو ينكلون بهم.. لأنهم يقولون ربنا  الله..

إطار جعلنا نرى أنماطا من الخيانات والآثام لم يعرفها التاريخ قبلنا ..

فلقد حفل التاريخ  - علي سبيل المثال - بآلاف وملايين يخونون دولهم وأممهم.. لكنها المرة الأولي في التاريخ التي تخون الدول فيها أبطالها ومجاهديها كما حدث من دولنا العربية مع من أطلق عليهم: الأفغان العرب.. فحتى برويز مشرف[5] – ولا أصفه بما يستحق لأسباب لابد أن القارئ يدركها – غضب من أجل ما يحدث للمجاهدين الباكستانيين و أرسل طائراته لإجلائهم.. أما الأفغان العرب فهم يذبحون بدون – حتى – صوت احتجاج.. سوي صوت النعىّ الذي انطلق ينوح : إن ذلك يحدث .. لأنه يوجد أفغان عرب.. وشيشان عرب .. وبلقان عرب.. لكنه لم يعد يوجد: عرب عرب!!

هذا هو المآل وذاك هو الإطار الذي صرنا إليه ..

إطار فقدان المرجعية.. ثم فقدان المنطق.. إطار تنحى مفهوم الدولة وتغوّل مفهوم الحكومة التي راحت تدوس القانون بدلا من أن تطبقه معلية قيم البلطجة والاستهتار.. إطار انهيار مفهوم سيادة القانون.. حتى القانون الوضعي الذي أتوا به لم يعد هناك من يلتزم به أو يحترمه.. ولا حتى القانون الدوليّ ولا الأمم المتحدة .. وإزاء تلاشى مفهوم الدولة.. وتغول حكومات إسلامية فاسدة عاجزة.. وانهيار سيادة القانون.. وسيادة مفهوم أن لا أحد يحاسب أحدا.. والإحباط  العام .. فإننا نتدهور بسرعة إلى شرائع الغاب.. حيث يأكل القوى الضعيف..

لقد قلت أن اللص لن يسمح للجميع أن يكونوا أعوانا ينضمون إلي عصابته.. علي أعلي المستويات وفى أدناها.. و أقصد أنه من بين الأسباب التي يمكن أن تقوم صواريخ الكروزو والتوماهوك وطائرات الـ B52 بقصف أي بلد إسلامي منفرد هو أن يحاول هذا البلد اتباع النمط الغربي في الديموقراطية بإجراء انتخابات غير مزورة. لأنهم يعلمون أننا لو طبقنا معايير الديموقراطية الغربية لانتصر الإسلام ..

ولننظر ما حدث في الجزائر.. وما حدث في الجزائر كان ينبغي أن ينبهنا إلى أشياء غفلنا عنها  ما كان ينبغي لنا أن نغفل عنها أبدا.. لكننا غفلنا..

الإسلام هو رابطنا وحامينا والجهاد رأسه والخلافة أداته..

الإسلام هو رابط هذه الأمة ومنبع عزتها فإذا تخلت  عنه انفرطت وذلت.. انفرطت كما انفرطنا من مسلمين لا فرق بين أحدنا وبين أخيه  إلا بالتقوى: إلى مسلمين عرب ومسلمين عجم.. ومن مسلمين كل أرض الإسلام لنا هي الوطن  إلى مصريين وشوام وعراقيين وحجازيين ..و ..و ..بعد انفراط الأمة  أخذ الوطن الواحد ينفرط.. مسلمون جزائريون عرب ومسلمون جزائريون بربر.. بجنسية وبدون.. أفريقي وعربي و..و.. أما تلك  الطغمة الفاسدة التي تسعى لاستمرار هذا الوضع المثالي لأعدائنا فتذكى النار وكأنها نذرت ألا تدع على وجه البسيطة من يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله فلا يهمها شئ.. تضعف الأمة بسياساتهم الخرقاء لا يهم.. يضعف الوطن.. لا يهم.. يتفتت الوطن.. لا يهم.. لكن هدفهم الذي يعيشون في سبيله ويموتون دونه هو القضاء على الإسلام حتى لو أدى ذلك إلى تلاشى أوطانهم. .

وفى ظل هذا كله تحول ولى الأمر إلى قرصان محلي تحالف مع القرصان الأكبر والأمة  لا تدرك أنه قرصان فراحت تلتمس له المعاذير وتسدى له النصح آملة أن ينصلح حاله.. غير مدركة أنه باعها وباع السفينة.. و أن مهرجانات المبايعة التي يعقدها لنفسه ليست بيعة الدين بل هي بيع للدين..

نعم.. بيع للدين وللوطن وللشعب..

ثم يأتي عبدة الشيطان ليهاجموا نظام الخلافة صارخين : سوف يمكث الخليفة حاكما طول عمره .. هذا ضد الديموقراطية وهذا لا يمكن أن يكون لذلك لا يمكن أن نوافق..

الله يعلم إنهم لكاذبون.. و أنهم فجار أيضا.. كاذبون لأنهم يعلمون أن شكل الخلافة – ومنه مدة الخلافة – هو بشري.. وهو عقد ما بين الأمة والحاكم يجوز للأمة فيه أن تشترط ما شاءت ما دام في حدود شرع الله.. يعلمون ذلك من تجربة الإمام الحسن بن علي مع معاوية رضى الله عنهما.. ويعلمونه من تجربة معاوية الثاني رضي الله عنه.. ويعلمونه من خلال عشرات الخلفاء عزلوا لسبب أو لآخر رغم أن الخلافة بعد الراشدين لم تكن خلافة كاملة.. هم كاذبون لأنهم يعلمون وينكرون.. أما كونهم فجارا لأنهم هم بأنفسهم من يبايعون حكامهم كي يحكموا مدى الحياة بل إن منهم من يناشد الحكام أن يورثوا الأبناء.

نظام الخلافة هو ما ينقذنا مما نحن فيه..  وقد يرى البعض أن الوقت غير مناسب وأن الصحوة الإسلامية في نموها ستفرض الأمر بعد عقود أو قرون.. ولست أتفق مع هذا الرأي.. نعم.. هناك صحوة إسلامية.. لكنها حين  تتقدم بسرعة السيارة يتقدم أعداؤها بسرعة طائرة.. هناك صحوة إسلامية وهناك أيضا إمبراطورية الشيطان..

وعندما تكون أكبر و أعقد أسلحة الصحوة  زجاجة مولوتوف  وبندقية بدائية  وصاروخ كاتيوشا  فإن سلاح أعدائها طائرة إف 16 وصاروخ كروزو، وطائرة بى 52 وشعاع ليزر وقنبلة نووية..

وعندما يتبعثر شهداء الصحوة الإسلامية الأحياء في فجاج الأرض محاصرين جائعين عراة مطاردين ليس بينهم وبين بعضهم أي اتصال فإن أعداءها ينتشرون في بقاع الدنيا ويسيطرون عليها تحكمهم رئاسة مركزية واحدة  قد يكون مقرها في واشنطن أو تل أبيب.. رئاسة مركزية واحدة يعمل الملوك فيها خدما والأمراء عبيدا والرؤساء عملاء..

نعم .. يتجمع أعداء الصحوة الإسلامية تحت قيادة إمبراطورية الشيطان  كما لم يتجمعوا عبر التاريخ قط.. اليهود والصليبيون والعلمانيون ونخبنا المثقفة وجل ولاة أمورنا.. نعم.. هناك صحوة إسلامية.. وهناك تقدم إسلامي.. لكن تقدم إمبراطورية الشيطان أكبر والمسافة بينهما تزداد ولا تنقص..

في العالم غير الإسلامي لم تكن مشكلة الغرب في فرض حضارته صعبة.. لأن هذا العالم لم يكن يمتلك حضارة كاملة راسخة  كحضارتنا.. لم يكن يمتلك شريعة كاملة وخاتمة كشريعتنا.. أما بالنسبة لنا.. ليس الأمر مجرد غزو فكرى.. بل هو فكر استيطانى يستأصل حضارتنا وفكرنا ليحل محله.. فكر استيطانى لا يستطيع مواجهته شراذم حكام وشراذم كتاب دوّخونا و أضلونا السبيل ودفعوا بنا إلى التيه.. فكر استيطانى عبر عنه الدكتور محمد عمارة[6] في مرارة توجع القلب قائلا أن المشكلة بيننا وبينهم ليست قبولنا لهم بل قبولهم لنا..

إنهم يرفضوننا رفضا كليا لا يمكن أن يتزحزح إلا إذا أعلنا التوبة من الإسلام والتبرؤ من جوهر ما يدعو إليه ولا مانع من أن نبقي علي شكل أجوف خاوي المضمون .. محققين بموقفهم ذلك الإعجاز المذهل للآية القرآنية: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير}.سورة البقرة.  الآية: 120

نعم : موقف إمبراطورية الشيطان  منا هو ذات موقف حكامنا ونخبنا منا.. موقف لا يعتمد الدين مرجعية .. ولا يعتمد أيضا المنطق.. يرفضون النقل .. ويرفضون العقل أيضا..

