إمبراطورية الشيطان
***
ليس غريبا
ذلك العرض الإسرائيلي الشيطاني بإنشاء مسخ لدولة اسمها فلسطين، لا تحمل من
مقومات الدولة إلا اسمها، دولة بلا حدود
متصلة، وبلا جيش، إلا ذلك الجيش الذي يحارب الأمة ويطارد المجاهدين، دولة بلا
سماء، وحتى باطن الأرض لا تملكه، دولة بلا اقتصاد، يستنزف الإسرائيليون ثرواتها،
لكي ينعموا بالرفاهية بينما يعيش أبناء البلاد حياة الخدم والرقيق، ويكون دور
الحاكم فيها دور مروض العبيد، الذي لا
تقدر قيمته إلا بقدر عدد العبيد الذين يستطيع أن يروضهم. ويكون دور المثقفين ورجال
الإعلام وبعض الصحافيين هو دور القوادين
الذين يزينون الخنوع والاستسلام للأمة، كما يزين القواد الزنا لبغيّ. يفصلون الأمة
عن ثقافتها، وحضارتها، ودينها، بدعاوى الحداثة والحضارة، وهم في ذلك الوضع المهيض،
يشبهون خادمة بئيسة، بل جارية وضيعة، تزداد
قيمتها أمام قريناتها من الجواري كلما عن لسيدها أن يغتصبها، فاغتصاب مولاها شرف
تتيه به علي الأخريات، ودليل علي أنها تحدثت وتحضرت.
ليس غريبا
ذلك العرض الإسرائيلي الوقح، لأنه هو بذاته، هو الذي يمارس ضد الأمة الإسلامية
كلها منذ خمسة قرون علي الأقل، هو بذاته، بنفس الوقاحة والبشاعة، وكأنما فلسطين هي
النموذج المصغر، والأمة الإسلامية هي النموذج الأكبر، وفيما عدا الحجم، فالتطابق
كامل.
نهاية
القرون الخمسة الأخيرة كانت اكتمال الانكسار لكن الصراع كان قد بدأ قبلها بكثير..
***
في إيجاز
معجز يختصر "العلامة محمود شاكر" الأمر لنا في كتابه البالغ الأهمية
"رسالة في الطريق إلى ثقافتنا[1]" حين
سقطت أوروبا في حمأة القرون الوسطى المظلمة منذ سقوط الإمبراطورية
الرومانية الغربية سنة 476 أي قبل الهجرة
بنحو من مائة وأربعين سنة، والحقيقة أن أوروبا كانت ساقطة فيما هو أسوأ من القرون
الوسطى قبل ذلك بقرون طويلة. كانوا في جاهلية جهلاء، أهلها همج هامج، لا دين
يجمعهم، وعند مجيء الإسلام لم يكن سلطان الكنائس المسيحية مبسوطا علي معظم أوربا
المعروفة الآن، كانت روما التي أفرغت الديانة المسيحية من محتواها قد سقطت وكان
الشمال كله وثنيون برابرة، و كان سلطانهم مبسوطا على الشام ومصر وشمال أفريقية منذ
قرون طويلة سبقت، وفى طرفة عين، في أقل من ثمانين سنة، تقوض فجأة سلطان الرومان
على هذه الرقعة الواسعة، وتقوض أيضا سلطانها على نفوس الجماهير الغفيرة من رعاياها
، الذين دخلوا الإسلام طوعا، بل و أعجب من ذلك، صاروا هم جند الإسلام وحماة ثغوره
وعواصمه، وحصروا الروم في الشمال، وجاهدت الدولة البيزنطية في الشمال أن تسترد ما
ضاع، وظلت أربعة قرون تحاول أن تعود فتخترق هذا العالم الإسلامي من طرفه الشمالي
عند الشام، وذهب جهدها هدرا، ولم يغن عنهم السلاح شيئا، وكل يوم يمر، يزداد رعايا
الرهبان والملوك انبهارا بالإسلام وخلقه وثقافته وحضارته، وظل الصراع مشتعلا مدة
أربعة قرون بين الروم المحصورين في الشمال وبين المسلمين الذين يتاخمونهم جنوبا،
وتدبر الأمر قادتهم، وداخلتهم الخشية أن يفضي الأمر إلى زوال سلطانهم عن جنوب
أوروبا، وخيم اليأس فانطلق الرهبان يجوبون شمال أوروبا ليدخلوا أهلها من الهمج
الهامج الذي لا دين له في النصرانية، ليكونوا بعد قليل مددا لجيوش جرارة تطبق على
ثغور الإسلام ، ويعدوهم لخوض المعركة العظمى ، ثم جاء ما يبدد هذا اليأس، هذه هي
الجيوش الجرارة من النورمنديين والصقالبة والسكسون بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع
التي جيشت من الهمج الهامج جيوشا تتدفق من قلب أوروبة، تريد مرة أخرى اختراق
العالم الإسلامي من شماله في الشام، ونشبت الحروب الصليبية التي استمرت قرنين
كاملين (489-690 هجرية/ 1096- 1291 ميلادية) ، وفى خلالها استولوا على جزء من أرض
الشام، و أقام به بعضهم إقامة دائمة، و أنشأوا ممالك، وخالطوا المسلمين مخالطة
طويلة، كانت فرحة رائعة لهم لكنها انتهت بالإخفاق واليأس من حرب السلاح، وخمدت
الحروب تقريبا بين الإسلام والصليبية نحو قرن ونصف قرن، ثم وقعت الواقعة، اكتسحت
الأرض الرومية في آسيا، في شمال الشام، ودخلت برمتها في الإسلام، وفى يوم الثلاثاء
20 من جمادى الأولى سنة857/ 29 مايو سنة 1453 ميلادية، سقطت القسطنطينية، ودخلها
محمد الفاتح بالتكبير والتهليل، إذن فقد وقعت الواقعة، واهتز العالم الأوروبي كله
هزة عنيفة ممزوجة بالخزى والخوف والرعب والغضب والحقد، ولكن قارن ذلك إصرار مستميت
على دفع هذا الخزى، و إماطة هذا الخوف والرعب، وإشعال نيران الغضب والحقد، ومن
يومئذ بدأت أوروبا تتغير ، لتخرج من هذا المأزق الضنك، وبهمة لا تفتر ولا تعرف
الكلل، بدأ الرهبان معركة أخرى أقسى من معارك الحرب، معركة المعرفة والعلم….. فقد
أدركوا أنها الوسيلة للانتصار علينا…
***
في كتاب
"محمد" تأليف كارين آرمسترونج[2]
أن بعض الأوروبيين أصبحوا يعتقدون آنذاك أن الإسلام قد يكتسح الممالك المسيحية
اكتساحا شاملا، وفى سنة 1453، بعيد الفتح التركي لإمبراطورية بيزنطة الذي أتى بالإسلام
إلى عتبة أوروبا، بدأ الأوروبيون يفكرون في ضرورة العثور على أسلوب جديد لمواجهة
الخطر الإسلامي، قائلين أنه من المحال أن يلقى الهزيمة في ميدان القتال أو عن طريق
أنشطة التبشير التقليدية، ثم جاء عصر النهضة الأوروبية، واكتسب الغرب الثقة في
ذاته، ولم يعد الأوربيون يجفلون فرقا من الخطر الإسلامي، بل أصبحوا ينظرون إلى
الدين الإسلامي نظرة المترفع الذي يجد فيه بعض التسلية والترفيه..
***
ومنذ خمسة
قرون كانت الدولة الإسلامية الكبرى تتخلى تحت وطأة الضربات الهائلة للغرب الصليبي
و المكائد اليهودية عن سيادتها للعالم وريادتها له . ولولا أن قيض الله الدولة
العثمانية للدفاع عن هذه الأمة لكنا الآن كالهنود الحمر، بقايا شراذم .
حتي ذلك
الوقت كنا أقوياء، وكنا سادة العالم، وكنا متحضرين، رغم ما تحفل به كتابات
المستشرقين و أذنابهم بعكس ذلك.
كنا لا
نسمح لسفن الغرب أن تعبر مضيق باب المندب
من اليمن إلى خليج السويس لأنهم سيمرون قرب بحر جدة وهو من الحرم ، فكان البحر
الأحمر كله عندهم حرم لا يدخله إلا مسلم! وكانت سفن العثمانيين تتسلم بضائع التجار
الفرنجة عند اليمن وتنقلها لهم إلى خليج السويس وتسلمهم إياها في المتوسط.
وحتي القرن
السابع عشر ، كان السلطان عبد المجيد يسمى
البحر المتوسط البحيرة العثمانية ، فسأله صحافي إنجليزي إذا كان المتوسط وشاطئه
الشمالي كله لأهل الصليب بحيرة عثمانية؟ فما البحر الأسود الذي يحيط به ملك
الإسلام وجيوش الخلافة العثمانية فعلاً؟
فقال السلطان العثماني: البحر الأسود هو مسبح قصري!.
وإزاء عجز
أوروبا عن مواجهة الدولة الإسلامية في الشرق، فقد شددت الحصار علي امتدادها في
الغرب، فسقطت الأندلس بعد فتح القسطنطينية بأربعين عاما، سقطت وانتهي فيها الإسلام
بعد أن ظل يحكم فيها ثمانية قرون، كان البابا هو الذي يقود الحملات وهو الذي يخطط
ويقرر، بل وهو الذي يقسم بلاد المسلمين بين المستعمرين، فانطلقت جحافل الصليبيين
الثملة بأول نصر حاسم ونهائي علي المسلمين لكي تحاصر العالم الإسلامي كله. انطلقت
من مختلف بلاد أوروبا، ومن روسيا.
نحن لم نسئ
إليهم .. كنا دائما نحترم جميع أنبيائهم ونؤمن بأديانهم لكنهم أبدا لم يحترموا
نبينا وما اعترفوا بديننا بل إن تقدمهم الحضارى الذى اعتمدوا علينا فيه لم يغذه
بعد ذلك ويستحثه ويستنفره سوى السعى المحموم بالحقد الأسود الهادف لتدميرنا، ومنذ
القرن الخامس عشر وهم يحاولون محاصرتنا اقتصاديا كى يضعفونا عسكريا ثم يمحقونا..
إن افتقاد
النظرة الشاملة للتاريخ تصيبنا بالعماء عن فهم الحاضر وتمنعنا من إنقاذ المستقبل..
والغرب (
الصليبيون ) منذ مؤتة يفكرون بنفس الطريقة ويسيرون نفس المسار ومهما فشلوا، فإنهم
يعاودون الكرة المرة تلو المرة حتى ينجحوا..
المأساة أن
ما كانت الحضارة الإسلامية والدولة الإسلامية تطلبه دائما هو أن نبقى فى بلادنا
التى حررناها من استعمارهم أحرارا نتعايش معهم فى سلام..
أما هم
فكان مبتغاهم طيلة الزمان أن يعيدوا احتلال بلادنا وأن يقضوا على ديننا..
وعندما
أدرك الغرب عجزه عن إبادتنا فقد تآمر الصليبيون مع المغول علينا – وذلك ثابت فى
التاريخ رغم التعتيم عليه..[3]
كانت
فلسطين هي الهدف منذ استعاد المسلمون العرب فلسطين العربية من الرومان بعد معركة
أجنادين وقد نجحوا فى تحقيقه فى الحروب الصليبية ثم نجح العرب المسلمون فى تحريرها
مرة أخرى.. بعد حطين تحطمت جيوشهم لكن هدفهم لم يتحطم..
يلخص
الدكتور محمد عمارة[4]
الأمر بقوله:
إذا كنا
بصدد الحديث عن الجديد في مخططات الغرب تجاه المسلمين ، فيحسن أن نذكر بعض
التواريخ التي تفسر لنا أمورا كثيرة ..(..).. فبالطبع إن الصراع بين الشرق والغرب
صراع قديم، وغزوة الإسكندر الأكبر احتلت " الشرق " قبل الميلاد ، وهزمت
الدولة الفارسية التي كانت أبرز القوى الموجودة ، ونعلم أن هذه الغزوة ( الإغريق
ثم الرومان ) زحفت إلى مختلف بقاع الشرق ( شمال إفريقيا ومصر والشام والحبشة
واليمن، وكادت أن تصل إلى وسط شبه الجزيرة العربية في غزوة الفيل ، والتي ولد رسول
الله صلى الله عليه وسلم في نفس عامها ) . ونعلم أن الفتوحات الإسلامية كانت في
جوهرها حروب تحرير الشرق من هذه الغزوة
الإغريقية الرومانية ، حتى إن شعوب الشرق- وهى على دياناتها القديمة - وقفت تحت
راية الفتوحات الإسلامية تحريرا لهذا الشرق من ذلك الاحتلال ، ونعلم أيضا أنه لم
تكن هناك فتوحات إسلامية دار فيها الحرب والقتال بين جيش إسلامي وبين شعب من شعوب
البلاد التي فتحها المسلمون ، فعندما جاء المسلمون إلى مصر كانت حربهم مع الروم ،
ونفس الشيء كان في الشام.
ويواصل
الدكتور عمارة:
إذن فالحرب
في الفتوحات الإسلامية كانت تدور ضد بقايا وصور الهيمنة والغزوة الإغريقية
الرومانية ، ولم تكن بين المسلمين وبين شعوب البلاد التي فتحها المسلمون (..)..
وعندما حررت المنطقة ، جاء الغرب مرة ثانية في ظل الحروب الصليبية كي يستعيد
ما فقد، فكان الصراع وكأنه موجات(..).. في 1492 م سقطت غر ناطة وأخرج
المسلمون من بلاد الأندلس .وسقوط غر ناطة لم يكن نهاية مطاف الضغوط الغربية ضد
عالم الإسلام ، لأن صحوة وتجديد العثمانيين لعسكرية الدولة جعلت الغرب منذ خمسمائة
عام يخطط التخطيط الآتي :
أن يلتف
حول عالم الإسلام ويطوقه عن طريق رأس الرجاء الصالح (..).. في نفس العام الذى سقطت فيه غرناطة بدأت رحلة كولمبس (..).. وكان يقصد الالتفاف حول العالم
الإسلامي لمحاصرته.
وعندما ذهب
البرتغاليون إلى الهند ، كانت إسلامية ، وكانت تحكم حكما إسلاميا في ذلك التاريخ ،
ولم يكن الوعي غائبا عند حكامنا المماليك
وإنما كانوا يدركون أنها حركة التفاف حول العالم الإسلامي ، ليس فقط لتحويل
طرق التجارة ( وهو باب من أبواب الذبول الاقتصادي للعالم الإسلامي ) ، وإنما كانوا
يدركون المخاطر الاستراتيجية التي يبتغيها الغرب ، ولذلك لم يكن غريبا أن تخرج
الجيوش المملوكية من مصر لتقاتل البرتغاليين في الهند في ذلك التاريخ ، وهزمت الجيوش
المملوكية في 1504 أي بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح بأقل من 7 سنوات. ولم
تنته قصة التفاف البرتغاليين لبلاد المسلمين بعد هذا الانتصار الذي حققوه ، فنجد
الفليبين التي كانت بلادا إسلامية (كانت مانيلا اسمها أمان الله)، ذهب إليها
ماجلان (الذي ندرسه على أنه مكتشف) ليحارب الإسلام والمسلمين، ومات هناك 1521
م في قتال ضد المسلمين .
بعد هذا
الالتفاف بدأت مرحلة ضرب قلب العالم الإسلامي ، والتواريخ خير شاهد، فنجد بونابرت
الذي جاء إلينا في عام 1798 ثم فريزر في 1807 والجزائر احتلت في 1830 ، ثم عدن
1838 م ، ثم تونس 1881 م، ثم مصر 1882أم ، ثم ليبيا 1911 ، ثم المغرب
1912 ، ثم عموم البلوى في سايكوس بيكو التي قسمت ما بقى من عالمنا العربي 1916 ،
ثم الذروة عند سقوط الرمز ( الدولة العثمانية) في 1924 . إذن صراع الغرب مع
الإسلام منذ خمسمائة عام على طرد الإسلام من أوربا ، وعلى بدء هذه الغزوة الصليبية
التي بدأت بالالتفاف حول العالم الإسلامي حتى جاء بالعشرينات وعلي أعتاب الحرب
العالمية الأولى، حيث أعلن سقوط كافة أنحاء العالم الإسلامي تقريبا أمام الهيمنة الغربية . هذا الصراع لم ينته عند
هذا الحد ، بل دخلنا في إطار الصراع حول الهوية ، وتلك هي المعركة القائمة حتى هذا
التاريخ .
ولم يكن
هدف الغرب طرد الإسلام من أوروبا فقط ، بل كان القضاء علي الإسلام نفسه.
لقد أعلن
البابا كليمنت الخامس ( 1305- 1314) أن وجود مسلم على الأرض المسيحية يعتبر
"إهانة لله" … وأن المسلمين فى الممالك الأوروبية " وكر الوباء
متوهجة التلوث مصدر الطاعون العضال
والجراثيم القذرة " وبهذا المنطق أبادوا المسلمين فى صقلية وجنوب إيطاليا فى
بداية القرن الرابع عشر وعندما سقطت غرناطة دقت أجراس الكنائس فى شتى أرجاء أوروبا
ابتهاجا بالنصر المسيحى على الكفار، ثم لم تلبث محاكم التفتيش أن بدأت وعلى مدى
300 سنة بتخيير المسلمين بين الموت بأبشع الطرق أو التنصر أوالاستعباد أو الرحيل..
نفس الخطط
ونفس الإجرام.. وما فشلوا في إنجازه منذ ألف عام ومنذ خمسمائة عام يعيدون الكرة الآن
كي ينجحوا فيه. وعلي سبيل المثال فإن المؤامرة الأمريكية علي السودان والعبث
الإسرائيلي في أثيوبيا ليس إلا استمرارا لمخطط "دالبوكيرك" منذ خمسمائة عام، وهو أحد قواد حملاتهم الصليبية التي لم تنقطع قط،
وكان المخطط يزمع تحويل مجرى نهر النيل
ليحرم مصر من أراضيها الخصبة فيتم هلاكها وإخضاعها، وقد كتب إلى ملك البرتغال
يستدعى صناعا مهرة ليقوموا بفتح ثغرة بين سلسلة التلال الصغيرة التى تجرى بجانب
النيل فى الحبشة ولكنه توفى سنة1515 ثم أحبط مواصلة الخطط فى هذا الاتجاه انضمام
مصر بالفتح إلى الدولة الإسلامية الكبرى منذ عام 1517.
كانت
البرتغال أسبق دول أوربا فىاستعمار العالم الإسلامي، فقد استطاع فاسكو ديجاما أن
يدور حول أفريقيا ويكتشف الطريق إلى الهند مارا براس الرجاء الصالح في عام 1497 (
الاكتشاف كان جديدا بالنسبة لهم ) كل هذا
بعد 5 سنوات فقط من سقوط غرناطة.
ولم تمض غير أعوام قليلة حى أصبحت البرتغال وهي
أصغر دولة أوروبية آنذاك تبسط سلطانها على
مساحات أوسع من الإمبراطورية الرومانية فى عظمتها الغابرة.
وخشيت
البرتغال أن تلحق بها دول أخرى فسعت إلى البابا ليمنحها مرسوما يقضى بتمليك
البرتغال جميع القارات والبحار والجزر التى يكتشفها البرتغاليون فى الطريق إلى
الهند وأقر هذا المرسوم ثلاثة بابوات آخرون، وافقوا على تلك الهبة العجيبة.
فلما نشطت
أسبانيا فى مجال التهام أطراف العالم الإسلامي كان عليها أن تسلك طريقا آخر غير
طريق البرتغال، ومن ثم تبنت مشروع كريستوفر كولمبس للوصول إلى الهند بطريق الإبحار
غربا وقد استطاع كولمبس أن يعبر المحيط الأطلسى متجها إلى الغرب حتى وصل إلى
اليابسة واكتشف دنيا جديدة عرفت فيما باسم أمريكا، ولكنه ظل حتى آخر لحظة من حياته
يؤكد أنه نزل فى شرق آسيا وأنه إذا واصل السير
غربا فسوف يبلغ نهر الكنج ببلاد الهند وهذا ما أثار مخاوف البرتغال حيث بات مرسوم
البابا عديم القيمة مادام الوصول إلى الهند أصبح ممكنا عبر الطريق الغربى، وهبت
البرتغال إلى السلاح تدافع عن حقوقها فى الهند، ولكن البابا تدخل فى النزاع وقسم
العالم مناصفة بين ملك أسبانيا وملك البرتغال فشطر خريطة العالم شطرين متساويين
بالمرسوم الصادر فى مايو سنة 1493 بحيث تكون جميع البلاد الواقعة غرب الجزر
الخضراء ملكا لأسبانيا وجميع البلاد الواقعة فى شرقها ملكا للبرتغال..
بقي أن
نقول أن الذي مول رحلة كولومبس كانت ملكة أسبانيا، و أن هدف الرحلة، كان الوصول
إلي الهند، واستغلال مناجم الذهب فيها، لتمويل حملة صليبية جديدة علي العالم
العربي.
