Literary Studies
هنرى
لوسون
دراسـة تـحليلية لنماذج من قصصه
بقلم : يوسف عبد العزيز على
بقول المثل الأسترالى القديم : " سيدنى أو الغابة " Sydney Or The Bush ، بمعنى " كل شئ أو لا شئ " () . وهذا المثل يقال حين التصدّى لأحد الخيارات الحتمية الملحة .
فالغابة أمام هذه المدينة تعنى الوحشة والفقد . لقد كانت الغابة هى المقابل
المجهول لهذه المدينة العامرة ، وشغل غموضها أذهان سكان هذه المدينة ، وأثار خيال
شعرائها وأدبائها ، ومن ثمّ كانت هناك رغبة خفيّة تحثّ بعضهم على خوض مستنقعاتها
وعبور أنهارها واستكناه ما بين أدغالها . لذا أصبحت هذه الغابة مسرحاً لأحداث
القصص وتهويمات القصائد . ذلك لأن " نفسيّة المجتمع الأسترالى كانت لا تزال
متأثّرة كثيراً جداً بالغابة " () ، ففى جنبات هذه
الغابة كانت حياة الأستراليين الأصليين ، يعيشون على الزراعة والرعى ، ويتعرضون
لمخاطر شتّى ، مثل فيضان كاسح أو جفاف ماحق .
ومن أهم الشعراء والأدباء الذين حفلت أعمالهم بذكر الغابة وما يدور فيها ومعاناة
سكانها ، الشاعر الكبير " بانجو بيترسون " ( 1864 ـ 1941 ) ، والكاتب
القصصى الكبير والشاعر أيضاً " هنرى لوسون " ( 1867 ـ 1922 ) .
كان بانجو بيترسون و هنرى لوسون علمين بارزين من أعلام الأدب الأسترالى ،
وكانا أفضل واشهر من يُقرأ لهما فى عصرهما ، حتى إنهما كانا يكتبان فى صحيفة واحدة
هى The Bulletin
.
" وقد أثار تشابه نتاجهما فى هذه الجريدة نوعاً من المنافسة بينهما " () ، حيث إن " لوسون " كان شاعراً كما كان قصّاصاً ،
رغم التناول والأداء المختلفين . يقول الناقد " والتر ستون " عن "
هنرى لوسون " : " لقد كان الاهتمام العاطفى الشديد بالظلم والفقر الذى
أعطى لأفضل وأشهر قصائده صفة الانتشار الكاسح ، كان بعيداً جداً عن قصائد لـ
" بانجو بيترسون " مثل : The Man From Snowy
River
وعن الإسهام الذى قدمه " بانجو بيترسون " و " هنرى
لوسون " للأدب الأسترالى يقول " أ . و . جوس " A . W . Jose فى كتابه : " أستراليا : الإنسان
والاقتصاد " ، الصادر سنة 1933 : " إنهما الشارحان المتناقضان للحياة فى
الريف الأسترالى ، واللذان لا تزال كتاباتهما تمثل أشهر أنماط الأدب الأسترالى
الأصلى .. و " لوسون " كرجل مدنىّ فى الأساس ، رأى الغابة كوطن للجفاف
والارتحالات المأساوية ، فقد كان أبطال قصصه غالباً من الرجال حاملى الأخراج () الذين يهيمون فى الأرض من مكان إلى مكان آخر بعيد
طلباً للرزق ، وهم لا يظنون ابداً أنهم سيعيشون لليوم التالى .. وكان رعاة "
بيترسون يقودون قطعانهم فى سعادة ، بينما رعاة " لوسون " كانوا يرحلون ،
ربما للأبد بعيداً عن زوجاتهم ومحبوباتهم ، وبين كل منهما نرى الغابة متجسّدة
" () .
