الخاتمة

***

 

المشهد الأسطوري لانهيار برجى مركز التجارة العالمي في نيويورك، وسحق البنتاجون في واشنطن، كان مشهدا عبقريا  لخطة لم يعرف لها التاريخ مثيلا.. فقد كان التخطيط عبقريا  كما أن النجاح في التنفيذ  كان مذهلا.. وكان الإعداد  طويلا ومضنيا.. وحجم الاختراق للمؤسسات الأمريكية كان هائلا.. أما التداعيات فيكفي أنها قسمت العالم إلي فسطاطين: ففسطاط مع الله، وفسطاط مع الشيطان.

كل العملية كان عبقريا..  وكنت  وما زلت أرى أن المسلمين هم آخر المشتبه فيهم.. ليس لأنهم يفتقدون العبقرية والذكاء.. ولكن لأن أمريكا – راعية العالم الحر-  تحاصرهم وتقف دونهم فلا تسمح  لهم – ولا حتى لحلفائها - بتجاوز نقاط معينة في العلم والتكنولوجيا.. ولنتذكر الطائرة المصرية التي أسقطوها.. لأنهم اكتشفوا أن بعض العسكريين المصريين من ركابها  قد تجاوزا معرفة المسموح لهم به.

ومع المشهد الذي رآه العالم كان ثمة مشهد ثان لم تسجله كاميرات التصوير المتأهبة والمتلمظة والجائعة  النهمة لكل جديد.. ذلك المشهد الثاني تبدو علاقته بالمشهد الأول للانهيار أوثق ما تكون..

في المشهد الأول شاهدنا في ومضة انفجار مروع انهيار جسد العملاق، وفي المشهد الثاني رأينا في ضوء الومضة  انهيار منظومته الفكرية كلها، ولئن كان الانهيار جزئيا أو حتى رمزيا في المشهد الأول، فقد كان في المشهد الثاني كاملا وشاملا ونهائيا.

في المشهد الأول لم يكن برجا مركز التجارة ومبني البنتاجون  هي التي تتهاوي.. بل كان جسد أكبر وآخر و أقوي إمبراطورية في التاريخ هو الذي يتهاوى . وفي المشهد الثاني كانت روح هذا الجسد تطلع، تنسل من الجسد خارجة في إشهار معجز لموت قد حدث بالفعل مهما صحبه من تشنجات وتقلصات ومهما تأخر صدور شهادة الوفاة الرسمية.

المشكلة، أن التقنية الحديثة، تستطيع أن تحصر وترصد وتصور بأعلى درجة من الدقة، كل جرح أصاب الجسد، لكن هذه التقنيات، لم تستطع أبدا، ولن تستطيع أبدا رصد انسلال الروح من هذا الجسد.

ومن الممكن بالوسائل الصناعية أن يظل مثل هذا الجسد الذي انسلت منه الروح كما لو كان حيا، فيخفق نبضه، وتجري الدماء في عروقه، لكنه بالرغم من ذلك ليس سوي جسد ميت، وليس ثمة مناص من أن تسحب منه الوسائل الصناعية ذات يوم مهما ابتعد، فلا يبقي له إلا الدفن.

لا نستطيع أن نعرض صورا، ولا أن نقدم تقاريرللكمبيوترعن انسلال روح أمريكا من جسدها، أوعن انهيار منظومتها الفكرية، وهي أيضا منظومة الغرب كله، وهي منظومة تغوص جذورها في التاريخ أكثر من ثلاثين قرنا، وتسري في أغصانها فلسفات الرومان والإغريق،  والتي وصمت جل الفلسفات التي جاءت بعدها – حتى اليوم – بدرجة أو بأخرى من الشرك والوثنية  والتحريف، حتى قيل أن المسيحية عندما دخلت إلي بلاد الرومان: لم تتنصر روما بل تروّمت الكنيسة، وظل هذا البناء الفكري المشوه، هو المسيطر علي الغرب دائما، وعلي العالم أحيانا، حتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام واحد و ألفين، حين تواكب في شكل معجز، انهيار ناطحتي السحاب طابقا علي طابق، مع انهيار المنظومة الفكرية للغرب، قرنا بعد قرن.

المشهد الأول سجلناه كاملا، ولكننا لا نملك الأدوات التي تمكننا من تسجيل المشهد الثاني ، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نرصد دلائله..