عندما بدأ
الاحتلال الأسبانى للفليبين التى غيروا اسمها تمجيدا للملك فيليب الثانى كانت
العاصمة اسمها أمان الله وكان الحاكم الفليبينى المسلم هو راجا سليمان عام 1565
ميلادية. وكان المسلمون يشكلون 90% من سكان
الفليبين كما كان الإسلام منتشرا فى المنطقة كلها..
سرعان ما
دخلت بريطانيا إلي المعمعة وبدأت مخططها الكبير للاستيلاء علي الهند.
وكان الحكم
الإسلامي قد استقر في الهند ورسخت أقدامه
وقامت له دولة منذ أن بدأ السلطان الأفغاني المجاهد "محمود الغزنوي فتوحاته
العظيمة في سنة (392هـ – 1001م)، وامتد وجود الإسلام في الهند لأكثر من ثمانية
قرون، حتى قضى الإنجليز علي الحكم الإسلامي عام 1858م وبعد ثورات هائلة للمسلمين
تحالف معهم فيها الهندوس.. تمكن الإنجليز
من القضاء علي الثورة الأخيرة ضدهم وقاموا
بالقبض على آخر ملك مسلم للهند وهو بهادر شاه ، وساقوه و أهل بيته مقيدين في ذلة
وهوان، وفي الطريق أطلق أحد الضباط الرصاص من بندقيته على أبناء الملك وأحفاده،
فقتل ثلاثة منهم، وقطعوا رؤوسهم.
ولم يكتف
الإنجليز بسلوكهم المنحط بالتمثيل بالجثث، بل فاجئوا الملك وهو في محبسه بما لا
يخطر على بال أحد خسة وخزيًا، فعندما قدموا الطعام للملك في سجنه، وضعوا رؤوس
الثلاثة في إناء وغطّوه، وجعلوه على المائدة، فلما أقبل على تناول الطعام وكشف
الغطاء وجد رؤوس أبنائه الثلاثة وقد غطيت وجوههم بالدم.
حاولت
بريطانيا مرات عديدة غزو أفغانستان أيضا، لكنها منيت بهزائم فادحة.
تصدرت
بريطانيا – أفعى التاريخ الرقطاء- قيادة الحملة علي العالم الإسلامي، بعد أن هزمت
أسبانيا و أزاحت البرتغال. ونجحت من موقعها الجديد في الهند أن تبث الخلافات
والعصبيات في العالم الإسلامي، وباركت إنشاء الدولة الصفوية في إيران، وبثت الحية
الرقطاء الفتن بين الدولة العثمانية السنية والدولة الصفوية الشيعية فانشغلا
بالمعارك بينهما، بينما روسيا تلتهم بلادهما من الشمال في خراسان وبريطانيا تلتهمها من الجنوب في الهند.
***
كنا قد
أصبحنا قصعة تتداعي الأكلة عليها ..
عند الفتح
الإسلامى لم تنشب أى معارك مع الروس
فروسيا نفسها لم تكن موجودة حتى ذلك الوقت.. كان الموجود مجرد إمارة حقيرة
لا تتجاوز مساحتها 250 كيلومترا مربعا وكان اسمها موسكوفيا .. وخلال الخمسة قرون
التالية حين تشكلت ما تعرف اليوم بروسيا من قبائل النورمان وهم مجموعة من الغزاة البرابرة
الوثنيين امتهنوا القرصنة وقطع الطرق .. لم تزد مساحتها عن مساحة مصر اليوم.. و لم يكن عددهم حينئذ
يتجاوز المائة ألف.
و بدخول
القرن الخامس الهجري سيطر السلاجقة الأتراك على معظم القوقاز وازدادت نسبة
المسلمين في عهدهم زيادةً عظيمةً إلا أن المنطقة أصيبت بنكسة بسبب الهجمة
المغولية. ثم حدثت آية من آيات الله و هي تحول تلك القبائل الهمجية الشرسة إلى
الإسلام وحسن إسلامهم فيما بعد و صاروا حماة للإسلام في القوقاز وعلى ضفاف الفولجا
والذى أصبح نهرا إسلاميا .
خضعت إمارة
موسكوفيا للحكم الإسلامى حتى بدأت الصراعات بين المسلمين فبدأت هذه الإمارة
الصغيرة فى الاستيلاء على الأراضى المجاورة..
وحتي القرن
الخامس عشر الميلادى كان دوق روسيا الأعظم يقسم يمين الولاء للمسلمين ويعلن خضوعه
وجميع الأمراء الروس لهم .. نعم .. كانوا يدفعون الجزية ويدعون لهم فى الكنائس.
كان إيفان الأول موظفا عينه الحكام المسلمون لتحصيل الجزية من الروس.. فكان يسرق
لنفسه أضعاف الجزية وبدأ فى تكوين جيش قوى.. وحتى عام 1480 كانت روسيا تدفع الجزية للمسلمين القوقازيون..
وحتى ذلك
الوقت لم تكن مساحة روسيا تتجاوز مساحة مصر لكنها
أخذت بعد ذلك تتوسع توسعا همجياً
فوق جماجم المسلمين حتى بلغت اليوم خمسة عشر ضعفاً من حجمها الأول فوصلت إلى البحر
الأسود في عهد بطرس (1722م) و لم يكن لها موضع قدمٍ فيه من قبل.
القوقاز
التى احتلتها روسيا تقارب مساحتها مساحة أوروبا.. و دولة منها
هى الداغستان -وليست السودان- هى أكبر بلد فى العالم الإسلامى من ناحية
المساحة..
كان الهجوم
الكاسح على الإسلام والمسلمين قد غير اتجاهه من الهجوم على القلب (فى الحروب
الصليبية) إلى الهجوم على الأطراف.. وكان البابا يبارك.. والتدين المحرف المنقوص
يتلاقى مع هوى نفوس الملوك اللصوص .. وكان أجداد النخبة المثقفة المنحرفة قد زيفوا وعى الأمة أيامها.. وأوهموها أن
الحروب الصليبية قد انتهت وانقضى الخطر.. بينما هذه الحروب لم تتوقف حتى اليوم..
كما أوهموها أن الدولة الإسلامية هي سبب تخلفنا.. و أعلوا شأن القومية والفرعونية
والقطرية وكل ما يبعدنا عن الإسلام.. كان السم يسري في جسد الأمة.. وبدلا من
علاجها بالترياق حقنوها بمزيد من السم.
حينما بدأ الهجوم
علي العالم العربي من الغرب بعد سقوط الأندلس( 1492 م) كان ثمة هجوم آخر يبدأ ضد العالم الإسلامى من الشمال والشرق حيث بدأ هجوم كاسح آخر من الروس.
فى منتصف
القرن السادس عشر الميلادى بدأ إيفان
الرابع المسمى "بالرهيب" ( حفيد إيفان الأول أجير المسلمين) هجومه ..
ولقد سمي بالرهيب لكثرة الفظائع التي ارتكبها. تولى الحكم و هو في الثالثة من عمره
بعد وفاة أبيه. و في الثالثة عشرة قرر التخلص من الوصي عليه و لكي يبث الرعب في
نفوس النبلاء الروس قام بإلقاء الرجل الذي رباه للكلاب لكي تنهشه وهو حي! و قد
بلغت قسوة إيفان هذا وإجرامه أن ذبح ابنه بيده. قام هذا المجرم بعد أن تغلب على
بعض إمارات المسلمين ودخل عاصمتهم قازان بقتل كل سكان تلك المدينة…فى مجزرة هائلة
عام 959هـ (1552م).
بعد سقوط
قازان المروع تحول نهر الفولجا من نهرٍ
إسلاميٍ إلى نهرٍ يسيطر عليه مجرمو الروس بعد أن أراقوا دماء المسلمين على ضفتيه.
أيضاُ بسقوط أستراخان أصبح للروس موطأُ قدمٍ على الشاطئ الشمالي الشرقي لبحر قزوين
(أو بحر الخزر) ذلك البحر الذي كان بحيرة إسلامية على مدى أكثر من أربعة قرون..
كان من
العوامل المساعدة على انتصارات الروس ذاك التنازع الذى نشب بين الدول الإسلامية
الكبرى قبيل القرن الخامس عشر.. المماليك فى مصر والصفويون فى إيران والعثمانيون.. ( نفس ما يحدث الآن) .. وفي عام
986هـ (1578م) كان العثمانيون (السنة)
والصفويون (الشيعة) يقتسمون النفوذ على الجمهوريات الإسلامية فى قازان ، وبعد وفاة
شاه عباس 1628م استنجد مسلمو قازان
بالسلطان العثماني يؤكدون له أنهم من رعاياه و يطلبون مساعدته لمواجهة الخطر
الروسي الذي عظم في ذلك الوقت. لكن العثمانيين كانوا مشغولين بجهادهم في وسط وجنوب
أوروبا في هذا الوقت مما أعطى الروس اليد الطولى فى البلاد الإسلامية فى القوقاز..
عام 1556
قام الروس بإغراء حاكم مسلم هو الأمير تيمروك بالتحول إلى المسيحية مقابل مساعدة الروس له ضد منافسيه، وبالفعل
تحول تيمروك إلى المسيحية وزوج إحدى بناته للقيصر الروسى إيفان الرهيب.. ولقى
الحاكم المرتد جزاءه عام 1558 فقد استعاد المسلمون الإمارة ودمروا المرتدين.. وفى
عام 1594 أرسل الروس حملة عسكرية أخرى للاستيلاء على مزيد من الأراضى الإسلامية
فتصدى لها المسلمون(العثمانيون والتتار والداغستانيون) وهزم الروس بعد معركة شرسة
لكنهم عادوا مرة أخرى عام 1604 حيث قام القيصر بوريس جودونوف بهجوم كبير على
داغستان فى محاولة لاحتلالها ولكن حملته انتهت بكارثة كبرى فقد دمر المسلمون جيشه
وحطموا القلاع الروسية على أنهار سولاك وسونجا وتريك.
وصب الروس
غضبهم على المسلمين الذين فى قبضتهم ..
و استغرقت سياسة البطش و التنصير الإجباري و هدم
المساجد و حرق المدارس الإسلامية قرنين من
الزمان لقمع المسلمين على ضفاف الفولجا
وفى سيبريا التى سقطت عام 988 (1580م) بعد أن كانت تحكم بالإسلام..
نعم..
كانت سيبيريا أرضا إسلامية استسلمت بعد معارك استمرت 56 عاما..
و في عام 1722م بدأت حملة روسية استعمارية جديدة
بقيادة بطرس (المسمى بالكبير). و استطاع بطرس انتزاع داغستان من جسد الأمة
الإسلامية على حين غفلةٍ من المسلمين. ثم استولى للمرة الأولى فى التاريخ على شمال
الشيشان و شرقها . و من الفظائع التي تروى بعد سقوط تلك البلدان أن الروس جعلوا
بعض أسرى المسلمين فريسة يتبارون لاصطيادها عن طريق كلاب الصيد تماماً كما كان
يفعل الإنجليز بالثعالب البرية.
و توالت
المصائب بتولي كاثرين عرش روسيا و تلك المرأة كان حلمها وهدفها المعلن هو السيطرة
على بلدان المسلمين و تحويلها إلى بلدان أرثوذكسية . ففرضت النصرانية على المسلمين
القاطنين فيما يسميه الروس وأوليائهم بالجزء الأوروبي من روسيا (يعنون بذلك تتاريا
و باشكريا و الشوفاش و كومي و غيرها من بلدان المسلمين التي لا تمت لروسيا بصلة
دينيةٍ كانت أو عرقية أو لغوية أو تاريخية أو حضارية. وعندما اصطدمت بتمسك
المسلمين بدينهم سراً أصدرت مرسومها الشهير بأنه على المسلمين الذين عمدتهم
الكنيسة قهراُ (و كان هؤلاء المستضعفين يمارسون شعائر دينهم سراً كما كان الأمر في
الأندلس فيما بعد 1492م وهو تاريخ سقوط غرناطة) التوقيع على إقرار كتابي
"يتعهدون فيه بترك خطاياهم الوثنية (أي العقيدة الإسلامية) و تجنب كل اتصال
بالكفار (أي المسلمين) والتمسك بتعاليم النصرانية و الثبات عليها". وبالطبع
كان هذا المرسوم أيضاً حبراُ على ورق إذ بعد ما يقرب من قرنين على إصداره وتحديداً
في عام 1905م عندما أتيحت بعض الحريات الدينية في روسيا ظهر هؤلاء المقهورين
كمسلمين حافظوا على إسلامهم سراً طوال تلك القرون.
لم يكتمل
سقوط القوقاز بين أيدى البرابرة الهمج إلا
فى عام 1785..
ولتتذكروا
يا قراء.. أن الحملة الفرنسية قد بدأت بعد ذلك بأعوام قليلة.. فى حرب طويلة
مستمرة.. وضع أسسهها وبدأها الباباوات.. ثم يسخر كلاب جهنم منا الآن حين نتحدث عن
المؤامرة..
حين استيقظ المسلمون القوقاز والشيشان على تلك المصائب هرعوا إلى حكامهم وأمرائهم
يلتمسون منهم العون.. يلتمسون منهم السماح لهم بالاستشهاد.. لا يطلبون منهم إلا
تدعيم وتنظيم هذا الاستشهاد.. لكن الحكام
والأمراء خانوا بل وتحالف بعضهم مع الروس
لقمع المسلمين (ما أشبه الليلة بالبارحة!).
فى معركة
استيلاء الروس على البلاد الإسلامية وبدون
حصر للحروب المحلية مع الإمارات المسلمة المستقلة شنت روسيا 120 حربا ضد
العثمانيين الأتراك استغرقت 150 عاما و 60 حربا ضد الصفويين استغرقت 94 عاما ..
كانت حرب
إبادة.. بلغ تعداد إحدى القبائل فى تعداد
أجرى عام 1889 ثلاثة ملايين (يقارب الرقم
تعداد مصر فى ذلك الوقت ) .. الباقى منهم
الآن 850000!!.. فى مائة عام..
فى منطقة
القبرطاى كان تعداد المسلمين 400000 لم
يبق منهم الآن إلا عشرين ألفا..
ومع ذلك
فقد كانت هذه المناطق أحسن حالا من سواها
.. فثمة قبائل كاملة ومدن هائلة لم ينج منها أحد ولم يبق منها أحد...
يقول
المؤرخ جون بادلى فى كتابه: "الغزو الروسى للقوقاز" : لو اتحدت إيران
وتركيا لتم هزيمة الروس هزيمة ساحقة.. ( ترى ماذا يحدث الآن لو اتحدت إيران وتركيا
وانضمت إليهما مصر؟!)..
وفى عام
1828م نتج عن الاستعمار الأوروبي تغلغل
الإنجليز والروس في الشؤون الإيراينة. فقد سلم القاجاريون القوقاز (جورجيا
وأرمينيا وأذربيجان حالياً) إلى الروس في معاهدتين منفصلتين: معاهدة جلستان عام
1813، ومعاهدة تركمان جاي عام 1828. وأرغم القاجاريون على سن قانون الامتيازات
الأجنبية، والتي بموجبه أعفى جميع الرعايا الأجانب من المثول أمام القضاء
الإيراني، الأمر الذي جعل الشعب الإيراني يشعر بالمذلة والإهانة. منذ ذلك الوقت
وحتى مطلع القرن العشرين أصبحت إيران موزعة بين المصالح المتعارضة لروسيا
وبريطانيا، فكانت روسيا تبني سياستها على أساس التوسع في آسيا وتطمع أن يكون لها
ميناء في المياه الدافئة في الخليج، بينما سعت بريطانيا إلى السيطرة على الخليج
وجميع الأراضي المجاورة للهند.
هذه هي قصة
الجمهوريات الإسلامية التي استقلت بعد انفراط الاتحاد السوفيتي، والتي تحيط الآن
بأفغانستان، وتساعد الأعداء عليهم.
هذه
الجمهوريات كانت تشكل مع أفغانستان في عصر
الدولة الإسلامية منطقة هائلة كان اسمها خراسان.. كانت تشكل 14/15 من مساحة
الاتحاد السوفيتي حتى انهياره وتفككه.. ولكن الجمهوريات التي انفصلت عن الاتحاد
السوفيتي لا تشكل إلا جزءا يسيرا من الأراضى الإسلامية التي غزاها الروس. والذين
لم يشبع نهمهم أبدا لأرض الإسلام، ففي عام 1979 قاموا بغزو أفغانستان.. آخر مناطق
خراسان.[5]
14/15 من
مساحة الاتحاد السوفيتي السابق كانت بلادا إسلامية ومع ذلك فإن محمد حسنين هيكل[6] يتساءل عن الحماقة الأفغانية التي دفعتها
للجهاد ضد الاتحاد السوفيتي رغم أنها
جاهدت حين غزاها في أرضها ولم تصدر هي الجهاد إلى أرضه ولم تغزه ولا هي حاولت
استرداد الأرض الإسلامية السليبة بجوارها... وبرغم التقدير العالي الذى يتمتع به هيكل فى كافة الأوساط، وبرغم شبه إجماع على أنه واحد
من أفضل السياسيين الصحافيين المحللين فى العالم – بالمقاييس الغربية لا
الإسلامية- إلا أن كل المواهب الفذة
للأستاذ الكبير يتوقف مفعولها حينما يتعلق الأمر بالإسلام ، حيث يتورط فى نفس
التسطيح الذى ينظر به الغرب لقضايانا مستعملا نفس لهجة الازدراء والتعالي وادعاء
الحكمة التي اتسم بها الغرب في التعامل معنا فيقول: " والواقع أن وكالة
المخابرات المركزية الأميركية بدأت التحريض ضد الاتحاد السوفياتي باسم الإسلام ومن
وراء حدود أفغانستان بينما النظام الملكي يحكم في “كابول” والعرش عليه الملك “ظاهر
شاه” والسلطة الحقيقية في يد ابن عمه ورئيس وزرائه السردار “داود خان”. وقد أدى التحريض إلى قلاقل أوصلت إلى عزل الملك
“ظاهر شاه” وجاءت ب”داود خان” لرئاسة الدولة في محاولة لتهدئة التحريض لم تنجح.
وكذلك وقعت سلسلة انقلابات في أفغانستان انتهت جميعا بتدخل سوفياتي صريح في
أفغانستان بدعوة "شرعية" من قائد انقلاب شيوعي هو الجنرال “بابراك
كارمل” سنة 1979. وهنا انتقلت المخابرات
المركزية الأميركية من التحريض إلى انتهاز الفرصة لحرب استنزاف خفية تشن على
الاتحاد السوفياتي باسم الإسلام، وتصادف أن ذلك وقع في الأجواء العاصفة للثورة
الإسلامية في إيران وتأثيراتها على ما حولها.
وكانت حرب استنزاف الاتحاد السوفياتي بعد حرب التحريض عليه تخطيطا أميركيا،
وإشرافا باكستانيا، وتمويلا خليجيا (سعوديا في أكثره)، ومشاركة عربية متعددة
الأطراف فيها من قدم السلاح والعتاد وفيها من قدم المجندين والمتطوعين الذين
اعتبروا أنفسهم مجاهدين ضد الإلحاد. وفي
حين أن العدو الحقيقي للعرب والمسلمين كان الاغتصاب الإسرائيلي في فلسطين، فإن
العمل العربي والإسلامي ذهب للجهاد في أفغانستان مقاتلا ضد الإلحاد المادي الذي
دخل من بوابات “كابول”. وكانت الخطط الأميركية محكمة، والإشراف الباكستاني حازما
(يشرف عليه رئيس المخابرات العسكرية الباكستانية الجنرال “حميد غول”)، والتمويل
الخليجي سخيا، وحشد السلاح وتجنيد المتطوعين شديد الهمة والعزم. وتقول كافة
الشواهد أن شبابا عربيا مسلما أضاع نفسه وهدفه وحياته في حرب لا معنى لها ضد طرف
لم تثبت عداوته لا للعرب ولا للمسلمين، لكنه اتهم بالإلحاد واختص بالعقاب رغم وجود
كثيرين غيره في عالم ضاع منه الكثير من اليقين! "
***
لقد كان
هذا الاستطراد الطويل ضروريا لكي ندلل علي عمق الاختراق الحاصل لعالمنا العربي
والإسلامي، وكيف أن واحدا من أفضل عناصر النخبة في عالمنا العربي يجهل التاريخ
جهلا فادحا. وليس التاريخ في حد ذاته ما نقصد، لكن ما نقصده هو أن النخبة لو كانت
قد أخلصت مع أمتها، لو لم تزيف وعيها وتساعد الغرب علي محو ذاكرتها لما نسينا أبدا
أن بلدا تشكل الأرض الإسلامية التي احتلها أكثر من 93% من مساحته لا يمكن أن تشكل
دعما للعالم العربي أو الإسلامي. ولا يمكن أن يكون قيام عملائها بانقلاب شيوعى
يقوم باستدعاء الجيش السوفيتي سوى احتلال صريح ، فهي عدو شئنا أم أبينا. ولو صدقت
معنا النخبة، فلم تخدعنا عن حقيقة الغرب، وعن الثقافة اليهومسيحية للولايات
المتحدة الأمريكية والتي تجعل منها ومن إسرائيل كلا لا يتجزأ. لو صدق معنا هؤلاء و
أولئك لما سقطنا في بحور التيه بين هؤلاء و أولئك، وكلهم أعداء.