وموقف إمبراطورية الشيطان منا أن تضعنا في أفضل المواقع بالنسبة لها و أسوئها بالنسبة لنا ..إنهم ينتقون على سبيل المثال أقل الأشخاص كفاءة لتولى أخطر المناصب.. يختارهم لنا الغرب أو يصل بهم – في إطار مؤامرة لا أشك فيها – إلى سدة الحكم ليكونوا رؤساء ونواب رؤساء وملوكا و أمراء وقادة.. يختارون أولئك الذين لا يمكن أن تصل بهم كفاءتهم ومواهبهم إلى مثل مناصبهم.. يتحول الحاكم من هذا النوع إلى خادم.. وعبد ذليل لمن وضعه في منصبه ولمن يضمن له الاستمرار فيه..

هؤلاء و أولئك هم الذين أوصلونا إلى ما نحن فيه.. إلى التيه.. نعم.. فالتيه لم يكن مقصورا على بنى إسرائيل..

وكان مما نسيناه الولاء والبراء.. الولاء لله.. والبراءة من كل ما يغضب الله..

ذلك أساس لا يمكن بدونه تحقيق وحدة أو قوة أو خلافة أو انتصار..

الولاء والبراء اللذان لا ينعقدان إلا على أساس القرآن والسنة فقط..

ليس للنظام العالمي الجديد دخل في ذلك ولا لقرارات الأمم المتحدة!!..

بالولاء والبراء نتخلص من أصنام الفكر.. والتحزب والتشيع والتفرق.. فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من أي أرض أو جنس أو لغة كان.. ومن كان كافرا وجبت معاداته من أي صنف كان.. وليس لمؤمن أن يعلق الولاء والبراء على أسماء مبتدعة سموْها ما أنزل الله بها من سلطان.. لا الأحزاب ولا المذاهب ولا النظم ولا الأفكار ولا الفلسفات بل فقط.. الولاء لما يحبه الله ورسوله والبراء مما يبغضه الله ورسوله..

قال تعالى:

" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه و إلى الله المصير". آل عمران 28

وقال عز من قائل:

" لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم".. المجادلة 22.

ولقد حرص أعداء الإسلام  على إضعاف مفهوم الولاء والبراء في حياة الأمة الإسلامية ، وبعث قيم  جديدة يعقد  على أساسها الولاء والبراء لتكون بديلا عن الإسلام فظهرت دعوات القومية والوطنية والإنسانية والاشتراكية والشيوعية والرأسمالية و .. و.. و..  حتى يتذبذب المسلم بين ولائه لدينه وبين ولائه لهذه المفاهيم الجديدة ويذهب تميزه بإسلامه واستعلائه بعقيدته ليسقط فريسة  الغزو الفكري  والحضاري والعسكري  فلا يبقى منه  إلا مسخ مشوه لا يصلح  في حراسة الدين ولا في سياسة الدنيا.

ولم يكن غريبا أن تؤتي هذه الدعوات الخبيثة أكلها في تمزيق دولة الخلافة، فتنشأ حركة التتريك في تركيا والقومية العربية والبلقانية والفرعونية والبربر و .. و ..  وهي حركات  تنقل الولاء والبراء  من مستواها الإلهي إلى مستوى بشرى أو شيطاني.

نعم .. في بحور التيه هُزمت أرواحنا قبل أن تهزم جيوشنا..

لم يكن لأرواحنا أن تهزم أبدا لو كنا نفعل كما فعل أسلافنا الصالحون..

لو لم نتخل عن الولاء لله..

يورد الدكتور صلاح الصاوى نماذج رائعة من أسلافنا الذين زخرت حياتهم بالصحائف المشرفة والمواقف الخالدة التي علمت البشرية كيف ينتصر الولاء للإسلام على كل ما حفلت به الدنيا من الجواذب والمغريات .

 فهذا هو الصحابي الجليل كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة الذين خلفوا يهجره النبي صلى الله عليه وسلم، ويأمر بهجره ، ويعيش بين المسلمين على الحال التي وصفها الله في القرآن ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ). ثم يأتيه في غمرة هذه المحنة كتاب من ملك غسان يدعو فيه إلى أن يلحق به ليواسيه ويرفع عنه ما يكابده من هوان وضيعة، فما كان من الصحابي الجليل إلا أن أحرق هذه الرسالة في التنور، وقال : وهذه أيضا من البلاء! !..

 وهذا الصحابي الجليل أبو عبيدة - رضي الله عنه - يقتل أباه يوم بدر لما استحب الكفر على الإيمان ، ولم تمنعه صلة الأبوة من أن ينتصر منه لله ولرسوله وللمؤمنين ..

وهذا هو الصحابي الجليل مصعب بن عمير يمر يوم بدر على نفر من الصحابة يأسرون أخاه عزيز بن  عمير فيقول لهم شدوا وثاقه جيدا فإن أمه غنية، ويبادره أخوه متعجبا : "أهذه وصاتك بي " فيقول : إنهم إخوتي دونك !!..

 وهذا هو الصحابي الجليل زيد بن الدثنة بعد أسره في حادثة الرجيع يشتريه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، ويقدم هذا الصحابي الجليل إلى القتل صابرا محتسبا، فيبادره أبو سفيان بن حرب بهذا السؤال : أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن في مكانك تضرب  عنقه وأنك في أهلك . قان زيد : (والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي).

وهذا هو الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول يأتي إذ يأتي  النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قال أبوه قولته الفاجرة : "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز الأذل " . ويعرض على النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يأمره فيأتيه برأس أبيه إن كان مزمعا قتله ! ويقف على باب المدينة شاهرا سيفه ليمنع أباه من دخول المدينة حتى يعلم من هو الأعز ومن هو الأذل، ولم يمكنه من الدخول حتى جاء إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

***

يواجهنا العلمانيون في بلادنا - وهم مجوس هذه الأمة -  بعقل تالف وصبر نافد وذاكرة تنزف وضمير زُيِّف..  فإذا ما تحدثنا عن الولاء والبراء وعن الحل الإسلامي أو عن ضرورة عودة الخلافة أو عن قداسة اسم الله سبحانه وتعالى وجلال قرآنه وتنزه رسوله صلى الله عليه وسلم عن عبثهم، تعالت أصواتهم بالاستنكار وكسرت لنا الأقلام  وأغلقت  لنا الصحف ..

نعم.. صك  المستغربون لنا مصطلحات وأعطوها قيمة مطلقة، فمن حقك مثلا تناول الدين والمقدسات بموضوعية، والموضوعية هنا تعنى نزع أي رؤى سابقة، ولكنك إذا حاولت أن تتناول مصطلح "الموضوعية" نفسه بموضوعية تجابه على الفور بأقسى وأقصى هجوم، فالمصطلح في منظورهم كتلة صواب مطلق لا تقبل التجزئة، لقد رفضوا أن يحتل الدين هذه المرتبة التي منحوها لمصطلحهم.. رغم أن المصطلح ككل ما هو دنيوي يحتاج إلى مواجهة. فهو إن كان يصلح في العلوم الطبيعية والفيزياء لا يصلح على الإطلاق في النظرة الشاملة الكلية للخلق والغاية من الحياة والهدف الذي نسعى إليه، لكن المستغربين والعلمانيين  يريدون أن تكون الموضوعية صنما مقدسا لا يمس، وهو يعنى بالضرورة استبعاد كل ما لا يمكن تجربته، وبهذا يكون الغيب كله مقصيا ومستبعدا من أي حساب. الجزء الأكبر والأهم من الوجود يستبعد فهل في ذلك أي موضوعية؟!.

تستلزم الموضوعية أيضا الحياد، والحياد أسطورة لا يمكن تحققها إلا بقد ما يمكن أن تتشابه بصمات إصبعين!!.. الإنسان موقف.. والموقف انحياز.. والحياد – مثلا- بين الخير والشر وبين الخطأ والصواب وبين الإيمان والكفر وبين الله والشيطان.. وتمييع موقف الولاء  والبراء حتى التلاشي .. كل ذلك  ليس موقفا موضوعيا ولا صحيحا.. ليس بمصطلحاتنا سوى نفاق..!!..

وبالرغم من ذلك كله فلنرقب مدى موضوعية إلههم أو على الأحرى شيطانهم في واشنطن والتي فضح في العام الأخير كما لم يفضح الشيطان منذ عشرات القرون..

***

مصطلح آخر.. كالديموقراطية.. مصطلح مصمت.. مطلق.. على الناس أن يؤمنوا به إيمانا مطلقا و إلا سلبت منهم كينونتهم كبشر وحرموا حقوق البشر دون أي تسامح مع من يحاول تفكيك المصطلح لتحليله وفهمه..

في مواد القانون الجنائي يوجد من أنواع الجرائم نوع يسمى بالجريمة المستحيلة.. كجريمة إطلاق الرصاص على جثة ميت.. فجريمة القتل هنا جريمة مستحيلة..

بعض الأسئلة أيضا كذلك..

ولنطرح على سبيل الجدل فقط سؤالا مستحيلا من هذه الأسئلة.. سؤالا  غير حقيقي وغير صحيح.. سؤال غير صحيح من البداية لأننا لو أجرينا استفتاء غير مزور بين كل شعوب العالم الإسلامي لاختارت الإسلام والوحدة وتطبيق الشريعة..

لكن .. فلنطرح هذا السؤال المستحيل:

إذا رفضت الديموقراطية النظام الإسلامي .. ورفض الإسلام الديموقراطية.. فأيهما نتبع؟؟!!..

والسؤال كما قلت غير صحيح..

