قصص مترجمة

Translated Short Story

 

 

اتحاد العمّال يدفن رجله المتوفّى

 

قصة قصيرة بقلم : هنرى لوســون *

ترجـــمـة  : يوسف عبد العزيز على

 

        أثناء إبحارنا عصر يوم من أيام الآحاد فى زورقٍ عبر النهر ، رأينا شاباً يمتطى حصاناً ويقود بعض الخيل بجانب الشاطئ . قال الشاب إنه يومٌ جميل ، وسأل عمّا إذا كانت المياه عميقة فى ذلك المكان أم لا . فردّ عليه زميلنا مهرّج حفلتنا قائلاً إنها عميقة بما يكفى لإغراقه ! وقاد الشاب حصانه مبتعداً عنّا ، ولم نلتفت إليه كثيراً بعد ذلك  .

        فى اليوم التالى تجمّع فى الحانة التى على رأس الشارع مجموعة من المشيّعين ، واقترح بعضهم على البعض الآخر أن يتناول كلٌّ منهم كأساً من الشراب إلى أن يصل النعش . ثم قضوا بعض الوقت يرقصون فى مرح على صوت البيانو الموجود فى ردهة الحانة . أما ما تبقّى من الوقت فقضوه يمزحون ويتشاجرون .

كان المتوفّى عاملاً اتّحاديّاً شاباً ، عمره حوالى خمسة وعشرين عاماً ، وكان قد مات غرقاً فى اليوم السابق عندما كان يحاول تعويم بعض الخيل عبر نهر " دارلنج " . ويبدو أنه كان غريباً عن المدينة ، ولأنه كان من رجال اتّحاد العمّال فقد كان ذلك سبباً لكثرة المشيّعين . وقد وجدت الشرطة فى خرجه (1) بعض الأوراق التى تدلّ على انتمائه للاتّحاد . لذا أرسلت إلى مكتب اتحاد العمّال من أجل مزيد من المعلومات عنه  ، هذا ما عرفناه ، ولكن بدا أن السكرتارية لم يكن بوسعها تقديم معلومات وافية .

كان المتوفّى " كاثولوكيّاً " . ومع أن معظم سكّان المدينة على غير هذا المذهب ، إلاّ أن مبدأ الاتّحاد كان أقوىَ من العقيدة والمذهب . وعلى أيّة حالٍ ، فقد كان الشرابُ أقوى من مبدأ الاتحاد نفسه فى ذلك الوقت !  لذلك بمجرّد وصول النعش كان أكثر من ثلثى المشيّعين غير قادرين على مرافقته ، فقد كانوا سكارىَ حتى الثمالة .

         أكمل عدد من فى موكب الجنازة خمسة عشر ، أربع عشرة نفساً ترافق هذا الجسد الخالى من  الروح ، وربما ـ فى ذلك الوقت ـ لم يكن أحد منهم أفضل حالاً من هذه الجثّة ! ولكن هذا لا يهمّ . قام أربعةٌ أو خمسة من المشيّعين ، وهم من زبائن الحانة ، باستعارة عربة كان يستعملها صاحب الحانة فى نقل المسافرين من وإلى محطّة السكك الحديديّة . كان منظرهم غريباً بالنسبة لنا نحن الذين نمشى على أقدامنا ،  وكذلك كنّا نحن بالنسبة لهم ، كما كان جميعنا غرباء بالنسبة للجثّة !

انضمّ إلينا فى طريقنا المتربة خيّالٌ بدا كأنه راعٍ عاد لتوّه من رحلةٍ طويلة . ورافقنا بضع مئاتٍ من " الياردات " جارّاً حصانه خلفه ، لكنّ صديقاً له أشار له بإشارات بدائيّة من شرفة أحد الفنادق ـ كان يحرّك يده اليمنىَ فى الهواء ، ويشير بإبهامه اليسرىَ فوق كتفه ناحية الحانة . لذلك رجع الراعى ولم يلحق بنا بعد ذلك . لقد كان غريباً عن المشهد كلّه . كنّا نمشى فى ثنائيّات ، وكان هناك ثلاث ثنائيّات . كان الجوّ حاراً جدّاً ومغبرّاً . كانت أشعّة الشمس تنعكس فى أشعة باهرةٍ للبصر عندما تصطدم بسطحٍ حديدىٍّ أو بجدارٍ زاهى الألوان . فى الطريق أغلقت حانةٌ أو اثنتان أبوابهما احتراماً للموقف حتى مررنا ، لقد أغلقتا أبوابهما ودخل الزبائن وخرجوا من ناحية ما أو من مدخلٍ خلفىٍّ لدقائق معدودة . إنّ أبناء البلد نادراً ما يتذمّرون من مصاعب من مثل هذا النوع ، خاصّةً إذا نجمت عن مرور جنازة . فهم يحترمون الموتىَ كثيراً جدّاً .

         فى الطريق إلى المقبرة مررنا بثلاثة من جزّازى الغنم جالسين فى الجانب الظليل من السور ، كان أحدهم ثملاً للغاية ، أما الاثنان الآخران فقد أمالا قبّعتيهما ناحية اليمين كنوع من الاحترام للمتوفىَ أيّاً من كان هو ، وركل أحدهما ثالثهما السكران وغمغم له ببعض الكلمات فعدّل الأخير من جلسته وحملق حوله ، وبالكاد تناول قبّعته ووضعها بلا اهتمام على نصف رأسه ثم غطىَ بها رأسه كلها . ثم بذل جهداً كبيراً لكى يستجمع قواه ، حتى وقف مستنداً على السور ، وخلع قبّعته وألقى بها تحت قدمه كنوع من تأنيب الضمير ، ليجعلها بعيدةً عن رأسه حتى تمرّ الجنازة .