ولد " هنرى لوسون " فى 17 يونيو 1867م ، فى بلدة " جرنفل "
بالقرب من مدينة " سيدنى " ، لأبٍ نرويجى كان يعمل بحاراً ، يدعى "
نيل هيرتزبرج لارسن " ، وأم تدعى " لويزا " . حصل " لوسون
" على قدر لا بأس به من التعليم ، ثم أصيب بالصمم عندما بلغ التاسعة من عمره
، وقد رافقه هذا الصمم بقية حياته . فى سنة 1882 انفصلت والدة " لوسون "
عن أبيه وعاشت هى وابنها فى " جرنفل " ، حيث انخرطت فى الحركة النسائية
وأصدرت مجلة تحمل اسم The Republican والتى
نشر فيها " لوسون " أول مقطوعة نثرية له () .ومن
أوائل أعماله التى جلبت له الشهرة قصة مسلسلة نشرها فى مجلة The Worker بعنوان Arvie Aspinall سنة 1892 ، هذا إلى جانب قصص الغابة مثل The Drover's Wife و A Day On A Selection .
كانت حياة "هنرى لوسون " غير مستقرة ، فقد كان ينتقل من
بلد إلى آخر بحثاً عن عمل ، ومن عمل إلى آخر ومن حرفة إلى أخرى طلباً لرزق أوفر .
وعلى الرغم من الأثر السلبى الذى أدى إليه ذلك فى حياة " لوسون " ، إلا
أنه اكتسب من هذا الوضع خبرات هائلة وتجارب مثيرة ، صارت معيناً خصباً لقصصه وأشعاره
، حيث استمدت موضوعاتها وشخوصها من هذه التجارب التى عاشها أثناء تنقله فى ربوع
أستراليا ونيوزيلندا بحثاً عن عمل . فمع عمله بالكتابة فى بعض المجلات والصحف من
حين لآخر ، نجده يعمل مرة نجّاراً ، ومرة أخرى " نقّاشا " ، ثم عاملاً
بخطوط التليغراف . عدم الاستقرار هذا أدى فيما بعد على انفصال زوجته عنه بعد أن
رزقا بولد و بنت ، وقبل انفصال زوجته عنه ، سافر " هنرى لوسون " مصطحباً
إياها وابنه وابنته إلى إنجلترا فى سنة 1900م ، بحثاً عن مزيد من الشهرة والتألّق
، كما هى عادة الأدباء الأستراليين فى ذلك الحين . إلا أنه أخفق فى هذه الرحلة كما
أخفق زميله الشاعر " بانجو بيترسون " بعده بعام واحد فى رحلة مشابهة .
وبعد عودته استقر " لوسون " فى " سيدنى " ليصدر بعد ذلك عدداً
من مؤلفاته .
ومن الكتب التى أصدرها " لوسون " وزادت من جرّائها شهرته ،
كتاب While The Billy Boils وكتاب In The Day When The World
Was Wide اللذان
صدرا فى عام 1896م . كما صدرت له بعد ذلك مجموعة قصصية بعنوان Over The Sliprails , On The Track ومجموعة شعرية بعنوان Verses
Popular And Humorous .
لقد أدى انفصال زوجة " هنرى لوسون " عنه إلى سوء حالته النفسية
وإدمانه الشراب والسكر ، حتى إنه سُجن أكثر من مرة بسبب السكر وعدم قدرته على سداد
نفقة أولاده وأمهم ، فهو لم يكن يعيش على شئ سوى هبات المحسنين من أصدقائه
ومعارفه .. ثم توفى فى 22 سبتمبر 1922م فى بلدة " أبستفورد " بالقرب من
مدينة " سيدنى " ، قبل أن ينتهى من كتابة مذكراته حول رحلته اليتيمة إلى
" لندن " .