فالإسلام واحد له مرجعية إلهية واحدة و يحتوى داخله على ثراء مذهل من تعدد الرؤى.. أما الديموقراطية فهي مرتبطة بمن ابتكرها..فإذا كانت الحضارة الغربية هي التي ابتكرتها فإنها تستطيع تغيير مواصفاتها في أي وقت .. ولن نتناول الأمر هنا بصورة أكاديمية فالمجال لا يتسع.. لكننا نقرر أننا.. وعلى مستوى العالم كله نرى نماذج بالغة التشوه تطعن النظام الديموقراطي في أقوى قلاعه.. لن أتحدث عن الديموقراطية السائدة في عالمنا العربي والتي تفضلها حثالة كرومر وبقايا نابليون على الإسلام.. ديموقراطية المخالب والأنياب والمحاكم العسكرية و إفساد القضاء والنيابة التي تحولت إلى شرطة والشرطة التي تحولت إلى عصابات والتزوير والفساد ومنع الناخبين من الوصول إلى صناديق الانتخاب – اللبنة الأولى للديموقراطية - .. لن نتحدث عن ذلك.. بل نتحدث عن الديموقراطية في قلاعها وحصونها.. عن الديموقراطية التي تعنى حكم الأغلبية.. ونتساءل كيف يتوصلون إلى هذه الأغلبية.. نظم حاكمة جبارة القوى.. وأجهزة تكنولوجية مذهلة.. ومؤسسات عابرة للقارات.. و أجهزة إعلام قادرة على إلباس الحق ثوب الباطل والباطل ثوب الحق.. ليست قادرة فقط.. بل إن هذه هي مهمتها الرئيسية.. مؤسسات هائلة تواجه الأفراد العاديين فتقنعهم بما تشاء وتخدعهم بما تشاء وتزيف وعيهم كما تشاء وتخفى ما تشاء وتظهر ما تشاء .. ثم تذهب بعد ذلك بهذا الفرد المحشو بالأكاذيب كي يختار في صندوق الانتخاب..

فهل يمكن لفرد أن يواجه تلك القوى الجبارة أن يحافظ على توازن فكره خاصة وقد جردناه من أي مرجعية مطلقة..؟!..

دعونا نضرب مثالا آخر.. إن أمريكا رائدة الحضارة الغربية ووارثة ما كان عند الآخرين تفترض لنفسها – ومعها الحق ما دامت لم تجد من يردعها – أن أي خلاف في تفسير الديموقراطية لابد أن تكون هي مرجعيته.. تماما كما يرجع في أمور الدين إلى الفقهاء وفى مشاكل القانون إلى المحكمة الدستورية العليا.. أمريكا هذه ترى في المجرم شارون رئيسا ديموقراطيا وتري في أطفال الشعب الفلسطينيين إرهابا يهدد الديموقراطية والحداثة والحضارة..

يغمض التحالف الشمالي في بلدنا أعينه عن كل ذلك ويواصل الانبهار بالغرب والانهيار أمامه.

كل شئ عندهم مزيف مهما حاولوا خداعنا بلمع بريقه ومع ذلك فإن حكم الخلافة هو الذي يتلقى الاتهام والإدانة.

إن أمريكا – راعية الديموقراطية - هي أكبر دولة في العالم في تصنيع أجهزة التعذيب، والمستورد الأول لها هو عالمنا العربي العلماني، ومع ذلك فإن تهم الإرهاب لا تسقط إلا على رؤوس المسلمين - لا أسميهم الإسلاميين فالإسلام واحد-.

***

ليست سيئات الخلافة إذن ما يعترضون عليه بل إسلام الخلافة!!..

ولقد لجئوا في ذلك إلى كل أنواع الكذب والتشهير والتشويه والادعاء والاختلاق..

لقد جندهم الغرب أو غزاهم، والأمة في غيبوبة أو تيه..

منذ مائتي عام على الأقل وأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله تخوض بحار التيه.. يتحرك الزمان .. لكننا ندور وندور لنعود إلى نفس النقطة في المكان.. بعد كل مرة .. نخسر فيها كل شئ .. لنبدأ من جديد.. لنخسر كل شئ من جديد.. فقد نسينا الله فأنسانا أنفسنا وحاقت بنا الفتنة التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة..

وفى ظلمات التيه لا ينقذنا من نخبة أبى لهب سوى نخبة أبى جهل ولا ننتقل من نخبة  أبى جهل إلا لنخبة أبى لهب..

 يحدثنا عن هذا التيه  العلامة محمد قطب في كتابه  القيم[7] فيقول: " كان حجم التيه هائلا جدا . . أكبر بكثير مما يتصور أكثر الناس.. ويكاد لا يوجد جانب واحد من حياة الأمة لم يتأثر بالتيه . . كأنما انقلبت في نصف قرن أو يزيد  أمة أخرى غير التي كانت من قبل ! انقلبت في كل شئ . . في تصوراتها وأفكارها ومشاعرها وأنماط سلوكها .. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والفكر والأدب والفن " . . في كل شئ ! وكانت الأمة - ولاشك -تشعر بالانقلاب . . فقد كانت المفارقة حادة بين ما كانت عليه وما صارت إليه في تلك الفترة القصيرة من الزمن . . ولكن الكارثة أنها- وهى في التيه - كانت تظن أنها تنقلب إلى الأفضل ! وتنظر إلى نفسها وهى تنسلخ من دينها وتقاليدها وموروثاتها وتصوراتها ، على أنها قد بدأت - الآن - تخطو أولى خطواتها على الطريق المستقيم!."

يعود بنا العلامة محمد قطب إلى بداية الانهيار.. فهي بذاتها بداية الانبهار بالغرب.. ثم يلاحظ ملاحظة هامة.. وهى أن سبب انبهارنا بالغرب لم يكن الفارق الحضاري بيننا وبينه.. فقد كان الفارق هائلا جدا لصالح الأعداء حين التقى المسلمون مع الفرس ومع الرومان ، وهم صفر اليدين من أسباب الحضارة المادية أو يكادون . . ولكن ذلك الفارق الهائل لم يستوقفهم لحظة واحدة ليفكروا فيه ، ولا كان له في حسهم وزن . . أي وزن !..

لأول مرة في تاريخ المسلمين  ينظرون إلى أعدائهم على أنهم أعلى منهم . . لا في مجالات العمل و " التكنولوجيا " وآلات الحرب ، فذلك ظاهر . . ولكن في الأفكار . . والعقائد.. وأنماط السلوك . . . لم يكن السبب هو الهزيمة العسكرية ، ولا فارق الحضارة المادية . . إنما كان الخلل في الإيمان . . في موطن العزة والاستعلاء . .

كان السبب هو الخواء العقدي الذي وقعت فيه الأمة عدة قرون .

لذلك أدت الهزيمة العسكرية إلى الانبهار. . وحين بدأ الانبهار . . دخلت الأمة في التيه . .

 أريد أن أضيف هنا أن الإصابة أول ما ألمت فقد ألمت بالنخبة.. النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية والصناعية.. النخبة التي تمثل إلحادي بالنسبة لأي مجتمع فهو يسير خلفها بأعين نصف مغمضة .. لا يتخيل أن تأتيه من قبلها الخيانة ولا أن تورده موارد الهلاك.. ثم أن ما يشين هذه النخبة ويدينها.. أن خطأها لم يكن خطأ من اجتهد فأخطأ.. بل من تآمر وأصر على الوصول للخطأ فنجح في الوصول إليه.. عن طريق الخسة لا عن طريق الجهل..  فقد كان لهذا الإصرار ثمن.. نعم.. كان هذا الإصرار هو ثمن الوصول إلى مستوى النخبة الحاكمة المتحكمة أو الاستمرار فيها.. نعم.. أعترف أن المرض قد تسرب بعد ذلك إلى الأمة.. لكنه ليس أبدا بنفس درجة إصابة النخبة به.. وكانت إصابة الأمة إصابة جهل لا إصابة خسة.. نعم.. الأمة على عينها غشاوة.. وليس مستحيلا أن تنزع هذه الغشاوة .. وذلك مكمن رعب النخبة ومن خلفها إلهها الأمريكي.. وذلك سر تكريسها لكل وسائل الإعلام والإعلان والتعليم وتسليطها لكل قوى البطش لكي تحارب الإسلام ولكي تجفف منابعه.. ولنأخذ من فكرة الخلافة مجرد مثل على ذلك.. لقد حاربوا وسفهوا وسخروا من فكرة الخلافة رغم أنها فكرة رئيسية وجوهرية ومحورية في الإسلام.. وانظروا إلى المنهج الشيطاني الذي يتبعونه: بداية فإن كتب التاريخ في المدارس تقوم بالدور الأول في تشويه الفكرة في وجدان النشء ، ثم تتكفل وسائل الإعلام بعد ذلك لترسيخ التشويه والتنويع عليه.. ثم تتوالى الإصدارات الثقافية لتؤكد هذا التشويه.. إصدارات ثقافية يقوم بها مستغربون تلقوا تعليمهم في الغرب -خاصة أمريكا - وتم غسيل أمخاخهم هناك .. فإذا ما أفلت أحد من هذا التيه الذي تدفعنا النخب إليه تكفلت به أجهزة الأمن.. ليعذبه ضباط بوليس تلقوا تدريباتهم على التعذيب في الغرب - وخاصة أمريكا!- مستخدمين في التعذيب آلات تعذيب مستوردة من الغرب - خاصة من أمريكا!!- فإذا أضفنا إلى هذا كله أن معظم الحكام تلقوا تدريبهم بصورة أو بأخرى في الغرب - خاصة في أمريكا !!!- اكتملت الدائرة واكتمل الانهيار ووضح سبب الانبهار.. إنه انبهار مصنوع.. انبهار مزيف ..