نستطيع أن نرصدها علي سبيل المثال في رد فعل الرئيس بوش، والذي سقطت عن وجهه كل الأقنعة المزيفة وادعاءات الحضارة، ولم يبق منه سوي ذلك القرصان الانتهازي القادم من أوروبا ليسرق البلاد من أصحابها الأصليين، ولا يكتفي بذلك بل يبيدهم عن بكرة أبيهم، ثم يسرق شعوبا أخري يستعبدها كي تقيم له أركان إمبراطوريته ، ثم يواصل سرقة العالم كله كي يرفل في النعيم، ويستغل الإمكانيات التي توفرها له سرقاته تلك كي يضع علي وجهه المزيد من الأقنعة، فيقنع العالم أنه الأكثر رقيا وحضارة، حتى تأزف الآزفة فتسقط الأقنعة، ولا يبقي سوي قرصان يصرخ: أريده حيا أو ميتا. قرصان  يتجاوز في دمويته  نابليون، وفي عنصريته هتلر، لكنه لا يحظى بعبقرية الأول ولا بعزم الأخير.

ونستطيع أيضا أن نرقب مشهد انسلال الروح في موقف فادح وفاضح لوزير الدفاع الأمريكي، عندما ووجه بالنتائج المأساوية للقصف الأمريكي، وصور مئات بل آلاف من ضحايا المجزرة، وقد مزقت أجسادهم، وتناثرت أشلاؤهم، وبترت أطرافهم، ودفنت أجسادهم وهم أحياء، فالوزير الخطير، وزير دفاع آخر و أقوي إمبراطورية في التاريخ، لم يجد ما يقول سوي أن طالبان تصطنع هذه المشاهد.

كان انسلال الروح من الجسد جليا – أيضا -  >في مشهدين: مشهد الغرب محتفيا بنساء كابول مدعيا بهجتهن برجوع مصفف الشعر و أدوات الزينة.. والمشهد الآخر لهن في جحيم المحرقة الأمريكية.. فالنساء فى الحروب هن وعاء المحرقة اما اغتصابا او قتلا او ثكلا اوفقدانا للأزواج.. وعندها يكون السؤال – كما تقول الكاتبة القديرة الدكتورة نورة السعد- من هى اذن المرأة التى تدافع ( المنظمات العالمية )عن حقوقها ؟.

تبدي انسلال الروح أيضا في ذلك الهجوم الضاري علي طالبان التي أرغمت الرجال – يا للقسوة – علي إطلاق لحاهم.. ودون أي إحساس بفداحة الكذب كانت كاميرات التليفزيون تنقل من الجانب الآخرصور وجوه الحلفاء والأصدقاء من خونة التحالف الشمالي.. وكانت للوجوه ذات اللحي.. دون أي اعتراض ولا استهجان.

***

كان الكذب قبل أحداث 11 سبتمبر مقنعا أو علي الأقل كانوا يجتهدون أن يكون كذلك، وكان يخدع ضعاف العقول وضعاف الضمائر وضعاف الإيمان، الآن سقطت الأقنعة، وقد كانت  مذابح مزار شريف وقلعة جانجي وذبح الأسري وحرقهم أحياء أمام العالم كله، و أمام الأمم المتحدة هي آخر قناع للكذب يسقط.كان كذبا مشينا.. وكان الأخطر فيه.. أنه يعري بصورة نهائية وكاملة عورة غليظة من عورات الحضارة الأمريكية.. وهي العورة التي تعددت أسماؤها من ازدواجية المعايير إلي نسبية القيم إلي ضلالات أن الرأي العام الأمريكي سيغير موقفه عندما يعرف الحقيقة. لم يكن رامسيفيلد يكذّب الأفغان.. بل كان يرسل رسالة واضحة إلي العالم: الحقيقة لا تهم.. والصدق لا يهم.. وحتى نجاحنا في خداعكم لم يعد مهما.. المهم أننا نستطيع إرغامكم علي الادعاء أنكم تصدقوننا و إلا سقطت عليكم صواريخنا. وهو ما أكده فعلا بقصف مكتب قناة الجزيرة في كابل، ولم يكن المكتب هو الذي دمر، بل انهارت ادعاءات الغرب عن الحرية والشفافية والديموقراطية.