        مرَّ بجانبى راعٍ طويل القامة ، بدا أنه ذو حسّ مرهف فقد كان يردّد عابساً أبياتاً شعرية لـ " بيرون " تلائم هذا الموقف ، وسأل بروحٍ متعاطفةٍ عمّا إذا كنّا نعرف أن بطاقة الرجل المتوفّىَ قد أمكن التعرّف عليها هناك . لقد كانت بطاقةً تخصّ اتّحاد العمّال العام ، وغالب الظنّ أنه سيتمّ التعرّف عليها . وعى الفور قال صديقى : " أتتذكّر عندما كنّا فى الزورق أمس ؟ لقد رأينا رجلاً يقود بعض الخيل بجانب الشاطئ  ؟ ".

أجبت : " نعم "  ، فأومأ برأسه نحو النعش وقال : " إنه هو  ! " . تأمّلتُ للحظةٍ ثم قلت : " أنا لم أعطه أىّ اهتمام غير عادىّ ! لقد قال شيئاً ما ، أليس كذلك ؟ " . ردّ صديقى : " قال إنه يومٌ جميل " . كنتَ ستهتم كثيراً لو أنك عرفت أنه قد حُكِمَ عليه بالموت ساعتها . وأنّ هذه الكلمات هى آخر كلمات يقولها لإنسان فى هذه الدنيا ! " . فأضاف صوتٌ قوىٌّ كان يأتى من الخلف : " تأكّدوا لو أنكم تعرفون ذلك لأطلتم الحديث معه " . تمهّلنا فى مشينا عبر خطّ السكّة الحديديّة وطوال الطريق الترابىّ الحارّ المؤدّى إلى المقابر . وراح بعضنا يتحدّث عن الواقعة ، غير مبالين بأساليب النجاة المستحيلة التى اقترحها كلٌّ منّا .. وفى الحال قال واحد : " هناك شخصٌ ما . انظروا ! " . ومددتُ بصرى فرأيتُ قسّيساً يقف فى ظلّ شجرةٍ بجوار بوّابة المقابر .

         أُوقِفَت العربةُ التى تُقِلُّ النعشَ ، وفُتحت جوانبها الخلفيّة ، وأخرج أربعة من الرجال التابوت ووضعوه على حافّة القبر . وقف القسّيس ، الذى كان شابّاً هادئ الملامح شاحب الوجه ، تحت ظلّ شجيرةٍ نابتةٍ بجوار القبر ، ثم خلع قبّعته ورماها بإهمال على الأرض ، وشرع فى مباشرة عمله .

عندما رُشَّت المياه المقدّسة على التابوت ، لاحظتُ أنَّ واحداً أو اثنين من الوثنيّين انتفضا فى مكانهما . تبخّرت قطرات المياه بسرعة ، وامتلأت النقط الداكنة التى خلّفتها بالتراب فى الحال ، ممّا أظهر مدىَ رخص ورثاثة القماش الذى غُطِّىَ به التابوت . فقد كان لونه أسود من قبل ، وأصبح الآن رماديّاً قاتماً .

         هنا فقط من الممكن أن يحوّلَ جهلُ الإنسان وغروره الجنازة إلى حكاية مضحكة . فإن أحد أصحاب الحانات ، والذى كان ضخم الجثّة غليظ الرقبة ، ذا وجه تملؤه البثور وملامح بليدة . وكانت تعبيراته فجّة وسوقيّة . المهمّ أنّ هذا الرجلَ التقط قبّعة القسّيس من على الأرض وأمسك بها على مسافة بوصتين فوق رأس القسّيس طوال إقامة القدّاس . كان القسّيس ـ لو تذكّرنا ـ واقفاً فى الظلّ ، وكان عدد من الناس يضعون قبّعاتهم فوق رؤوسهم ثم يخلعونها بضجر . ، فى صراعٍ بين مقتهم للأحياء  وتقديرهم للموتى . كان لقبّعة القسّيس القشّيّة قمّةٌ مخروطية الشكل ، وجوانب منحدرة كلّها لأسفل كالمظلّة ، وكان صاحب الحانة يمسكها بقبضة يده الضخمة من قمّتها . فى الواقع بدا أنّ القسّيس لم يلحظ كلّ ذلك الذى يحدث . ولو أنّ قسّيساً أو كاهناً أكبر وأكثر خبرةً  منه فى مكانه لقال : " ضع القبّعة جانباً يا صديقى . ألا تستحقّ ذكرى أخينا المتوفَّىَ الاهتمام بها أكثر من الاهتمام بهيئتى ؟! " . ولو أنّ شخصاً آخر من عامّة الناس كان مكانه لقال ذلك بلهجةٍ أكثر حدّة وصرامة ، ولا تقلّ عن تلك . ولكن بدا أن القسّيس لم يكن على وعىٍ بكل ما يجرى حوله ، علاوة على ذلك فإنّ صاحب الحانة لفرط جهله وغروره لم يكن ليفوِّت على نفسه هذه الفرصة لتأكيد إخلاصه وتعظيمه لكنيسته التى هو عضوٌ مهمٌّ فيها .

         يبدو أنّ القبر كان ضيّقاً جدّاً عن التابوت ، وأخيراً تنفّستُ الصعداءَ عندما انزلق التابوتُ بسهولةٍ إلى أسفل القبر . وقد رأيتُ ذات مرّةٍ تابوتاً التصق بحوافّ القبر فى مدافن " روكوود " . وكان يلزم عندئذٍ أن يُجذبَ للخارج بشدّة ويُوضَعَ على أكوام الطين تحت أقدام الأقارب الحزانىَ ، والذين أخذوا يبكون وينوحون بصورةٍ تقبض القلب  ، بينما كان الحفّارون يوسّعون القبر . لم يكن حفّارُنا هنا غليظ القلب تماماً ، وكنوع من الاحترام لمشاعر الآخرين الإنسانيّة ، قام بكشط بعض التربة الجافّة الناعمة وأقىَ بها داخل القبر لكى تخفّف من حدّة سقوط الكتل الطينيّة النازلة على التابوت . كما حاول أن يسوّىِ عبوّات الجاروف الأولىَ بلطفٍ داخل القبر بظهر الجاروف المتجّه للخارج  . ولكن كتل طمى نهر " دارلنج " الصلبة ظلّت ترتدُّ بعد ارتطامها بالتابوت وتقرقع كلُّها . لم يهمّ ذلك الأمر كثيراً ، فلم يحدث شئٌ . ولم يكن سقوط الكتل الطينيّة على تابوت الميّت الغريب هذا ، يحدث صوتاً مختلفاً عن صوت سقوطه على أىّ صندوقٍ خشبىٍّ آخر . على الأقلّ لم ألحظ أىّ شئٍ مرعبٍ أو غير عادىّ فى هذا الصوت . لكن ربّما يتأثّر واحدٌ أكثر حساسية منّا بهذا ، فيُذكّره بدفن ميّتٍ حدث منذ زمان ، وكان هذا الميّتُ أحد أقربائه ، عندما كانت كلّ قطعة طينٍ تنزلُ داخل القبر كأنها تضربُ قلبه ..