***
نعود إلي
الغزو الروسي و الإنجليزي لبلاد المسلمين. فقد التقت القوتان الغازيتان – بريطانيا
وروسيا - علي تخوم أفغانستان،
فالإنجليزالذين ابتدءوا سيطرتهم على الهند منذ القرن السادس عشر كانوا حريصين علي
ألا تصل روسيا إلي المياه الدافئة، وكانوا
يتحينون الفرص للانقضاض على أفغانستان من الجنوب الشرقي (الهند) بينما كان
الروس يعدون العدة لاجتياحها من الشمال. وبذلك تحولت هذه البلاد إلى ساحة مفتوحة
للصراع بين موسكو ولندن كان المتضرر الوحيد فيه الشعب الأفغاني المسلم. الذي استمر
في مقاومته فنجح في الاحتفاظ بسيادته، وهزم بريطانيا مرات عديدة، وتصدي لروسيا حتي
هزمها في القرن العشرين، أفلت الأفغان من الاختراق الذي شمل العالم الإسلامي كله،
وظل صموده هذا أمرا غير مقبول من الغرب،
حيث تواصل امبراطورية الشيطان الآن محاولة قهره.
كانوا –
وما زالوا - يقطعون جسد الدولة الإسلامية كما تفعل الآن إسرائيل في فلسطين، والهند
في كشمير وروسيا في الشيشان وخراسان و أمريكا في العالم كله، ففي نهاية القرن التاسع عشر كادت روسيا أن
تتمكن من القضاء علي الدولة العثمانية من تجاه الغرب، ووصلت إلي عشرة أميال من
عاصمتها، لولا تدخل الدول الأوروبية وبريطانيا التي كانت حريصة علي ألا تصل روسيا
إلي المياه الدافئة للبحر المتوسط تماما كحرصها علي ألا تصل إليه من خلال
أفغانستان و إيران. وكانت فرنسا وإيطاليا تقتسمان الدول العربية، وكانت بريطانيا
تحتل مصر، وكانت أمريكا تنشئ الكلية
الأمريكية في بيروت الجامعة بعد ذلك- في عام 1835 م، كي تبث سموم القومية في العالم العربي، وفي
تركيا، وفي البلقان تمهيدا للقضاء النهائي علي الدولة الإسلامية. وهو ما حدث بعد
ذلك بالفعل.
كانت
الضربات هائلة، ومستمرة، ومخططة، وكان التشويه والكذب سائدين، وكانت أي مقاومة منا
موصومة بالإرهاب، وكانوا يقاتلوننا كافة
وكنا نواجههم قبيلة قبيلة، وبلدا بلدا، تماما علي عكس الأمر القرآني.
كانت بلاد
المسلمين تتفتت، وتتمزق، وكانت الحدود تصطنع، والفتن تزرع، وجيوش المسلمين لا
تحارب إلا المسلمين، و إمبراطورية الشيطان
التي تنقلت عاصمتها من روما إلي لشبونة إلي مدريد إلي باريس إلي لندن إلي
واشنجتن تحاصرنا بلدا بعد بلد، تترك لنا مزقا
مفتتة من الأرض لا نملك سماءها ولا ما تحت أرضها، وكانت تحول الحكام إلي
مروضين للعبيد، والمثقفين إلي قوادين، يدفعون بالأمة إلي الرضا بالاغتصاب، والمذلة، باسم
الحضارة.. الحرية.. الديموقراطية.. العلمانية.. الحداثة.. تحرير المرأة..
حقوق الإنسان.. ومقاومة الإرهاب..
***
نعم
الحضارة..
الحرية.. الديموقراطية.. العلمانية.. الحداثة.. تحرير المرأة.. حقوق الإنسان..
ومقاومة الإرهاب..
كلها
شعارات رفعها كلاب النار حطب جهنم في الجانبين.. جانب الشيطان هناك .. وجانب التحالف
الشمالي هنا.. التحالف الشمالي الذي شكله أعداؤنا في كل بلد من بلادنا..
رفعوها..
رغم أن آية في القرآن الكريم وحديث من الأحاديث النبوية الشريفة كان كفيلا بكشف
الغطاء عن الإجرام الشيطاني الذي يواجهنا الغرب به..
رفعوها ..
رغم أن أقل دراسة للتاريخ – ولا أقول حتى للدين – كانت كفيلة بكشف إجرام الحضارة
الغربية عموما – والحضارة الروسية جزء منها - والأمريكية علي وجه الخصوص..
رفعوها وما
زالوا يحكمون وكأنما لم يقودوا الأمة للكارثة..
رفعوها..
وما زالوا يكتبون .. بل يعهرون..
لكنني ألفت
نظركم يا قراء، أن النخبة المستغربة لم تصل إلي ما وصلت إليه إلا بخيانة الأمة
وخيانة الله..
إذ كلما
كانت خيانة الوطن والأمة أكبر أصبح
الاستقرار في السلطة أطول..
و كلما
تعددت مهارات الواحد منهم في الكذب كلما كان كاتبا أكبر.. وكلما كان ضد أمته أكثر
كان أشهر.. ويكفي أن تفرط فتاة في شرفها كي تكون كاتبة كبيرة.. أما من يصبح شاذا..
فإن كرسي الوزارة ينتظره.
و ألفت
نظركم أيضا يا قراء إلي أن ذلك يتم بعمليات الشراء المباشر.. شراء الذمة والدين..
وكمجرد مثال علي ما أقول.. فإنني أذكر لكم راتب اثنين من الكتاب والصحفيين اللذان
تصديا لنا إبان ما سمي بأزمة الوليمة[7]:
الأول
راتبه 23000 جنيها.. شهريا..
والثاني
12000 جنيها شهريا..
ولا يحسب
في ذلك دخلهم من الصحف العربية والقنوات الفضائية.. وكلها تحت السيطرة!!..
***
هؤلاء و
أولئك فقدوا الحياء فلم يقتلهم الخجل وهم يرون كيف تصرفت راعية الحضارة والحرية
والديموقراطية والعلمانية والحداثة وتحرير
المرأة و حقوق الإنسان في قلعة جانجي .. في شمال أفغانستان . وما حدث في قلعة
جانجي وحدها كان كفيلا بأن يجعل الأعين العمياء تري.. لكنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في
الصدور..
في قلعة
جانجي كان ثمة ثمانمائة أسير.. استسلموا .. كانوا من المجاهدين العرب
والباكستانيين. وكانت أوامر وزير الدفاع الأمريكي: لا أريد أسري!!.
ولتلحظوا
يا قراء أن أهم ما يحاول الشيطان الأمريكي أن يدمره ليس القواعد ولا المخابئ ولا
أسامة بن لادن ولا الملا عمر.. لا.. ليس ذلك.. فما يحاول الشيطان الأمريكي أن
يدمره هو أبعد من ذلك و أكبر..
إنه يحاول
أن يقصف ويدمر آية من آيات القرآن..
نعم..
يحاول أن
يقصف ويدمر قوله تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة" [الأنبياء: 92].
نعم .. ذلك
أول ما يحاول الشيطان القضاء عليه.. كي يكونوا عبرة و آية..
ولهذا فقد
كان الإجرام والهمجية والبربرية والوحشية بلا حدود..
دعونا الآن
من أن حكومات الشعوب الإسلامية هي التي أرسلتهم ودعمتهم..
دعونا الآن
من فتاوى الأزهر والمسجد الحرام والشيخ يوسف القرضاوي والتي صدرت تحثهم علي الجهاد
عندما أمرت أمريكا الحكومات بذلك.. وكيف يسرت هذه الحكومات لهم كل السبل.. بل
وكانت مصر تمدهم بسلاح تدفع السعودية ثمنه.. أما الكويت والخليج فقد حفلت بمظاهر
التأييد والتعبئة والدعم لهم..
كان ذلك في
بداية الثمانينيات بعيد الغزو الروسي لأفغانستان..
وعندما
ذهبوا حاولوا أن يوحدوا بين الأحزاب الأفغانية المتصارعة التي كانت تخوض الجهاد ضد
الاتحاد السوفيتي.. وكانت خمسة.. ونجح
المجاهد المصري كمال السنانيري في أن يجمع قياداتهم في المسجد الحرام في
مكة و أن يأخذ عليهم ميثاقا غليظا في الحرم ألا يختلفوا..
ولم تكن
أمريكا تريد ذلك.. كانت تريدهم فئات متناحرة حتى يسهل عليها بعد ذلك بث بذور
الفتنة بينهم..
وصدرت
الأوامر..
و ألقي
القبض علي كمال السنانيري في مصر..
وفي السجن
..
قتلوه..
***
وجاهد
المجاهدون العرب حق الجهاد حتى اندحر الغزو السوفيتي بل وانهار الاتحاد السوفيتي
كله..
ولو أن ذلك
حدث في بلاد أخري .. لا أقول حتى في بلاد تعبد الله.. بل في بلاد تحترم نفسها
وتحترم البطولة لاحتفلت بهؤلاء الأبطال أيما احتفال..
لكننا
أنكرناهم وطاردناهم حتى انتهي بهم المآل أسري عند الأمريكيين في قلعة جانجي .. في مزار شريف..
***
قبلوا
الأسر تحت الحصار والخيانة و أبشع قصف جوى في التاريخ..
وأوعز
الشيطان للأمم المتحدة أن تعلن أنه ليس لديها إمكانيات لقبولهم كأسري..
وكرر ربيب
الشيطان رامسيفيلد أنه لا يريدهم أحياء.. وصرخت جهات عديدة تحمل أمريكا وبريطانيا
مسئولية تنفيذ القوانين الدولية المتعلقة بالأسري.. وصرح الشيطان الأمريكي أنه لا
يملك قوات لذلك.. كان يملك فقط القوات التي تقصفهم – ولأول مرة في التاريخ يتم قصف
الأسري بهذه الوحشية والهمجية والإجرام-. وكان يملك أيضا القوات الكافية
لاستقبالهم والتنكيل بهم والتحقيق معهم في قلعة جانجي.. ويعلم الله ماذا حدث..
إذ يبدو أن
الاستفزاز كان أقسى من أن يحتمله حتى أسير مقيدة يداه خلف ظهره..
وفضل
المجاهدون الاستشهاد علي أسر كانوا يظنونه طبقا لمواثيق الأمم يحفظ – حتى ولو ذرا
للرماد في العيون- شعار : حقوق الإنسان..
قصفوهم
بالدبابات والمدافع والصواريخ.. قصفتهم البي 52.. فلما لجأ الباقون منهم إلي
السراديب أغرق عبيد الشيطان تلك السراديب بالبنزين ثم أشعلوا النيران..
فلما
انطفأت النيران حولوا مجري نهر علي تلك
السراديب فأغرقوهم..
***
وكان ذلك
هو عنوان الحضارة.. الحرية.. الديموقراطية.. العلمانية.. الحداثة.. تحرير المرأة..
حقوق الإنسان..
ثمة عنوان
آخر يتجسد جليا – أيضا - في مشهدين: مشهد
الغرب محتفيا بنساء كابول مدعيا بهجتهن برجوع مصفف الشعر و أدوات الزينة.. ولطالما
تصايحوا لذلك وهللوا باعتباره رمز حرية المرأة..
أما في
الجانب الآخر من المشهد كان هناك – أيضا – امرأة..
لم يتصايح لها أحد وما احتفل بها أحد بل التزموا
صمت القبور .. كان بيت المرأة الطيني قد تهدم بفعل صاروخ أمريكي.. لم نشاهد البيت
وهو يتهدم.. وما رأينا لحظة العناق الدامي بين الصاروخ والطين.. ولا تهدم البيت
ولا انفجار الدم ولا تناثر الأشلاء وما سمعنا صرخات غوث لا تغاث ولا حتى حشرجة
الموت وشهقته الأخيرة.. وإنما كان ما رأيناه هو مشهد المرأة – واسمها خديجة..
وربما يسعد السفاح رامسيفيلد عندما يعرف ذلك- وقد جمعت خديجة ما تبقي من أثاث بيتها علي عربة يد صغيرة أخذت
تجرجر أقدامها وهي تدفعها أمامها.. فوق الأثاث المحطم كان ثمة قطعة كبيرة من قماش
مهترئ ملفوفة علي شئ ما.. ما يسميه العامة
"صرّة".. وتعثرت القدمان المنهكتان فاختل توازن العربة فسقطت الصرة
وانكشف ما فيها.. وكان ما فيها أشلاء أسرة المرأة.. بقايا أشلاء أبنائها وزوجها..
ولم يصرخ
من أدعياء حقوق الإنسان صوت وما نطق من دعاة تحرير المرأة أحد.. وكانت كاميرات
التصوير مشغولة بالمرأة الأخري وهي تزين أظافرها وتصبغها بالمانكير.. رافعة شعار
تحرير المرأة – بشرط ألا يكون اسمها خديجة – وشعار حقوق الإنسان.
ثمة عنوان
آخر كان في فلسطين حيث صرح بوش بأن إسرائيل أفضل صديق ، هم شعب يحب السلام ، و
احلم به معهم ...
كان حديثه
بالنص:
" فيما يتعلق بي شخصيا، ليس
لإسرائيل صديق افضل من الولايات المتحدة ،
إسرائيل ديمقراطية وتجمعنا بها قيم كثيرة " ، " هم شعب يريد
السلام. انه حلم أتقاسمه معهم " ، " لكن إذا أردنا السلام فمن المهم أن
يساهم جميع المدافعين عن السلام في ضرب الإرهاب وإحالة من يقوم به إلى القضاء
" ... وكان الأطفال يقتلون.. والبيوت
تدمر والمدن تنتهك..
وكان
استعمال الدبابات والـ F16 دفاعا مشروعا عن النفس بينما إلقاء الحجارة
إرهابا.
ما أريد أن أصل إليه يا قراء هو أن بوش – كمجرد
رمز- ليس مجرما بالصدفة.. وإنما هو عريق في
الإجرام.. عراقة لا تتصل بإدارته فقط بل بأمته كلها.. من الجذور .. ومن جذور الجذور..
وليس هذا
الإجرام مفاجئا إلا لمن تعاموا – متعمدين عن قراءة التاريخ..
***
يقول
الفيلسوف الفرنسي رجاء جارودي[8]
أن انحطاط الثقافة ينبع من تاريخ الولايات المتحدة ذاتها ومن تكوينها و أن ما تقود
أمريكا العالم إليه إنما هو إلى نهاية
إنسانية الإنسان وتجريده من أخص خصوصياته أي تسامى المشروع الإنساني والاستسلام
لحتميات اقتصادية كأنها قوانين طبيعية . إنه هبوط بالإنسان ليعيش في غابة الحيوان
حيث ينهش القوى الضعيف . إن ما يميز وحدانية السوق ( الإله الجديد الذي تحاول
أمريكا فرضه علي العالم ) في الواقع هو تلك "الليبرالية الشمولية" ،
وهذا الاحتقار لحرية الإنسان. ولقد أجادت الولايات المتحدة دائما استخدام
الذرائع لتصل إلى ما تريد.. ومن اليسير تعداد الأمثلة لاستخدام
الذرائع والافتراءات ، مثل "مكافحة الإرهاب " ، أو "التدخل
الإنساني" ، أو "حماية حقوق الإنسان " ، لتبرير العدوان المباشر
على الدول ، أو فرض القيود على الاتفاقيات الاقتصادية معها.
نعم..
انحطت الثقافة الأمريكية بمفهوم الإنسان فجعلته مجرد حيوان مستهلك لا غاية له إلا
الاستهلاك. ويفضح ميشيل ألبير في كتابه : "الرأسمالية ضد
الرأسمالية انحطاط الحضارة الأمريكية فيقول : "الواجب الواضح هو استبعاد قضية
الغاية الفلسفية" . وتلك بوضوح هي الغاية النهائية لـ "وحدانية السوق
" ، وذلك بأن "نتأمرك " على الحياة الأكثر زيفا ، ابتداء من الفيلم
الأمريكي الذي بدأ بمطاردة الهنود وانتهى بتدمير العقول ، ومرورا بكل أفلام الغرب
، وأحراش المال ، و"دالاس " ، وكل مناظر العنف ، واللا إنسانية من
"باتمان " إلى "ترميناتور" حتى الموعظة الرمزية التي تعود بنا
إلى عالم " الديناصورات".
ويري
جارودي أن ركائز المجتمع الرأسمالي الذي تقوده اليوم أمريكا وتقود العالم كالسائمة
إليه هي: تجارة المخدرات والسلاح والفساد.
إذ يتساوى حجم تجارة المخدرات ماليا مع حجم تجارة السيارات والصلب داخل الولايات
المتحدة . كما يتزايد الاستهلاك يوميا مع
افتقاد معنى للحياة وتفشى البطالة والإقصاء ، ولأسباب أخرى عديدة[9].
وهكذا ،
فمما له مغزى كبير : أن انتحار المراهقين ترتفع معدلاته في البلدان الأغنى ، كما
في الولايات المتحدة والسويد : ومن ثم ينتحر الشماليون لغياب الغايات ، بينما يموت
الجنوبيون لنقص الوسائل !.
وثمة إضافة
هنا نضيفها إلي جارودي..
وهي أن
الغاية بالنسبة للمسلم تحتل مكانا خاصا لا يقوم بغيرها إسلام.. ألا وهي عبادة
الله.. وإقصاء الغاية يعني فى حقيقته إقصاء الدين. وما تفعله أمريكا ليس ضد
الإسلام فقط.. إنه أساسا ضد عبادة الله.. ولا مانع –مؤقتا – من السكوت عن الإيمان
السلبي به.. أو إيمان الخرافات والأساطير.
إن الإجرام
الأمريكي يتبع نفس المنهج، إنها لا تريد الأفغان العرب أحياء، إذن فهي لا تريد
أسري.. وبنفس المنطق.. هي لا تريد تدينا صحيحا – لإدراكها خطورة مثل هذا التدين
علي منظومتها الفكرية- لذلك فإنها تحاصر المسلمين الحقيقيين كما حاصرت الأفغان
العرب في قلعة جانجى، تحاصرهم ولا تريد منهم أسري. إنها – فقط – تريد أعضاء تحالف
شمالى!!.
والتنويريون
الحداثيون المستغربون في بلادنا يقدمون كل ما تبتغيه أمريكا .. بل وأكثر مما
تبتغيه..!!
***
ويوضح
جارودي أهمية السلاح – بعد المخدرات - بالنسبة لأمريكا، وضرورة استمرار المعارك
الحربية لاستمرار رفاهيتها.. ، فصناعة السلاح وتصديره هي الصناعة الأكثر رخاء: فهي
التي صعدت بأمريكا إلى القمة، وجعلتها القوة العالمية الأولى عقب الحرب العالمية
الأولى . في عام 1945 استولت - بفضلها - الولايات المتحدة على نصف الثروة
العالمية، وتوصلت إلى حل نهائي لأزمتها التي بدأت عام 1929 . وقد فجرت الحرب
الكورية نجاحا اقتصاديا هائلا وجديدا . ومذبحة العراق كانت إكليلا من المجد
وإعلانا مصورا بالحجم الطبيعي والصوت والصورة لمحركات الموت القاهرة والمعقدة،
فارتفعت مبيعاتها ودارت عجلات إنتاجها عقب المذبحة .
بخور آخر
للحضارة الأمريكية الجديدة "وحدانية
السوق" بعد المخدرات والسلاح : وهو الفساد.. وهو في المنهج الأمريكي ليس أمرا
عارضا ولا ضريبة للتقدم.. بل هو عنصر رئيسي لا يمكن لأمريكا الاستمرار بدونه..
ونشر الفساد داخل أمريكا وحول العالم ليس عرضا جانيا للممارسات الأمريكية بل هو
هدف أصيل في صلب النظام..
عرف آلان
كوتا منطق النظام الأمريكي ، فقال :
" لا
يمكن فصل انتشار الفساد عن توسع الأنشطة المالية والإعلامية . فعندما تسمح
المعلومة بتكوين ثروة في بضع دقائق لا يمكن جمعها حتى بعد سنوات من العمل الشاق والمتعب طوال عمر كامل ، فإن إغراء شراء أو بيع هذه
المعلومة لا يقاوم " . ( الان كوتا: "الرأسمالية في كل حالاتها"
الناشر : فايار، 1991 )
وأضاف :
"يلعب الفساد دورا مساويا للخطة". و بعبارة أفضل : في نظام كل شئ فيه
يباع ويشترى ، لم يعد الفساد - بل والدعارة أيضا - شذوذا شخصيا عن قواعد المجتمع ،
بل أصبحا من القوانين البانية للنظام ..