من القصص التى اخترناها للتعليق عليها هنا ، قصة " خطة أخرى
من خطط ميتشيل للمستقبل " . وهى تحكى أن بطلها " ميتشيل " جلس
يحكى لرفاقه عن تنقّله بين كثير من الأعمال فى المزارع ، ولدى كثر من مُلاّك
الأراضى . من هذه الأعمال عمله لدى أحد أصحاب المزارع ، حيث كان يعيش هناك كفرد من
أفراد الأسرة التى أحبته فتياتها . يقول " ميتشيل " إنه لو عاد إلى
العمل هناك فإن صاحب المزرعة سيسعد بعودته وستفرح الفتاتان بذلك ، وإنه سيعمل فى
حرث الأرض ، كما يفضل دائماً .. " أنا أعرف أنهن سيسعدن برؤيتى عندما
أعود على هناك ، ولسوف أكون فى وضع أفضل ، فلا مضايقات بسبب الأجر، وساترك الأمور
تسير كما تبغى بمجرد أن أصل على البيت . أنا متأكّد أن الأمور ستكون على ما يُرام
وكل شئ فى البيت سيكون فى انتظارى قبل أن أصل بعشرين دقيقة .. " إن
ميتشيل هنا يتخيل أنه سيجد عملاً أفضل ، وبكل الشروط والمزايا التى يريد . ذلك
لأنه بلا عمل الآن فعلاً . فالإحباط واليأس من التوصل إلى أى فرصة عمل ،
جعلاه يتخذ من الخيال بديلاً عن واقع البطالة المرير . فلطالما ترك عملاً منتقلاً
إلى آخر بسبب قلّة الأجر أو المضايقات من اصحاب العمل .. ثم يتمادى فى أحلامه ،
فيتخيّل إن صاحب المزرعة سوف يحتاج على جزّاز للغنم ، وسوف بقدم " ميتشيل
" نفسه لهذه الوظيفة الإضافية ، مؤكّداً أنه خبير بذلك ، فيقوم بجزّ (1500 )
رأس من الغنم ، ثم ينوى الرحيل بعد حصوله على أجره من جزّ الغنم . هنالك تصل درجة
الحلم إلى أقصاها ، حيث يرسم خيال ميتشيل له أن صاحب المزرعة سيعرض عليه الزواج
بإحدى ابنتيه ، إغراءً له ليبقى فى المزرعة ، لكن ميتشيل سيصرّ على الرحيل ـ
إمعاناً فى التمسّك بهذه الفرصة الخيالية ـ فبعد أن يُعيى الرجلَ جدالاً ويؤكّد
استحالة بقائه ، يفاجئه الرجل بقوله : " حسناً . انتبه إلىَّ ، إذا
وافقتَ على أن تتزوج الفتاة ـ وسوف أجعلك تتزوجها على أية حال ـ سأعطيك تلك
المزرعة التى هناك ، ومائتى رأس من الغنم لتبدأ بها حياتك " .
كل هذا من نسج خيال " ميتشيل " ، ليتغلب على حالة اليأس
والبؤس التى يمر بها هو ورفاقه . فهو يحلم بمستقبل أفضل ، ويريد أن
يفارق الخرج كتفيه ، وأن يستقر فى فرصة عمل أفضل ويصبح أحد الملاّك وتكون له أسرة
. فهذا العامل الفقير يجد سلواه فى الحلم والخيال اللذين لولاهما لضاق بحياته
الرتيبة القاسية ، وببحثه عن قوت يومه وحصوله عليه بالكاد ، عن طريق التنقّل من
مالك على آخر فى الغابة والريف الواسعين ، حيث تنعدم العروض الأفضل للعمل .
لقد كانت حياة هؤلاء الأشخاص منبعاً لأفكار وموضوعات قصص هنرى لوسون
، فهو كما ذكرنا قد عايش بعض أبطال قصصه ، أثناء بحثه عن عمل وتنقله من مكان إلى
آخر ، مما جعله يكتب عنهم بدافع المشاركة الوجدانية ، ونقد هذه الظروف القاسية ،
والطبقيّة التى لا تعرف العاطفة .