        لقد تمّ الدفن فى ساعة الظهيرة . كان اسم " البشمان " (2) المتوفّى  " جيم " على ما يبدو . لكنّهم لم يجدوا أىّ صورٍ شخصيّة فى خرجه ، ولا حتّى أىّ شئٍ يشير إلى أمّه ، إنما وجدوا بعض الأوراق التى  تتعلّق بأمور الاتّحاد فقط . وكان معظمنا لا يعرف الاسم إلى أن رأيناه مكتوباً على التابوت ، فقد كنّا ندعوه بقولنا : " ذلك الفتىَ المسكين الذى غرق فى نهر  " دارلنج "  أمس " .

قال الراعى ، الذى تعرّفتُ عليه ، وهو ينظر إلى التابوت : " إذن اسمه  " جيمس تايسون "  ؟!

فسألتُهُ : " لماذا ؟ ألم تكن تعرف ذلك من قبل ؟ "

ردّ قائلاً : " لا . لكنّى كنتُ أعرف أنه عضوٌ فى الاتّحاد " .

لقد اتّضح بعد ذلك أن " جيمس تايسون " ليس اسمه الحقيقىّ ، ولكنّه الاسم الذى دفن به . على كلّ حال فقد دفن به . ومعظم الصحف الأستراليّة الكبرى قد ذكرت فى أعمدتها الموجزة أنّ شاباً يدعىَ " جيمس جون تايسون " قد مات غرقاً فى نهر " دارلنج " الأحد الماضى .

وقد عرفنا فيما بعد ماذا كان اسمه الحقيقىّ . لكن لو أنّنا صادفنا ذات مرّة وقرأناه فى عمود الأصدقاء المفتقدين بالصحف ، فإنه لن يمكننا تقديم أىّ معلومات وافية عنه لأمّه المسكينة أو أخته أو زوجته أو أىّ أحد يمكن أن يُعلمهم بشئ يخصّه . لأنّنا ببساطة سوف نكون قد نسينا الاسم بالفعل !

 

 

*  *  *

 

 

تأليف : هنرى لوســـون

ترجمة : يوسف عبد العزيز على

أسوان 25 / 7 / 1994 م

نشرت هذه القصة فى مجلة " البحرين الثقافية " ، العدد الثامن ، أبريل 1996

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  الخرج : وعاء من شعر أو جلد ، ذو جانبين ، يحمل على ظهر الدابّة لوضع الأمتعة فيه .

(2)  البشمان : كلمة تطلق على أحد سكان أستراليا أو إفريقيا الأصليّين الذين يعيشون فى الأدغال على الصيد .      

 

 

  

يــوماً ما  

 

قصة قصيرة بقلم : هنرى لوســون

ترجـــمـة  : يوسف عبد العزيز على

 

          ظلّ المسافران يتحدّثان حتى وقت متأخّر من الليل فى المكان الذى استقرّا فيه . كان القمر آخذاً فى النزول شيئاً فشيئاً خلال المدى المترامى ، وكان رفيق " ميتشيل " قد انتهى لتوّه من سرد حكايته المكشوفة إلى حدٍّ ما ، ولكن بدا أنها لم تَرُقْ " ميتشيل " الذى كان فى حالة نفسيّة لا تسمح بذلك .

أخذ " ميتشيل " عدّة أنفاسٍ من غليونه ، ثم تأمّل لحظة وقال : " منذ سنين كنتُ مغرماً جدّاً بفتاة كانت تأتى إلى منزلنا لزيارة أختى ، كانت أجمل فتاة فى الدنيا ، كان عمرها ثمانية عشر عاماً ، وطولها لا يصل إلى مستوى كتفى ، عيناها الزرقاوان أوسع عيون رأيتها فى حياتى ، وشعرها بُنّى لامع يصل إلى رُكبتيها ، وكثيف جدّاً بحيث لا يمكن أن تقيس عرضه بِكِلْتَى يديك ، أما بشرتها فكانت تشبه الزنابق والورود .

       بالطبع لم أتصوّر أنها ستنظر إلى شخص وحشىٍّ جاهل وقبيح مثلى ، لذلك اعتدت أن أبتعد عن طريقها كلما جاءت ، وأتصرّف معها بنوعٍ من الفتور . لم أُرِدْ أن يعرف الآخرون أننى أحبّها ، لأننى كنتُ أُوقن أنهم سيسخرون منِّى ، وربّما تسخر هى منّى أكثر من الجميع .. كانت تأتى وتتحدّث إلىّ ، وتجلس بالقرب منّى على المائدة ، لكنّى كنتُ أعتقد أنها تفعل ذلك من منطلق طيبتها ، وأنها تشفق علىَّ فقط ، لأننى ذلك الشابّ المعقّد الجافّ . حقيقةً لقد هِمْتُ بهذه الفتاة ، وبلا مزاح : كنتُ أشعر بالاعتزاز كثيراً عندما أتذكّر أنها ريفيّة مثلى ، لكنّنى لم أدعْها تعرف ذلك ، لأننى كنتُ أشعر أنها ستسخر منّى بالتأكيد .