فهل تدرك
الآن أيها القارئ.. هل تعي أن الفساد المنتشر في عالمنا العربي إنما منبعه هو تلك
العلاقة الحميمة مع أمريكا؟!..
يواصل
جارودي:
ذلك أن
انحطاط الثقافة ينبع من تاريخ الولايات المتحدة ذاتها ومن تكوينها، وكل سكان
أمريكا مهاجرون من الخارج ، عدا سكانها الأصليين من الهنود الحمر الذين كانت
ثقافتهم تنظم علاقتهم الاجتماعية ، ولكن راح 85% منهم في الإبادة الكبرى ، كما تم
إقصاء البقية الباقية منهم وتهميشها . وقد جاء سكان أمريكا (أي المستوطنون
الأوروبيون ) بحثا عن العمل وكسب المال أساسا . ومع اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم ،
بين أيرلنديين وإيطاليين وغير ذلك من أجناس وجنسيات مختلفة ، كانت الرابطة الوحيدة
التي ربطتهم جميعا هى ذلك الخيط الرفيع المشابه لما يربط العاملين في المؤسسة أو
الشركة التجارية ، وأصبحت الولايات المتحدة تتبني منظومة الإنتاج التي يقودها
المنطق التكنولوجي والتجاري ، والتي يشارك فيها كل فرد منتجا أو مستهلكا، في غاية وحيدة هي تنمية مستوى المعيشة
كميا .
هكذا كانت
كل هوية ، ثقافية أو روحية أو دينية ، تعتبر مسألة شخصية ، فردية تماما، لا تتداخل
مع مسيرة النظام . الذى شجع على أن يصبح الإيمان عديم الأهمية.
جنون
التأله مرض قديم في الحضارة الأمريكية . فقد كان من مصلحة هذه الحضارة ألا تنافس
قيمها أي قيم أخري من خارجها، ولو كانت هذه القيم قيم الإيمان، ويؤكد جارودى أنه
بالنسبة لهذه الحضارة فقد مات الإله ، و
أصبح على الإنسان أن ينقطع عن كل ما هو مقدس ، وبخاصة هذا الدأب في البحث عن معنى
الحياة الذي يقود بالتبعية إلى الإيمان بالله.
واتسع
المجال بذلك أمام تفشى الخرافات وانتشار الطوائف والهروب إلى المخدرات أو الشاشة
الصغيرة ، بينما غطى كل ذلك صبغة تدعى الدينية وهي "البيوريتانية"
الرسمية أو التطهرية الرسمية ، التي تتعايش مع كل أنواع انعدام المساواة وكل
المذابح والجرائم ، بل وتمدها بالتبرير والغطاء الديني.
لقد اكتشف
توكفيل الحقيقة. وكان أول محلل ومراقب ثاقب البصيرة للولايات المتحدة، ففى عام
1840 ، وفي كتابه الأساسي عن هذه الدولة ، وكانت لا تزال وليدة ، حين قال : "
لم أعرف شعبا مثل هذا الشعب استولى فيه حب المال على قلوب البشر" . . "
إنه شعب من شراذم المغامرين والمضاربين " . واليوم - أيضا - نستطيع أن نعثر
في تاريخ هذا الشعب على أسس انحطاط ثقافته.
***
نعم .. الأمريكيون
برابرة همج كالإسرائيليين.. ولكننا لا
نريد الاعتراف بذلك..
لماذا قلنا
أن الشعب الإسرائيلي مجرم لأنه انتخب الجزار شارون ولا نقول بنفس المنطق أن الشعب الأمريكي الذي انتخب بوش هو الآخر شعب
مجرم؟!
وتماما كما
حدث في فلسطين المحتلة التي لا يعترف فيها اليهود حتى الآن بحدود لدولتهم فإن
الأمريكيين لم يعترفوا بحدود لدولتهم،
وكانت العلاقة مع الآخرين – أيضا – ذات طبيعة خاصة . بدأت أولا بطرد الهنود
للاستيلاء على أراضيهم ووضعهم بين خيارين: إما الإبادة وإما النفي والانسحاب إلى
المعازل . وبعد ذلك كانت العلاقة بين البيض أنفسهم ، خاضعة لأحكام قانون الغاب ،
لنهب الثروات المسروقة من الهنود ، أرضا كانت أم ذهبا. وهكذا تقلص معنى الحياة إلى
هذا التوسع الكمي للملكية وللأرض وكنوزها . وكان "الوست " أو "أقصي
الغرب البعيد" يعنى- باستثناءات قليلة – تقديس هذه الملحمة العنصرية ، وقانون
الأقوى في حرب الجميع ضد الجميع . ولم تلعب التطهرية المسيحية أو البيوريتانية أي
دور سوى دور تبريري لتلك الأفعال والعلاقات الاجتماعية ، بل و المحرك لها !.
وهكذا أصبح
العنف الأكثر دموية ، والتحريض عليه بنفاق المتدينين ، ملمحا دائما في تاريخ
الولايات المتحدة منذ نشأتها . فلقد قدم المتطهرون من الإنجليز الأوائل إلى
الولايات المتحدة، حاملين معهم العقيدة الأكثر دموية في تاريخ البشرية، ومسلحين
بفكرة : "الشعب المختار"، مقننين فكرة الإبادة، وكأنها حسب روايتهم
أوامر إلهية . كانوا يسرقون أراضى الأهالي الأصليين طبقا لتعاليم يهوا "إله
الحرب " في "العهد القديم"، هذا الإله الذي أمر "شعبه
المختار" بإبادة وذبح السكان القدامى في أرض كنعان واغتصاب أرضهم .
وبالضبط ،
فإنه كما سمى الأسبان حربهم لإبادة الهنود في جنوب القارة الأمريكية تبشيرية
"واستند المتطهرون الإنجليز على أوامر "يهوا" بالإبادة المقدسة ، لتبرير طردهم للهنود وسرقه
أرضهم إحياء للعهد القديم . فقد كتب أحدهم : " واضح أن الله يدفع المستوطنين
للحرب ، بينما يعتمد الهنود بعدتهم وعددهم على ارتكاب الخطأ، مثل القبائل القديمة،
يتحينون الفرصة لفعل الشر، تماما مثل قبائل "الأماليسيت " القديمة
والفلسطينيين الذين كانوا يتحدون مع آخرين لقتال إسرائيل ".
وهذا يوضح
فكرة أن الأرض "الموعودة" في فلسطين أو أمريكا ليست سوى أرض محتلة بالقوة! ويوضح أيضا أن
الإجرام طبيعة أصيلة في الشعب الأمريكي كله – كما هو طبيعة في الشعب اليهودى في إسرائيل - .. وهو يقود العالم كله أمامه
للانحطاط..
إن إعلان
استقلال الولايات المتحدة ، في 4 من يونيو عام 1776 ، الذي يعد إرهاصا لـ
"إعلان حقوق الإنسان والمواطن " في فرنسا عام 1789 ، يعطى مثالا صارخا
للنفاق عن الحرية بمعناها الأمريكي . ينص الإعلان في سطوره الأولى على ما يلى :
"لقد خلق الناس جميعا متساوين ، ومنحهم الله حقوقا لا تقبل التنازل عنها ،
كالحياة ، والحرية والبحث عن السعادة" . ومع ذلك . . . . فقد استمرت عبودية
الزنوج مع هذه "الحرية" قرنا من الزمان . وكان لا بد من أن تنفجر حرب
أهلية عام 1865 لإنهاء ما كان يسمى حتى ذلك الوقت "بالمؤسسة الخاصة" (!)
أو "نظام العبيد" . وحتى بعد تلك الحرب لم يكن لهم مكان في المجتمع .
حيث انتقل العبيد الزنوج بمقتضى هذا الإفراج من العمل في مزارع الجنوب بالسخرة إلى
العمل في مصانع الشمال بأجر زهيد أو بمثل سابقه . ثم نشأ بعد ذلك إرهاب المنظمات
السرية ، مثل كو كلوكس كلان . واستبعدت القوانين السوداء العبيد القدامى من الحياة
السياسية ، كما استبعدتهم من الحياة المدنية . واستمر التمييز العنصري حتى يومنا
هذا برغم تضحيات بذلها عظماء مثل مارتن لوثركينج . وكذلك ظهر أبشع أنواع النفاق
فيما يخص الهنود. كما ظهر لأول مرة ما أصبح المبدأ المحرك لكل الاعتداءات
المستقبلية التي ستقوم بها الولايات المتحدة الأمريكية عبر العالم أجمع . ويتمثل
هذا المبدأ في اعتبار كل عدوان أو إبادة تقوم بها الولايات المتحدة نوعا من
"الدفاع الشرعي" .
إن إعلان
الاستقلال ، الذي أقر مبادئ الحرية والمساواة، وصف الهنود بأنهم "متوحشون
بغير رحمة، وسيلتهم المعروفة هى شن الحرب وذبح الجميع " . هكذا تكلموا عن
السكان الأصليين حتى يبرروا مسبقا المذابح ونهب الأراضي، واعتبار تلك الجرائم
البشعة نوعا من "الدفاع الشرعي" . كما لو كان الهنود هم الذين
"غزوا" أراضى المهاجرين ، بينما هؤلاء الأوروبيون كانوا ينهبون أراضى
الهنود ويدمرون حياتهم بصفة مستمرة . ومنذ ذلك الحين ومنذ تلك "الخطيئة
الأساسية" : إبادة الهنود واستعباد الزنوج واستخدام أبواق الإعلام لقلب
الحقائق، منذ ذلك الحين تم وضع حجر
الزاوية الأساسي للسياسة الأمريكية وللثقافة الأمريكية وفي منهج إدارة أمريكا
للعالم. فقد قلصت الإبادة التى قام بها " شعب الله المختار " أعداد
السكان الأصليين من عشرة ملايين[10]
إلى 200 ألف نسمة. وقد شهد توكفيل بربرية المستعمرين ضد الهنود الحمر الذين يملكون
أسلحة لا تتوازن أبدا مع أسلحة الغزاة . ووصف بسخرية لاذعة وإنسانية ذبيحة ، ذلك
النصر الذي حققته " الحرية"
وهذه المسيرة المنتصرة "للحضارة عبر الصحراء" ، بينما في قلب
الشتاء كان البرد قارسا ، وكان ثلاثة أو أربعة آلاف جندي يطاردون السكان الأصليين
الرحل الذين يخطون آخر خطواتهم نحو الانقراض ، وهم يحملون جرحاهم ومرضاهم وأطفالهم
الرضع وعواجيزعم إلى حافة الموت . "مشهد مؤثر" لا يمحى أبدا من
الذاكرة" .
هكذا بدأ
التاريخ في شمال العالم الجديد.
هكذا بدأت
الولايات المتحدة الأمريكية..
قتل وسرقة
ونفاق وكذب وادعاء فاجر بأن الله يبارك كل ذلك..!!..
وبنفس هذا
المنهج أطلقوا على الرئيس بنيامين
فرانكلين في عام 1754 ، اسم "أبو
الأمة" ، لأنه "الرجل"
الذي أزاح الأهالي الأصليين ، ليفسح المجال أمام شعبه . وقد لقن جورج واشنطون نفس الدرس لبعض قبائل
الهنود الحمر ، عندما أمر قواته بتدمير مجتمعهم وحضارتهم . وكانا بمقاييس عام 1779
على درجة من التقدم ، ولم يشهد العالم مثيلا لهذا النفاق والجبن الأخلاقي الذي لقي
ثناء واستحسانا لعدة قرون.
تلك كانت
الخطوات الأولى في إجرام لم يتغير و إنما تعددت وسائل إخفائه والتمويه عليه.
لقد كشف
توماس جيفرسون ما تغلغل في هذا الشعب من
لصوصية و إجرام ليس ضد الهنود الحمر فقط.. بل ضد الرجل الأبيض أيضا.. يقول
جيفرسون : "من الخير أن تبقى القارة
في قبضة العرش الأسباني حتى تكتمل لشعبنا القوة ليأخذها منه قطعة بعد قطعة".
***
ما تفعله
أمريكا ليس جديدا عليها.. و إنما هو جوهر الحضارة الغربية التي حملته معها من
أوروبا.. كل شئ كذب وكل شيء خداع ولا جريمة محرمة في سبيل المكسب.. والآخر دائما
كومة من القش ..( نفس ما يحدث الآن لإخوتنا في أفغانستان وفلسطين).
ففي
بريطانيا استند آدمز إلى نفس النهج حين
حاولت الصين وقف تصدير الأفيون عن طريق الهند ، وهي المحاولات التي فجرت حرب
الأفيون ، واستخدمت فيها إنجلترا القوة ، لدحر مقاومة الصين للمبادئ
"النبيلة" لحرية التجارة . بينما وصف آدمز محاولة الصين لوقف إغراق
بلادها بالأفيون بأنها ضد الطبيعة، ومحاولات تعارض طبيعة الأشياء!.
ثم يأتي
بعد ذلك ودرو ويلسون ليحدد "مهمتنا الخاصة" بأنها "تلقين " كل
شعب مستعمَر : "النظام وضبط النفس (!) والتدريب على القانون والطاعة " .
ومعنى ذلك
من الناحية الواقعية : " الخضوع لحقنا في استغلالهم ونهبهم " .
ويشرح ودرو ويلسون في نص خاص الدور الذي تقوم به
سلطة الدولة في هذا "المشروع" : بما أن التجارة لا تعرف حدودا قومية،
وبما أن المنتج يحتاج إلى العالم ليصبح بأجمعه سوقه التجارى، فلابد إذن من أن يسبقه علم بلاده ، حتى يوفر له
فرصة اختراق كل الأبواب المغلقة. ولابد أن يحمى رجال الدولة الامتيازات التي يحصل
عليها رجال المال، حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سيادة الأمم التي تحاول التصدي لذلك
. يجب إقامة المستعمرات أو ضمها حتى لا نترك أي ركن في العالم. هذه المذكرات
السرية توضح المعنى الحقيقي لمثل ويلسون العليا في الحرية والحكم الذاتي. وهى
المثل العليا التي يثرثر بها كثيرا مثقفو الغرب .
وقد شرح
وزير خارجية ويلسون ، روبرت لانسينج ، معنى " مبدأ مونرو" في مذكرته
التي اعتبر نشرها خطأ ، وإن كان لا يشك في صحة حججه ، جاء فيها : " تدافع
الولايات المتحدة عن مصالحها الخاصة، حين تدافع عن مبدأ مونرو، لأن سلامة بقية
الأمم الأمريكية ثانوية بالنسبة للولايات المتحدة، ولا تعتبر هدفا في حد ذاته .
وبرغم أن ذلك يبدو في منتهى الأنانية، فإن مؤسس هذه العقيدة لم يكن لديه أي دوافع
أخرى أكثر عمقا، أو اكثر كرما لتقديمها" .
إن دراسة
الجذور المؤسسة للأسطورة الأمريكية وسياستها الخارجية ، تؤكد أن تلك الجذور لم
تتغير منذ قرنين من الزمان.
نعم..
الإجرام أصل أصيل عريق..
ليس في
جورج بوش ولا في إدارته.. و إنما في الشعب الأمريكي إلا من رحم الله..
تاريخ
الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر هو في الأساس تاريخ القضاء على الهنود. من
عام 1800 حتى عام 1835 ، أبعدت تلك القبائل لما وراء الميسيسبى عبر ظروف انتقال
وإقامة تعد أحلك صفحة في التاريخ ، وتفوق
سوء الحال الذي أحدثه التهجير الهتلرى . وبعد عام 1840 وإنشاء ومد السكك الحديدية
، أجبر الهنود على ترك آخر أراضيهم ليستقروا في المعازل المشابهة للحظائر
الحيوانية . وأدى هذا الصراع إلى موت الملايين ، لأن المقاومة المسلحة للهنود لم
تنته إلا بذبح زعيمهم " ومنددني في عام 1890.
***
هل أدركتم
يا قراء حجم الخطر الذي تمثله تلك القوة الحمقاء الشرسة المجرمة الهمجية البربرية
علي العالم .. وعلينا..
قوة
الولايات المتحدة الأمريكية والقطيع الذي تسوقه..
نفس ما فعله
التتار في العالم.. ونفس ما فعلوه في الخليفة العباسي حتى برغم استسلامه .. لأنهم
رأوا أن مجرد وجوده سيشعل الجهاد من جديد..
***
لقد طرحت
أحداث الشهور الأخيرة من العام الأول في القرن الحادي والعشرين الأمر كما لم يطرح من قبل أبدا..
كان الغرب بمنهجه
المجرم ووسائله الباطشة يخفي جزءا من الصورة دائما ويبث الشك فيما عداها.. حتى
جاءت تلك الأحداث لتظهر الصورة كاملة كما لم تظهر من قبل..
إن
الحداثة، وعبادة الدولار والذهب، هما دين الولايات المتحدة الأمريكية الذي تحاول
ببطشها وقهرها جر العالم إليه..
يقول جارودي :
تعنى
"الحداثة" النسيان والازدراء والجهل والصبيانية لصالح الجهل والأمية
الثقافية والجاهلية الميكانيكية والمعلوماتية. إن المهمة الأولي للمثقفين هي كشف
الأكاذيب التي تسود المراجع المدرسية ووسائل الإعلام، وهما اللذان يخدمان الغرب
للإبقاء علي هيمنته بأيديولوجيات مغالطة عن حداثته.." ..
ثم يؤكد:
" وليس ثمة افتراض واحد عن تلك
الحداثة المزعومة لا يعد افتراء وكذبا، وأولها تلك المزاعم عن الديموقراطية ،
وحماية حقوق ا لإنسان والحرية " .
لقد
أعلنت أمريكا ومن يسير في ركابها من أتباع
الدين السري الجديد الذي يسميه جارودي
"وحدانية السوق "، و أسميه أنا: " عبادة الشيطان " ..
أعلنت حربا حقيقية علي الدين ، مع تحويل
كل ما يخالف ديانتهم إلى شيطان . وبغض النظر عن المميزات والحسنات أو الجرائم
والأخطاء والمزايا ، فإن كل من خالف معبودهم وهيمنتهم أصبح هتلر جديدا سواء كان
أصوليا أو عراقيا أو حتى معارضا من بيرو.
نعم..
أمريكا تقود العالم إلي عبادة الشيطان..
والجريمة
ليست جريمة فرد ولا إدارة ولا فئة.. الجريمة جريمة الشعب الأمريكي كله..
قد يقول
البعض – وقد أوافقهم – أن بعض الشعب الأمريكي ودود.. و أن صفاته الخلقية في
التعامل بين الأفراد صفات طيبة..
وقد يقول
البعض أن الشعب الأمريكي يجهل ما يدور في العالم حوله.. وقد أصدق من يقول ذلك..
لكنني في
نفس الوقت.. أعقب علي هذا وذاك.. أقول أن الود الذي يزعمه البعض هو ود مصنوع..
فالقيم الإنسانية لا تعرف التجزئة.. كما أن تفسير الحداثة للقيم هي أن تكون نسبية
ومتغيرة.. والقيم لا يمكن أن تكون قيما إلا إذا كانت مطلقة.. وبعبارة أخري فإننا
نعني بالنسبي: البشري ونعني بالمطلق: الإلهي.. إن الكذب يظل في القيم المطلقة كذبا
دائما حتى لو نجاك من الهلاك أو أتي إليك بثروة قارون.. بينما هو في القيم النسبية
يكون خيرا أو شرا حسب الظروف المتغيرة.. إننا علي سبيل المثال عندما نتحدث عن درجة
حرارة معتدلة أو عالية أو منخفضة فلابد أن
يكون مرجعنا شئ ما.. فهي معتدلة للإنسان مثلا.. فإذا نحينا الإنسان سقط المعني علي
الفور.. فالحرارة المعتدلة في الشمس بضعة آلاف درجة وفي القمر عدة مئات..
نعم.. ليس
هناك أي معني للقيم ما لم تنسب إلي الله.
