4- الفتنة الأولى وآثارها الفكرية وموقف المسلمين منها ومع عهد عثمان رضي الله عنه –خاصة من منتصف خلافته- بدأ الاختلاف السياسي والديني أوضح من ذي قبل فقد أخذ المسلمون على عثمان بن عفان عدة مؤاخذات لعل من أبرزها عزل الولاة السابقين (ولاة عمر) وتولية رجال من قرابته من بني أمية، فعزل سعد بن أبي وقاص الزهري أحد كبار السابقين إلى الإسلام من ولاية الكوفة وولى الوليد بن عقبة (من الطلقاء من بني أمية) وعزل بقية ولاة بلاد الشام وجمعها لمعاوية بن أبي سفيان (من الطلقاء من بني أمية) وعزل عمرو بن العاص عن مصر وجمع خراجها وجندها لعبد الله بن سعد بن أبي السرح (من الطلقاء من بني أمية) وولى على البصرة عبد الله بن عامر (من صغار الطلقاء من بني أمية) ثم لما عزل الوليد بن عقبة بسبب شكوى أهل الكوفة ولى مكانه سعيد بن العاص (من طلقاء بني أمية أيضاً) فأصبحت كل الولايات الإسلامية المهمة في أيدي (طلقاء بني أمية) المقربين من عثمان بن عفان رضي الله عنه إضافة إلى أنه أرجع الحكم بن أبي العاص (أحد الطلقاء من بني أمية) إلى المدينة وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) قد نفاه إلى الطائف بسبب استهزائه بالنبي (صلى الله عليه وسلم) وتجسسه عليه وكان الحكم قد استأذن راغباً العودة إلى المدينة فلم يأذن له أبو بكر ولا عمر في العودة وأذن له عثمان، والحكم هذا عم عثمان بن عفان وجعل ابنه مروان بن الحكم كاتباً له بل أصبح لمروان دور كبير ومكانه لا يستهان بها داخل بيت الخلافة ومروان هذا تابعي لم تكن له رؤية ولا صحبة ولم يكن مرضياً عنه من قبل الصحابة. وهكذا أصبحت وصية عمر بن الخطاب (ألاَّ يجعل بني أمية على رقاب الناس) وعهده لعبد الرحمن بن عوف (أن يسير بسيرة الشيخين) محل انتقاد عند معارضيه من الصحابة أو من غيرهم من أجناد الولايات الإسلامية. -إذن فتولية- عثمان لأقاربه من بني أمية على الولايات الإسلامية مع العجز عن مراقبتهم ومع كون معظم هؤلاء من طلقاء بني أمية الذين لم يسلموا إلا آخر الناس ولا زالوا يحملون أطماعاً مادية ولم يكونوا أفضل من غيرهم في تولي أمور المسلمين في كل الولايات الإسلامية إضافة إلى أن هؤلاء الولاة وثقوا في حب عثمان لهم ووقوف مروان بن الحكم –كاتب عثمان ومستشاره- معهم ضد المعارضين فزاد فسادهم وتجاوزهم في الأموال والمظالم وزادت شكاوى الناس حتى وصل أمر الناس وشكايتهم إلى الصحابة فرأى بعض الصحابة أن ينصحوا عثمان لكن مروان -(مع سائر بني أمية)- كانوا قد تمكنوا من فصل عثمان عن الصحابة الكبار مثل علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأكثر الأنصار ولهؤلاء الصحابة وغيرهم محاولات في إصلاح هذا الشأن وكان عثمان لكبر سنه ووثوقه في مروان وحبه لقومه متردداً بين قبول آرائهم وبين الثبات على ثقته في ولاته وفي مروان وفي جل سياساته المالية والإدارية. ومن هنا بدأ الشد والجذب وبدأت الأسئلة تنهال على عثمان بن عفان: لماذا أعطيت مروان هذا؟ ولماذا ضربت عمار بن ياسر؟ ولماذا نفيت أبا ذر؟ ولماذا عزلت فلاناً مع صلاحه ووليت فلاناً مع فساده وعدم أهليته؟ ولماذا؟ ولماذا؟