على كلٍّ مَضَت الأمور فى مجراها ، إلى أن حصلتُ على عرضٍ للعمل لمدّة عامين أو ثلاثة فى محطّة قريبة من الحدود . وكان علىّ أن أذهب لأننى كنت فى حاجة إلى المال ، إلى جانب أننى أردت أن أبتعد لأن رؤيتها لم تكن سوى زيادة فى أحزانى  .

وفى الليلة التى غادرتُ فيها ، جاء الجميع إلى محطّة السكّة الحديديّة  لكى يودّعونى ؛ بما فيهم الفتاة التى أحببتُها . وعندما كان القطار على أُهبة الانطلاق ، رأيتها تقف بمفردها بعيداً  فى الجانب المظلم من الرصيف . ظلّتْ أختى تَكِزُنِى بمرفقها ، وتعابثنى  ، ولكنّنى لم أفهم ما كانت تقصده ، وفى النهاية قالت : " اذهب و كلّمها أيها الأحمق ، اذهب وسلّم على { إيدى  } " .

          لذلك ذهبت إلى حيث كانت تقف ، وعندما أدار الآخرون ظهورهم ، قلت مادّاً يدى " إلى اللقاء يا آنسة { براون } ، لا أظنّ أننى سأراكِ مرّةً أخرى ، اللهُ وحده يعلم متى سأعود ، أشكرك على مجيئك لوداعى " . عندئذٍ أدارت وجهها ناحية النور ، فرأيتها تبكى ، وجسمها يرتجف ، وفجأة أخذت تصيح : " جاك ! جاك ! " ، ومدّتْ ذراعيها هكذا " . ثمّ مدّ ذراعيه فيما يشبه العناق .

      كان " ميتشيل " يتحدّث بنبرة كأنها ليست صادرة منه ، كان رفيقه يتطلّع إلى وجهه المهيب ، وعينيه الشاخصتين إلى النار المشتعلة فى كومة الحطب  .. سأله رفيقه : " أظنّكَ عانقتَها وقبّلتَها بحرارة فى تلك اللحظة ؟! "

ردّ " ميتشيل " باقتضاب : " أظنّ ذلك " . ثم إنّ هناك بعض الأمور التى قد لا يريد الإنسان أن يمزح فيها . لا بأس . أرى أن ندفع بأحد الأكواز (1) فى النار ، ونتناول كوبين من الشاى قبل أن ننام " .

وبينما هما يشربان الشاى ، قال رفيق " ميتشيل " : " أعتقد أنك ستعود وتتزوّجها يوماً ما " .  ردّ " ميتشيل " : " يوماً ما !  فعلاً  ! يبدو أنه كذلك . أليس كذلك ؟! . كلّنا نقول " يوماً ما ! "  " .كلمة اعتدت أن أقولها منذ عشر سنين ، ولتنظر إلى حالى الآن . ظللتُ أضرب فى الأرض خمس سنين ، وفى السنتين الأخيرتين صرتُ مقيّداً  بالعمل على الطريق ، ولا أمل فى ترك هذا العمل ، إلاّ بالذهاب إلى الأفضل منه ، وماذا بيدى كى أحصل على العمل الجيّد ؟  من الصعب أن أعود إلى البيت وأتزوّج بدون قرشٍ فى جيبى أو ملابس جديدة ، و لا حيلة فى الحصول على ذلك كما تعلم . لقد أقسمتُ ألاّ أعود إلى البيت بدون مال ، وما عدا ذلك فلا . ولكن أين هى أيام المال ؟ لقد أصبحت فى عداد الذكريات .

انظر إلى ذلك الحذاء ! لو تجوّلنا فى المدينة لقيل إننا متشرّدون ومتسوّلون ، وما الفرق ؟ ! أعرف أننى كنت غبيّاً فى اختياره ، لكنّى دفعتُ فيه ثمناً ، عموماً .. لم يبقَ للمرء سوى أن يتسكّع ويتسوّل به من أجل أن يشترى أحسن الملابس ، ويظلّ يتسوّل حتى تكبر سنُّه ، ويصبح مهملاً وقذراً  ، ثم يشيخ ويصبح أكثر إهمالاً وقذارة ، ويعتاد على التراب والرمال ، والحرّ والذباب والبعوض ، تماماً مثلما يفعل أىّ ثَوْرٍ ، ثم يفقد الطموح والأمل ، ويقنع بمثل هذه الحياة الحيوانيّة ككلب ، وحتى يصبح خُرجُه (2) جزءاً منه ، ويحسّ بأنه تائه ومضطرب وخفيف الأكتاف بدونه ، ولا يبالى إذا كان سيجد عملاً آخرَ أم  لا ! أو حتى يعيش كآدمىّ ، ويبقى فى هذه الحال حتى تحلّ روح الحيوان محلّ روح الإنسان فيه .. تُرَىَ من يهتمّ به عندئذ ؟!

لو أننا لم نجد عملاً على الطريق أمس ، ربّما كنّا مِتْنا وتعفّنّا فى هذا القفر .. من يدرى ؟ وربّما يجدنا أحد فى النهاية ، لكن قد يكون الأمر غير مُجْدٍ  عندئذ أن يترك شؤونه ويذهب للإبلاغ عنّا .. اللعنة ! " وأخذ ميتشيل يدخّن للحظات فى صمتٍ موحشٍ كئيب ، ثم أفرغ غليونه من الرماد ، وتنهّد قائلاً : " على كُلٍّ ، أنا متعكّر المزاج قليلاً الليلة ، أعتقد أنه من الأفضل أن ننام أيها الرجل العجوز ، فإنّ أمامنا غداً طريقاً طويلاً وجافاً  " . وفرشا خُرْجَيْهِما على الرمال ، ثم رقدا ، ولفّ كلٌّ منهما جسده ببطّانيّته  ، وغطّى " ميتشيل " وجهه بقطعة من القماش ، لئلاّ يجعله ضوء القمر يقظاً .