في كتاب
بالغ الأهمية للدكتور عبد الوهاب المسيري[11]
يقول:" … والنسبية بدأت تستشري في بلادنا أيضا . ويلاحظ أن كثيرا من المثقفين
اليساريين ممن اكتسحتهم النسبية تخلوا عن عقيدتهم الثورية وعن الإيمان بمقدرة
الإنسان على التجاوز( فالتجاوز يفترض اختيارا ، والاختيار يعني مفاضلة ، والمفاضلة
لابد أن تستند إلى معايير ثابتة) وأصبحوا من دعاة الأمر الواقع والتطبيع وقبول ما
هو قائم ، أي أصبحوا من عمد الرجعية الصلبة. ولكن ، وهذا هو الغريب، يوجد فريق لا
يزال متمسكا بقيم مثل الخصوصية القومية المستقلة وضرورة مقاومة إسرائيل، ومع هذا
تجده ينطلق من الإيمان بنسبية كل الأشياء ، فمثل هؤلاء غير مدركين أنه إذا كانت
حقا كل الأمور نسبية (كما يدعون ) فلا سيل لتفضيل شيء على آخر، فالتغير يكتسح كل
شيء في طريقه. فالالتزام في الأدب مثلا يفترض وجود قيم إنسانية ثابتة، لابد أن
يدافع عنها الأديب الملتزم ، فإن كانت كل الأمور نسبية ، فالالتزام يصبح مساويا
لعدم الالتزام، والدفاع عن الإنسان يصبح مثل الهجوم عليه. وقد حضرت ندوة عقدت ضد
التطبيع حضرها ممثلو الأحزاب المصرية، بما في ذلك اليساريون، الذين قدموا ورقة عن
الهوية المصرية قالوا إنها كانت فرعونية ثم قبطية ثم عربية ثم حديثة!. وقولهم هذا
يؤكد الصيرورة المستمرة، بل وتنتهي الهوية بشيء عام لا لون ولا طعم ولا رائحة له
يسمى "حديثة" . فأشرت إلى أنه مع هذه التغيرات المذهلة لم لا نتصور تحول
هذه الهوية إلى هوية شرق أوسطية، كما ينادي الصهاينة! أليست كل الأمور نسبية؟
أليست كل الأمور متساوية ؟ فاستشاط كاتب الورقة غضبا، وأصدر أصواتا عصبية حيث كان
يجلس"..
النسبية
إذن وجه من وجوه الكفر.. بل أبشع وجوهه..نعم.. تعني الكفر بكل شئ.. بالله
وبالأنبياء والكتب المقدسة والأحاديث النبوية الشريفة.. ولا يقتصر الأمر على ذلك..
لأنها تعنى أيضا الكفر بالقومية والوطنية وبأى مرجعية على الإطلاق.. فهى كفر
مطلق. والغريب كما قال الدكتور المسيري أن
الكثيرين من المثقفين في بلادنا – اليساريين على وجه الخصوص - يتبنونها ثم يدعون أنهم مسلمون مؤمنون بل
يتصدون للمسلمين والمؤمنين كى يعلموهم فقه دينهم. كما يدعون أنهم وطنيون يكرهون
إسرائيل.. أو يدعون أنهم ضد الشذوذ الجنسي.[12]
وهنا أريد
أن أركز علي معني هام لا أريد أن أستطرد فيه كثيرا: وهو أن نسبية القيم تعني في
النظرية الأصلية كما هي في الواقع والتطبيق: انعدام القيم.. و أن هذا هو نفس معني
الحداثة، وما بعد الحداثة، فكل هذه المسميات فى النهاية – كالعلمانية والماركسية-
كفر.
ولعلي أذكر
القراء بأحد تصريحات بوش في يوم 11 سبتمبر حين قال: إنهم ضد حداثتنا.. والواقع
أننا فعلا ضد الحداثة – وأنبه القارئ إلي الاختلاف الكلي بين الحداثة والتحديث-
لكننا لا نتدخل في أمرهم في بلادهم.. هم الذين يحاولون إرغامنا علي الكفر تحت اسم
الحداثة. ولقد بدا ذلك بفظاظة في انتقادهم للتعليم الديني وخطباء المساجد في مصر
والسعودية والباكستان، كما تبدي رد الفعل بمنع خطباء المساجد من الدعاء للمجاهدين
في أفغانستان.
نحن لا
نريد إرغامهم علي الإيمان..
هم الذين
يريدون إرغامنا علي الكفر..
ننتقل إلي
النقطة الثانية.. ذلك أن جهل الشعب الأمريكي
بما يدور حوله – وهو في الغالب
بسبب تصرفات بلاده ومحاولتها أن تهيمن علي العالم – هو جهل متعمد.. كتعمد
أسرة ألا تسأل ربها عن مصدر أمواله لأنها في الوعي أو حتى في اللاوعي تدرك أنه مال
حرام.. حصيلة السرقة وملوث بالدم.. أو كتعمد أب ألا يسأل ابنته عن الجواهر التي
تزين جيدها ويديها.. لأنه يعلم في الوعي أو اللاوعي أنها نتاج الدعارة..
يقول
جارودى عما فعلته أمريكا بنفسها وبالعالم : " حولت كل شئ إلي دعارة"..
ولكم هو
مصيب..!!
كل شئ..
فتاريخ
الولايات المتحدة هو تاريخ سرقة أوطان و إبادة شعوب واسترقاق البشر الذين قامت علي
أكتافهم أسس النهضة الشيطانية..
السرقة والقتل
والنهب والاحتلال والكذب وازدواج المعايير صفات أصيلة في الشخصية الأمريكية.
في نيويورك
، وحسب إحصاءات الشرطة ، يقع هناك حادث قتل كل أربع ساعات ، واغتصاب كل ثلاث ساعات
، واعتداء كل ثلاثين ثانية . وبرغم كل ذلك ، فإن نيويورك لا تتبوأ سوي المكانة
العاشرة ضمن مدن الولايات المتحدة بالنسبة لانتشار الجرائم . وفي عام 1998 ، تم
إحصاء 21000 جريمة قتل في سجل الولايات المتحدة الأمريكية . واليوم هناك أكثر من
مليون أمريكي في السجون ، وأكثر من ثلاثة ملايين آخرين تحت المراقبة القضائية .
أربعة
ملايين .. هم الذين لم يستطيعوا الإفلات من القانون..!!
وفي تقرير
صدر عن "صندوق حماية الأطفال" –
المؤسسة الرئيسة لحماية الأطفال في الولايات المتحدة – رصد الخط البياني الصاعد
بلا توقف للأطفال والمراهقين المقتولين بالأسلحة النارية : " منذ عام 1979
وحتى عام 1991 قتل ما يقرب من 50ألف أمريكي أقل من تسعة عشر عاما (9 آلاف أقل من
أربعة عشر عاما و 40 ألفا بين خمسة عشر وتسعة عشر عاما)، قتلوا برصاصات أو حوادث
أو جرائم متشابكة . في خلال الفترة ذاتها، نجد أن عدد المحتجزين لارتكاب جرائم قتل
وذبح ممن هم دون سن التاسعة عشرة قد تزايد بنسبة 93% " . وحسب ما ورد في
التقرير ذاته ، فإنهم في الأغلب الشباب الذين يقتلون أو يصيبون شبابا آخرين.
كما سجل
عدد القضاة الذين ثبتت إدانتهم في قضايا
الرشوة والغش الضريبي بين عامي 1980 و1990 رقما قياسيا فاق عدد الذين أدينوا للسبب ذاته خلال الـ190 عاما الأولى من تاريخ
الولايات المتحدة الأمريكية.
إن خمسة
عشر مليون أمريكي يعملون في صناعات السلاح والأنشطة المتعلقة بها، وهذا الرقم يزيد
عن ربع القوة العاملة في المجتمع الأمريكي، والذين يمكن أن يتضرروا بشدة ما لم تكن
هناك حروب.. فهل يختلفون عن أكلة لحوم البشر؟.
إدارة
مجرمة لشعب ليس بريئا ولا يمكن أن يتوب.. فبدون القتل والسرقة والهيمنة لا يستطيع
أن يعيش في المستوى الذي اعتاد عليه.
ما أقوله
عن قيام أمريكا بمحاولة الهيمنة علي العالم كي تستمر في نهبه تحت شعارات أخلاقية
ليس مجرد تكهنات.. بل إن التقارير الأمريكية التي يكشف عنها بمقتضى قانون تداول
المعلومات – بعد منع نشرها فترات يطول بعضها إلي ما يقرب من مائة عام كما في قضية
اغتيال كينيدي- تقر بذلك. يقول تقرير
منها:
"نحن
نملك حوالي 50% من ثروة العالم ، غير أننا نمثل 6% من سكانه فقط . . وفى مثل هذا
الوضع ، لا يمكن تجنب أن نكون هدفا للضغينة والغيرة . فمهمتنا الحقيقية، في الفترة
القادمة ، هي تطوير نظام علاقات يسمح لنا بالحفاظ على هذه المكانة ، دون تعريض
أمننا القومي للخطر . ولتحقيق هذا علينا
أن نتخلص من أي رومانتيكية ، وأن نكف عن الحلم ، مع البقاء متيقظين . ويتعين أن
يكون كل تركيزنا منصبا على أهدافنا القومية المباشرة والفورية ، وألا يصيبنا
الغرور . ولا يمكن أن نسمح لأنفسنا اليوم باتباع رفاهية حب الغير والخير على
الصعيد العالمي . وينبغي أن نتوقف عن الحديث عن أهداف كبيرة غير محددة فيما يخص
الشرق الأقصى ، فهو غير قابل للتنفيذ ، وكذلك حقوق الإنسان ، ورفع مستوى المعيشة ،
وإرساء الديموقراطية . ولن يكون بعيدا اليوم الذي سيكون علينا فيه استخدام
القوة" .
إن
الولايات المتحدة تعيش أعلى بكثير من إمكاناتها : فاستغلال العالم يتم على نفس
النحو الذي تمت به مجازر الهنود ، كما لو كانت مذابح الهنود الحمر لم تكفها .
والولايات المتحدة الأمريكية هي الدولة الأغنى رسميا في العالم ، ولكنها في الواقع
أكثر دولة مدينة -أيضا - بما يقدر بـ 3500 مليار دولار من الدين الخاص ، ومبلغ
مماثل من الدين العام ، وهذا يعنى ما يساوى ثلاثة أضعاف ديون كل دول العالم الثالث
مجتمعة .
نعرف
ونعترف ونقر أن الشعب الأمريكي شعب مجتهد.. لكن تراكم الثروة بهذه الطريقة ليست
نتاج اجتهاده بل حصيلة نهبه وسرقاته، وتوظيف آلته العسكرية الجبارة في دعم هذه
السرقات وحمايتها.
وكانت
دائرة الشيطان مغلقة، فكل حلقة فيها تؤدى إلي الأخرى.. وبلا نهاية.. فالحفاظ علي السرقة
دون حساب ودون عقاب كان يستلزم دائما الحفاظ علي أقوي جيش في العالم.. والحفاظ علي
أقوي جيش في العالم يتطلب استثمارات هائلة.. والاستثمارات الهائلة تتطلب سرقات
هائلة – فضلا عن ضرورة وجود مبرر قوي يقنع الشعب الأمريكي بتخصيص هذه المبالغ
الهائلة التي تستقطع للجيش-.. لكن.. لا الإدارة تستطيع مواجهة الأمة بأنها أمة من
اللصوص ولا الأمة الأمريكية قادرة علي أن تواجه نفسها بذلك .. فالمواجهة تتطلب
قرارا.. والقرار إما أن يكون توقفا عن السرقة وتخليا عن نمط حياة يعبدونه من دون
الله أو اعترافا أمام العالم بأنهم شعب مجرم
ولص.. ذلك الاعتراف الذي سيشكل – رغم القوة الجبارة – ضربة قاتلة لبريق المشروع
الأمريكي.. لذلك لم يكن أمامهم من سبيل إلا الكذب والتزييف والخداع.. كذب كلي
شامل.. كذب لا يقتصر علي تزوير وقائع الحاضر.. بل يعيد كتابة التاريخ البشري كله
مزورا.. ومن خلال هذا التاريخ المزور.. يمكن الكذب ليس علي الناس فقط.. بل علي
الله.. كما يمكن تقديم الدين والمتدينين
في صورة مشوهة مقززة تدعو للاستهجان والازدراء.. صورة الخرافات والأساطير..
وهنا تتقدم الحداثة علي هذه التربة الممهدة لها منادية بالانفصال عن الماضي كله
وابتداع قيم حداثية جديدة.. لكن تدعيم
الكذب يحتاج إلي الكذب باستمرار.. كما يحتاج إلي إخراس كل صوت يكشف ولو نزرا يسيرا
من الحقيقة في أي بقعة من بقاع العالم.. لا بد إذن من قمع هذه الأصوات.. من
إخراسها.. من إغلاقها كما أغلقت صحيفة الشعب .. أو قصفها كما قصف مكتب الجزيرة في
كابل ومحطات الإرسال التليفزيوني في فلسطين ، والحرب بالنسبة لأمريكا ليست معركة
أو عدة معارك تنتهي بالانتصار.. بل هي سلسلة متشابكة لا تتوقف أبدا.. ومن المحتم
قبل نهاية كل حرب أن تكون الحرب التالية جاهزة.. ممنوع وخطير ومدمر أن نترك للعالم
فرصة لالتقاط الأنفاس و إلا فكر في أمره وتدبر.. وحينها يمكن أن يكتشف الحقيقة..
حقيقة الشيطان الذي أصبح الأمريكيون عبدته ومريديه وجنوده.. لذلك كله كان لابد أن يكون هناك عدو دائم..
عدو خطر.. يهدد الولايات المتحدة ذاتها .. لذلك فإن مواجهته نوع من الدفاع الشرعي
عن النفس.. من أجل ذلك اقتنعوا و أقنعوا شعبهم أنه يجب الحفاظ على وضع القوة الهائلة الخاصة بهم
مهما تكلفت وذلك لتخليد الهيمنة عبر إيقاع
الهزيمة بأعدائهم بأسلوب مدمر وقوة عسكرية تكفى لردع أي أمة أو مجموعة من الأمم
تفكر في تحدى إرادة الولايات المتحدة أو
الاعتراض علي هيمنتها وسرقاتها. حتى الاعتراض بالكلمة. ليس هناك حياد.. إما معنا
أو علينا.. وقد كتب بول نيتز – أحد كبار
المخططين الأمريكيين في الخمسينيات- في خطة "الصقور ": "إن الولايات المتحدة تملك لاشك قوة
عالمية لذلك وجب نصب عدو شامل وتحويله إلى شيطان بطريقة تبرر أي تدخل أو اعتداء من
قبل الولايات المتحدة، واعتباره رد فعل دفاعيا لتهديد شامل تعرضت له مسبقا، دفع
بها لاتخاذ هذا الإجراء" .
لقد كان انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 ، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي في
عام 1989 ورطة للولايات المتحدة، فقد وضعها ذلك أمام المشكلة الصعبة، وهى تبرير
استمرار سياسة التسليح أمام شعبها، إذ إن تلك السياسة هي أحد العناصر الأساسية
وغير المستغنى عنها في دائرة الشيطان.وكان يجب إذن البحث عن بدائل
"لإمبراطورية الشر".
وكالزارع
الماهر – علي اعتبار أن الشيطان ماهر-
فإنه يحتفظ في مخازنه دائما برصيد من البذور كي يزرعها فصلا بعد فصل و عاما
بعد عام .. قد تختلف الظروف والأحوال والمناخ ومتطلبات السوق فيغير موعد زراعته أو
يقدم زراعة محصول ويؤجل زراعة محصول آخر حتى الوقت المناسب.
من هذه
البذور كانت هناك بذرة جاهزة في المخازن.. كانت موجودة منذ زمان طويل جدا..
توارثوها قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وانتقلت من عاصمة إلي عاصمة ومن بلد إلي
بلد.. تغيرت الأسماء وتغيرت الدنيا لكن البذور ظلت كما هي.. منذ مؤتة وأجنادين
وأوربيان الخامس والحروب الصليبية.. في نهاية السبعينيات من القرن الماضي أخرجت
البذور من مخازنها.. وراحوا يتداولون الأمر في دهاليز المخابرات الأمريكية..
ووضعوا لأول مرة في التاريخ أسماء لهذه البذور.. "كالإرهاب "
و"التأسلم".. بدءوا ينشطون هذه البذور كالزارع حين يشتل.. ثم صدروا هذه
الشتلات إلي عملائهم من الحكام والنخبة المثقفة .. ولا أقول أنهم ابتلعوا الطعم..
وليته كان طعما.. إذن لاكتشفوه ذات يوم وتغيروا.. لكنه بالنسبة لهم كان جزءا من
عملهم ومن مناصبهم التي لم يوضعوا فيها
إلا للقيام به.
ورعت
الأنظمة العربية والإسلامية هذه الشتلات.. و أخذت أجهزة الإعلام تهاجم التأسلم
والإرهاب. وعبر عمليات معقدة متشابكة .. بل شديدة التعقيد والتشابك استطاعوا توجيه
الأمور في الاتجاه الذي يريده سادتهم.. تماما كالقنوات التي يحفرونها كي تسيل
السيول فيها.. علينا أن نتأمل هذا التشبيه جيدا.. فالناس لا يخلقون السيول ولا
ينزلونها من السماء.. لكنهم يستطيعون التحكم في مسارها.. وهذا بالضبط ما فعلته
الولايات المتحدة – والغرب كله- في كثير من الحركات الشعبية والإسلامية التي نهضت
لكي تقاوم الانهيار.. فقام الغرب بحفر الحفر والمسارات لها، فتغير المسار و أسن
الماء.
تم التوجيه
وراحت الأمور تتداعى والوكلاء ونخبة المثقفين المنحرفة تمهد التربة وتشق "
المخرّات" للسيول..!!...
في بداية
الثمانينات كان الاتحاد السوفيتي لم يتفكك بعد.. ولا كانت شتلات الشيطان أينعت
بالقدر الكافي لخداع المسلمين بأن الحملة ليست ضدهم.
كانت هناك
بالطبع أصوات أدركت الخطر منذ زمان طويل جدا لكنها كانت محاصرة لا يصل صوتها إلى
عامة المسلمين.. وقد تكفلت النخبة المثقفة الرسمية بهذا الحصار.. تماما كما حاصر
الخونة من التحالف الشمالي في أفغانستان الأبطال المجاهدين.. تماما.. وكما أطلق
الغرب علي حثالات التحالف الشمالي من الخونة والمرتشين وقطاع الطرق وتجار المخدرات اسم المجاهدين و أطلقت على المجاهدين
الحقيقيين اسم الإرهابيين فقد أطلقت على النخب المثقفة المستغربة اسم المثقفين..
الذين قاموا يدعمهم الإعلام الوطنى والعالمي بتسمية علماء الأمة الذين يحملون
ثقافتها الحقيقية بالمتطرفين والإرهابيين والظلاميين والمتخلفين والمتأسلمين.
وكانت
الفترة فترة قلق بين الانتهاء من حرب أوشكت علي نهايتها( ضد الشيوعية ) والتمهيد
لحرب توشك أن تبدأ ( ضد الإسلام).
وفي فترة
ما بين الحربين تلك كان لابد من بذر الحقل بزراعات مؤقتة .. لذلك برز كل من "الحق في التدخل الإنساني"
أو "حماية الحقوق " أو "حرب المخدرات " .
وأصبحت إمبراطورية الشر الجديدة ممثلة بعد ذلك
في العراق، التي استعملت أمريكا ضده كل قواتها المسلحة، في الوقت الذي تستخدم فيه
الفيتو التي تملكه لمنع إدانة الجرائم الوحشية التي ترتكبها إسرائيل. لكن الحرب مع
العراق كانت أصغر من أن تمثل الوقود الدافع لعربة الشيطان والسرقة والنهب و إقناع
الشعب الأمريكي بمواصلة الإنفاق علي الآلة الحربية خاصة بعد أن هزم الأعداء جميعا.
كان لابد
للهدف أن يكون كبيرا باتساع العالم..
وكان لابد
للزمن أن يكون غير محدد..
وكان لابد
من خلق إمبراطورية شر جديدة..
وتماما.. كما
يفعل الزارع.. تم اقتلاع المحصول المؤقت المزروع: "الحق في التدخل
الإنساني" أو "حماية الحقوق " أو "حرب المخدرات ".. وزرع
المحصول الجديد : الإرهاب الإسلامي..!!
ولعل
القارئ يلاحظ أنهم في بداية حربهم تلك ضد الإسلام
.. في أفغانستان.. قد استعانوا أول ما استعانوا بالمجرمين وقطاع الطرق
وتجار المخدرات..!!..
ويبرر
الأمريكيون الأمر لأنفسهم بأن "إمبراطورية الشر" لابد أن تسحق حتى تعود إلى العصر الحجري، تماما
كما يقتنع كل قرصان وقاطع طريق بضرورة قتل ضحيته كي يتمكن من سلبه.
تحاول
الولايات المتحدة أن تكون ممثلة الله على
الأرض طبقا لثلاث خصائص رئيسية ، من صفات الله : امتلاك كل العلوم والقوة الشاملة
، والإحسان . بالتالي يعنى هذا رقابة إليكترونية على العالم ، وعلى الذين يشك في
كونهم ممثلي الشر وحملته . وتستأثر الولايات المتحدة لنفسها بمعرفة من يدخلون تحت
هذا التصنيف . فلا توجد محاكمة لهم ، بما أن الولايات المتحدة تحتكر مسألتي الثواب
والعقاب ، بالإضافة لحق الادعاء . هكذا تمارس هيمنة ثقافية وتمتلك قوة اقتصادية
وعسكرية تحت إدارة البنتاجون وجهاز الاستخبارات لتنفيذ أحكامها.