… وكان عثمان يرى أنه مادام أنه الخليفة فله الحق أن يولي من يشاء ويعزل من يشاء ويتفضل على من يشاء وينفي ويضرب ويسجن… وما إلى ذلك فالحاكم حاكم ولا بد له من ضبط الأمور بالترغيب والترهيب، بالعطاء والمنع، بالتولية والعزل،000الخ فهذه من حق الحاكم وليس لأحد الاعتراض على ذلك ألا من كانت له مظلمة واضحة ضد والٍ من الولاة. لكن المخالفين لعثمان سواءً من الصحابة أو من عموم الناس يرون أن الأمر يطول، فقد اتخذ الأمراء بطانات سيئة تجمع الأموال ولا توزع الحقوق بالسوية ومن الصعب رفع الشكاوى الفردية لأن السخط عام والموافقون لهؤلاء الولاة إما أن يكونوا مستفيدين أو مخدوعين أو خائفين من تغير الأمور إلى الأسوأ. ومن سوء حظ علي بن أبي طالب أن كثيراً من هؤلاء الثوار ومعهم كثير من الصحابة من المهاجرين والأنصار يرون أن علياً أكفأ الناس لتولي الخلافة وكبح الجماح الأموي نحو البذخ والاستعلاء الذي ينتج عنه الظلم والأثرة والعصبية القبلية. فكان الثوار يأتون إلى علي ويشكون سوء الأحوال فكان علي –كغيره من كبار الصحابة بالمدينة- ينصح عثمان ويحاول جهده أن يكون وسيطاً بين طرفين مختلفين أشد الاختلاف. وكان طلحة والزبير ومعهما عائشة رضي الله عنهم كانوا ينتقدون علناً سياسة عثمان[1] وكان الثوار يأتونهم أحياناً لكن لم يكن للثلاثة من التوهج مثل ما لعلي بن أبى طالب الذي أصبح مرشحاً لتولي الأمور لو تنازل عثمان أو نُحِّي أو قتل، فلذلك كان بعض الصحابة ومعهم بعض الثوار يطلبون من عثمان التنازل لأنه لم يعد بقدرته أن يجد الحل لهذا الاختلاف الكبير، فلم يعد الناس يثقون في ولاته ولا في كاتبه مروان ولا هو يثق في الناس، وإذا زال عامل الثقة بين الولاة والناس أصبح من الضروري تغيير هذا الوالي، أو تغييرهم، وإذا كان تغيير الناس متعذراً فلم يكن هناك بد من تغيير الوالي حتى ولو كان مظلوماً، فإن رفض الحاكم ذلك يكون قد فرض على الناس من لا يريدون. ولكون علي هو المرشح الأقوى بعد عثمان بل كان مرشحاً للخلافة بعد النبي (صلى الله عليه وسلم) عند بعض المهاجرين والأنصار فقد بدأ في آخر عهد عثمان تياران في النمو وهما تيار العلوية (الشيعة) وتيار العثمانية (النواصب). فالعلوية هم المتشيعون لعلي المحبون له الذين يرون فيه الرجل المظلوم الذي ضيعه قومه والذي تخاذل عنه الناس فلم يزل مدفوعاً عن المكان الذي يستحقه منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى وقته هذا على رأيهم. ويرى العثمانية أن تنامي المعارضة لعثمان وميلها إلى علي وهتفها باسمه دليل على أن هناك قطباً آخر معارضاً للخليفة كما أن كثيراً منهم قد يشك بأن لعلي دوراً في مقتل عثمان فالأخبار قد تصل مشوهة أو محرفة مع صعوبة إدراك كل ما يجري إضافة إلى أن اجتماع الثوار بعلي وسماعهم منه واستجابتهم له لا بد أن يثير الشكوك عند هؤلاء العثمانية وخاصة عند الولاة لأن هؤلاء الثوار سيبلغونه بأحوال الولاة والولايات الإسلامية ويبلغونه بالمظالم وربما يبالغون فيها والولاة يعرفون صرامة علي في هذه الأمور، ويعرفون أنه متى ما وصل إلى الحكم فإن مصالحهم ستكون في خطر بالعزل أو المحاسبة على الأموال والمظالم السابقة ولذلك لجأ تيار