                                                                                

تأليف : هنرى لوســـون

ترجمة : يوسف عبد العزيز على

أسوان 1995م

نشرت هذه القصة فى مجلة " الفيصل "، المملكة العربية السعودية ، العدد 305 ، فبراير 2002 م .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  مفرده " كوز " ، وهو إناء معدنىٌّ يشرب به الماء .

(2)  الخرج ، وعاء من قماش ذو شقّين ، يحمل على الكتف أو على الدابّة .

 

 

 

يــوم فـى ضيـعــة

 

قصة قصيرة بقلم : هنرى لوســون

ترجـــمـة  : يوسف عبد العزيز على

 

 

         المنظر العام لضيعة غربية صغير فى " نيو ساوث ويلز " . مالكها إنجليزىّ الأصل ، وزوجته أيرلنديّة . الزمان ، يوم الأحد ، حوالى الثامنة صباحاً . امرأة يبدو عليه الإنهاك ، تخرج من البيت المبنىّ من عروق ولحاء الخشب ، وتدير وجهها ناحية التلّ ، وتصيح مادّةً حروف الكلمة : " تـووومــى ! " . 

لا إجابة تأتيها ، فتسحب فى الحال نفساً عميقاً ، وتصيح مرة أخرى : " تووومــــى ! "

صدىً ضعيفٌ لصوت يأتى من بعيد عند تحويلة السكة الحديديّة ، حيث وجود " تومى " يمكن تمييزه ، لكن بغير وضوح ، عن طريق ستّ بقرات تتحرّك ببطء شديد نحو حظيرة البقر . تدخل المرأة البيت . بعد ذلك بعشر دقائق تخرج مرة أخرى وتصيح " تووومـــى ! " ، فيأتيها الردّ فرحاً ومجلجلاً : " نعـــم ! "

ـ " ألن تذهب لتحضر هذه الأبقار اليوم ؟ "

ـ بلى ، ألا ترين أننى قادم ؟ "

يظهر فتى يجرى بعشوائيّة على طول تحويلة الخطّ الحديدىّ ، يلاحق بقرةً حلوباً . البقرة تجرى للأمام لمسافة قصيرة بين الأشجار . ثم تتوقّف لكى ترعى مرة أخرى ، بينما الفتى يستفزّ بقرة حلوباً أخرى . وتمر ساعة بعد ذلك .

        الجيل الأسترالى الناشئ يمثّله هنا فتىً طويلٌ ونحيف . يبلغ من العمر حوالى الخامسة عشرة . وهو مكلّف بحلب الأبقار . حظيرة الأبقار تقع أمام البيت . وأرضيّتها غالباً ما تكون موحلةً بعمق كاحل الإنسان . يسوق الفتى أمامه بقرة متربة ، تبدو خائفة ، نحو السياج  . يربط رأسها إليه . ثم يربط رجلها اليمنى الخلفيّة ويشدّها للخلف ، ويربطها فى السياج أيضاً . تتبقّى هناك إحدى عشرة بقرة لكن لا واحدة منها يمكن حلبها خارج السياج ، لا سيّما وأن حلمات أثدائها متقرّحة . لا يعلم صاحب الضيعة ما الذى يجعل حلمات الأبقار تتقرّح . ولكن لديه اعتقاد أكيد فى مرهمٍ ما ، أوصاه به رجلٌ يعرف عن الأبقار أقلّ منه هو شخصيّاً . وهذا يعو إلى أن يستعمل فى مدد غير منتظمة تاركاً طريقة الاستعمال حسب حريّة تصرّف ابنه ـ وفى الوقت نفسه تظلّ حلمات الأبقار متقرّحة .

     بجعل البقرة مربوطة ، يمسك الفتى فى حذر بأقلّ الأثداء تقرّحاً ، يجذبه بعنف فجأة متفادياً عرقوب البقرة . عندما يحصل على كمية كافية من اللبن لأن يغمس يديه الملوّثتين فيها ، يقوم بترطيب الحلمات . وتستمر الأمور على ما يرام بعد ذلك . ومن حين لآخر يذهب ملل عمله هذا برشّ اللبن على عين الثور الذى غلبه النعاس فى الحوش المجاور . مرّات أخرى يحلب اللبن داخل فمه . فى كل مرة ترفس البقرة بأرجلها ؛ تسقط قشرة ثمرة خشنة أو بذرة عشبٍ أو قطعة من شئ آخر مشابه فى اللبن . كل هذه الأشياء يغرقها الفتى بتيّارٍ من اللبن موجّه جيّداً عليها ـ من منطلق أن : البعيد عن العين بعيد عن القلب !

أحياناً يلصق الفتى رأسه ببطن البقرة ، ممسكاً بإحدى الحلمات ، ثم ينام نوماً خفيفاً ، بينما الدلو مثبّتٌ بإحكام وبصورةٍ آليّة بين ركبتيه . بعد ذلك ينزل الدلو تدريجيّاً حتى يستقرّ على الأرض . وما إن يغلبه النعاس حتى يفزعه صوت أمّه الحادّ بتساؤلٍ عمّا إذا كان ينوى الانتهاء من حلب الأبقار اليوم أم لا . مرّات أخرى يستيقظ بسبب تحرّكات البقرة المفاجئة ، أو بأن يطرحه أرضاً أحد الثيران المندفع توّاً من خلال أحد الألواح الخشبيّة المكسورة فى جدار الحوش . فى الحالة الأخيرة يمسك الفتى بالثور مبعداً رأسه عن ثدى البقرة بكعب حذائه ، ثم يربطه فى أى مكان . أحياناً تقطع البقرة أو تفكّ قيد رجلها . وتضع رجلها فى الدلو ، عندئذ يتشبّث بالدلو المملوء باللبن يائساً ، ويظلّ على أمل فى أنها سوف تخرج حافرها مرة أخرى دون أن تسكب اللبن منه . أحياناً تفعل ذلك ، وغالباً لا تفعله ! وهذا يعتمد على مدى قوّة الفتى وذكائه ، وكذلك على مقدار اللبن فى الدلو . على أية حال ، فإن الفتى يضطر ليضرب البقرة بجاروف الحظيرة القديم ، وتركها تخرج ويحلب بقرة أخرى .