وكان أحظر ما في هذا الكذب أنه تعدي حدود الواقعة ليكشف الأكاذيب كلها دفعة واحدة، و أنه قدم الدليل الدامغ الذي لا يدحض، عن منظومة هائلة من الأكاذيب، أكاذيب تشمل العالم كله.. والتاريخ المكتوب كله.وكما بدت انهيارات الجسد في القصور المذهل لمؤسسات عجزت عن توقي الكارثة  وهي التي طالما تباهت بقدرتها الأسطورية كالـCIA  والـ FBI فقد تبدت صورة المرآة لانسلال الروح من الجسد في أداء هذه المؤسسات بعد الكارثة. فمن قدرة علي الكذب المكشوف.. إلي جرأة علي تلفيق الأدلة.. إلي افتضاح ادعاءات العولمة والديموقراطية والحداثة  وحقوق الإنسان.. إلي انكشاف دعاوى حرية الكلمة التي لم تحتمل رأيا ولا كلمة ولا صورة تناقض ما يقوله الأمريكيون.. إلي قرارات هائلة بمحو شعب من الوجود لأن هذا الشعب لم يسلم شخصا مشتبها فيه.. مجرد مشتبه فيه عجزت الأجهزة الأمريكية بقوتها الأسطورية عن أن تقدم للعالم كله دليلا مقنعا باتهامه. لم تقدم دليلا ومع ذلك طالبت العالم أن يؤمن بالغيب الذي تقوله هي، كي ينساق معها في تحالف شيطاني، ليحاربوا جميعا من يؤمنون بغيب أخبر عنه الله..!!. وفي ومضة باهرة، تعرت دعاوى الحداثة، فإذا بها دعوى للانفصال عن جذورنا الإيمانية، دعوة للكفر بالله، وليست حتى كما يقول بعض فلاسفتهم : الكفر بالله والإيمان بالإنسان، بل كانت الكفر بالله للإيمان بأمريكا كرائد وممثل للحضارة الغربية. وفي تلك الومضة الباهرة، بدت القضية في صورتها الحقيقية بأجلي ما يكون: إنها معركة بين الإيمان والكفر.

هذه المعركة  ليست مرتبطة بأحداث 11 سبتمبر.. و إنما هي استمرار للحرب علي العقيدة.. حرب لم تنقطع قط.. استمرت عبر القرون.. منذ مؤتة وحتى أفغانستان .. حرب شاملة علي كافة المستويات.. وكان أخطر مستوياتها الكذب والخداع وتسمية الأشياء بعكس معانيها.. وخلط الصالح بالطالح.. كالخلط ما بين العلم والعلمانية وما بين الحداثة والتحديث و..و..و..

وكان  استمرار المعركة الطويلة عبر القرون  يشوبه ذهول لطول صمودنا رغم قوتهم وضعفنا.. لقد عاش العالم  الغربي ردحا من الزمن تخيل فيه أنه تمكن من حصار العقيدة  الإسلامية  بواسطة جيوشه و أمواله.. وعن طريق النخبة العلمانية المسيطرة علي العالم الإسلامي والتي لا يقل  تأثيرها في فداحته عن تأثير الجيوش والاقتصاد.. تلك النخبة – من حكام وقادة وكتاب ومفكرين -  التي انكشفت وتعرت بالحرب في أفغانستان فإذا بها ليست إلا نموذجا لمجموعات التحالف الشمالي في أفغانستان.. نخبة خائنة منحرفة علي استعداد لبيع كل شئ حتى الوطن،  وقتل  كل حي  حتى شعبها،  وخيانة كل قيمة حتى الله..

نعم.. كشفت الحرب القذرة أن جل النخبة المسيطرة في العالم الإسلامي ليست إلا تنويعات مختلفة للتحالف الشمالي في أفغانستان. ولقد كذب الغرب ووقع في الفخ فصدق أكاذيبه، فلقد نصب علينا حكاما من فصيلة التحالف الشمالي، واصطفي نخبا من ذات الفصيل، ثم صدق نفسه في أن هذه النخبة الشائهة المنحرفة هي الممثل الحقيقي للإسلام والمسلمين.. لذلك استبدت به الدهشة عندما رأي الأمة ترفض أن تتنازل – رغم كل أنواع الإرهاب -  عما تنازلت نخبتها عنه طواعية.