لقد صار الريف والغابة بمثابة أرضية موحدة لمعظم قصص هنرى لوسون بما فيهما
من ظروف قاسية ووحشة وحرمان . كما أن أبطال هذه القصص تتشابه أحوالهم وطموحاتهم
التى عادة ما تكون بسيطة ، لكن حدوثها قد يستحيل وقوعه . ففى قصة " زوجة
راعى الماشية " نجد البطلة امرأة ريفية مكافحة ، تركها زوجها مع
أبنائها بحثاً عن الرزق بعيداً عن البيت ، بسبب الجفاف . وتدور أحداث القصة فى بيت
الراعى الذى يقع فى وسط الغابة ، حيث توجد زوجته وأطفاله الأربعة ، وكلب الحراسة
المقيّد أمام البيت . . وأثناء لعبه يشاهد أحد الأطفال ثعباناً ضخماً ، وتأتى الأم
على صياح ابنها ن فتجد الثعبان قد دخل فى كومة الحطب ، ويحاول الابن الأكبر
أن يخرجه ليقتله ، لكن الأم تنهره وتحذّره لكى لا يعضّه الثعبان . فى تلك اللحظة
يشير الابن الأصغر إلى المكان الذى هرب إليه الثعبان فينطلق الكلب قاطعاً سلسلته ،
إثر الثعبان ، لكنه لا يتمكن من اقتناصه ، حيث يدخل الأخير فى أحد الجدران الخشبية
. بعد ذلك توقف الأم أبناءها خارج البيت بجوار الكلب ، بعد أن أعدت أطباقاً صغيرة مملوءة
باللبن ووضعتها بالقرب من المكان الذى اختفى فيه الثعبان لإغرائه بالخروج . . بعد
غروب الشمس تدخل الأم أبناءها إلى البيت ، وتقدم لهم العشاء ليناموا بعد ذلك فوق
منضدة المطبخ . تجلس الأم بعد ذلك مستيقظة طوال الليل ، مسندة إلى جوارها العصا ،
بالإضافة إلى الكلب المخلص " أليجيتور " القابع أمام البيت . وتشغل
نفسها بالقراءة تارة وبالحياكة تارة أخرى وبعد منتصف الليل ونوم البناء لا تجد سوى
الذكريات أنيساً . هى ليست خائفة لكنها قلقة ، فأحد أبناء أخى زوجها لدغه ثعبان من
قبل ومات . كما أن زوجها غائب منذ ستة أشهر عنها وعن أولادها ، يرعى الماشية فى
الغابات والمراعى البعيدة .
من الذكريات التى تجول بخاطرها ذكرى زيارتها هى وزوجها والأبناء
للمدينة ، وهى زيارة كان يحرص عليها الزوج عند حضوره باستمرار ، فهى تجد متعتها فى
الذهاب إلى المدينة ، وسكنى المدينة رغبة قديمة لديها . " زوجها
أسترالى أصلىّ ، وهى كذلك . هو مهمل فى حقها ، لكنه طيب القلب بما فيه الكفاية .
فإذا كانت لديه المقدرة فإنه سيأخذها إلى المدينة ويجعلها تعيش هناك كأميرة .. لقد
تعوّدا على أن يكونا مفترقين ، على الأقل هى " . إنها تمنّى نفسها
بتعويض عن تلك المعاناة التى سببها عدم استقرار زوجها . وتعويضها هذا هو أن تسكن
المدينة وتعيش حياتها ذات الطعم المغاير ، وتنسى حياة الغابة بمخاطرها ومفاجآتها
القاسية .
بعد ذلك يصف الكاتب الحارس الأمين لهذه الأسرة ن الكلب "
أليجيتور " . " إنه ليس كلباً جميل الشكل لكى يتملّى المرءُ فى
منظره . كان الضوء يظهر آثار جراح عديدة ، حيث لم ينبت فى مكانها شعر . إنه لا
يخشى شيئاً على وجه الأرض أو تحتها . إنه يمكنه أن يتغلّب على ثور كما لو يتغلّب
على إحدى البراغيث ! هو يكره الثعابين ، وقد قتل منها الكثير ، ولكنه سوف
يعضّه ثعبان يوماً ما ويموت ، فمعظم الكلاب التى تقتل الثعابين تنتهى حياتها بهذه
الطريقة " . هذا الكلب عنصر من عناصر الصورة ، صورة المرأة الريفية
المكافحة ، فهو هنا عنصر قوة ، يساعد المرأة فى اتخاذ وضع رجل البيت . فهو يوفر
قدراً كبيراً من الحماية لهذه الأسرة التى تحدق بها الأخطار ، هذه الحماية المادية
تقودها حماية عقلية تتمثل فى تفكير هذه المرأة واحتياطاتها .
ثم يحكى الكاتب مغامرات هذه المرأة لصد المخاطر الطبيعية والأطماع
البشرية فى هذه الأسرة التى تعيش بدون رجلها معظم الوقت . فهى مرة تقاوم
حريقاً أو سيلاً جارفاً ، ومرة تداوى ما تبقى من الماشية إثر وباء منتشر ،
بالإضافة إلى مقاومة الغربان والطيور الجارحة التى تختطف دجاجها . ومرة تطرد
متطفّلاً جاء بعد علمه بغياب الزوج ، فتخيفه برباطة جأشها وبكلبها الشرس
القوى ..