***
سيطر
الشيطان علي الولايات المتحدة الأمريكية وتقمص روحها : و أنا هنا أقصده بمعناه
الغيبي المادي ( فالشيطان رغم الحداثة موجود )
كما أقصده بمعناه المعنوي المجازي.. ثم أن هناك شياطين الجن والإنس..
وبدلا
من أن تحدد الإنسانية اتجاه القوة
راحت القوة تحدد اتجاه الإنسانية.
ربما يكون
الشعب الأمريكي شعبا جاهلا لم يدرك ذلك.. لكن طلبة فرنسا أدركوا بصيصا من
الحقيقة في تظاهرات عام 68: فرفعوا لافتة
علي كليات العلوم الإنسانية ووضعوا مكانها لافتة
مكتوب عليها: كليات العلوم اللا إنسانية.!!..
تاريخ
الولايات المتحدة والغرب كله معها سلسلة من الأفعال اللا إنسانية.. من الأفعال
الإجرامية.
فلم تكن
كوريا أو فيتنام مثلا دولتين غازيتين للولايات
المتحدة، بل كانت الولايات المتحدة هي الغازية . وعلى بعد أكثر من عشرة
آلاف كيلومتر من حدودها ، أعلنت الولايات المتحدة أنها في حالة دفاع شرعي !.
لقد قتل
الأمريكيون – بالقصف الجوي – 135000 قتيل في مدينة دردسن دون أن تكون هدفا عسكريا
. وكذلك هيروشيما التي قذفت بقنبلة ذرية في 6 من أغسطس عام 1945 أسفرت عن 160000
إصابة . . . ونجازكي عرفت نفس المصير بعد
ثلاثة أيام من الأولى ، برغم أن اليابان كانت في طريق مفاوضات الاستسلام . وانفجار
زورق حربي أمريكي في ميناء هافانا خافانا الحجة للحرب ضد الأسبان ، فقدوا بمقتضاها
بورتوريكو والفليبين وكوبا . وكان مجرد اشتباه في المجاهد أسامة بن لادن كافيا
لتدمير دولة.. مجرد اشتباه لم تقم عليه أي دليل. .
وليست هذه أول مرة تدبر فيها قوى متآمرة حادثا
من هذا النوع لتستغله في التنكيل بخصومها أو تنفيذ مخططها المعد سلفا ، منذ حادثة
المالطي والحمار التي اتخذها الأسطول البريطاني المصوب مدافعه مبررا لضرب
الإسكندرية 1882 واغتيال السير لي ستاك سنة 1924 التي استغلها الإنجليز لتمهيد
التربة وزرع نوع من أنواع البذور مكنهم من تقديم مطالبهم المعدة سلفا ، و إطلاق
النار على السفير الإسرائيلي في لندن لتبرير احتلال بيروت.
نعم..
قوة متآمرة
تدبر حادثا لاستغلاله..
هذا تماما
ما أريد أن أصف به أحداث 11 سبتمبر..
قد يعترض
البعض وقد يستنكر.. وهؤلاء لا آبه لهم.. لأنهم هم الذين واصلوا خداعنا عندما صرح
بوش أنها حرب صليبية فراحوا هم يصرخون : إنها ليست صليبية.. وأخذوا يدافعون بأنها
زلة لسان .. فلما فصل بيرلسكوني[13]
في الأمر أصابهم الخرس.. وهؤلاء لو أتيت لهم باعتراف مكتوب من منظمة أمريكية أو من
الموساد والسي آي إيه بأنها هي التي ارتكبت الحادث سيصرخون أنني زورت هذا
الاعتراف.. فإذا عدت و أحضرت لهم اعترافا ممهورا بالتوقيعات والأختام الرسمية
سيصرخون أنها " زلة توقيعات" و أنهم لا يقصدون ما وقعوا عليه.. تماما
كما قالوا أن بوش لا يقصد أنها حرب صليبية.
لكنني لكم أنتم يا قراء أقول لكم، أنني فضلا عن
الأدلة التي سقتها قبل ذلك أملك دليلين آخرين على قيام تنظيم من قلب حضارة الشيطان
بأحداث 11 سبتمبر ..
***
الدليل
الأول هو الحداثة..!!..
نعم..
الحداثة.. حيث لاقيمة ثابتة ولا مبادئ ثابتة ولا أخلاق ثابتة ولا معايير ثابتة وكل
شئ متغير بتغير الظروف وكل شئ ممكن..!!.
لقد اهتم
الجميع بكلمات بوش عن الحروب الصليبية.. وكلمات بيرلسكوني عن الإسلام لكن أقل القليلين من انتبهوا لكلمات لا تقل
خطورة انطلقت من بوش وكيسنجر ووزير الثقافة الفرنسي وعشرات غيرهم.. من أن المسلمين
( المتخلفين الهمج) ليسوا ضد أمريكا بل ضد الحضارة الغربية.. ضد الحداثة..
الحداثة..
إنني أرجو القارئ أن يصبر على جفاف الفقرات
التالية، فهي ليست خروجا على سياق الموضوع بل هي صلبه ونخاعه، إنني لا أبدأ الحديث
عن الحداثة من الصفر و إلا لكان الأمر سهلا، ولكنني أبدأه على كوم هائل من التضليل
والتعتيم والتجهيل والخداع قاده الحداثيون في بلادنا، وهم لا يختلفون عن عباد
الشيطان في شيء، ولطالما أوهموا الناس على سبيل المثال أن الحداثة مجرد نظرية في
الأدب.. وكانت هذه هي الخدعة الكبرى التي جعلت المجتمع لا يواجهها في الوقت
المناسب بما تستحق، جعلت المجتمع يوصد سمعه إزاء من كانوا يحذرون طول الوقت، وكان
التحذير يصطدم دائما بتلك الغلالة الشيطانية من الغموض التي يسربل بها الحداثيون
أعمالهم، وهو غموض متعمد للتدليس على الناس، خاصة مع الخلط المتعمد بين الحداثة
والتحديث، وشتان ما بينهما، واستمرت
الخديعة حتى انفجار أزمة الوليمة التي كان لى
شرف تفجيرها .. عندما فجعت الأمة أن الحداثة تعني ضمن ما تعنى أقذع سباب لله سبحانه وتعالي عما يشركون
وللقرآن الكريم وللرسول صلى الله عليه وسلم. وبدأ الناس يسمعون ويعون ويعلمون ما
غاب عنهم فيدركون أن الحداثة ليست مذهبا أدبيا.. بل نظرة شاملة للكون تتناقض مع
الدين وتزيحه وتحل محله. لذلك أرجو من القارئ أن يصبر عليّ، و أعده بالاختصار
الشديد .
فالحداثة
يا قراء كما يصفها الدكتور عوض محمد القرنى – في كتابه الهام : الحداثة في ميزان
الإسلام- تقديم سماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى أنها :
"مذهب فكري جديد يسعى لهدم كل موروث، والقضاء على كل قديم، والتمرد على
الأخلاق والقيم والمعتقدات".. و يؤكد :"أن الصراع مع الحداثة ـ أولاً
وأخيراً ـ صراع عقائدي بحت"..
ثم يضيف
قائلا:
"انتهت
الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى دارونية
تقول : "بأن أصل الإنسان قرد"، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في
الأديان التوحيد، وأن الإنسان الأول ما لجأ إلى التدين إلا لجهله بالطبيعة وخوفه
منها، حين لم يستطع أن يواجهها بالتفسير العلمي الصحيح ـ كما يقولون ـ ."
نفس هذا المعنى
يصل إليه كاتب عملاق آخر هو الدكتور عبد العزيز حمودة[14]
في كتابه: المرايا المقعرة، وهو سفر يقع في أكثر من خمسمائة صفحة ويبدأ بداية
جياشة حين يتحدث عن إحساسه بانشطار الذات في
أزمة وليمة لأعشاب البحر حين راح السؤال يهدر داخله : "من نحن" ثم يكشف شيئا فشيئا أنهم خدعونا بالخلط بين
الحداثة والتحديث، و أن الحداثة صفقة شاملة نبيع فيه كل تاريخنا وتراثنا. و أن أهم
مستلزمات الحداثة هو القطيعة المعرفية الكاملة مع تراثنا.
والتراث يا
قراء مصطلح حداثى يقصد به القرآن والسنة وتاريخ الإسلام و آدابه جميعا.. لكنهم حين يهاجمون لا يقصدون
سوي القرآن والحديث.
والحداثة
كما يقول الدكتور بشير موسى نافع: " أعلت مرتبة العقل فوق النص المقدس، بل
وجعلت من العقل المرجع الأوحد للقيم والسلوك وعلاقات الاجتماع الإنساني. تهاوي
بذلك الاعتقاد بوجود ثوابت إنسانية خالدة، وانتقلت القيم من دائرة الثابت إلى
دائرة النسبي، ومن الدلالة المطلقة للخير والشر إلى التحولات المتغيرة للاقتصاد
والسياسة والتقنية. "
نعم يا
قراء.. اقرءوا كل كلمة بتمعن..
على
أن شعار سيادة العقل على النص – رغم أنه
في جوهره كفر –.. لكنه فضلا عن ذلك لم يكن حقيقيا.. كان مجرد طعم يغريك ويغويك حتى
تدلف فيه فيسلمك على الفور إلي غيره..ولقد أسفر بعد قليل عن : سيادة الحس على
العقل .. ومن التجليات الفادحة الفاضحة لسيادة الحس على العقل تقبل الشذوذ الجنسي و إباحته.. بل وصل الأمر أن
تهدد أمريكا مصر بمنع المعونات عنها إن هي استمرت في مكافحة الشذوذ، وفي ضوء ما
نرى، فمن المؤكد، أن مكافحة الشذوذ ستعتبر خلال عشرة أعوام – على أبعد تقدير –
ضربا من ضروب الإرهاب الذي يخضع لعقاب التحالف الأمريكي. . وقد نقصف بالطائرات
والصواريخ إن احتججنا عليه!!..
يستطرد
الدكتور نافع قائلا: " عندما سادت ثقافة -الآن وهنا- علي حساب الإيمان
الإنساني بالله والعالم الآخر، أخذت الروابط الإنسانية في الانهيار الواحد منها
بعد الآخر، طالما أن التجربة الإنسانية تدور في النهاية حول المنفعة والإنجاز
الفردي خلال حياة بشرية قصيرة بكل المقاييس."
إن الموضوع
معقد إلى حد ما يا قراء.. ليس لصعوبة كامنة فيه.. ولكن لأن الحداثيين لا يسفرون
عما في أنفسهم أبدا إلا حين يضمنون أنهم الأقوى و أنهم قادرون علي سحق خصومهم..
تماما كما تفعل أمريكا الآن بالعالم..
إنني أرجو
يا قراء أن ننظر بعمق إلى مقومات الفكر الغربي الحداثى والذي يعتمد في جزء مهم منه
على نظرية دارون، وهى نظرية متهاوية لا قيمة لها إلا في إعلاء الكفر والحداثة،
وموجز منطقها المختل كأن تقول:
المنضدة
لها أربعة أرجل.. والبقرة كذلك.. إذن فالمنضدة بنت البقرة!!.
لكن التجلى
التطبيقي لهذه النظرية كانت فكرة البقاء للأقوى، وهى الفكرة التي تشكل أساسا
رئيسيا للفكر الحداثى الغربي وهى الفكرة التي جعلت - كما يقول الدكتور نافع - تشرتشل، باعتباره وزيرا للمستعمرات، في مجلس
العموم البريطاني يدافع عن استخدام القوات البريطانية للقنابل الكيماوية ضد
العشائر العراقية الثائرة خلال ثورة 1920 إذ قال بوضوح أن من حق الأمم المتحضرة أن
تستخدم الوسائل التي تراها مناسبة لقمع البرابرة.
هذه الفكرة
الشريرة كانت وما تزال أساس الصلف الأمريكي في التعامل مع العالم.. في الجرائم
البشعة التي ارتكبتها أمريكا في العراق وأفغانستان على سبيل المثال.. وفى الجرائم
التي سترتكبها باسم الحرب على الإرهاب.
وهي أيضا
أساس الصلف الإسرائيلي.. فأمريكا هي إسرائيل و إسرائيل ليست سوي حاملة طائرات ضخمة
لأمريكا.. هي أساس الصلف الإسرائيلي التي جعلت مجرما كنتنياهو يعلق على ما قيل من أن البحث عن أسامة
بن لادن في جبال أفغانستان كالبحث عن إبرة في كومة من القش.. فإذا بالخنزير يقول:
- ولماذا
تتعبون أنفسكم بالبحث عن الإبرة.. احرقوا كومة القش..
والآن
لنترك الدكتور بشير نافع يختم هذه الفقرة
الجافة عن الحداثة:
"المشكلة
الرئيسية في التصعيد التبشيري الغربي، الحديث نسبيا، لقيم الديمقراطية والتعددية
وحقوق الإنسان، إنها لا تبدو (وهي كذلك حقيقة) انعكاسا لإيمان ثابت وراسخ وأصيل بل
مجرد تطور قيمي مستمر، وإنها تحتل الفضاء القيمي ذاته الذي تحتله سياسات حصار
الشعوب وتجويعها وتشريعات الإجهاض واعتبار العلاقات الشاذة علاقات أسرية. كل شيء
قابل للنظر وإعادة النظر. بل وحتى الإرهاب الذي اصبح رمزا للشر الإنساني كله خلال
الأسابيع الأخيرة، كان دائما وحتى فترة قصيرة أداة هامة من أدوات السياسات
الغربية. أليس مدهشا أن إحدى المنـظمات المستهدفة الآن في قائمة الإرهاب التي
أعلنتها الحكومة الأمريكية كانت هي ذاتها التي استلمت عونا بريطانيا سريا لاغتيال
العقيد القذافي؟"
***
الدليل
الثاني الذي أقدمه لكم يا قراء عن مسئولية جهة أمريكية داخلية عن عمليات 11 سبتمبر
– واضعا في الاعتبار أن الموساد تنظيم أمريكي أو أن الإدارة الأمريكية عصابة
صهيونية) هو دليل صغير جدا لكنه بالغ الإيحاء.
هل تذكرون
الصحفية البريطانية إيفون ريدلي التي وقعت في قبضة طالبان يوم 28 سبتمبر و أطلقت
سراحها يوم 8 اكتوبر. لقد أجرت صحيفة الإندبندنت البريطانية حديثا صحفيا معها في
منتصف ديسمبر 2001، و أطلقت الصحافية مفاجأة مذهلة، حين قالت أنها بصدد إصدار كتاب
بعنوان «في أيدي طالبان» أن أجهزة المخابرات الغربية حاولت قتلها لتعزيز الدعم
الجماهيري لتوجيه ضربات جوية لأفغانستان!!.
نفس الأمر
مع اختلاف مقياس الرسم!!.. كل شئ ممكن..
إلا إذا
رأى الحداثيون التنويريون من أعضاء التحالف الشمالي أن ذلك ليس إلا : "زلة
كتاب!!".
***
إن أي
محاولة لحصر جرائم الولايات المتحدة الأمريكية هي محاولة مضحكة.. لأنها تستلزم
كتابة تاريخ العالم كله في خمسة قرون.. تاريخ العالم بكل ما فيه من أحداث ووقائع
وتطور علمي وعملي وفلسفي ونظري.. ويشمل ذلك كل العلوم .. اللا إنسانية..!!..
***
لقد أعلن
رونالد ريجان أن ثراء ورخاء الولايات المتحدة يرجع إلى كونها "أمة مباركة من
الله ". لكن أحد رجال الدين الأسبان جرؤ على استهجان ما قاله ريجان واصفا
إياه بأنه "تجديف وهرطقة"، لأن ثروة وقوة الولايات المتحدة لا تأتى من
مباركة الله ، ولكنها ترجع إلى استغلال العالم وبخاصة العالم الثالث عبر التبادلات
غير المتوازنة وغير المتعادلة، وفرض استيراد المنتجات الأمريكية بالقوة، وغزو رءوس
الأموال الأمريكية للدول التي تنخفض فيها المرتبات ، وعبر الفوائد الاستغلالية
"للقروض " .
يقول
جارودي: " تحتل الولايات المتحدة المتحدة
رأس القائمة في تسلسل الأمم الذي وضعته، وهي محاطة بمن يمثلون مركز العالم
: الحلفاء الذين تنطبق عليهم السمات
الثلاث الخاصة : اقتصاد سوق حرة ، إيمان بالله يهودي- مسيحي ، انتخاب حر . على
الكفة الأخرى لهذا العالم الموزع بين الخير والشر ، إمبراطورية الشر وتتمثل في
البلدان التي لا تتبع اقتصاد سوق حرة ، ولا إيمانا يهوديا مسيحيا ، ولا ديموقراطية
على الطريقة الأمريكية ".
في ظل
المفاهيم الأمريكية الشيطانية أصبح أفضل و أشمل و أصدق تعريف للإرهابي أو المسلم
أو الأصولي : هو ذلك الشخص الذي يرفض ما تفعله إسرائيل في العالم العربي وفي
الفلسطينيين. . لكنه – حتى إن وافق فإن ذلك لا يكفي.. إذ لابد من اكتمال المنظومة.
***
لقد كان
طبيعيا لشعب بلا تاريخ كالشعب الأمريكي أن يعطي فكرا بلا جذور. لم يعط الفكر إنما
أعطي نقيضه.. أعطي هدم الفكر.. وهدم المعني .. وهدم – حتى – الفن.. فلا شيء يدعو
إلي الصحوة بل إلي الغيبوبة.
وكل شئ
مسربل في الظلام الدامس للكذب وفي متاهة الخداع .
***
في كتاب : " وليم كار" الشهير: "
اليهود وراء كل جريمة"، وهو كتاب صدر منذ أكثر من ربع قرن يتحدث الكاتب عن العهد الذي أصبح فيه الشيطان سيد العالم .. وعن
تأسس كنيس الشيطان على الأرض الذي شرع من أول يوم في التآمر لمحاربة الدستور الإلهي .. ويذكر
وليم كار أن بدايات هذا الكنيس الشيطاني قديمة و أن المسيح عليه السلام قد فضح
كنيس الشيطان هذا وهاجم أتباعه
مسميا إياهم أبناء الشيطان،ووصفهم بأنهم كذابون ولا يدينون بأي دين سماوي(…)
في جزء آخر
من الكتاب يتحدث المؤلف عن المخطط الذي شرع أتباع ذلك الكنيس الشيطاني في تنفيذه منذ أكثر من مائتي عام وبالتحديد
في عام 1776 م .. حين تمت صياغة المخطط الدموي الوحشي والذي جعلوا غايته وضع خطة للكنيس الشيطاني ليسيطر على
العالم، والذي ضمنه النقاط التالية:
1- تدمير جميع
الحكومات الشرعية وتقويض الأديان السماوية كافة.
2- تقسيم
الجوييم - غير اليهود - إلى معسكرات
متنابذة تتصارع فيما بينها بشكل دائم حول عدد من المشاكل التي تتولى المؤامرة
توليدها و إثارتها باستمرار ملبسة إياها ثوبا اقتصاديا تارة و أخرى اجتماعيا
وثالثة سياسيا ورابعة عنصريا و إلى آخره.
3- تسليح
هذه المعسكرات بعد خلقها ثم تدبير حادث في كل مرة يكون من نتيجته أن ينقض كل معسكر
على الآخر حتى يفنى بعضها بعضا.
4- بث سموم
الشقاق والنزاع داخل البلد الواحد وتمزيقه إلى فئات متناحرة و إشاعة الحقد
والبغضاء بين أبناء البلد الواحد حتى تتقوض جميع مقومات المجتمع الدينية
والأخلاقية والمادية.
و أذكر
القارئ أنني قد قرأت هذا الكتاب منذ ربع قرن، ولا أعرف متي نُشرت أول طبعة منه..
وأنني لم أصدق كل ما ورد فيه عندما قرأته حتى جاءت الأحداث المذهلة لتصدق ما فيه،
ففي قسم من الكتاب يتحدث المؤلف عن
الجنرال "البرت بايك" والذي
ضمه الصهاينة إلى صفوفهم عام 1840 فبدأ
مرحلة جديدة من التخطيط والتنسيق العسكري، وقد تضمن مخطط بايك ( والجزء التالي
منقول بالنص):
1- تؤمن
الحرب العالمية الأولى الإطاحة بالحكم الملكي في روسيا.
2- تؤمن
الحرب العالمية الثانية اجتياح روسيا لنصف العالم.
3- يأتي
أخيرا دور الحرب العالمية الثالثة و
الأخيرة، وينص المخطط لهذه الحرب على تصدى
الصهيونية للزعماء المسلمين في العالم الإسلامي وشن حرب ساحقة على الإسلام
باعتباره القوة الأخيرة التي ستقف تجاه قوى الشر.
***
هذا هو تقييم
خمسة قرون من الحضارة الغربية التي انتهت فيها القيادة إلي أمريكا خمسة قرون من الكذب والشر والجرائم والسرقة
والنهب والقتل والاستعباد والتفرقة العنصرية والاستعمار وخمسين عاما من تطبيق نظام العولمة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثم
منظمة التجارة العالمية . ولم يتوقف منذ ذلك الحين دق علامة الصليب على أسنة
السيوف ، كصنم يمثل الذهب والموت . ها هي ذي القصة كلها، فهي لا تخرج - أبدا - عن
هذا الإطار، وهذا هو لب القضية.