وتحت حكم تلك النخب الخائنة، تخيل الغرب  أن المسلمين أوشكوا علي الانهيار  .. بل وكتب منظروه علي سبيل المثال في بداية التسعينيات أنه بمرور عقد واحد من الزمن سيتم  تنصير 200 مليون إندونيسي.. وإذا بالعقد يمر وقد  اشتد عود الإسلام في إندونيسيا أكثر مما قبل.

بقية بلاد المسلمين شهدت  ذات الظاهرة.. حتى تلك التي ألقي الغرب بكل ثقله كي يغيرها.. مثل مصر والمملكة العربية السعودية اللتين تمثلان دور الحادي والهادي للعرب والمسلمين .. فقد ارتفع فيها – رغم القصف التنويري الحداثي  المكثف -  المد الإسلامي حتى  أنه أصبح التيار الرئيسي وما عداه برك راكدة أسنت وتعفنت.

نعم أصبح  التيار الإسلامي  هو التيار الأساسي  الجدير  بالاحترام، وما عداه مسوخ شائهة، سقطت عن وجهها الأصباغ  والمساحيق التي قدمت التزوير لا التنوير، والتعهير لا التحرير، والتغرير لا التطوير.

وثمة استدراك هنا لابد من إثباته، وهو أننا  لسنا ضد التنوير والتحرير والتطوير، إننا فقط ضد المسخ الذي حدث للمصطلحات، كما أننا نؤكد، أننا مع هذه المبادئ تحت مظلة الإسلام  لا مظلة الغرب. نحن حضارة مختلفة،  وفكر مختلف، وهدف  مختلف من الحياة، التي هي في فكرنا  أسمي من اللذة والقوة والغني، وبعد هذا  كله، فنحن علي  الحق، ومن داخل هذا الإطار الإسلامي  فكل شئ مطروح، بشرط ألا يكون مؤامرة لهدم الإطار.

وفي تلك المعركة خرقت القوة الأعظم كل ما اصطلح عليه البشر من قوانين ومؤسسات و أجهزة ونظم.. معترفة كما قال أحد رجالها أن البحث عن ذلك " المشتبه فيه" صعب كالبحث عن إبرة في كومة من القش.. و أنه قد يكون من الأسهل حرق كومة القش كلها. ولقد مارست  تلك القوة المجردة من الأخلاق جرائمها، فراحت – كما فعلت دائما -  تحرق بشرا و أوطانا  لم تر فيها سوي كومة قش. الفارق الوحيد والجوهري، أن تلك الأحداث قبل 11 سبتمبر كانت متسربلة بأقنعة مزيفة للحق سقطت كلها في ذلك اليوم الرهيب. سقطت لتكشف لنا كم كان هذا الغرب طيلة التاريخ إرهابيا، وكيف أنه اعتبر " الآخر " دائما مجرد كومة من القش، كما كشفت لنا أن  مشكلتنا مع الغرب، ليست في أننا مارسنا الإرهاب ضده، بل في أننا لم نرهبه بالقدر الكافي، كي نمنعه من قهر بلادنا ووأد أحلامنا وتحطيم عقيدتنا.

والكارثة  التي لا تستطيع الرادارات الأمريكية، ولا أجهزة الاستشعار، ولا أقمار الفضاء كشفها ، أن الانهيار الحادث الآن ليس انهيار الأجهزة.. ولا النظام.. ولا الإدارة.. بل إن ما ينهار هو التجربة الأمريكية – كممثل للحضارة الغربية -  كلها شاملة الشعب والتاريخ .. ولتظهر بما لا يدع مجالا لأي شك أو تردد.. أن هذه الحضارة : الإدارة والأجهزة والشعب والتاريخ ليست ممثلة لعالم حر، ولا صادقة في دعوتها للعولمة.. ولا هي أم الديموقراطية ولا راعية حقوق الإنسان.. ولا هي المثل الأعلي.. بل هي – كما قال رجاء جارودى في كتابه الشهير- طليعة الانحطاط.

نعم.. التجربة الأمريكية - وبصمتها علي الحضارة-  تجربة منحطة شوهت الدنيا ومسخت القيم ودنست الوجود.