وهكذا تمضى المرأة الريفية ليلها ساهرة ، حتى لا يفاجئ الثعبان أحد
صغارها ويعضّه . وبالقرب من بزوغ النهار تبدأ المواجهة مع الثعبان الذى يحاول
الخروج .
" بدأ
الثعبان الأسود يخرج ببطء لمسافة قربت من القدم ، وأخذ يحرك رأسه لأعلى ولأسفل .
ظل الكلب يرقد ساكناً ، والمرأة تجلس كأنها مسحورة . خرج الثعبان لمسافة قدم
آخر ، فرفعت المرأة عصاها ، لكن الثعبان كما لو كان قد أحسّ فجأة بالخطر ، غرز
رأسه داخل الفتحة الأخرى ، وأسرع يجمع ذيله خلفه . قفز " أليجيتور "
فجأة ، والتقت فكّاه فى نهشة مطبقة ، لكنه أخفق لأن أنفه كبيرة وجسم الثعبان
ملتصق بالزاوية المكوّنة من العروق الخشبية والأرض ، ثم أطبق فمه مرة أخرى بينما
كان الذيل يلتف ، لقد تمكن من الثعبان فى هذه المرة " ..
بعد أن يقبض الكلب على الثعبان ، تتمكن المرأة من قتله ، أثناء ذلك
يستيقظ الولد الأكبر، فتبعده الأم من المشاركة فى قتل الثعبان خوفاً عليه . ثم
تلقى بالثعبان فى النار .
هكذا تتعرض المرأة الريفية ، التى رحل عنها زوجها لكسب العيش ،
للمخاطر مرة بعد أخرى ، وهى تتغلب على الخطر وتُعمِل فكرها لتنجو هى وأبناؤها فى
كل مرة بصعوبة . . ويشقّ ذلك على نفسها فتبكى ، ويلاحظ ابنها الأكبر ذلك . "
الأطفال الصغار كانوا نائمين فى ذلك الحين ، أما الولد الأكبر الذى توسّخت رجلاه ،
فقد وقف للحظة مرتدياً ملابس نومه ، يشاهد النار ، وفى نفس اللحظة نظر إلى أمه
فرأى الدموع فى عينيها ، وفجأة ألقى بذراعيه حول رقبتها وأخذ يصيح " أمى !
سوف لا أذهب أبداً للرعى ، أحرقينى إن فعلت ذلك ! " ، فضمّته المرأة إلى
صدرها المنهك ، وقبّلته ثم جلسا معاً على هذه الحال ، بينما ضوء النهار الشاحب
يشرق على الغابة " . انتهت معاناة الأسرة بطلوع النهار الجديد
، كأنها ليلة طويلة مظلمة طلع صباحها . لقد تزامن الخلاص من الخطر مع شروق الشمس .
ومع هذا وذاك ولد لدى الطفل الإحساس بالمسئولية ، ليحل محل أبيه الغائب ، ويخفف عن
أمه أعباءً كثيرة . لقد أدرك الطفل سبب بكاء أمه .. إنه بُعْدُ أبيه عن البيت الذى
حمّلها ما لا تطيق كامرأة ، حتى إنه صاح قائلاً لها إنه سوف لا يذهب إلى
الرعى مثلما يفعل أبوه . وإن فعل ذلك يستحق العقاب بالحرق . أحس الطفل بالمسئولية
تجاه أمه وأسرته ، وأعلن أنه إذا تخلّى عن هذه المسئولية ، يكون جزاؤه مثل جزاء
الثعبان .
تصوّر هذه القصة معاناة زوجة بسيطة ،
فى مقتبل عمرها ، يغيب عنها زوجها راعى الماشية شهوراً طويلة فى مجاهل الغابة ، من
أجل رعى وتسمين الماشية ، بعد موجة جفاف ألمّت بالمنطقة التى كان مستقراً بها .