هزمت روح الأمة قبل أن تهزم جيوشها.. ثم اشتدت الهزيمة بعد أن هزمت الجيوش..

وعندما جلا الاستعمار عن بلادنا فقد جلا بثمن فادح.. سلم الحكم إلى نخب اصطنعها هو.. خمسة أو ستة آلاف في كل دولة.. خمسة أو ستة آلاف يحملون مواصفات التحالف الشمالي في أفغانستان.. وكان يدرك أنهم سيقاتلون في معارك حياة أو موت للاحتفاظ بتركيبة النخبة كما هي.. يتغير حاكم .. لا يهم.. تتغير وزارة.. لا يهم.. يقوم انقلاب.. أيضا لا يهم.. فاللعبة كلعبة الكراسي الموسيقية محصورة في نفس الأشخاص والأمة مهمشة تتفرج.. وما ينطبق على الحكم ينطبق على الاقتصاد والثقافة والعسكر.. وربما بعض الشيوخ الرسميين.

هزمت أرواحنا ..

انكسرنا..

وما لم ينجح فيه الاستعمار ولا جحافل الصليبيين نجحت فيه أجهزة حكمنا الوطنية..

هزمنا من داخلنا.. وتضافرت هزائم الداخل مع هزائم الخارج  فابتعدنا كثيرا عن منابعنا - التي لم ولن تجف أبدا وإن شُبّه لهم - فنسينا الولاء والبراء.. نسينا أن ولاءنا يجب أن يكون لله لا لوطن ولا لقوم ولا لملك ولا لرئيس ..  ونسينا أن براءتنا يجب أن تكون من أعداء الله..

والينا أعداء الله.. ولم نكن ممن وصفهم الله بأنهم أعزة على الكافرين رحماء بينهم.. بل كنا أذلة عند الكافرين أما بيننا فجبابرة..

انقسمنا شيعا وأحزابا ودولا .. وتقسم ولاؤنا بين الشرق والغرب وبين هذا وذاك..

وبرئنا من بعضنا ومن إخوتنا..

مصر أولا.. العراق أولا.. الكويت أولا.. الشام أولا..

وفى نفق التيه المظلم لم نتنبه أننا جميعنا نحتل الصف الأخير .. بينما كانت أمريكا أولا وإسرائيل أولا والغرب أولا..

ولم نتنبه.. إلى أن تلك النخبة المثقفة المنحرفة التي دستها السلطة بين صفوف الأمة متظاهرة أحيانا بالمعارضة تزلزل ديننا وعقيدتنا وهى تتظاهر بالمطالبة بحرية الفكر وما كانت تقصد سوى حرية الكفر.. وبحرية الاعتقاد وما كانت تقصد إلا حرية الإلحاد.. وراحوا يكفرون وبالله  ويؤمنون بالغرب كما شاء لهم الشيطان.. إلا أنهم أدركوا أنهم رغم كل محاولاتهم لم يغيروا في الأمة سوى قشرة لن تصمد لأي محاولة للكشف.. لذلك سنوا قانونا صارما ما أنزل الله به من سلطان.. إذ أنهم وهم يطالبون بحرية الاعتقاد.. الذي لا يقصدون به في أمة مسلمة إلا حرية الخروج على الإسلام.. سنوا ذلك القانون الذي يحرم على المسلمين اتهام الخارجين على الإسلام بالكفر.. وفى نفس الوقت تكفلوا بالعطاء الجزيل لأولئك الخارجين..

تماما كما تحرم أمريكا علينا اتهام عملائها بأنهم عملاء.. وتماما كما تجزل لهم العطاء..

أصبح الخروج على الإسلام مباحا..

وأصبح التكفير ممنوعا بإطلاق..

رغم أن كتاب الله.. القرآن الكريم.. هو أكثر كتاب في الدنيا يتحدث عن التكفير..!!

ومن هنا كنا ندلف إلى بحور التيه..

***

في كتاب بالغ الأهمية والخطورة للدكتور محمد محمد حسين عنوانه" حصوننا مهددة من داخلها"  يقول المؤلف:" أصبح كثير منهم في مناصب تمكنهم من أن يدسوا برامجهم وخططهم على المسئولين من رؤسائهم وينفذوها في  صمت، ودون أن يثيروا ضجة تلفت إليهم المعارضين، ولهؤلاء المفسدين عصابة تشد أزرهم وتشيد بهم وتنوه بذكرهم وتحميهم من خصومهم، وتمنع كل ما ينبه الناس إلى شرهم من كل وسائل النشر، فلا يصل إلى آذان الناس وعيونهم شئ منه، و  أنا حين أزعم أن هؤلاء الناس ينتمون إلى عصابة ذات خطر إنما أعنى بالعصابة كل مدلولها وكل حرف من حروفها وكل مفهوم من مفاهيمها."..

***

أروح مثقلا بالمأساة مروعا بالفجيعة أبحث عن سر انهيارنا في أخطائنا كمسلمين أولا.. وفى المؤامرة ثانيا .. ثم  في تلك الثلة من الأشرار التي تركها الاستعمار الصليبي تسيطر على حياتنا فتلوثها .. أولئك الذين ركعوا أمام حضارة الغرب .. استسلموا لها وكفروا بأنفسهم وبأمتهم وبالله .. لكنهم لم يكونوا بالشجاعة الكافية ليكشفوا طويتهم فأضمروا الكفر وأظهروا الإيمان .. ظنوا أنهم قد سبقوا عصورهم وبزوا أقرانهم فاكتشفوا كما اكتشف الغرب أن الأديان أساطير ينبغي – كي نتقدم – التخلص منها فألقوا بديننا مع الخرافات والأساطير..كفروا بالله الواحد القهار و آمنوا بالشيطان و أصبحوا رعايا في إمبراطوريته..  قالوا لأنفسهم أننا – نحن الذين نشكل مجتمعهم المتخلف – ما زلنا متخلفين جدا .. لأننا لم نتثقف بثقافتهم ولم نتعلم بعلمهم.. وأننا عندما نصل إلى ما وصلوا إليه من عقل وعلم وتحضر فلابد أننا سنقتنع مثلهم أن الدين ليس إلا أساطير الأولين .. هذه الأبقار تنظر إلينا بالضبط كما ننظر نحن إلى عبدة البقر.. لذلك قرروا أن يأخذونا الهوينى.. أدركوا من تجاربهم ومن تجارب أسلافهم وسادتهم أن الدين عزيز جدا في قلوب الناس حتى لو جهل هؤلاء الناس أسرار عظمته وأهملوا فرائضه فالدين قد انتقل عندهم من مجال العقل إلى مجال الروح فسما إلى مستوى العقيدة التي انعقدت القلوب عليها فما لها أن تنفك .. تحول الإيمان – في دفاعه عن نفسه – إزاء هجمة الشيطان إلى كينونة كلية لا تكشف تفاصيلها كي تنجو من سهامهم .. كينونة لا يمكن مهاجمتها أو تدميرها إلا بتدمير الكائن البشرى ذاته .. ولقد فعلها  إلههم مع الهنود الحمر والأستراليين الأصليين وكادوا أن يفعلوها معنا لولا أن قيض الله لنا الدولة العثمانية فحمت نسلنا وأبقت على حرثنا .. اكتشف هؤلاء إذن أن موتنا أقرب إلينا و إليهم من كفرنا .. و أدركوا أن المواجهة فوق أنها مستحيلة فقد تطلق في الناس فورة النخوة الأخيرة ليجاهدوا في سبيل الله  .. لذلك أضمروا الكفر و أظهروا الإيمان .. لا يعترفون بحقيقة كفرهم إلا فيما بينهم .. أما معنا .. مع الأمة.. فقد قرروا ألا يواجهوا الإسلام مباشرة بل أن يخربوه جزءا فجزء.. لقد عجزوا عن سحقه في قلوبنا .. فليسرقوه إذن منها .. يسرقونه بالتسلل إلى بنوده وأركانه وتدميرها فلا يبقى في قلوبنا إلا هيكل بلا محتوى وشكل بلا مضمون .. وعندما يصلون إلى ذلك سيكون من اليسير عليهم اقتلاع بقاياه..إنهم يسوقوننا سوقا إلى إسلام آخر غير الذي نزل الأمين به على محمد صلى الله عليه وسلم .. إسلام لا نسلم أمرنا فيه إلى الله بل إليهم .. إسلام يتجرد من عقيدة الإسلام.. إسلام يعترف بأن الجهاد إرهاب ويسقطه كفريضة.. ولأنهم يدركون أن هذه الأمة لا تستطيع الحياة بلا دين فقد قرروا تقديم إسلام مزور إليهم .. إسلام كشف محمد جلال كشك عن تفاصيله حين أطلقوا عليه في أضابيرهم في مؤتمر انعقد في عاصمة إمبراطورية الشيطان اسم : "الإسلام العيسوى".. إسلام بلا جهاد.. إسلام يتراجع فيه المسلمون عن عقد بيعهم لأنفسهم مع الله بأن لهم الجنة .. إسلام لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يقوم اعوجاج السلاطين بالسيف ولا حتى باللسان .. إسلام لا يتدخل في السياسة ولا في نظام الحكم ولا في الاقتصاد ولا في مكافحة الظلم.. إسلام يعتبر المباح المشروط كتعدد الزوجات جريمة كبرى في نفس الوقت الذي يعتبر فيه الزنا حرية شخصية تنعقد مؤتمرات السكان من أجل الدفاع عنه.. أما الاعتراض على الشذوذ الجنسي فهو جريمة كبرى تدل على التخلف والهمجية وتستحق أن تهدد إمبراطورية الشيطان الدول التي تمارسها بشتى صنوف العقاب. إسلام لا رأى له في تزوير الانتخابات ولا في التعذيب..إسلام لا دخل له بالكفر ولا دخل له بالإسلام أيضا .. ولقد سموا هذا الإسلام الذي يخططون لنشره بالإسلام العيسوى .. إسلام يعطى الدنيا بما فيها لقيصر وبوش ولا مانع لديهم من تركنا نتخيل آخرة – لا يؤمنون بها- كما نشاء ما دمنا لا نحول بينهم وبين الدنيا.. إسلام منكفئ على نفسه .. كانوا  يمنون علينا قبل ذلك  بأنهم لا يفعلون بنا ما فعله أجدادهم بأجدادنا في محاكم التفتيش لكنهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر قد عقدوها لنا مرة أخري  ..برغم أن جل نخب أمتنا قد سلمت لهم بما يريدون فحاربت الإسلام الحقيقي وتبنت  إسلاما كأساطير الأولين لا دور له إلا في إلهاء الأمة.. لم تشأ إمبراطورية الشيطان أن تكرر تجربة كما أتاتورك في باقي العالم الإسلامي.. لقد فعلها أتاتورك بالثورة والدم .. وبرغم نجاحه فقد كانت المحاولة فجة ومكشوفة .. وكان المرعب فيها أن تستثير رد فعل معاكس ينبه أمة غافلة مخدرة .. أمة تساق إلى المجزرة وهى فرحة بها نشوانة.. نجحت طريقة كمال أتاتورك إذن .. لكن مخاطرها أكبر.. فلماذا لا يحاولون معنا .. مع باقي الأمة الإسلامية .. أن يكرروا طريقة كمال أتاتورك لكن دون ثورة.. أن يستفيدوا من تجربة كمال أتاتورك نفسه.. أن يخمدوا الأصوات التي يحتمل أن تعارض حتى قبل أن تعارض.. أن يجندوا ولاة الأمر والكتاب والمفكرين والصحفيين والجيش والشرطة وأن يجردوا الأمة من كل سلاح . أن يجندوا الرؤساء والملوك..