***
ولم يكن
الصليب رمزا للمسيح عليه السلام و إنما
كان جزءا من أدوات النصب والاحتيال وقناعا من أقنعة الشيطان.. فهؤلاء الناس لا
يمكن أن يكونوا مسيحيين أو يهودا حتى بالمعني المحرف.. لا يمكن أن يكونوا قوما
طلبوا الطريق إلي الله فأخطئوه.. إنما هم قوم طلبوا الطريق إلي الشيطان فأصابوه..
لا يمكن إلا أن يكونوا عبدة شيطان.. بالمعني الحرفي المباشر..
وعندما كان
العداء لليهود يخدم أغراض الغربيين شتتوهم
وطاردوهم ونكلوا بهم .. وجعلوا الإنجيل يقول ذلك.. فلما اختلف الظرف اكتشفوا أن
العلاقة بينهم وبين اليهود أوثق ما تكون.. وجعلوا الإنجيل والتوراة يقولان ذلك
أيضا.. بل وجعلا البابا والكنيسة يبرئان اليهود من دم المسيح ( في تصورهم الخاطئ).
لم تكن
التوراة ولا كان الإنجيل ولا كانت حتى الحداثة.. فكم القهر والظلم والشر الذي
ارتكب كان دائما يفوق القدر اللازم لتحقيق رغباتهم المعلنة و أطماعهم غير
المعلنة.. كانوا يمارسون الجرائم حتى ولو لم يكن هناك داع لارتكابها.. وكانوا يسفكون
الدماء دائما.. حتى دون أن تعود عليهم
بفائدة مباشرة أو غير مباشرة.
كانوا
يمارسون الشر حتى عندما لا يكون لارتكابه دافع ولا عائد..
كانوا
يمارسون الشر من أجل الشر..
وذلك.. هو
جوهر عبادة الشيطان..
***
نعم ..
عبادة الشيطان و كنيس الشيطان .. و ليس هذا رأينا – نحن المتطرفين الإرهابيين !!-
فيهم.. بل هو متخذ من أقوال المسيح عليه
السلام عنهم منقولة عن الكتاب الشهير:" اليهود وراء كل
جريمة"..
فإذا أضفنا
لهذا الرأي رأيا آخر لواحد منهم – ليس متطرفا ولا إرهابيا مثلنا – لاكتملت
الصورة.. وذلك هو الصحفي البريطاني الشهير روبرت فيسك.. والذي كتب في مقال : أنه لو كان أفغانيا لقتل كل غربي يتاح له قتله..!!..[15]
ما أريد أن
أصل إليه أن الحضارة الغربية التي تقودها أمريكا ليست حضارة مسيحية و أن الصليب
الذي يرفعونه ليس رمزا للسيد المسيح.. و أنها حضارة شيطانية لا تخضع مبادئها ولا ممارساتها
للدين، أو لدين!! .. لا في مبادئها الأولي التي أنزلت علي النبي عيسي بن مريم عليه
السلام، ولا حتى في المسيحية المحرفة باليهودية،
وهذا واضح، إلا أنني أريد أن أثبت أن ممارساتهم تلك لا تخضع للعقل أيضا..
ولا حتى للعقل بمفهومه الغربي.. فإن كانت ليست مسيحية ولا هي عقلانية فلن يبقي
أمامنا سوي احتمال واحد وهو أنها حضارة شيطانية..
نعم ..
العقل لا يبرر ممارساتهم.. من السرقة إلي الكذب إلي التزوير في كل شئ حتى في
ديموقراطيتهم المدعاة والتي يصنعون فيها أغلبية مزورة باتباع ما سماه ولتر لييمان
الصحفى المرموق والمحلل السياسى الشهير بــ"تدبير الموافقة" أو ما يسميه
"نعوم تشومسكى": "صناعة الإجماع ".. وكلا الرجلين أمريكى!!..
***
في العقود
الماضية، كنت كثيرا ما أندهش لحماقات
أجهزة الأمن في العالم العربي والإسلامي، كنت أندهش لقدر الغباء الذي تتسم به
أكاذيبها وتلفيقاتها وتقاريرها، وكنت
أندهش لمدي قصر النظر الذي جعل منها الدب الأحمق الذي يخرب وطنه ..
الآن، بعد ما حدث في 11 سبتمبر والطريقة التي
تصرفت بها رائدة الحضارة وراعية حقوق الإنسان إزاءها، أستطيع - وتستطيعون معي - أن
نفهم – لا أن نقبل – كل ما مارسته تلك الأجهزة من كذب وتزوير وتلفيق للقضايا..
نستطيع أن نفهمه من خلال واقع مر.. ذلك أن معظم الكوادر العليا في هذه الأجهزة قد
تلقت تدريباتها العملية في الولايات المتحدة الأمريكية.. عند الـ CIA و الـ FBI ، ومنهم تعلموا الكذب والتزوير بالصورة الفادحة الفاضحة الفجة
الغليظة التي رأيناها أخيرا.. فكيف نعجب
إذن إذا كانوا يمارسون ما تعلموه. ذلك أن طريقة تعامل القوة العظمي مع الأحداث
كانت لا تختلف عما يمارس في أي وحدة جاهلة غشوم
للأمن السياسي في العالم الإسلامي..
التزوير
والتلفيق والادعاء المجرم.. وحتي المحاكم العسكرية..
***
في ظل ما
يحدث أيضا انكشفت كما لم تنكشف أبدا خيانات أولي الأمر في بلادنا .. لأنه إن جاز
للأمة أن تخدع في مرامي الغرب ومقاصده
معذورة بالجهل فإن ولاة الأمر لا يعذرون بجهل بل يدانون لعلمهم بما جهلته
الأمة وبتواطئهم مع أبناء الشيطان وعبدته ضد الأمة ودينها.
كنا ندهش لذلك
عندما افتضح، لكننا وجدنا التفسير.. فكما
أن كوادر أجهزة الأمن تتلقي تدريباتها في الولايات المتحدة الأمريكية ، فإن كوادر
الساسة تفعل ذات الشئ.
ولقد بدا
كما لم يبد أبدا من قبل كيف مرق هؤلاء و أولئك من الإسلام وهم يوالون أعداء الله
علي المسلمين.. فموقفهم بحكم الإسلام ردة وبحكم القانون خيانة عظمي..
ولم تكن
الردة والخيانة كل ما ظهر..
فقد بدت
خسة ولاة الأمر متوازيا ومتواكبا مع خسة أمريكا
كما لم تبد أبدا..
بدت في
موقفهم من المجاهدين العرب في أفغانستان.. في موقف أمريكا.. وفي موقف حكامنا..
بدت للدرجة
التي سارع فيه الأوروبيون لاقتراح أن يحاكموا في أوروبا.. لأنهم لو سلموا إلي
أمريكا فسوف تحيلهم إلي محاكم عسكرية وقد تقتلهم
و إذا أحيلوا إلى بلادهم العربية
فسوف يقتلهم حكامهم..
لكم كان
ذلك كاشفا ومخزيا ومهينا..
بدت في
الموقف من بنات الدكتور أيمن الظواهري الأربع بعد أن ماتت أمهن وشقيقهن محمد..
في ظل
ادعاءات حماية حقوق الإنسان والتقدم والحضارة والإنسانية كان موقف أمريكا وحشيا وبشعا
فقد رفضت حتى الأسر وأصرت علي قتل الرجال وتسليط أذنابهم من خونة التحالف لاغتصاب
النساء..
وفي ظل
الانتماء العربي كان صمت حكام العرب مخزيا ومهينا..
في مقال لي
كنت أضرب المثل علي بشاعة موقف ولاة أمورنا فشبهتهم بالأب الديوث الذي تغتصب بناته
أمامه فينكر أنهن بناته خوفا من المغتصبين متظاهرا بالمشاركة في الحفل الداعر..
كان
التشبيه مروعا.. للدرجة التي جعلتني أتردد مرات قبل كتابته.. وكنت أخشي من خيالي
الجموح وكنت أخشي من أن أظلم..
لكن أياما
لم تمر.. حتي كانت سيدتان مسلمتان مصريتان من زوجات المجاهدين يلقي القبض عليهما
فتغتصبان وتعذبان وتحرقان ويدعي الكفرة الفجرة أنهما قتلا نفسيهما حرقا..
ولم يتحرك
أي أب ديوث.. ولم يحتج ولم يعترض ولم يندد ولم ينطق..
فمن فعلوا
ذلك أعضاء في التحالف الشمالي.. أنداده
وأقرانه..
ولم تتحرك
في أربعة أركان المعمورة من منظمات تحرير المرأة أو حقوق الإنسان منظمة..
إذ يبدو أن
الأولي لا تدافع عن الحرية المطلقة ولا عن الحرية كما نفهمها.. بل فقط عن حريتها
الجنسية فقط.. فهي منظمات تعهير المرأة لا تحرير المرأة.. أما الثانية فليست سوي
منظمات حقوق الإنسان الأبيض المسيحي أو اليهودي..
***
مع الأحداث راحت أقنعة الغرب العفنة تتساقط
قناعا خلف قناع..
سقط – علي
سبيل المثال - زيف الديموقراطية في العالم
الغربي وعلي رأسه الولايات المتحدة الأمريكية..
***
ولقد
اكتشفت الأمة فيما اكتشفت – ويا للمفاجأة – أن ما ينطبق علي ممارسات
رجال الأمن من تلفيق وكذب وتزوير ينطبق
أيضا علي الديموقراطية.
فبعض
حكامنا، المتخلفون، الهمج الهامج، يسوقون شعوبهم بالهراوات والسياط والرصاص
وتزوير الانتخابات والاستفتاءات.. يزورون بصورة مباشرة..
كنا نري
ذلك منكرا.. وكان بعضنا ينظر إلي الغرب في
حسد..
الآن
نكتشف أن نفس الشىء في جوهره يحدث في
الغرب و إن تغير شكله..
نعم.. في
الغرب يتم نفس الشئ.. لكن بطريقة غير مباشرة.. بطريقة أكثر خبثا وذكاء
ودهاء..بصناعة الإجماع وتدبير الموافقة..
إنهم لا يسوقون الناس إلي صناديق الانتخاب.. ولا يمنعونهم عنها بالهراوات والساقطات.. لكنهم صنعوا الآلية
لتشكيل وعي الناس وصياغة وجدانهم.. لتضليل "الرأي العام " حيث تطورت
تقنيات الإعلام ، و"التيك أواى" الثقافي، لغزو العالم أو تحطيم ثقافاته
.. فآلة الإعلام الجبارة التي في أيديهم تجعلهم قادرين علي إخفاء ما يشاؤون من
الحقائق وعلي إبراز ما يشاؤون منها..ويذهب الناس إلي صناديق الانتخاب فيدلون
فيها برأيهم سابق التصنيع.. وتصبح الأغلبية
المزورة - كما يحدث في بلادنا - ولكن
بطريقة أخري معبرة عن
الديموقراطية.. بينما الكذب يسربل كل شئ..
ومرة أخري فإن الناس تمارس ما تعلمته وما علمته..
يقول رجاء
جارودي في كتابه: أمريكا طليعة الانحطاط:
لقد كانت
الديموقراطية دائما ستارا للأقلية ، من ملاك العبيد حتى أساطين المال ، وما كان
يسمى "بديموقراطية أثينا" في وقت بيركليس ، و التى كان يضرب بها المثل
كأم الديموقراطيات ، لم تكن في الحقيقة سوى سيادة عشرين ألف مواطن حر على مائة ألف
عبد محروم من أي حق . إننا أمام حكم الأقلية المستعبدة ، ويسمى
"ديموقراطية" . إنها ديموقراطية السادة ، وليست للآخرين .
ثم يكتشف
جارودى تهاوي منطق الحضارة الغربية التي يدعي منظروها أنها معلمة البشرية، فأساتذة
الأخلاق هؤلاء - على غرابتهم - يعطون للعالم مثال الأصولية الأشد تطرفا، لأن
الأصولية هي ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة واحتكار الحق ، بل والواجب في فرضها على
الآخرين . إن النموذج الأمثل للأصولية هو الاستعمار الذي كانت حجتاه
الأيديولوجيتان نشر وإرساء "الإنجيلية" ليفرض على العالم مفهومه الخاص
عن الدين ، وليقوم العسكريون والتجار بالباقي ، أي بالمجازر والاستغلال . وعندما
يتراجع الدين ، يتقدم نفس المنفذين ليفرضوا على العالم "حداثتهم " . لقد
كانت الأصولية المنحرفة للغرب هي الأساس .. ولقد تولدت الأصوليات الأخرى احتجاجا
على الأصولية الأساسية للغرب وشركائه
ولم يكن
توحد الاستعمار تحت قيادة الولايات المتحدة ، في "النظام العالمي
الجديد" إلا استمرارا للفوضى الاستعمارية القديمة بصورة جديدة ! باسم "الليبرالية الاقتصادية
الشاملة" لتجعل الهيمنة على العالم من الآن
فصاعدا بوسائل اقتصادية (دون استبعاد التدمير العسكري) . وبعد القضاء على
"التفرقة العنصرية" في جنوب إفريقيا والتي كانت الصهيونية الإسرائيلية
أفضل حلفائها ، أصبحت تلك الصهيونية الإسرائيلية هي الممثل الأخير للاستعمار
الكلاسيكي ، أي الاستعمار العنصري .
***
حاول الغرب
أن يدمر المعايير القديمة لأن لها
مرجعيتها المستقلة التي يمكن أن تحكم له أو عليه. وحاول أن يرسي دعائم مسوخ من
المرجعيات المشوهة تنبثق من داخله هو.. فالمرجعية تابعة لما يفعله وليس ما يفعله
هو التابع للمرجعية.
وعندما يتم
كل ذلك في إطار إلغاء المرجعيات القديمة.. وخلق معايير جديدة..وإقناع الناس مقدما
أن هذه المعايير الجديدة نسبية وليست مطلقة.. و أنها قابلة للتغيير.. بل لابد أن
تتغير.. تماما كما تتغير أنماط الأزياء و طرازات السيارات.. وفي وسط هذه الفوضي
الشاملة في عالم المعايير والقيم.. تصبح المعايير المزدوجة هي الأمر الطبيعي وما
سواها باطل.. ويصبح الشذوذ الجنسي مباحا وتحريم الجنس قبل الزواج جريمة.. ويصبح
موت طائر تتهم به العراق مبررا لموت مليوني عراقي.. أما موت ملايين البشر من غير
البيض الحداثيين فلا قيمة له.. في إطار هذه الفوضى الشاملة.. يتخلي الإنسان عن
عرشه ويصبح حيوانا من الحيوانات.. والحق عنده ليس إلا القوة والسعادة ليست سوي
اللذه.. ويصبح الاهتمام كله كيف يكون جلد وجهك أكثر طراوة و أشد نضارة.. وكيف يكون
الخصر أصغر والصدر أكبر.. أما الضمير والروح فلا وجود لهما.. وهما من بقايا
الخرافات والأساطير..
بداهة
ياناس أن تكون هناك مرجعية مطلقة نقيس عليها الأشياء.. أنت لا تستطيع أن تقول أن
المسافة بينك وبين جارك مائة وتسكت.. إذ لابد أن تكون هناك وحدة قياس ثابتة – ولا
تتعلق بك ولا بجارك - يتفق عليها الجميع..
لابد أن تقول أن المسافة مائة متر أو ياردة أو ذراع أو باع أو قدم..أو .. أو ..
أو.. فذلك هو الذي يرسم الحدود بين الناس.. ولا يجعل المعيار مزدوجا.. لكل واحد
وحدة القياس النابعة من مصالحه وهواه.. ولما كانت المصالح والهوي متغيرات فإن مجمل النتيجة التي تدفع إليها
الحضارة الأمريكية العالم هو تحويله إلي غابة بلا قانون..
نعم .. لا
قانون ولا منطق ولا ثوابت.. في القرن الثامن عشر والتاسع عشر تحالف الأمريكيون
البيض مع الأسبان البيض لإبادة الهنود الحمر .. كانت تلك هي مصلحة الطرفين في زمان
ما.. فلما تغير الزمان انقلب التحالف إلي صراع.. فعندما نجح التحالف الشيطاني في
إبادة الهنود الحمر انقلب الأمريكيون علي الأسبان فأبادوهم أو طردوهم.. وفي كل من
الحالين كانت أجهزة الإعلام تشحن الناس وتزور وعيهم.. فيذهبون إلي صناديق الانتخاب
فيدلون بأصواتهم .. فيصوتون في المجالس النيابية فتصبح قوانين القتل والإبادة
والاغتصاب هي الشرع الذي يعلو حتي علي ما لديهم من إنجيل وتوراة.. وكان هذا طبيعيا
بالنسبة لفكر منحرف يحمل داخل طياته أسوأ ما في الوجود من صفات.. كما يحمل أيضا
داخل فكرته نفسها بذور فنائها وفنائه.. فعلي افتراض نجاحهم في تحويل الإنسان إلي
حيوان والدنيا إلي غابة.. فسوف يظل الأقوي يقتل الأضعف حتي لا يبقي في الدنيا سوي
فرد وحيد يعتلي جبلا من الجماجم. لقد كان في تبني الغرب للنظرية المضحكة لداروين
أحد السبل إلي فكره المنحرف ذلك.. إذ أنه يأمل أن يصل – بنهاية التاريخ المزعومة –
إلي توازن كتوازن الحيوانات في الغابة.. وكان يمكن لذلك أن يتم لولا أن الإنسان
ليس حيوانا..!!..
الحضارة
الغربية لا تحمل في طياتها الكفر بالله وبالمطلق فقط .. بل إنها تحمل أيضا الكفر
بالعقل الذي ادعت أنها تعلي من شأنه. ذلك أن هذا العقل العملي (البراجماتي) الذي تدعيه ليس عقلا.. إنهم يدعون أنه هو
الوسيلة الوحيدة لتسيير حياة الإنسان ما بين حياته وموته.. ولنصطبر قليلا علي زيف
هذا الادعاء.. ولنتساءل : ألا يحتاج ما قبل الميلاد وما بعد الموت لتفسير وتفكير
وتدبير؟!.. هل الإنسان آلة لها تاريخ صنع وتاريخ انتهاء وذلك كل شئ؟!.. والحديث
هنا طويل لكن المجال الآن ليس مجاله.. فلنعد إلي ما اصطبرنا عليه.. إلي التساؤل :
هل يصلح العقل البراجماتي النفعي لتسيير حياة الإنسان بين مولده وموته؟.. ماذا إذن
عن الأحلام.. كيف يفسر العقل البراجماتي النفعي أن يري الإنسان في أحلامه وعيناه
مغلقتان؟.. وكيف يسمع وأذناه نائمتان.. وكيف ينتقل من أدني الأرض إلي أقصاها
وساقاه ثابتتان؟.. ليس لدي العقل الغربي من تفسير لذلك سوي هلاوس فرويد.. ولنترك
ذلك أيضا .. ولنناقش السؤال من زاوية أخري .. سوف نتغاضى عن أن الإنسان يولد( وليس
ذلك من العقل في شئ).. وسوف نتغاضي عن أنه يموت ( وليس ذلك من العقل في شئ).. وسوف
نتغاضي عن أنه يحلم ( وليس ذلك من العقل في شئ).. سوف نتغاضي عن كل ذلك ونواصل
السؤال عن الإنسان المستيقظ الذي لا يولد ولا يحلم ولا ينام ولا يموت.. هل من
العقل أن يغفل هذا الإنسان التفكير في ذاته؟ في غايته من الحياه.. في الطعام الذي
يأكله والماء الذي يشربه والهواء الذي يتنفسه..؟.. في الأرض التي يعيش عليها والتي
لولاها ما عاش؟؟.. في الشمس والقمر؟؟.. في الكون كله؟؟..!!.. هل العقل أن نحصر
الإنسان في الوسائل و أن نحرّم عليه الغايات؟.. هل العقل ألا تكون في حياة الإنسان
قيمة إلا لما يمكن تقييمه بالدولار أو مكاييل الذهب. إن أكثر الماديين غلواء لا
يستطيع إنكار أن الإنسان روح وجسد.. و أن الروح حين تغادر الجسد لا يبقى منه إلا
جيفة نتنة.. ولقد ركزت الحضارة الشيطانية علي ما يحتاجه الجسد ( ودعنا الآن بأنها توفر ما يحتاجه أجساد
بنيها على حساب ما تحتاجه أجساد الآخرين).. و أهملت تماما ما تحتاجه الروح.. بينما
الروح – كالجسد- إن لم تُغَذّ تموت..!!
تخيلوا يا
قراء أن العقل الغربي يلغي كل ذلك ثم تكون لديهم من الصفاقة ما يبيح لهم الادعاء
أنهم يعلون شأن العقل..!!..