ويتعرض " هنرى لوسون " لمعاناة المرأة النفسية والعاطفية ، فإلى جانب
الأخطار التى تحدق بها وتهددها من حين لآخر ، تحرمها الوحدة وغياب الزوج من متع ـ
رغم قلّتها ـ كانت تخفف عنها شظف العيش .. مثل الذهاب فى نزهة إلى المدينة وغير
ذلك .. ورغم خشونة طبع الزوج إلا أنها تلتمس له العذر لطيبة قلبه ، رغم إنه مهمل
معها عاطفياً ، كما تظهر القصة شجاعة هذه المرأة واكتسابها الخبرة فى
مواجهة الأخطار ، فقد تمكنت من قتل الثعبان ، وحالت بينه وبين إيذاء أطفالها .
وعلى النمط ذاته تسير معظم قصص هنرى لوسون ، كما ذكرنا من قبل ، فالغابة والظروف
المعيشية القاسية قاسم مشترك فى هذه القصص ، بالإضافة إلى تشابه ظروف أبطالها
وأسباب معاناتهم . ففى " قصة اتحاد العمال يشيّع رجله المتوفّى
" ، نرى أن أحد العمال المقيّدين بسجلات اتحاد العمال الأستراليين ، قد مات
غرقاً أثناء محاولته عبور نهر " دارلنج " ببعض الخيول . والعامل هذا
غريب عن المدينة ، التى شيّع منها إلى مثواه الأخير ، لذلك لم ينمكن أحد من التعرف
عليه ، كما كان مذهبه الدينى خلاف مذهب أهل المدينة . مع ذلك فقد خرج المشيّعون
المتبرّعون وراء جنازته ، بعد أن تجمعوا فى حانة بأحد الشوارع فى انتظار نعشه . ثم
يسير موكب الجنازة الذى فقد أكثر من ثلثى أعضائه بسبب سكرهم ، حيث كان بعضهم قد
اقترح تناول الشراب حتى مجئ النعش . ويمر النعش الذى حمل على عربة تم استعارتها ،
وتغلق الحانات أبوابها احتراماً لهذا الموقف ، ولأن أهل المدينة يحترمون الموتى
كثيراً جداً . فى موكب الجنازة يتساءل الناس عن هوية هذا العامل الذى مات غرقاً ،
فيذكر أحدهم أنه قد عثر معه على أوراق تدل على إنه عامل مقيّد باتحاد العمال ، وإن
الشرطة تبحث عن بقيّة بياناته . ثم يصل الموكب إلى المقبرة ، ليبدأ القسّيس بعد
ذلك طقوس الدفن ، التى يساعده فيها أحد الناس بغرض التشرّف بخدمة الدين . ثم يتم
إنزال التابوت ، الذى غطّى بقماش رخيص ، إلى داخل المقبرة التى انزلق داخلها
بصعوبة ، ثم أهيل عليه التراب . وأخذ أعضاء موكب الجنازة يتداولون الأسماء التى
توصلت إليها خيالاتهم لهذا المتوفَّى المسكين ، الذى لم يعرف اسمه بعد ، ودفن باسم
آخر وهمى ، وسط رثائهم له وإشفاقهم على حال أسرته وإخوته . يقول راوى القصة :
" وكان معظمنا لا يعرف الاسم الذى رأيناه مكتوباً على التابوت ، فقد
كنا ندعوه بقولنا ( ذلك المسكين الذى غرق بالأمس ) .. لقد اتضح بعد ذلك أن ( جيمس
تايسون ) ليس اسمه الحقيقى ، لكنه الاسم الذى دفن به . ومعظم الصحف الأسترالية
الكبرى قد ذكرت فى اعمدتها الموجزة أن شاباً يدعى ( جيمس تايسون) قد مات غرقاً فى
نهر " دارلنج " الأحد الماضى . وقد عرفنا فيما بعد اسمه الحقيقى ، لكن لو
إننا صادفنا ذات مرة وقرأناه فى عمود الأصدقاء المفتقدين بالصحف ، فإنه لن يمكننا
تقديم أى معلومات وافية عنه لأمه المسكينة أو أخته او زوجته أو أى أحد يمكن أن
يعلمهم بشئ يخصّه ، لأننا ببساطة سنكون قد نسينا الاسم بالفعل ! " .