فالقيم تكتسب قيمتها من أنها مطلقة، فإذا اقتصرت علي شعب دون شعب، أو جنس دون جنس، أو دولة دون دولة، فقدت كل جدارة للاستمرار، بل لمجرد البقاء. فحقوق الإنسان لا يمكن أن تكون حقيقة إلا إذا كان الناس سواسية كأسنان المشط. والديموقراطية لا يمكن أن تكون حكم الشعب إذا حكم الشعب الأمريكي نفسه فقط، فذلك جزء من الصورة، وتكملتها أن يحكم كل شعب من شعوب العالم نفسه، ولكن ما بدا من تداعيات المشهدين: مشهد انهيار الجسد ومشهد انهيار الروح، أن أمريكا تري أن الديموقراطية هي أن يحكم الشعب الأمريكي نفسه .. و أن يحكم في ذات الوقت كل شعوب العالم أيضا.. فإذا اعترض شعب أو رفض.. فإنه شعب متخلف وراع  للإرهاب.

***

الحرب الدائرة الآن – بغض النظر عن كل التفاصيل -  ليست حربا علي الإرهاب، بل هي الإرهاب عينه. ذلك أن كل الجرائم المنسوبة إلي أسامة بن لادن– علي فرض صحتها – هي جرائم مبررة، أم الجرائم المنسوبة إلي الحضارة الغربية فلا يوجد جريمة منها يمكن تبريرها.

لذلك، فإن هذه  الحرب ليست حربا  بين أسامة بن لادن وجورج بوش، ولا هي بين أمريكا و أفغانستان، كما أنها ليست بين اليهودية المسيحية من ناحية والإسلام من ناحية أخري.

نعم.. هي حرب علي الإسلام، ولكن الذين يشنونها لا يمثلون المسيح عيسي بن مريم أو موسى عليهما السلام، بل يمثلون الوثنية والكفر والشيطان.

إنها حرب بين من يعبدون الله ومن يعبدون أنفسهم.

وهي حرب بين القيم التي يمثلها أسامة بن لادن وتلك التي يمثلها جورج بوش، بين الإيمان والوثنية، بين الأصالة والزيف، بين الحقيقة والأقنعة، بين الطهر والعهر، وبين النقاء والفجور وبين الحرية الحقيقية المسئولة – أمام الله قبل أن تكون مسئولة أمام الناس والتاريخ – وبين الزيف.

إنها معركة بين فريقين: أحدهما – وهو أسامة بن لادن ومن يمثلهم – يجاهد كي يجعل من المعني قيمة مطلقة، ومن المادة قوة نسبية، حيث يحكم العدل، ووحدة المعيار، وعدم التمايز إلا بالتقوى،  وحيث يكون خوف الله هو الذي يمنعنا من ظلم الآخرين حتى  حين نقدر عليهم.. والآخر وهو جورج بوش ومن يمثلهم، يحاول أن يجعل من المادة قوة مطلقة ومن المعني قيمة نسبية، حيث يحكم الصاروخ، ويحسم المسألة حاملة طائرات وسلاح في الفضاء، وحيث لا يحمي أحد أي فرد أو شعب في العالم منه – بوش- إذا ما قدر عليه.

ثمة سؤال أتصور أن القارئ يترقب أن يجد الإجابة عليه قبل نهاية الكتاب، وهو سؤال في الحقيقة يجب أن يطرح، وهذا السؤال يقول: هل هناك خطأ في حسابات أسامة بن لادن وطالبان؟.. هل تم انتصار إمبراطورية الشيطان انتصارات ساحقة وهل تعرض الإسلام لهزيمة خطيرة؟!.

وربما لو أجبت لظن البعض أن حساباتى – كغير عسكري – حسابات تعلى المعنى عن الواقع، رغم ما في الواقع من قسوة.

لذلك فإن خير إجابة عن هذا السؤال ، هي التي تأتي على لسان صديق كريم، هو المهندس الاستشاري السيد محمد حسن، الذي شارك فعلا في الجهاد في أفغانستان، بل وكان من المقربين من الشهيد عبد الله عزام، حيث رافقه طويلا في بيشاور و إسلام أباد.

يقول المهندس السيد محمد حسن[1]:

 - لقد حقق المسلمون الانتصار وبنسبة مائة بالمائة..