وعندما يدرك أنه قد انتهى من عملية الحلب ، يترك الأبقار مع صغارها فى الخارج . ويحمل الحليب متّجهاً إلى معمل الألبان . حيث ينتظره جدالٌ ساخن مع أمه ، والتى ـ آخذة رأيها بناءً على كمية اللبن ـ يكون لديها المبرّر فى أن تعتقد أنه أغفل بعض الأبقار الحلوب ، وهذا ما ينكره غاضباً ، مخبراً إياها أنها تعرف جيداً أن الأبقار آخذة فى الكفّ عن الإرضاع .

        معمل الألبان مبنىٌّ من لحاء شجر " البقس " المتعطّن ـ على الرغم من كثرة اللحاء الليفىّ الجيد على مسافة قريبة ـ والبناء يبدو كما لو أنه يريد أن ينهار  ، وتمنعه من ذلك فقط ، ثلاث دعامات منحنية تقف ضدّ الجانب المائل . المزيد من الدعامات سوف تُحتَاجُ عمّا قريبٍ فى الناحية الخلفيّة . لأن المعمل يُبْدى علامات أنه سينهار فى ذلك الاتجّاه . اللبن موضوع فى أطباق مصنوعة من صفائح الكيروسين المقسّمة أنصافاً ، والموضوعة على الأرفف الخشبيّة المثبّتة على الجدران . الأرفف ليست مسوية الاستقامة ، والأطباق فى وضع أفقىٍّ نسبيّاً ، مستندة على شرائح وقطع صغيرة من الخشب ، محشورة تحت جوانبها السفليّة . اللبن مغطّى بفروخ ملوّثة من ورق الصحف القديمة ، مفروشة على أعواد موضوعة عبر الأطباق . إن هذه الوقاية ضرورية لأن لحاء الشجر الموجود فى السقف قد تفتّت وترك ثقوباً ذات أهداب ـ وأيضاً لأن الدجاج يصعد ويجثم هناك ـ يحدث أحياناً ويرتخى الورق عند المنتصف ، عندئذٍ تكون الزبدة بالطبع قد تأثّرت بشئٍ من ذلك القبيل .

       تزيل زوجة صاحب الضيعة أوراق الصحف ، وتكشف عن طبقة صفراء سميكة من الزبدة ، مرشوشة بغزارة بالتراب الذى سقط عليها بطريقة ما . ثم تدير سبّابتها على حواف الزبدة  لكى تفصلها عن الطبق ، ثم تلعق إصبعها بفمها . وتستمر على هذا النحو فى عملية نزع الزبدة . إذا كان اللبن والزبدة متماسكين جدّاً ، قامت بلفّ الزبدة بأصابعها كفطيرة ، وأخرجتها من الطبق وقسّمتها إلى قطع . اللبن الكثيف المتخثّر يُصَبُّ فى دلوٍ للخنازير وصغار الثيران . الأطباق تُنَظَّفُ فى حوضٍ ملئٍ بالماء الساخن ، بواسطة خرقةٍ قديمة . ثم تشرع الزوجة فى وضع لبن الصباح . يمسك " تومى " بالخرقة ذات الشكل غير المريح ، التى تعمل كمصفاةٍ ، بينما أمّهُ تصبُّ اللبن . أحياناً تتعب يد الفتىَ فيترك بعض اللبن يطفح ، مما يجعله ينزعج . ولكن هذا لا يهمّ كثيراً ، لأن قماشة المصفاة بها ثقوبٌ كبيرة فى المنتصف .

        يواجه بابُ المعمل الطريقَ الترابىّ .  هو بدون مفصّلات . لذلك يجب أن يستند إلى دعامة . لكن الدعامة غير موجودة هذا الصباح . و " تومى " متّهم بأنه كان يطارد بها البقرة " بولى " العجوز فى ساعةٍ مبكّرة هذا الصباح . لكنه لم يرَ أبداً هذه الدعامة اللعينة ، ولم يطارد بها بقرة من قبل . لذلك يريد أن يعرف ما لفائدة من اتّهامه بذلك  دائماً . علاوة على ذلك ، هو يشكو من أنه يُلامُ على كل شئ بصفة مستمرّة . الدعامة الخشبيّة لا بدّ وأنّها ستظهر . لذا فإن عربة قديمة وضعت خلف الباب لكى تجعله فى وضع الإغلاق . هناك الكثير من القلق حول البقرة التى فقدت ولم تُحلب ليومين مضيا . يأخذ الفتى الأبقار إلى الحظيرة الصغيرة القريبة من البيت ، المحاطة بسياج ، ويغلق عليها السياج مُنْزِلاً  الجزء العلوىّ من الباب الحديدىّ . بينما الجزء السفلىّ مثبّت بشدّة ويحتاج لبعض الجهد لفكّه ، لذلك يجعل الحيوانات تقفز فوقه قبل أن يغلق عليها . ثم يقوم بإطعام الثيران الصغيرة التى فطمت مبكّراً جدّاً بيديه . يحمل اللبن المنزوع الزبدة إلى الحظيرة فى دلوٍ مصنوع من برميل زيت ـ وأحياناً صفيحة كيروسين ـ ثم يمسك بثورٍ من عنقه بيده اليسرىَ ، ويدخل سبّابته الملوّثة فى فمه ، ثم يدفع برأسه إلى أسفل نحو اللبن . يمتصّ الثور اللبن معتقداً أنه يرضع من ضرع . بعد ذلك وبسرعة ينطح برأسه فى عدّة اتّجاهات ـ كما تفعل صغار الأبقار لكى تذكّر أمهاتها بأن تترك اللبن ينزل ـ يحدث أن معصم الفتىَ تخدشه حافّة الدلو المتشقّقة جدّاً ، فيلكم الثور فى فكّه ، ويركله فى بطنه ، ثم يحاول أن " يفطّسه " بوضع أنفه فى اللبن . وأخيراً يبعده عن الدلو بواسطة الحبل والجاروف ، ويقوم بإحضار ثور آخر لكى يشرب . تبدو يده لزجة . والإصبع الوحيد النظيف يجعله يبدو كأنه يرتدى قفّازاً ملوّثاً بالدهون ، ممزّقاً عند الإصبع السبّابة .