هذه القصة من أشهر قصص " هنرى لوسون " ، وهى تصور مأساة شابِ ينتمى على
شريحة اجتماعية هى نفسها التى ينتمى إليها أبطال قصصه . هذا العامل الفقير يعمل
لدى أحد الملاّك ، ثم يموت غرقاً فى نهر " دارلنج " الذى انخفض منسوبه
فى تلك الفترة . يموت غرقاً وهو يحاول العبور ببعض الخيول إلى الشاطئ الآخر ، بعد
أن سأل العابرين بالزوارق عن عمق المياه . الملاحظ أن جميع أبطال قصص " هنرى
لوسون " يتعرضون لأخطار متنوعة ينتمى معظمها للطبيعة ، وذلك عندما تضطرهم
الحاجة للبحث عن لقمة العيش .. فمعظم معاناتهم فى كفاحهم من أجل البقاء على قيد
الحياة . وقد اختار " لوسون " هذه الشخصية وكتب عنها وعن مأساتها ،
لتعبّر عن جانب كبير من البسطاء الذين لا يأبه لمعاناتهم أحد ، وإن فقدوا حياتهم .
يظلّون مجهولين ، بلا هوية كما كانوا فى حياتهم . فرغم محاولة المجموع إعطاء الشاب
الغريق اسماً وهويّة ، إلا أن هذا الاسم ليس اسمه الأصلى . وعلى الرغم من التعرف
على الاسم الحقيقى ، فإنه لم تعد له جدوى بعد دفن هذا العامل الغريق . فقد نشر
الاسم الرمزى فى صفحات الحوادث بالصحف ، وإن نشر بعد ذلك تنويه فى أعمدة المفقودين
، يكون عندئذ قد نسيه من عرف اسمه الحقيقى . هكذا يتعرض العامل البسيط للموت ،
وتضيع حقوقه ، و لا تتمكن أسرته من معرفة هل هو على قيد الحياة أم لا . . وتتضمن
هذه القصة أحداثاً هامشيّة تدعم فكرتها ، ولا يخلو سردها من فن وتمكّن كبيرين ،
مثل انغماس عدد من المشيّعين فى الشراب فى انتظار مجئ نعش الغريق .
هذه
القصص الثلاث هى رصد لتجارب إنسانية ، استخلصها المؤلف من خبراته الحياتية ، التى
كوّنها بتجواله وترحاله فى أنحاء أستراليا ونيوزيلندا ، وعاش ما عاشه أبطال قصصه
عموماً ، لذلك نجده قد نذر قلمه للكتابة عنهم وعرض واقعهم الخافل بالمعاناة ،
ليلفت الأنظار إلى فئات من الناس تعمل فى صمت وتعيش وتموت فى صمت . وقد أكسب صدق
الكاتب مع نفسه ومع أبطال قصصه كتاباته حياةً وأحاسيس حقيقيّة .
نشرت هذه الدراسة بمجلة " الفيصل
" السعودية ـ العدد 289 ـ أكتوبر 2000م .
)( Peter Luck , This Fabulous Century , Melbourne
, Australia , Circus Book , 1981, 2nd Edition , P. 391
)( Walter Stone , The Best Of Banjo Paterson ,
Willoughby , Australia , URE SMITH Press , 1992 . P. 17
( ) أخراج جمع خرج ، والخُرْجُ هو وعاء من شعر أو جلد ذو عدلين
يحمل على ظهر الدابة أو على أحد الكتفين ، لوضع الأمتعة فيه.
( )
Henry Lawson , Selected Works , Australian Classics , Angus And Robertson
Bookworld ,
دراسات ومقالات أخرى :
ـ ثلاث قصائد من بانجو بيترسون ( مقالة ) ـ مجلة الفيصل ـ
السعودية ـ العدد 224 ـ يوليو 1995 .
ـ هاجس الماضى فى شعر أنتونى ثويت ( دراسة ) ـ مجلة البيان ـ
الكويت ـ العدد 341 ـ ديسمبر 1998 .
ـ ثلاث قصائد للشاعر أنتونى ثويت ـ مجلة الفيصل ـ السعودية ـ
العدد يونيو 1999 .