سقط النموذج
الذي يقدمونه للعقل كما سقط النموذج الذي يقدمونه للأمن وللديموقراطية. وهاهي ذي حقوق الإنسان أيضا
تسفر عن عنصرية همجية وحشية مسعورة.. كما
أن شعار المساواة يسفر عن عكسه تماما.. و إذا بهذه الحضارة المتقدمة على مستوي
التكنولوجيا والمنحطة علي مستوى الروح تتصرف كحيوانات الغابة.. بل أضل سبيلا..
نعم يا
قراء.. أضل سبيلا..
فريادة
الأمريكيين للانحطاط لم تتوقف عند حد، شوهوا الدنيا ودنسوا العالم وجمعوا شرور
الأولين والآخرين، حتى الفن لم يتركوه..
هل تتخيل
أيها القارئ بعد ما قرأت أنه يمكن لكاتب هذا الكتاب أن يفاجأ بجريمة يرتكبها
الأمريكيون؟ أم تظن أنني بلغت نهاية المدي، وأنه لا سبيل لمفاجأتي بأي جريمة من
جرائمهم.
لكنني أجيب
بعكس ما تتوقع، ولقد ظللت – والله- مريضا لمدة أيام بعد أن قرأت الفقرة التالية في
كتاب للدكتور عبد الوهاب المسيري[16]،
فمع السطور الأخيرة منها انفجر في قلبى ألم كالنزيف، ودوى الطنين في رأسي، وشعرت
بغثيان لا يتوقف، وامتلأت بالفزع والجزع، تقول الفقرة الطويلة:
"
وبطبيعة الحال أثرت النسبية في كثير من مجالات الحياة ، خصوصا الفنون. وبدأت في
الستينيات عملية التحرر من قيود وحدود الفن ، الأخلاقية والجمالية، وتزايدت معدلات
الإباحية والعنف ثم جاوزتهما عملية التحرر
، إذ أصبحت تحررا من أي قيود أو معايير. كان من أهم رواد البارتزان ريفيو في جامعة
رتجرز الفنان آندي وورهول الذي كان يوقع في منتصف الستينيات على علب القمامة وعلب الحساء
القديمة فتتحول بقدرة قادر إلى أعمال فنية تباع بآلاف الدولارات . وكان له فيلم
يسمى "النوم " ، يستمر عرضه لمدة ثلاث ساعات ، عبارة عن شخص نائم يتحرك
كل ربع ساعة أو عشر دقائق. كما رأيت فرقة مسرحية في نفس الفترة تسمي نفسها
"مسرح الواقعية الراديكالية" ، وكان عنوان المسرحية التي تقدمها هو
"أخت فيديل كاسترو" وكانت مليئة
بالإشارات الجنسية الطفولية ( من بينها عرض الأعضاء التناسلية ) التي لا تهدف إلى
نقل رسالة ، فهدفها الأساسي هو أن تصدم الجمهور . ولكن الأدهي، ولسبب لا أعرفه حتى
الآن ، كان الذكور يلعبون دور الإناث ، وكانت الإناث يلعبن دور الذكور . ويتم كل
هذا باسم الإبداع والنسبية والحرية. وما
حيرني كثيرا هو أن جمهور المتفرجين عبر عن إعجابه الشديد بهذه المسرحية ، التي لا
يسمع أحد بها هذه الأيام ، تماما مثلما عبر عن إعجابه بفيلم " النوم ".
ظل هذا التيار يتطور إلى أن عبر عن نفسه بشكل مثير في الآونة الأخيرة في أعمال
ثلاثة فنانين دفعوا بالنسبية إلى أقص مداها ، إذ أصبحت تعني التحرر من الحدود
الإنسانية ذاتها: أولهم اندريه سيرانو . وتعود شهرته إلى "لوحة" بعنوان
"فلتتبول على المسيح"، حيت وضع الفنان صورة المسيح على الصليب في البول
. وثانيهم هو روبرت مابلثورب ، وهو مصور فوتوغرافي تخصص في تصوير نفسه في أوضاع
جنسية شاذة تتسم بالعنف. وثالثهم وأشهرهم هو جويل
بيتر ويتكين وهو مصور فوتوغرافي يستخدم أجساد الموتى في أعماله الفنية. ومن
أهم أعماله عيد المغفلين، وهو تقليد لأحد الأنواع الفنية الكلاسيكية يسمى
"الغرور" موضوعه الأساسي هو الغرور الإنساني وتأكيد أن كل شيء إلى زوال.
وكانت اللوحة التي تدور حول الموضوع تأخذ شكل فواكه أو طعام في طبق ، توضع بجوارها
جماجم بشرية ، وطائر ميت في طبق لتذكر الإنسان بالموت. ولكن ويتكين طور طريقة
التناول وحولها ، إذ كان يضع بدلا هن الجماجم أيادي وأقداما إنسانية حقيقية، وبدلا
من الطائر الميت كان يضع جثة طفل ميت (يقال إنه قام "بإبداع " هذا العمل
في مشرحة !) . ومن موضوعات ويتكين الأثيرة تصوير الموتى بعد أن يرتدوا بعض
الملابس، وصورة رجل يضع مسمارا في قضيبه (فهذه هي الطريقة الوحيدة التي يتواصل بها
مع الآخرين كما يخبرنا الفنان) . وقد أبدع ويتكين لوحتين صورتين شهيرتين: صورة
جنين مشوه وقد تم تثبيته على صليب ، ورجل بلا رأس يجلس على كرسي . وحينما تقيأت
إحدى المدعوات في حفلة افتتاح أحد معارضه ، قال الفنان : "إن إحدى علامات
المرأة الجميلة ، أنها تحتفظ بجمالها حتى حينما تتقيأ!" . وتباع النسخة من
صوره بـ 35 ألف دولار (من عملائه الفنان ريتشارد جير وجون إلتوت ) . وفي مقال عن
ويتكين بدأه الكاتب بقوله : "إذا كان الفنانون يعبرون عن طبيعتهم من خلال
صورهم ، فإن ويتكين وحش بكل تأكيد" .وحياة ويتكين لا تقل وحشية أو نسبية .
فحينما يجري صحافي حوارا معه فإنه عادة ما يحدثه مرتديا قناع زورو. وهو يعيش مع
زوجته سينثيا وعشيقتها باربرا وينامون في نفس الفراش، وله ابن من سينثيا يسمى
كيرسون ( ولنتخيل مشكلة الهوية التي سيواجهها هذا الابن المحظوظ بالتعددية المفرطة
المحيطة به ، خاصة إذا عرفنا أن الفنان يعترف أنه يمارس الجنس أحيانا مع موضوعاته
، أي جثث الموتى!) . وهنا يمكن أن نثير قضية الحياة الخاصة للشخصية العامة، هل هي
أمر خاص بها وحدها؟ هل إصابة نيتشه بمرض سري أثر على عقله، ولا علاقة له بفلسفته
التي خرجت من تحت عباءتها كثير من المذاهب الفلسفية الحديثة؟ (وقل نفس الشيء عن
تيودور هرتزل ، مؤسس الحركة الصهيونية ، الذي مات هو الآخر بمرض سري ) .."..
هل تقززت
أيها القارئ؟.. هل جزعت؟ هل فزعت؟!!..
انتظر،
فإننى – والله – ما رويت لك الفقرة الطويلة السابقة كلها إلا رحمة بك، لكي آخذك الهويني،
فلا تروع فجأة بالجزء الباقي من حديث الدكتور المسيري، حيث يقول:
"ويصل
هذا الاتجاه الفني فيما يسمى " سنف موفيز" ولا أعرف ترجمة لهذه العبارة، ولكن لعل وصفها
يعطي فكرة عن محتواها . وهي أفلام يختلط فيها العنف والجنس بطريقة متطرفة، وكثيرا
ما تنتهي ببطلة الفيلم في حالة نشوة جنسية ويتم قتلها في اللحظة التي تقذف فيها .
ومثل هذا المنظر يتكرر في الأفلام الإباحية "العادية" ، ولكن في السنف
موفيز يتم الذبح بالفعل.
نعم تقتل
بطلة الفيلم.
وكان يتم
الإعلان عن الفيلم بعبارة "صور في أمريكا اللاتينية ، حيث العمالة رخيصة"
. وكل لبيب متوحش بالإشارة يفهم.
ومخرجو مثل
هذه الأفلام يدافعون عنها من منظور الإبداع والحرية والثورة . .إلخ وقد قام بعض المثقفين الليبراليين المدافعين عن
حرية الرأي المطلق بمظاهرة ضد دور السينما التي تعرض مثل هذه الأفلام. ولكن جريدة
وول ستريت جورنال قامت بتعنيفهم لموقفهم هذا ، وبينت لهم أن ما يحدث إنما هو نتيجة
طبيعية للموقف النسبي المتسيب من الفن والجنس وإنكار الحدود باسم الحرية المطلقة
والإبداع غير المتناهي!"..
فهل تمرض أيها القارئ الآن مثلى؟ وهل
تفزع؟ وهل تجزع؟ وهل تتقيأ؟..
كان من
أكثر ما آلمنى، فوق المرض، إحساس ذبيح بخيانة تلك الحثالة المنحطة من المثقفين
الذين ينادون بالحداثة والنسبية ويعلون الحضارة الغربية وينتقدون الإسلام..
رحت وفى
قلبى ألم لا يوصف أتساءل: أهذا هو الدين الذي يريدون منا أن نجفف منابع الإسلام
ونتبعه.. أهذه الحداثة هي مصدر زهوهم وتعاليهم وصلفهم وكبريائهم ونظرتهم إلينا
بازدراء.. ازدراء شيطان كافر مجرم.. ازدراء كلب مسعور لا يهدأ حتى يعقر الآخرين
لينقل المرض المميت إليهم..
أجل.. كلب
مسعور..
كلب مسعور
ليس له إلا ميزة واحدة.. أنهم في إمبراطورية الشيطان لا يدعون الإيمان.. وهم
يروجون للكفر ويعترفون أنهم كفرة ملحدون.
وعلى هذا
فإنهم أفضل من مثقفينا الحداثيين الذين يتبعون ذات الحداثة والنسبية والكفر لكنهم
يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان..
ألا إن
الواحد منهم أسوأ من كلب مسعور.. إنه خنزير مأجور..
ملأني
الإشفاق عليكم يا قراء.. إشفاق لحد الألم..
ملأني لأن
تلك الخنازير المأجورة قد خدعتكم طويلا وغررت بكم طويلا.
والكاتب
المثقف حقا، يجد أن من واجباته أن يكون عنصر توصيل جيد لقرائه، فهو ينقل لهم الفكر
الأصعب بأسلوب أسهل كى يفهموه ويستوعبوه.. وهو قد يظل أعواما يكتب ويفكر كى يعطى
لقرائه كتابا يقرؤونه في يوم أو بعض يوم.. وقد يظل يبحث بالأسابيع والشهور كى يلخص
بحثه ذاك في مقال يقرأه القارئ في ساعة أو بعض ساعة..
الكاتب
المثقف الحقيقي يفعل ذلك..
أما القارئ
فهو يستأمن الكاتب على عقله.. و هذا أخطر من المريض الذي يستأمن الطبيب على جسده..
فإن خان الكاتب فإنه يصبح أشد سوءا من طبيب تأتمنه فينقل إليك المرض أو يسرق عضوا
من أعضائك..
وهذا هو ما
فعلته بنا النخب المثقفة المستغربة المأجورة..
الخنازير
المأجورة..
أولئك
الذين سوغوا لنا سب الذات الإلهية.. فكل شئ نسبى..
و أولئك
الذين حالفوا أعداءنا علينا.. مقابل رشوة بالمال أو الشهرة أو اللذة..
وأولئك هم
الذين راحوا يؤيدون أمريكا في حربهم ضد الإسلام والمسلمين..
أولئك
الذين عجزوا عن المواجهة فمارسوا الخداع حتى كاد الناس يصدقونهم ويعتقدون أن :
"الحداثة من الإيمان" و"أن النسبية من الإسلام" وأن العلمانية
" مذهب يجوز التعبد عليه"!!..
أولئك
الذين عجزوا عن كشف خبيئة نفوسهم فرحوا يدسون أفكارهم النجسة في صفحات الصحف
والمجلات وفى أفلام السينما ومسلسلات التلفاز وفى تغيير مناهج التعليم وفى الرقابة
والحظر على خطباء المساجد كى لا يفضحوهم ويكشفوا أمرهم..
وخنزير
مأجور من هؤلاء هو الذي نال حظه من " الثلاثين مليون دولار" التي خصصتها
أمريكا لرشوة المثقفين كى يناصروا موقف أمريكا ويشوهوا موقف الإسلام.. وطالبان.. و
أسامة بن لادن.
أشفقت
عليكم يا قراء كثيرا.. ذاك الإشفاق المؤلم.. أشفقت عليكم.. على الألم والعناء الذي
أصبح على القارئ أن يكابده حتى يطمئن أن الكاتب الذي يقرأ له ليس خنزيرا مأجورا،
أشفقت على من يكابد منكم ليصل إلى الحقيقة بينما من استأمنه على الطريق
يضله..أشفقت على من يعانى حتى يطهر نفسه من دنس الخنزير المأجور.. و أشفقت أكثر
على من يضلون الطريق فيخسرون الآخرة.
***
والحكاية
طويلة ومريرة.. حاول الغرب طيلة الوقت تزويرها و إخفاءها.. لكنه يكرر نفس الأخطاء
والجرائم خطأ بعد خطأ وجريمة بعد جريمة.. لذلك فإننا نستطيع رغم الكذب والتزوير
والتشويه والتحريف أن نقرأ تاريخ الماضي فيما يحدث الآن..
فالغرب لم
يتب عن جرائمه.. وهو يواصل عبادة الشيطان بهمة لا تعرف الكلل وبثأر لا يعرف
الارتواء.. إن أمريكا التي قتلت الملايين لم تنس ثأر 18 أمريكيا قتلوا في
الصومال.. قتلوا لأنهم اعتدوا وقتلوا مئات الصوماليين.. ونفس ما حدث مع العراق
وأفغانستان يحدث مع أي بلد في العالم يجرؤ
علي الاعتراض .. ونفس المنهج الشيطاني
الذى فضل القتل علي الأسر يفضل أن يسحق عدوه ويدمره عن أن يقبل استسلامه أو
انسحابه. لقد انسحبت العراق من الكويت منذ عشرة أعوام ومع ذلك لم يتوقف القصف
والتدمير.
الخطأ
الأمريكي القاتل أنه كشف عورة الحضارة الغربية القبيحة وبين كم هى هشة وخسيسة.. وهى لم تعاملنا بكل هذا الصلف
والازدراء إلا لأننا نكصنا عن الجهاد فى سبيل الله وأن تكون مرجعيتنا هى الإسلام
لا الأمم المتحدة.. وهى الحلال والحرام وليس المصلحة..
ولو لمس
الغرب الصليبي من عالمنا الإسلامي استعدادا حقيقيا للمقاومة والحرب الحقيقية لتبدل
الصلف إلى تزلف والازدراء إلى نفاق.. ولتسترجعوا ما حدث بعد حرب أكتوبر 73 .
والحقيقة
أن الغرب ليس أمامه مجال للاختيار.. فنفس الحتمية التي تحتم علينا جهاده تحتم عليه
أن يحاربنا.. ففي العقيدة الإسلامية.. العقيدة الإسلامية فقط .. نفي لكل مقولات الغرب الحضارية.. نفي كامل لأسس
حضارة تحاول أن تحول الإنسان إلي حيوان والعالم إلي غابة..
نعم ..
العلاقة
بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية كالعلاقة بين النور والظلام.. لايمكن لهما
أن يتواجدا معا .. ولابد لأحدهما من الغلبة علي الآخر.. وصراع الحضارات قائم وكل
من ينكره إما ساذج و إما متواطئ. إلا أن غلبة الإسلام تحمل معها حضارته التي حافظت
على الآخر دائما بل ودافعت عن عقيدته. أم
الغرب.. فلا يعرف إلا التبعية الكاملة أو التدمير الكامل.
نحن لا
ننكر مكان الغرب ولا مكانته ولا مساهمته.. لكن عليه أن يعود لحجمه الطبيعي، وليس
أكثر منه.
إن غلبة النور
علي الظلام تحكمها نواميس الله لذلك فهي
لا تعني إلا كشف تزويره للحقائق وطمسه للأشياء ثم يدع الأحياء لاختياراتهم.. ولجهادهم الذي يتركز لا
في الاستعمار ولا في الإبادة بل في أن
يخلوا ما بين العباد وما بين الله..
أما قضاء
الظلام علي النور فلا يحكمها إلا المعايير المزدوجة للعقل النفعي البراجماتي ..
لذلك فإنه لا يمكن أن يتم إلا باستئصال
جذوة هذا النور وتجفيف منابعه.. فإن كانت قلوب المسلمين المؤمنين هي مكمن الجذوة
ومنبع النور فلابد إذن للغرب من القضاء عليهم.. علي الأشياء والأحياء جميعا.. وهو
برغم الخلل الصارخ في ميزان القوي لصالح
الغرب أمر يستحيل علي الغرب إنجازه.. وهذا
العجز هو بذاته ما يحمل أكثر من أي شئ آخر بذور انهيار حضارة الغرب المزيفة.
حضارة
الشيطان.. في إمبراطورية الشيطان..
[1] - رسالة
في الطريق إلى ثقافتنا- محمود شاكر- دار الهلال.
[2] - محمد-
كارين آرمسترونج- سطور.
[3] - تاريخ
المغول منذ حملة جنكيز خان حتي قيام الدولة التيمورية - عباس اقبال
المجمع الثقافي بابوظبي .
[4] " الجديد في المخطط الغربي تجاه المسلمين" د. محمد عمارة - دار الوفاء
[5] - أطلس
تاريخ الإسلام- دكتور حسين مؤنس- الزهراء للإعلام العربي. تاريخ القوقاز-محمود عبد الرحمن- دار النفائس-
بيروت.
[6] - مرجع
سابق.
[7] - الوعي
ينزف من ثقوب الذاكرة- مرجع سابق.
[8] - :
أمريكا طليعة الانحطاط- رجاء جارودى- ( دار الشروق)
[9] - لا أكاد
أصدق ما سمعته من ثقات، أن الحكومة الخفية – على عكس المعلن- في الولايات المتحدة
قد استاءت كثيرا عندما تولت طالبان الحكم و أوقفت زراعة الأفيون. . لكن عدم
التصديق هذا تزلزل عندما لاحظت أن قوة رئيسية من التي اعتمدت عليها أمريكا في حرب
طالبان والقاعدة كانت عصابات المخدرات.. و أن زراعة المخدرات عادت بعد الاحتلال.
وجارودي يضيف هنا تأييدا جديدا لأولئك الثقات.
[10] - تصل بعض
التقديرات بالرقم إلى خمسين مليونا، ولكن من الممنوع في الولايات المتحدة بحث هذا
الأمر، تماما كما هو ممنوع التشكيك في رقم الستة ملايين يهودي في الهولوكوست
المزعوم. ولقد حاول الصديق والمفكر
الأستاذ مجدى حسين أثناء إحدى رحلاته للولايات المتحدة أن يجري بحثا عن الهنود
الحمر، ولكنه قوبل بتحذير مذهل،إذ قيل له أن هناك من قتل لأنه أصر على إجراء مثل
هذا البحث.
[11] - رحلتي
الفكرية- الجذور والبذور والثمر- الهيئة العامة لقصور الثقافة.
[12] - للتذكرة،
أذكر القارئ بما قاله وزير الثقافة المصري إبان أزمة الوليمة من أن " الأخلاق
نسبية، وكل شئ نسبي".
[13] -برلسكوني
قالها بالفم الملآن، ودونما أدني حرص علي مشاعر المسلمين: حضارتنا متفوّقة علي
حضارتهم (المسلمين أساساً، وشعوب الأرض الأخري غيـــر الأوروبية قاطبة وضمناً)،
ولهذا ينبغي أن علي الغرب، واستناداً إلي تفوّق قِيَمه، أن يُغَرْبن Occidentalize ويغزو Conquer شعوباً جديدة . هكذا، ببساطة وصراحة: نخضعهم لقِيَمنا لأنها
الأفضل للإنسانية، ونغزوهم (أيّاً كان المعني وراء فعل الغزو هذا) إذا تعثّر
إخضاعهم في حروب القِيَم. ولكي يضرب برلسكوني أمثلة من العالم المحسوس، وليس
العالم الإفتراضي وحده، يقول إنّ الغرب فعلها مع العالم الشيوعي ومع جزء من العالم
الإسلامي، ولكن للأسف مع جزء من العالم الإسلامي يعود إلي 1400 سنة إلي الوراء .
[14] - المرايا المقعرة- دكتور عبد العزيز حمودة- عالم المعرفة.
[15] - الشعب
الإليكترونية- عدد 21-12-2001.
[16] - مرجع سابق