       يقف صاحب الضيعة مستنداً إلى سور ، يتحدّث إلى أحد جيرانه . تستقرّ ذراعاه على أعلى قضيب السور . وتستريح ذقنه على يديه . ويستقر غليونه بين أصابعه . بينما تقع عيناه على بقرة بيضاء تجترّ طعامها فى الجانب الآخر من السور . ذراعا الجار تستندان أيضاً على أعلى قضيب السور ، وذقنه تستريح على يديه ، بينما غليونه مستقرٌّ بين أصابعه ، وعيناه واقعتان على البقرة ذاتها ! إنهما يتحدّثان عن هذه البقرة . لقد ظلاّ يتحدّثان عنها لمدّة ثلاث ساعات . وبينما هى تجترّ طعامها ، كان أنفها مشرعاً إلى أعلى وللأمام وعيناها مغلقتين . تترك البقرة فكّها السفلىّ ينزل قليلاً ، تحرّكه إلى جانب واحد ، ثم ترفعه وتعيده إلى وضعه مع هزّةٍ دائرية . ثم يظلُّ فكّها ساكناً تماماً للحظة . وقد تَظُنُّ أنها توقّفت عن المضغ . لكنّها لم تفعل ذلك بعد من آنٍ لآخر تمرُّّ لقمةٌ طريّةٌ سلسة ، ظاهرةً عبر رقبتها البيضاء النظيفة ، ثم تختفى . ثم تعود للمضغ مرة أخرى . وبعد قليل تفقد وعيها وتنسىَ أن تمضغ . ولا تفتح عينيها مطلقاً . إنها بقرةٌ صغيرة السنّ ، وفى حالةٍ جيّدة ، ولديها يكفيها من طعام . والشمس دافئة بما يناسبها . وفى الواقع لو أنّ حيواناً يمكن أن يكون سعيداً حقّاً ، فيجب أن تكون هى ذاتها .

يبتعد الرجلان الآن عن السور ، ويملآن غليونيهما ، ويذهبان لإلقاء نظرة على بعض صفوف العيدان المتفرّعة المغروسة فى الأرض بشكل واضح ولغرض ما . صاحب الضيعة يسمّى هذه العيدان " أشجار فاكهة " ، ويسمى المكان " البستان " . ظلاَّ يتسلّيان بهذه العيدان البائسة حتى وقت الغداء . عندما قال الجار إنه يجب أن يعود إلى بيته ، قال له صاحب الضيعة : " ابقَ معنا . وتناول الغداء أيها الرجل النشيط ! ابق معنا وتناول الغداء " . وهكذا بقى الصديق .

        إنه يومٌ صيفىٌّ حارٌّ ذو شمس محرقة . والغداء يتكوّن من لحمٍ مشوىٍّ ساخن ، و" صينيّة " بطاطس ساخنة ، وكرنب محشوّ ساخن ، وقرع ساخن ، وبسلّة ساخنة ، بالإضافة إلى فطيرة خوخ ساخنة ملتهبة .

تشرب الأسرة أربعة فناجين من الشاى لكلّ فردٍ فى المتوسّط بعد كلّ وجبة . أخذت الزوجة مكانها فى مقدّمة المائدة ممسكة بمكنسة لكى تذود بها الدجاج . فى السكتات القصيرة كانت تقاطع الحديث بمثل هذه الصيحات " هِشّْ ! هِشّْ !  " تومى " : ألا ترى هذه الدجاجات ؟ أخرجها من هنا " .

من الواضح أن الدجاج يمضى كثيراً من وقته داخل البيت . فهو أصبح يميّز المساحة التى يغطّيها دوران المكنسة لضربه ، فيظلّ فطناً إلى ضرورة البقاء وراءها مسافة بوصتين أو ثلاث . ومن وقت لآخر يمكنك أن ترى دجاجةً على خزانة أدوات المائدة بين الآنية الفخّاريّة . هناك اهتمام من الأسرة لإبعاده قبل أن يكسر أىَّ شئ . وبينما الغداء مستمر دخل ثوران صغيران فى حقل القمح عبر سورٍ مكسورٍ كان قد أصلح مؤقّتاً بقطعة من لحاء الخشب . كما أن ثوراً أو اثنين اقتحما كرم العنب . مع ذلك فإن هذا الأسترالىّ صاحب الضيعة ـ الذى هو عديم التدبير لدرجة أنه لا يعرف أن يقيم سوراً مناسباً ، أو أن يبنى بيتاً لائقاً ، والذى هو أيضاً يعرف القليل وقد لا يعرف شيئاً بالمرّة عن الزراعة ـ قد يبدو من حديثه أنه اطّلع على جميع القضايا الاجتماعية والسياسية العظيمة التى تخصّ هذا العصر . وهذه بعض نِتَفٍ من الحديث اِلْتُقِطَتْ على مائدة الغداء . الحاضرون هم : صاحب الضيعة ، الزوجة ، الجار " كورنى جورج " ولقبه " هنرى جورح " ، و" تومى "  و " جاكى " ، والأطفال الأصغر سنّاً . الفراغات الموجودة فى نصّ الحديث تمثّل مقاطعات الدجاج والأطفال .