وعندما لاحظ دهشتي أردف قائلا:

 - نعم.. ولا تدهش لقولي.. ارجع معي إلي أزمة الوليمة وكيف كشفت لنا في مصر ثم  للعالم الإسلامي كله مدي انحراف النخبة المثقفة المتحكمة.. وكيف أننا كمسلمين قد بلغت بنا الطيبة أو السذاجة أن افترضنا فيهم حسن الظن دائما.. وفسرنا الأمور دائما علي عكس ظواهرها فلم نستبعدهم من ثلة المؤمنين المسلمين..  كنا دائما ننظر إلي اختلافهم عنا  علي أنه يتم من وجهة نظرهم  أيضا تحت مظلة الإسلام .. وكنا نلتمس المعاذير لانحرافاتهم .. كنا أحيانا نقول أن اجتهاداتهم مأجورة ( من الأجر وليس الإيجار) و إن كانت خاطئة.. وكنا نتلمس لهم المعاذير في عملية غسل مخ جماعي تمت عليهم بفعل الاستشراق والتبشير والانبهار بقشرة حضارة الغرب أعقبها انهيار.. وكنا نظن – على الرغم من هذا كله – أنهم لا يرضون بالإسلام بديلا.. فقط هم يريدون التطوير والتحديث وليس التغيير والحداثة.. كان هذا قبل الوليمة..بعد الوليمة انبلجت الحقيقة.. فهؤلاء ليسوا مسلمين وأخطر ما فيهم أنهم ينكرون الكفر ويظهرون الإيمان .. أنهم يدّعون الفكر ويقصدون الكفر.. نعم ..  بعد الوليمة  حدثت المفاصلة: كل من وافق علي سب الذات الإلهية ( أيا كان الباعث أو المضمون أو الوعاء) فهو كافر .. ولم يعد الأمر مقتصرا علي فنوي الفقهاء بل انتقل الحكم إلي الشارع الإسلامي كله.. إلي الوعي الإسلامي.. وذلك الإنجاز كان أشبه بثورة أو طوفان عات دمر حصون الكفر التي ظلوا يشيدونها طيلة قرنين من الزمن.. ولم يكن مقياس الانتصار أو الهزيمة  في معركة الوليمة إبقاء وزير الثقافة أو إقالته.. علي العكس.. أتصور أن إقالته الفورية كانت ستشكل انتكاسة لما فعلتموه.. نعم.. كانت ستشكل مواصلة خداع الناس وانخداعهم بالتضحية بكبش فداء  يدل بمجرد التضحية به علي براءة – ولو ظاهرية – للسلطة وللنخبة.. كان الناس سيواصلون الانخداع .. أما وقد حدث العكس فقد كانت المفاصلة كاملة وكان الانتصار كاملا..

وواصل الصديق القول قائلا:

-    ما حدث في الوليمة وما يحدث في فلسطين والشيشان والفليبين والبلقان و أفغانستان كلها مواقع مختلفة في ذات المعركة.. معركة الإيمان والكفر.. معركة مواجهة الحرب علي الإسلام.. والآن لننتقل إلي ما حدث في أفغانستان.. أيا كانت التداعيات والنتائج.. فما من أحد منا كان يتوقع أن ينتصر المجاهدون من المسلمين هناك عسكريا  علي أمريكا و أوروبا و الإدارات الرسمية للدول العربية والإسلامية .. ذلك كله تشخيص خاطئ.. فالمعركة في طورها الحالي ليست معركة عسكرية يحكم علي نتائجها هزيمة أو انتصار.. المعركة الحالية تتعلق بوعي الأمة بنفسها وعقيدتها وسمو هذه العقيدة علي كل ما عداها..  وتعالِي الإلهي عن البشري.. والحكم علي نتيجة المعركة لا يحدده إلا مقياس واحد هو المفاصلة .. وهو ينعكس في وعي الناس بعد ما حدث..في اكتشافهم أنهم خُدِعُوا..  ينعكس في صحوة وعي الأمة ووعي العالم .. هل هم مع ممارسات أمريكا أم ضدها.. هل انكشف الزيف الفادح والفاضح لكل ما رفعه الغرب من شعارات أم لم ينكشف.. لقد كانت أمريكا تشبه بلطجيا مجرما استطاع دائما خداع الناس عن حقيقته فراح يشيد المساجد ودور الأيتام ويسارع إلي أعمال الخير بينما هو في الحقيقة يفعل كل ذلك ليستر أعماله الإجرامية الخفية.. وكاد هذا البلطجى  أن يصبح نموذجا يحتذي يشد وراءه كل من يحيط به إلي عالم الجريمة والقتل والسرقة والمخدرات والشهوات دون أن يخالج الناس منه أي حذر فهو صديق.. ما حدث منذ 11 سبتمبر – بغض النظر عن كل الملابسات أن شخصا ما استفز هذا البلطجى فكشفه فلما أدرك أن أمره قد اكتشف شهر مسدسه علي الناس ووقف علي باب المسجد " يسب الدين".. قائما هو نفسه بتمزيق كل أستار الخداع التي تسربل بها كي يخدع الناس عن حقيقته.. قام هو نفسه بتمزيقها ولن يستطيع خداع الناس أبدا بعد ذلك..  بعد هذا الموقف لا تسل عمن كشف المجرم ومصيره ومآله.. لقد كانت الغاية كشف المجرم ومنع غوايته للناس.. وهذا ما حدث.. حتى لو تمكن القرصان من قتل البطل العظيم الذي كشف للناس حقيقة المجرم.. فهذا يعلى من قيمة البطل ومن قيمة انتصاره.. والسؤال الذي جب أن يطرح هنا.. ليس هو: هل انتصر البطل.. بل السؤال: هل كان مسموحا لهذا البطل أن يصمت؟! ولو أنه صمت لكان في صمته هزيمته.. أما وقد نطق.. وبأعلى صوت و أنصع بيان فقد انتصر.. الدور بعد ذلك ليس علي من كشف المجرم.. بل علي الناس الذين اكتشفوا خداع هذا المجرم لهم .. الناس جميعا.. الأمة .. والآن قد وصلنا إلي مرحلة الوعي والكشف والمفاصلة.. ولم يعد علي وجه الأرض مسلم حقيقي لا يدرك مدي بشاعة وحقارة الحضارة الغربية بزعامة أمريكا.. وما وقعت فيه النخبة الثقافية الرسمية ( وهي الفرع ) وقعت فيه أمريكا (وهي الأصل) .. أدرك المسلمون – كل المسلمين – كل هذا بعد أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها .. أما المجاهدون الأبطال فقد قدموا للعالم المنارة التي كانت تنقصه.. المنارة التي يحتاج إليها.. قدموا نقيض ما تقول به حضارة الغرب.. قدموا الشجاعة والوفاء والفداء والإقدام والاستشهاد من أجل عقيدة .. قدموا للعالم تطبيقا آخر لمعني الحياة ومعني الموت.. ومعني الوجود كله.. إن من لم يسمع أو ير الإسلام قبل ذلك يراه في أبهى صوره وأزهاها.. وسوف ينعكس هذا علي دخولهم في الإسلام .. وقد بدأ هذا بالفعل..

وواصل الصديق:

-    أكرر أن المعركة في الحالتين لم تكن معركة عسكرية يحكم علي النتيجة فيهما نصر أو هزيمة.. لا.. بل كانت معركة علي كشف زيف كفر وإجرام نجح طيلة قرون في أن يخفي حقيقته بارتداء أقنعة مزيفة.. ولقد نجح البطل المجاهد أسامة بن لادن ومعه حركة طالبان في نزع تلك الأقنعة بل في تدميرها تماما..وبهذا فازوا بالنصر فى المعركة.. مائة في المائة..

ووجدت نفسي أؤمن على حديثه..

***

نعم.. نحن لم نخسر المعركة.. لم يكن لها أن تعطينا أكثر مما أعطت .. ولقد فزنا بكل ما كنا نصبو إليه منها.. وهي تمهيد لمعارك أخري.. بوسائل أخري.. وكما في هذه المعركة سوف يختلف المقياس في كل معركة منها ليحكم من انتصر .. ومن انهزم..!!

***

فالمعركة معركة بين الخير والشر..

وهي معركة نتيجتها – والتاريخ يشهد – محسومة..

مهما بدت الظواهر غير ذلك..

 

السابق

المحتويات

 



[1] - حوار نشر في صحيفة الشعب الإليكترونية، عدد 21-12-2001