العثمانية -فيما بعد- إلى التقليل من شأن علي مع اتهامه ظلماً بخذلان عثمان أو التحريض عليه أو المشاركة في قتله. هذان التياران (تيار الشيعة المعتدلة وتيار العثمانية) وُجدا في آخر عهد عثمان بن عفان. كان تيار الشيعة يغلب عليه الفقراء وجمهرة السابقين إلى الإسلام كعمار بن ياسر والمقداد وأبي ذر وأبي أيوب و00الخ ومعظم هذا التيار بالمدينة والعراق ومصر. وكان تيار العثمانية يغلب عليه الأغنياء والولاة ورؤساء القبائل الذين عاملهم الولاة معاملة خاصة ليكسبوا ودهم وكان معظم هذا التيار بالشام. وبدأ الصرع الخفي بين التيارين بلا تأسيس أو مباركة لا من عثمان ولا من علي، لكن وجود أناس مع عثمان ووجود أناس مع علي وكل يحمل وجهة نظر مغايرة للآخر، يدل على أن عثمان وعلي على علم تام بهذا الاختلاف وإن لم يرضيا من الفريقين أن يوسعا جانب الشقاق. ورغم أن طلحة والزبير وعائشة وعبد الرحمن بن عوف كانوا أكثر نقداً ومعارضة لعثمان من علي وكان علي أدفع عن عثمان منهم إلا أنه نظراً لقلة أنصارهم فإن معارضتهم لعثمان لا يعرفها كثير من الناس مع أنها مشهورة ومذكورة بأسانيد صحيحة لكن اشتهرت مناصحة علي لعثمان ومآخذته له مع أنها أقل لوجود من ينشر هذا عن علي وربما وجود من يبالغ فيه أيضاً. ولا ريب عندي أن علياً وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم كانوا حريصين على الإصلاح لكن هذا الإصلاح يصطدم بتيار العثمانية المحيط بعثمان كمروان بن الحكم مثلاً، فيرى تيار العلوية أن هؤلاء الطلقاء كمروان ومعاوية والوليد.. أصبحت الأمة بأيديهم لا بيد عثمان وأنهم –الطلقاء وأبناءهم- استولوا على نتائج جهود النبي (صلى الله عليه وسلم) وجهود الصحابة في إقامة الدولة الإسلامية العادلة وأن هؤلاء الطلقاء عملوا التفافاً على المهاجرين والأنصار واستحوذوا على عثمان وأصبحت الأمور بأيديهم في مدة قياسية لا تتجاوز عشرين سنة على وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)!! ولا ريب أن هذا الأمر عند الصحابة يعد مؤلماً إذ كيف تضيع جهود النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه السرعة ويتحول هؤلاء الطلقاء إلى ولاة لأمر الناس من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان وكانوا يستغربون كيف سمح عثمان لهؤلاء بأن يتبوأوا هذه المنزلة الكبيرة بهذه السرعة!!. وبدأ الصراع يتفاقم والملحوظات تجمع والتاريخ ينبش، والثوار يجمعون المآخذ فعثمان لم يحضر بدراً وعثمان تغيب عن بيعة الرضوان وهرب يوم أحد وأجار ابن أبي السرح وحرق المصاحف وحمى الحمى و000الخ. إذن فلا يصلح مثله في نظرهم أن يبقى حاكماً على الناس، إذن يجب أن يعزل نفسه أو يعزل بالقوة، لأن هؤلاء الطلقاء والمستفيدين أصبحوا يحتمون بعثمان وكرمه وسماحته ويستغلون مكانته ومنصبه وحبه للإحسان إلى قرابته وو000 وكانت قاصمة الظهر هي تلك الرسالة التي كتبها مروان بن الحكم –على الصحيح- إلى والي مصر يأمره بقتل الثوار الذين خرجوا إلى عثمان وعلى رأسهم محمد بن أبي بكر الصديق وعبد الرحمن بن عديس البلوي –وهو من الصحابة- وغيرهم[2]. فرجع هؤلاء الثوار وهم أشد عزماً على أن يعزل