يا إلهي..

في العالم العربي كله لا يسمح بحرية تكوين حزب إسلامي..

في العالم العربي جله فإن الإسلام إما محاصر وإما سجين ..

في العالم العربي جله وقف الجيش والشرطة مع العدو ضد الأمة.. مع الشيطان ضد الله.. مع الصليبيين واليهود ضد محمد صلى الله عليه وسلم ..

لماذا لم يدركوا قط أن الشيطان هو الذي يحركهم و أنهم يحاربون الله..

لماذا لم يقولوا لا .. حتى لو قالوها فاستشهدوا ..

ثم ماذا استفادوا .. ماذا كسبوا ..

معظمهم خسر الدنيا والآخرة ..

كيف لم يعتبر الجميع ..

كيف لم يدركوا أننا نسير في طريق الشيطان وأن الله لن يبارك في عمل يخط الشيطان حدوده ..

وحتى هؤلاء الأغنياء الجدد لن يدركوا إلا بعد الخراب أنهم إذ كانوا يكنزون الذهب لم يكنزوه لأنفسهم .. ففي البورصة والجات والنظام العالمي الجديد سيرثهم الصليبيون واليهود في إمبراطورية الشيطان.. ولن يبقى لهم من الذهب إلا ما يُصب مصهوره على أجسادهم يوم القيامة نارا ..

كيف لم يدركوا أننا وقد تركنا سبيل الله لم يبق لنا سوى سبيل الشيطان..

كيف لم يذكروا أن الله قد عهد إلينا ألا نعبد الشيطان .. فعبدناه..

كيف ..

كيف لم نتنبه ولم ندرك أنهم يستنسخون في كل بلد من بلاد المسلمين كمال أتاتورك وقرضاي ودستم وبرويز وكرازي ..

و كيف لم تثر فينا هذه النماذج الخوف والرعب ولم يشعل فينا التحدي..

كيف استنمنا فتركناهم في نشوة انتصارهم بنجاح مؤامرتهم يستنسخون الآلاف والآلاف من الخونة والمنافقين .. منهم الملوك ومنهم الرؤساء ومنهم الأمراء ومنهم قواد الجيش والشرطة ومنهم رؤساء التحرير وكبار الكتاب والمسئولين عن الإعلام.. وحتى بعض الشيوخ.

هذه النخبة المنافقة الخائنة مسئولة عن تطوير مناهج التعليم في العالم الإسلامي وقد تعهدوا لسادتهم في إمبراطورية الشيطان أن تخرج لهم مدارس المسلمين جيلا من الخريجين يدين بالإسلام العيسوى .. جيل من الخريجين لا يعرف الفرق بين الإسلام والمسيحية واليهودية ويتبنى آراءهم في الإسلام .. جيل يسخر من دينه .. جيل مخدوع مستنزف الوعي مخترق الذاكرة لا يدرك أن معظم الغرب لم يكن يتبع المسيحية التي أنزلت على عيسى عليه الصلاة والسلام بل مسخا مشوها ادعوا زورا أنه دين .. ولم يكن لهم أن يتقدموا إلا بالتخلص من مسخهم المشوه .. أما نحن .. نحن خير أمة أخرجت للناس فلم نتخلف إلا بعد أن تركنا ديننا الصحيح ..

نخبة نتنة عفنة لم يتورع أحد أفرادها عن اتهام البطل المجاهد أسامة بن لادن رضى الله عنه بأنه تاجر مخدرات!! وهو اتهام لم يقل به أحد في إمبراطورية الشيطان ذاتها  ..

نخبة جعلت همها الأكبر ترويج الكذب وتشويه الصدق وتمجيد الخونة وتخوين الأبطال والانبطاح انبهارا أمام الغرب والازدراء بكل ما يمت إلي الإسلام.

نخبة لا عداوة بينها وبين إطلاق اللحى عندما يكون صاحب اللحية مسيحيا أو يهوديا أو ملحدا أو لصا وقاطع طريق أو عضوا في التحالف الشمالي أو عندما يطلقها علي " الموضة" لكن هذه اللحية ذاتها تصبح علامة التخلف ومبعث الازدراء ومستقر الإهانة إذا ما كان الملتحي قد أطلقها استجابة لسنة مؤكدة.

نخبة انفجرت في بلادنا منذ أعوام  بإدانة مفعمة بالاشمئزاز منا (  أولئك المتخلفين الإرهابيين الذي بلغ من تخلفهم أنهم يرفضون جلوس المرأة عارية – تماما - أمام الرسام ليرسمها..!!) .. نخبة تضم  رئيس تحرير لم يتورع عن تحريض الدولة على إرهابيي شركة مصر للطيران الذين رفضوا المشاركة في بيع الخمور فيها..!!.. و آخر هاجم الدكتور زغلول النجار لمجرد أن ما يكتبه ويقوله يعمق الإيمان في القلوب.. وفى صحف رسمية تصدر في بلادنا الإسلامية راح أولئك الأشرار يحذرون من تكرار ظاهرة الشيخ شعراوى حيث يكرر التليفزيون خطيئته بخلق نجم يروج للخرافات والأساطير!!.. رغم أن ما يقوله الدكتور زغلول النجار يغوص في أعماق العلم التجريبي .. ونفس النخبة كانت مستعدة لأن تغفر للدكتور أحمد زويل أي خطأ يرتكبه حتى زيارته لإسرائيل وعلاقاته بها و أن تعتبر أي عتاب له على ذلك جريمة وضيعة تستحق الازدراء ولا يمكن أن يرتكبها إلا مسلم  ولكنها لم ترحمه أبدا عندما زار مسجد " سيدي إبراهيم الدسوقي "  عند زيارته لمصر.. ولم يكن هجومهم بالطبع على زيارة ضريح بل علي زيارة مسجد.

نخبة تتمثل في تلك الثلة العفنة التي نشرت كتابا يتحدث عن فترة التكوين لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. ويقول الكتاب الفاسق أن السيدة خديجة رضى الله عنها كانت نصرانية وقد تآمرت مع عمها ورقة بن نوفل النصراني أيضا في مؤامرة كبرى كان موجزها: كيف يمكن أن يصنعا نبيا؟ .. ويقول الكتاب أنهما قد نجحا!!.. هذا الكتاب نشر في القاهرة.. وعندما أصدرت جبهة علماء الأزهر بيانا تحكم فيه على الكتاب ومروجيه بالكفر انبرت لها الذئاب والخنازير والأفاعي..

وعندما نشرت الجبهة  في بيانها بيانات دار النشر المكتوبة على الكتاب انبرت الأقلام الفاسقة تتهمها بالإرهاب والتحريض ومحاكم التفتيش.. وانبرى بعد ذلك شيخ الأزهر – الشيخ سيد طنطاوى – بفصل رئيس جبهة العلماء.. فصله في ذات الأسبوع الذي أصدر فيه فتواه باعتبار العمليات الاستشهادية انتحارا.. والانتحار كما هو معلوم كفر!.