ـ " كورنى جورج " ( مستأنفاً الحديث ) : " ولكن " هنرى جورج " يقول فى كتابه " التقدم والفقر " ، يقول : ــــــــــــ    

ـ الزوجة  للدجاج : " هِشّْ ! هِشّْ ! "

ـ كورنى  : " هو يقول  ــــــــــــ  "

ـ تومى   : " أمّى ، أجيبى جاك هذا ! "

ـ الزوجة ( مخاطبة جاك ) : " إذا كنتَ لا تستطيع التصرّف بنفسك ، اترك المائدة " .

ـ تومى  : " هو يقول فى " التقدم و ـــــــ  "

ـ الزوجة  : " هِشّْ ! "

ـ الجار   : " أعتقد أن كتاب " النظر إلى الوراء " أكثر ــــــــــ  "

ـ الزوجة : " هِشّْ ! هِشّْ ! تومى ألا ترى هذه الدجاجة ؟ "

ـ صاحب الضيعة : " الآن أعتقد أن كتاب " كتيبة القيصر " هو تقريباً أكثر ــــــــــــ  فقط انظر إلى ـــــــــــ  "

ـ الزوجة : " هِشّْ ! هِشّْ ! "

ـ صاحب الضيعة : " انظر إلى " الثورة الفرنسيّة "  " .

ـ كورنى  : " والآن ، هنرى جورج ـــــــــــ "

ـ تومى : " أمى ، لقد رأيتُ كنجارو عجوزاً هناك فى ــــــــــــ  "

ـ الزوجة : " كفىَ ! تناول غداءك وأنت ساكت ، لا تتكلّم . ألا ترى أن الناس يتكلّمون ؟ "

ـ صاحب الضيعة : " فقط انظر إلى " الثورة ـــــــــــ  "

ـ الزوجة ( للدجاج ) : " هِشّْ ! هِشّْ ! ( فجأة تتجه إلى جاكى ) : " أخرج أصابعك من السكّر ! يجب أن يضايقك أن أقول لك شيئاً كهذا " .

ـ الجار : " ولكن " النظر إلى الوراء " ـــــــــــــ  "

ـ الزوجة : " اذهب إلى هناك يا " تومى " . ألم أقل لك إنك ستسكب الشاى ؟ اذهب بعيداً عن المائدة ! "

ـ صاحب الضيعة : " أعتقد أن " كتيبة القيصر " ـــــــ هو الوحيد ـــــــ "

ـ الزوجة : " هِشّْ ! هِشّْ ! " . ثم تفقد صبرها فتنهض وتتمكّن من الإمساك بديكٍ صغير عن طريق المكنسة ، وتلقيه إلى داخل الفِناء ، فيسقط على رأسه جهة الباب ، ويعود من جديد .

بعد ذلك كان الحديث عن " ديمنج " .

ـ صاحب الضيعة : " ما من شكٍّ فى أن هذا الرجل مجنون ــــــــــــ"

ـ الزوجة : "   " ديمنج " ، هذا الوندسور التعس ! لماذا ؟ لو كانت بيدى سلطة لأمرت بغليهِ حيّاً ! لا تقولوا لى إنه لم يكن يعرف ما يفعل ! لماذا ؟   وددتُ لو أننى جعلته  ـــــــــــ "

ـ كورنى : " ولكن يا سيّدتى ، أنتِ ـــــــــــــ  "

ـ الزوجة ( للدجاج ) : " هِــشّْ ! هِــشّْ ! " 

 

*   *   *

 

تأليف : هنرى لوســــون

ترجمة : يوسف عبد العزيز على

أسوان 12 / 9 / 1997 م

نشرت هذه القصة فى مجلة " نوافذ " ، المملكة العربية السعودية ، العدد الرابع ،يونيو 1998 م .

 

هنرى لوسون :

ولد " هنرى لوسون " فى 17 يونيو 1867م ، فى بلدة " جرنفل " بالقرب من مدينة " سيدنى " ، لأبٍ نرويجى كان يعمل بحاراً ، يدعى " نيل هيرتزبرج لارسن " ، وأم تدعى " لويزا " . حصل " لوسون " على قدر لا بأس به من التعليم ، ثم أصيب بالصمم عندما بلغ التاسعة من عمره ، وقد رافقه هذا الصمم بقية حياته . فى سنة 1882 انفصلت والدة " لوسون " عن أبيه وعاشت هى وابنها فى " جرنفل " ، حيث انخرطت فى الحركة النسائية وأصدرت مجلة تحمل اسم The Republican  والتى نشر فيها " لوسون " أول مقطوعة نثرية له  .ومن أوائل أعماله التى جلبت له الشهرة قصة مسلسلة نشرها فى مجلة  The Worker    بعنوان  Arvie Aspinall  سنة 1892 ، هذا إلى جانب قصص الغابة مثل The Drover's Wife  و  A Day On A Selection   .

ومن الكتب التى أصدرها " لوسون " وزادت من جرّائها شهرته ، كتاب  While The Billy Boils   وكتاب In The Day When The World Was Wide   اللذان صدرا فى عام 1896م . كما صدرت له بعد ذلك مجموعة قصصية بعنوان  Over The Sliprails , On The Track    ومجموعة شعرية بعنوان Verses Popular And Humorous    .

سافر " هنرى لوسون " إلى إنجلترا فى سنة 1900م ، بحثاً عن مزيد من الشهرة والتألّق ، كما هى عادة الأدباء الأستراليين فى ذلك الحين . إلا أنه أخفق فى هذه الرحلة كما أخفق زميله الشاعر " بانجو بيترسون " بعده بعام واحد فى رحلة مشابهة . وبعد عودته استقر " لوسون " فى " سيدنى " ليصدر بعد ذلك عدداً من مؤلفاته .

توفى " هنرى لوسون "  فى 22 سبتمبر 1922م فى بلدة " أبستفورد " بالقرب من مدينة " سيدنى " ، قبل أن ينتهى من كتابة مذكراته حول رحلته اليتيمة إلى " لندن " .

*************

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

è                      الرئيسية                     ç

 

é