عثمان نفسه وإلا عزل بالقوة لأنه أصبح لا يستطيع أن يدير الأمور بنفسه ، بل يديرها مروان بن الحكم وأمثاله من أهل الريب فطلبوا تسليم مروان لأن القرائن عندهم قامت على تهمته، بينما عثمان لم يكن يرى أن يسلمهم مروان لأنهم سيقتلونه لا محالة، وخطأ مروان ليس حكمه القتل فهو متأول ظنهم مفسدين في الأرض فافتأت على عثمان وكتب ذلك الكتاب المشئوم. وبدأ الصراع الفعلي إذ تطور إلى السلاح ولما رأى علي أن الأمر قد تفاقم إلى هذا الحد وأن التيارين –وخاصة العثمانية- لا يلتزمان بالاتفاقات السابقة فإن من الأفضل له الاعتزال[3]، فاعتزل في بيته معترفاً بعجزه عن إصلاح الأمر لأن كل طائفة تتهمه بالميل مع الطرف الآخر فمن كانت حاله هكذا فاعتزاله أولى فهو لا يستطيع أن يعد الثوار بشيء ثم لا يفي به ولا يستطيع أن يؤثر على عثمان حتى يغيّر –عثمان- بعض السياسات والأمور التي يمارسها تيار العثمانية من داخل قصر عثمان ومن خارجه ذلك التيار الذي بدأ وكأنه يتصرف نيابة عن الخليفة. وكان عثمان إلى هذا الوقت يثق في قرابته ولا يظن ما يبلغه عنهم صحيحاً ويتأول للمخطئ منهم. وبعد حصار وصراع بين الطائفتين قُتل رجل من الثوار بعد أن رماه بعض من في دار عثمان بسهم أصاب منه مقتلاً فطلب الثوار من عثمان تسليم قاتله فأبى عليهم عثمان فعندئذٍ زاد سخطهم ولم يكونوا يتوقعون –لا عثمان ولا الثوار- أن يصل الصراع والقتال الخفيف بالأسلحة إلى إزهاق النفوس. وخشي هؤلاء الثوار أن يتطور الأمر فرأى بعضهم تعجيل الأمر بإجبار عثمان على التنازل أو قتله وليكن بعد ذلك ما يكون. فتسلق بعضهم دار عثمان بمساعدة من بعض جيران عثمان فدخلوا عليه بيته وقتلوه ولكن قاتله المباشر قد قتل فوراً، قتله عبد لعثمان ثم قتل ذلك العبد فأصبح من كل فريق قتيلان. ثم خرج المتسلقون من دار عثمان وكان أكثرهم يرون في علي الرجل الأمثل والأكفأ لتولي الحكم لكن لم يكن رأيهم وحدهم فقد كان المهاجرون على هذا الرأي وكذلك كان يرى الأنصار (وهم جمهرة الصحابة يومئذٍ).
[1] هذا ثابت عنهم بأسانيد صحيحة تفصيل ذلك في كتاب لي عن (الفتنة ومقتل عثمان- لم يطبع). [2] بعض الدراسات المعاصرة ترجع أسباب الفتنة لعبد الله بن سبأ وهذا باطل لأن عبد الله بن سبأ إنما افترى دوره في الفتنة إخباري كذاب اسمه سيف بن عمر وقد خالفه كل من كتب عن الفتنة من المحدثين والمؤرخين من الثقات والضعفاء قبل سيف وبعده (التفصيل في كتابنا: عبد الله بن سبأ بين الحقيقة والأسطورة، لم يطبع). [3] مع حرصه على ألاَّ يمس عثمان بسوء ولذلك أرسل ابنيه الحسن والحسين لحماية عثمان فكانا عند باب عثمان مع غيرهما من أبناء الصحابة0 وكان الصحابة كعلي والزبير وسعد000 حريصين على سلامة عثمان مع حرصهم على أن يستجيب لبعض مطالب هؤلاء الثوار بإبعاد أهل الريب من قصر خلافته ومن الولايات الإسلامية ولم يكونوا يظنون أن الأمر سيصل إلى مقتل عثمان وإنما ظنوا بأن الفريقين –عثمان والثوار- سيدركهم الملل من الحصار وسيقبلان الصلح عندما يتعبون من بقاء الأمور معلقة فيصبح هناك فرصة للإصلاح وتقارب في وجهات النظر000 (التفصيل في كتابنا الفتنة الأولى ومقتل عثمان- لم يطبع).
|