وكانت الجبهة قد تشكلت لمقاومة أعضاء التحالف الشمالي الذين زرعوا في الأزهر فأصبحوا يفتون باسم أمريكا لا باسم الله.. وازدادت خلافاتهم مع شيخه عندما قابل الحاخام الإسرائيلي ودعاه إلى مقر المشيخة كي يدنسها ولكي يثبت أنه يقابله باسم الأزهر لا باسمه الشخصي.

هذا الفكر العفن الذي يدعى الإسلام ليس من الإسلام في شيء..

هذا الفكر بل الكفر العفن الذي تروج له هذه النخبة هو تماما الفكر الذي تروج له إمبراطورية الشيطان.. فكر – بل كفر – أن ديننا أكذوبة و أن نبينا صلوات الله عليه وسلم – أستغفر الله العظيم – دعىّ  و أن إلهنا وهم و سراب و أساطير الأولين.

هذه النخبة النجسة التي تحمل للدين كل هذا الازدراء لا تجرؤ على البوح بمشاعرها إلا إذا كان الحديث عن الإسلام.. فإذا كان الحديث عن اليهودية أو المسيحية أو حتى البوذية توقف ازدراؤهم على الفور بل وانقلب إلى العكس فمن التحضر أن تحترم معتقدات الآخرين.

هذه النخبة النجسة التي نشرت في أكبر صحيفة عربية مقالا يتحدث عن تخاريف البخاري والنسائي والترمذي وابن ماجة و أحمد بن حنبل رضى الله عنهم أجمعين.

هذه النخبة النجسة التي لم تركع لله ركعة ولم تقرأ من القرآن آية إلا هزوا  هي التي تنفذ سياسة إمبراطورية الشيطان فينا وتنشر ثقافتها بيننا ولا تكتفي بذلك فهي تريد أن تملك حق تحديد مواصفات الإسلام الذي ينبغي لنا أن نسير عليها حتى لا نوصم بالتخلف أو أن نتهم بالإرهاب.

***

أقول ذلك و أنا أعلم محاذير التكفير.. لكن ما حدث في أفغانستان لابد أن يدفعنا لتغيير نمط تفكيرنا فنحن هنا لا نتحدث عن اشتباه في الكفر لا يحق لنا توجيهه إلا بضوابط معينة بل نتحدث عن نخبة تقوم بخيانة الأمة وتسليمها إلى عدوها.. كان التحالف الشمالي في أفغانستان هو الذي ربته ورعته إمبراطورية الشيطان.. وكان هو الذي تواطأ معها لهزيمة شعبه وبلده و أمته و أبناء دينه. كان هؤلاء الذين يدعون انتماءهم إلى الإسلام هم الذين هزموا المسلمين. وكان برويز مشرف الذي يدعي حماية الإسلام هو الذي ظاهر أعداء الله على المسلمين. نحن لا نتحدث عن أمر عقديّ يحكم الله سبحانه وتعالي فيه يوم القيامة.. ولا نتحدث عن إنسان يمارس الكفر والولاء للشيطان في بيته .. بل نتحدث عن جاسوس خائن يورد أمته موارد الهلاك.. لا عن طريق المواجهة والحوار بل عن طريق ادعاء الإسلام كي يخدع الأمة و يدلس عليها. فهل يكون تحذير الأمة من مثل هؤلاء حراما أو جريمة؟!.

لقد كان سلاح التكفير – مصحوبا بضوابطه – من أمضى الأسلحة في كشف هؤلاء الجواسيس والعملاء لأمة.. لا لكي نمنعهم من الكفر ولا حتى لكي نعاقبهم عليه بل لكي نحذر الأمة منهم.

ولقد فرضت علينا هذه النخبة الفاسدة المفسدة.. زرع الشيطان بين الأمة الإسلامية  وعميلة إمبراطوريته أن نمتنع عن تكفير حتى من يجحد الصلاة ويسخر منها ومن يستهزئ بكتاب الله ومن يرفض تطبيق شرعه لأنه شرع بدوي متخلف كان يصلح للرعاة الحفاة في القرن السابع لكنه لا يصلح لنا الآن . بل وفرضت علينا أن نستمع لفتاواها التي تطلقها عن الإسلام من بين شفاه نجسة مخمورة.

منعونا من التكفير مطلقا..

و أنا أحترم تماما كل ضوابط التكفير التي وضعها لنا سيد الخلق وحاتم النبيين صلى الله عليه وسلم لكن كيف أحترم الضوابط التي وضعوها هم. و إنني أخشى أن أخذ الأمور بصورة مطلقة قد يوقعنا في مخالفة شرعية من ناحية.. ومن ناحية أخرى يفقدنا سلاحا من أمضى أسلحتنا.. نعم التكفير بغير سند مجرّم ومحرّم..  وكذلك القتل مجرّم ومحرّم..  لكن هل يمنعنا هذا التجريم والتحريم من القتل للقصاص..؟.. لا .. ففي قتل القصاص حياتنا.. وفى تكفير الكفرة بحق ودليل فقهي ليس حراسة ديننا و إيماننا بل حراسة أوطاننا..

نعم فرق بين الخطأ والانحراف وبين الخيانة ..وفرق حتى بين الفسوق والكفر..  فهل يكفى أن يجحد أحدهم كل أركان الإسلام ويسخر منها ويخرج علينا بقراءة مضحكة لحديث نبوي شريف يقول أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ويعتبر أن هذا كاف دون شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و دون إقامة صلاة أو إتيان زكاة أو صوم لرمضان أو حج للبيت لمن استطاع إليه سبيلا ..هذا هو تعريف هذه النخبة المنحرفة للإسلام.. وبعد أن يقوموا بهدم كل أركان الدين يأتون إلينا كي يفتونا فيه وكي يحددوا لنا ضوابط التكفير..  يكفى أن يقول الواحد منهم أنه مسلم  لكي يطلب لنفسه كل الحصانات والضمانات التي يكفلها الإسلام لكل مسلم.. يتمتع بهذه الحصانات والضمانات كي يقضى على الإسلام والمسلمين. يقولون أنهم علي الإسلام ويدعون أن الناس قد سلموا من أيديهم وألسنتهم – والواقع غير ذلك فهم حتى بمقاييسهم التي وضعوها غير مسلمين -  ويدعون حمايته وتطويره  لكنهم يخربون كل أهدافه.. الشيء الوحيد الذي لا يمانعون فيه أن يدخل المسلمون إلى المساجد ليفعلوا ما شاءوا بشرط ألا تصل أصواتهم للخارج .. وبشرط أن يكون المسجد سجنا لكل أفكار دينهم مادامت سجون الدولة لا تتسع لهم.. أما فكرتهم هم عن الإسلام فموجزها : خرافات و أساطير وصناعة نبي..

***

المشكلة التي طرحتها حرب إمبراطورية الشيطان على الإرهاب وبدأتها في أفغانستان وأعلنت أنها تشمل ستين بلدا آخر  مشكلة خطيرة على الأمة الإسلامية أن تعيها جيدا.

فهذه الحرب تعتبر تطويرا شيطانيا لحرب الخليج التي قاتلنا أنفسنا فيها بأموالنا وجيوشنا.. ولقد وصلوا فيها إلى تخطيط جهنمي يكفل لهم إعادة احتلال كل بلد المسلمين بجيوش المسلمين و أموال المسلمين. جيوش مسلمين من نفس أنماط النخب القائدة والمتحكمة في بلادنا. نخب التحالف الشمالي المبثوثة الآن في كل بلد إسلامي.

أثناء الحرب في أفغانستان كنت أراقب جيوش التحالف الشمالي هناك وقواده فيستبد بي العجب إذ كيف تبلغ الأمور بالناس هذا الحد من الغدر والخسة والضعة والمهانة والتدني والخيانة، فيشاركون في هدم أوطانهم وحرق أبنائهم و إخوتهم، لقد تحالفوا مع كل عدو لبلادهم ودينهم وأمتهم من أمريكا إلي روسيا إلي بريطانيا إلي إسرائيل. تحالفوا مع كل أعداء الله.

وكنت أتساءل لماذا لم يجتمع علماء المسلمين ليصدروا فتوى بكفرهم.. فتوي كان يمكن لها أن تمنع ولو جزئيا ما حدث بعد ذلك.. فتوى كانت ستدفع – بالتأكيد – العديد من أنصارهم و أتباعهم للتخلي عنهم فعندما يوضع الدين في كفة والمكاسب في كفة فمن المؤكد أن بعض الناس سيختارون الدين وبعضهم الآخر سيختارون المكاسب.. وكنا سنكسب أولئك الذين اختاروا الدين فلماذا إذن لم تصدر الفتوى؟!..

وهنا .. دهمتني – فوق كل ما دهمني – حقيقة مروعة رهيبة، فالتحالف الشمالي لا يقوده القواد السبعة في شمال أفغانستان، بل يقوده ويشارك فيه جل حكامنا وجل دولنا وجل جيوشنا وكل شرطتنا.. ويشارك فيه أيضا النخبة المثقفة الرسمية في بلادنا من كتاب ومفكرين وصحافيين ورؤساء تحرير ومسئولين عن الإعلام.

نعم .. ويا للألم..

جل حكامنا وجل دولنا وجل جيوشنا وكل شرطتنا ومعظم مثقفينا الذين يسمح لهم بالكتابة أو الحديث..

وعبقرية الشيطان التي تجلت في الحملة الأمريكية تجعلها تستطيع بسهولة تدمير أي بلد في العالم بأيدي أبنائه.

ففي أفغانستان لم يكن يمكن لأمريكا أن تحقق ما حققته لولا خيانة التحالف الشمالي بتحالفه معها..

والتحالف الشمالي رغم أنه زرع شيطاني إلا أنه لم يظهر فجأة فقد دأبت إمبراطورية الشيطان عن رعايته منذ زمان طويل حتى تأزف الآزفة لتدفعه إلى الخروج عن أمته وذبحها ذبح الخراف.

التحالف الشمالي هو الذي ذبح أمته هناك.. وهو الذي ينتظر الأمر لكي يفعل في كل بلد من بلاد عالمنا الإسلامي ما فعله في أفغانستان.

كل بلد من بلاد عالمنا الإسلامي..

ولنأخذ مصر مثالا.. تعالوا إلي أضعف الأحزاب فيها و أكثرها فسادا، بل تعالوا إلي المسجونين بتهم جنائية من القتلة والجواسيس ومهربيالمخدرات والخونة .. تعالوا إليهم  وكونوا منهم فرقة من عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفا. واجعلوا أمريكا تتحالف معهم  فيقوم أسطولها بحصارنا وتسلط علينا جيراننا فيقاطعوننا ويحكمون الحصار ثم تبدأ طائرات الـ B52  في قصفنا وتدمير منشآتنا وسحق جيشنا .. ألن يستطيع أضعف الأحزاب هذا – والظروف تلك – أن يستولي علي الحكم؟!..

هذا مثال يمكن أن يتكرر في أي بلد عربي ما لم نتحد ونواجه..

نتحد لنواجه حملة كبرى بدأت في الهجوم الدائم المتكرر علينا منذ أكثر من ألف عام..

نتحد تحت راية الخلافة. فهي الجهاز العصبي الذي تتحول كل حركة للأمة بدونه إلى تشنجات أطراف تؤذى ولا تفيد.

نتحد تحت راية أسمي صورة من صور أنظمة الحكم..

ومرة أخرى فإن الخلافة جوهر وشكل.. الجوهر إلهي وهو الإسلام كله .. و هو أن يكون المسلمون أمة واحدة تطبق شرع الله..

أما الشكل فبشرى ومتروك لنا.. لذلك ليست هناك صيغة واحدة نقترحها.. هذا كله اجتهاد علينا أن نسعى للحصول على أجر فيه إن لم نفلح في الحصول على الأجرين.. فيمكن أن يكون الخليفة فردا.. ويمكن أن يكون حتى مؤسسة.. ويمكن أن يكون مؤسسة يرأسها فرد..ويمكن أن تطول أو تقصر مدة تولى الخليفة طبقا لعقده مع الأمة.

خلافة تحمينا من الذبح والذل والهلاك والدمار والفساد والخراب والهزائم..  خلافة تعلى مفهوم الغاية العليا .. خلافة تتمم مكارم الأخلاق فتنشر النور وتقيم العدل وتقاوم سيادة إمبراطورية الشيطان.

هذه المؤسسة لا بد لها أن تبدأ على الفور.. كي تنقذ الأمة من الوضع المأساوى الذي تجد نفسها فيه في مواجهة أعدائها – ومنهم حكامها – دون زعامة ولا قيادة..

في كل بلاد الدنيا تتسق مصالح الحكام مع مصالح بلادهم، حتى ولو كان هؤلاء الحكام مجرمين ( إجرام شارون مثلا يصب في مصلحة إسرائيل، و إجرام هتلر كان يصب في مصلحة ألمانيا.. كذلك ستالين ونابليون.. و .. و.. )..

في العالم الإسلامي ليس الوضع كذلك..

فثمة عدو قاهر باطش قوى هو إمبراطورية الشيطان.. وهو الذي يضمن لجل حكامنا استمرارهم في مناصبهم .. وثمة أمة ترفض أن تستسلم كما استسلمت الأمم الأخرى.. والحكام يقبعون  بين سندان قوة غربية غاصبة وبين مطرقة أمة عاجزة غاضبة.. ولقد اكتشفوا أنهم لا يستطيعون خداع الغرب فقرروا خداع أممهم.. فمن لم يقبل بالخديعة غيبته المشانق والسجون..

يتحدث عبد الحليم عويس[8] عن أسباب انهيار ثلاثين دولة إسلامية بداية  بالأندلس في أوروبا، وانتهاءً بالدولة العثمانية في تركيا. يتحدث وهو يصفها فكأنما يصف أحوال حكامنا الحاليين:

(كان الترامي في أحضان العدو ممكناً … وكان التنازل له عن الأرض ممكناً، وكان الصلح المهين ودفع الجزية للعدو ممكناً … أجل، وكان كل هذا ممكناً إلا شيئاً واحداً … إلا العودة إلى الإسلام الصحيح الخالي من حب السلطة واستعباد الدنيا … والأمر بالاعتصام بحبل الله وحده وعدم التفرقة … كل شيء كان ممكناً ـ في عرفهم ـ إلا هذا). 

… ثم يصل الكاتب في النهاية إلى عبرة التاريخ : إلى القانون العام الذي يحكم سقوطنا: "حين يبحث كل عضو منا عن نفسه تسقط سائر الأعضاء"…

لقد بلغ الحكام شأوا بعيدا في إخصاء الأمة من  تكوين أي قيادة يمكن أن تحركها..

انظروا إلى دول العالم الإسلامي كله وقد تم تشويه ووأد أي قيادة محتملة ولو على المدى البعيد..

انظروا إلى دول العالم الإسلامي كله وسوف تجد الرجل الأول فقط.. ولا يوجد رجل ثان..!!..

والأمة دون قيادة  - كجسد بلا رأس - عاجزة عن الحركة والفعل..

وقد نجحت إمبراطورية الشيطان أن تمسك بكل الخيوط في يدها.. وفضلا عن التقدم التقني الهائل الذي وصلت إليه فإنها منذ زمان طويل تربي قطعان التحالف الشمالي في بلادنا .. وكانت خطتها خطة شيطانية .. استقطبت الحكام وجعلتهم وكلاء لها علينا أفسدت الجيوش وقوات الأمن ونثرت الفساد بين رجال الأعمال.. ثم تسللت إلي المجتمع لتسيطر على فئات ثلاث فيه مكنتها من إحكام الزمام علينا: الفئة الأولي هي فئة المثقفين، فمنذ أكثر من خمسين عاما قررت المخابرات الأمريكية أن تكون وزارة ثقافة العالم[9]..الفئة الثانية هي فئة الشباب الذين تم التركيز على إبهارهم بسراب الحلم الأمريكي في القوة والنشوة والثروة والاستعراض.. أما الفئة الثالثة وهى الأخطر فهي فئة المرأة التي تمت غوايتها لتنزل من عرش يمثل الإنسانية والطهر والعفاف والإنسانية والمساواة الحقيقية مع الرجل كشريك في تكوين اللبنة الأولى للمجتمع وهي الأسرة.. تم عزلها من عرشها ذلك  لكي تحتل مكان جارية بعد أن خدعوها وغرروا بها و غسلوا مخها فأفهموها أنهم يخرجونها من أقفاص الحريم إلى جنة الحرية. ولم يكن ثمة حرية حقيقية تتميز بها المرأة في الغرب ، فالحقوق التي يضمنها الإسلام – أتحدث عن الإسلام وليس عن الدول أو الشعوب - للمرأة  أعلى من الحقوق الممنوحة في بلاد غربية كثيرة حتى الآن. وقد أثبت هذه الحقيقة المنصفون من الكتاب الغربيين أنفسهم ومنهم زيجريد هونيكة في مؤلفها الهام: شمس العرب تسطع على الغرب. الحرية الوحيدة التي لا يستطيع فيها الإسلام منافسة الغرب هي حرية الابتذال والتهتك، حرية تعرية الجسد و إثارة الشهوات، حرية الزنا والسحاق، ولو حسنت النوايا.. وبالمقياس العقلي  وليس الديني.. وبالمفهوم الغربي نفسه فقد كان يمكن فهم الأمر علي نحو مغاير كما يقول جيفرى لانغ[10]. حين يشير إلى وجهة النظر الإسلامية في نمط حياة المرأة الغربية التي تستغل بتعرية جسدها وترغم على العمل كي تستطيع أن تعيش بدلا من أن تحظى بمسئولية الزوج عن الإنفاق على الأسرة، وهكذا فإن ما يراه الغرب عبودية للمرأة يراه الإسلام بعكس ذلك، وقد يرى أن المرأة الغربية هي المستغلة والمستعبدة.

دين الذرائع الشيطاني لإمبراطورية الشيطان لم يكن يهمه في الواقع حرية المرأة المسلمة و إلا لاهتم بحرية الرجل المسلم أيضا. ولاهتم أيضا بحرية المرأة الفلسطينية والأفغانية والصومالية، بل كان عليه أن يهتم بما هو دون الحرية وما هو قبلها. بحقها في أن تجد طعاما لأطفالها، وحقها في ألا تسحق الدبابات أجساد أطفالها وزوجها  وإخوتها وألا تثقب الطائرات أجسادهم بالرصاص.

كذاب هو الغرب.. كذاب ذلك الكذب العفن المستتر الذي يغلف السم بغلاف براق شهي.. وما كان تركيزه على المرأة إلا لاختراق المجتمع.. وثمة ثلاثة وقائع في الشهور الأخيرة  لها دلالتها.. فإن زوجة الرئيس الأمريكي بوش تتواصل مع رئيس وزراء أفغانستان  المزروع بالخيانة كي تتباحث معها في تحرير المرأة الأفغانية – تحرير المرأة فقط.. أما لو تحدثنا عن تحرير الوطن أو حتى الرجل فنحن إرهابيون. الواقعة الثانية حدثت في عمان، عندما اتصلت زوجة بوش أيضا بزوجة السلطان قابوس لتهنئها برئاستها للمجلس الأعلى للمرآة، والواقعة الثالثة في مصر حين تدخل المجلس الأعلى للمرأة لتعديل نهاية مسلسل تليفزيوني اعتبره المجلس يسئ لقيم الحداثة التي يؤمن بها ويتبناها.

لقد أطلت في الحديث عن مكان المرأة في الاختراق الشيطاني لبلادنا لكي أبرز أهميته فعن طريقه يتم اختراق كل بيت مسلم .. حتى بيت الملك والرئيس.. ومن خلاله تساق البلاد ضد الإسلام لصالح أعداء الإسلام.

اختراق شيطاني للشباب وللثقافة وللمرأة ..وهو اختراق يأتي بمردوده على المدى المتوسط والبعيد.. أما على المدى العاجل فإن اختراق النظم الحاكمة يتكفل بالمهمة.. ويتكفل أيضا بإرساء التوازن الشيطاني الذي يكبل الأمة ويجهض محاولاتها للخلاص. فثمة توازن مدمر بين ثلاثة أطراف لمعادلة جهنمية.. هذه الأطراف هي طرف الحضارة الغربية بكل جبروتها وميراثها كأكثر الحضارات إجراما في التاريخ.. أما الطرف الثاني فهو حكام طغاة وكلاء للأعداء في حكم شعوبنا.. والطرف الثالث هو الأمة العاجزة الرافضة التي تم اختراق شبابها ونسائها وثقافتها لكنها مازالت تقاوم .. ولقد صاغ أعداؤنا التوازن بين أطراف هذه المعادلة كي يضمن  لهم استمرار الوضع الراهن إلى أبد الآبدين.. إلى نهاية التاريخ..وهذه المعادلة قابلة للاستمرار ما لم يدخل على أحد طرفيها عامل جديد  يخل بتوازنها فتسقط..

إن الأمة المقهورة المقموعة المغيبة المعتقلة المعذبة المنهكة المستنزفة أصبحت عاجزة عن أن تقدم الكثير..

والحكام لا أقول لا يقدرون بل أقول لا يرغبون في أي تغيير في أطراف المعادلة فاستمرارها هو الذي يضمن استمرارهم واستقرارها هو الذي يضمن استقرارهم..

أما أعداؤنا فهم الذين صاغوا المعادلة فهم الذين يحرصون على استمرارها..

إن استمرار المعادلة على هذا التوازن كارثة للأمة.. لأنها تضمن للأعداء استمرار انتصارهم واستمرارا انكسارنا وللحكام الطواغيت استمرار حكمهم..

لكن الأمر أكثر من كارثة..

نعم أكثر من كارثة..

ذلك أن أعداءنا لا يقنعون بذلك التوازن الجهنمي.. وهم لا يكفون عن المحاولة تلو المحاولة في زلزلة الشق الثالث من المعادلة.. شق الأمة..  فمن أدوات الاختراق التي تحدثنا عنها إلى سياسة تجفيف المنابع و إهمال الدين والمعتقلات والتعذيب ونشر الفساد عن طريق أجهزة الدولة الرسمية وتشويه مناهج الدراسة خاصة في المعاهد الدينية أو إغلاق هذه المعاهد الذي أصبح طلبا أمريكيا رسميا من لا يستجب له يقصف بالطائرات والصواريخ .. ثم سد جميع القنوات ( الديموقراطية !!) بتزوير الانتخابات تحت تعضيد وصمت الغرب.. نعم .. إنهم يحاولون القضاء على الطرف الثالث للمعادلة..

الطرف الأول في مأمن..

والطرف الثاني في حماية الطرف الأول..

أما الطرف الثالث فهو المحاصر الأعزل العاري.. وهو المهدد بالتلاشي .. ليس ككيان عضوي.. وإنما ككيان روحي.. وبعد تلاشيه تنتهي المعادلة وتحل نهاية التاريخ..

في الاستمرار  إذن خطر علينا..

ولابد من دخول عنصر جديد يزلزل ثبات المعادلة الشيطانية لكي يقلبه بعد ذلك..

ولست أرى أمامي في الأفق ما يكسر هذه المعادلة سوى إعلان الخلافة.. خلافة تواجه تشبث الحكام بتقسيم الأمة إلي أوطان كتشبث طفل بدمية .. تشبث طفل أخرق يفضل تحطيم الدمية عن تسليمها لسواه ممن يستطيع الحفاظ عليها.. ثم أنه طفل تعود أن يلعب دائما دور المأمور فلتكن الخلافة هي الآمرة لا البيت الأبيض.. فإنها حين تبدأ ستكون المرجع النهائي في تحريك المسلمين.. وفى الحكم على الحكام.. وحتى لو كانت في البداية خلافة بلا سلطة فسوف تأتيها السلطة ولو بعد عشرات الأعوام.. فليس سوى مؤسسة الخلافة من يمكن لها أن تشكل رابطا يجمع عشرات الأوطان ومئات الهيئات والمؤسسات الإسلامية المحاصرة يكاد لا يسمع عنها أحد.. خلافة تجتمع تحت رايتها جيوشنا لترهب أعداءنا فلا يرهبونا.. خلافة تصنع السلاح النووي لا لتبتز به الآخرين بل لتمنع ابتزازهم لنا ولتردعهم من استخدامه ضدنا.. وتصنع من الصواريخ  ما يسقط طائرات البى 52 حين تأتى لقصفنا..ولو استطعنا هذا فسوف تعود إمبراطورية الشيطان إلى ارتداء أقنعتها القديمة وسوف تكف عن إيذائنا ونهبنا وقتلنا .. على الأقل بالصورة المباشرة الوحشية التي تفعلها الآن..  نحن لا نريد إلا أن نقيم ديننا في بلادنا وأن نقوم بأداء واجبنا كأمة وسط شهيدة على الناس تحمل رسالة هي هداية ورحمة للعالمين.. خلافة تردع أولئك المجرمين من أعضاء التحالف الشمالي المبثوثين بيننا .. و إن وقعت الواقعة فلن يختلف ما يفعلونه مع الأمة عما فعله أقرانهم في أفغانستان.. خلافة توقف انهيارنا المتسارع .. لأن هذا الانهيار لو استمر فسوف نترحم علي أيام الحروب الصليبية القديمة وعلى أيام الاحتلال فكل أولئك كانوا يلبسون الأقنعة أما إمبراطورية الشيطان فقد خلعت كل الأقنعة

إن لم تحركنا المجزرة في فلسطين فماذا سوف يحركنا بعد؟!..

وإن لم تحركنا المجزرة في أفغانستان فماذا سوف يحركنا بعد..؟!

وإن لم تحركنا المجزرة التي حدثت – وتلك التي توشك أن تحدث – في العراق فماذا سوف يحركنا بعد؟!..

إن الحضارة الإسلامية هي الأسمى وهي الأرقي بما لا يقاس عن تلك الحضارة الشيطانية التي تسوم العالم سوء العذاب وتنهبه وتنثر فيه شرورها وتنشر فسادها، ومن كان في ريب من ذلك قبل الآن فقد تكفلت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها بممارساتها في القضاء علي هذا الريب.

نعم..

أقولها وقد كنت دائما مؤمنا بها لكنني الآن مؤمن بها أكثر من أي وقت آخر:

نحن خير أمة أخرجت للناس.. لا أقول نحن العرب.. ولا أقول نحن الشرق أوسطيين بل أقول نحن المسلمين الذين يؤمنون بالغيب وبالله.

نحن خير أمة أخرجت للناس..

وعلينا أن نتبوأ مكاننا في التاريخ كي نمنع نهايته وانحرافه..

وليس أمامنا من سبيل إلا وحدة الأمة الإسلامية تحت راية الخلافة..التي يشكل جوهرها: الدين كله.

 

السابق

المحتويات

التالي

 



[1] - فائدة لغوية: حرف الباء يدخل علي المتروك.

[2] - تاريخ القوقاز- محمود عبد الرحمن- دار النفائس- بيروت.

[3]- مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية -  السنة 15-الكويت- العدد 41 يونيو 2000

[4] - فخ العولمة- عالم المعرفة.

[5] - الرئيس الباكستاني، رئيس أول دولة فى التاريخ لا تبتز الآخرين بسلاحها النووي.. بل يبتزها الآخرون به!.

[6] -  عالمنا- الدكتور محمد عمارة- دار الوفاء

[7] -  هلمّ نخرج من هذا التيه!- دار الشروق- القاهرة-1994

[8] - دراسة لسقوط ثلاثين دولة إسلامية- عبد الحليم عويس، الناشر دار الشروق، جدة،

[9] - راجع للمؤلف : الوعي ينزف من ثقوب الذاكرة- إني أرى الملك عاريا – من مواطن مصري إلي الرئيس مبارك- اغتيال أمة ( الناشر مكتبة مدبولي) وبغداد عروس عروبتكم ( الناشر مكتبة مدبولى الصغير).

[10] - الصراع من أجل الإيمان- جيفرى لانغ- دار الفكر المعاصر- بيروت – دمشق.