***
أدرك يا قراء أنه ليس مهما أن أتحدث عن
أفغانستان أو طالبان أو القاعدة..
نعم..
ليس ذلك مهما..
لأنه لو لم تكن أفغانستان لكان المحاصر
والمحارب بلدا سواها.. بشرط أن يكون عربيا أو مسلما.. وسيكون..
ولو لم تكن طالبان لكان سواها.. وسيكون..
ولو لم
يكن أسامة بن لادن لكان أي واحد من مليار وربع مليار يشهدون أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول
الله.. وسيكون..
تفاصيل التاريخ ليست مهمة.. ولا كذلك
تفاصيل الجغرافيا..
المهم هو العقيدة.. فالحرب عليها..
وليست علي شئ آخر..
نعم .. فهي حرب على الإسلام..
لكننا في نفس الوقت نحتاج إلى المعلومات
الأساسية التي فقدناها بعد مائتي عام من
التطوير الذي يعيد الإنسان إلى مخلوق دون الحيوان والتعليم الذي ينشر الجهل
والإعلام الذي ينثر الكذب والحداثة التي تعني الكفر[1]!! وتقصف الإيمان.. لا بوسائل الإعلام فقط.. بل بصواريخ كروزو
وتوماهوك وقاذفات البى 52 الثقيلة ..
وربما كان هذا التجهيل المنظم الذي
يمارس بدأب شديد، هو الذي أوقع كاتبا كبيرا كمحمد حسنين هيكل في خطأ فادح، حين قرر
أن المنطقة من المغرب حتى الصين لا تحتوى
إلا علي دولتين حقيقيتين فقط، هما مصر وإيران، أما باقي الدول فهي كيانات
رخوة وهشة، وبقدر ما كان هيكل مخطئا في المقدمات فقد كان مصيبا
في الاستنتاج بعد ذلك حين قرر أن هذه الهشاشة ستدفع بالولايات المتحدة إلي
إعادة رسم الخرائط وتكوين الدول، لكن الذي
لم يفطن إليه، أن هذا الكيان الهائل المترامي الأطراف لم يكن – ولا هو – كيانا هشا
بل شكل دولة إسلامية هائلة مترامية الأطراف ظلت أقوى دولة في الدنيا ألف عام، و أن
ما يصفه هيكل بالدول الهشة ليس إلا شظايا
تلك الدولة الإسلامية وبقاياها، والتي يحرص الغرب علي ألا تتجمع مرة أخري، وفي
سبيل حرصه ذاك، راح ينشر بيننا – من خلال عملائه بيننا- الجهل بالتاريخ، مبتسرا
نظرية الفراغ التي تحتاج إلي من يملؤه،
والذي لن يكون سوي إمبراطورية الشيطان بطبيعة الحال.
لم تكن المنطقة فراغا..
وليسمح لي القارئ باستطراد طويل، كي
نثبت أن هذه المنطقة مروية بدم الشهداء..
***
أفغانستان في التاريخ ..
عندما ننظر في أطلس للجغرافيا نفاجأ كم
أن أفغانستان قريبة.. لكن التجهيل والتغريب جعلها من منظور الوعي بعيدة جدا..
يقسم علماء الجغرافيا السياسية آسيا إلى ست
مناطق جغرافية متباينة هي جنوبي آسيا( الهند وباكستان وبنجلاديش و بوتان
ونيبال وسريلانكا ومالديف) وشمال شرقي آسيا( اليابان والصين والكوريتان
ومنغوليا) وجنوبي شرقي آسيا(تايلاند وكمببروناي والفليبين) وجنوب غربي آسيا(
أفغانستان وإيران والعراق وتركيا وسوريا ولبنان ودول شبه الجزيرة العربية)
ووسط آسيا والقوقاز( قازاخستان و طاجيكستان و أوزبكستان وقيرغيزيا و
تركمنستان وأرمينيا).
أليس مفاجئا للقارئ أن يكتشف أن
أفغانستان تنتمي لنفس المنطقة التي تشمل سوريا والسعودية والعراق ولبنان؟!.
ثم أنه ليس ثمة شئ يوجع القلب قدر أن
تنظر إلي الخارطة فتري بلد الإسلام جسدا واحدا متكاملا تم تمزيقه، ومساحة واحدة
متصلة تم تقطيع أوصالها.
يقول
محمود المستيري[2] أن العقبة الكأداء التي لا تزال
تحول دون تواصل بلدان المنطقة ، والإسراع بتشكيل خريطة آسيا الوسطى الجديدة ، هو
الوضع الراهن في أفغانستان . ومن ثمة فإن السلام في هذا البلد من شأنه أن يسهم في
ربط الصلة بين بلدان المنطقة الذي يؤلف بينها الانتماء للدين الإسلامي وللحضارة
الإسلامية ، كما من شأنه أن يقدمها للعالم ككتلة متكاملة مترامية الأطراف تتمتع
باستقلالها السياسي والاقتصادي والأيديولوجي ، قوة جديدة ذات كيان خصوصي بإمكانها
تحقيق التوازن الجبهي في صلب آسيا برمتها .
***
وعندما ننظر في كتب الدين نفاجأ أن
أفغانستان قد أعطت الأمة الإسلامية بعضا من أعظم كنوزها الفكرية. فهي بلاد أبي
حنيفة والبيهقي والبلخي والهروي وابن حبان البستي وعلى حدودها بلد الترمذي
والنسائي والبخاري وهي بلاد (قطز) قاهر التتار (ومحمود الغزنوي) فاتح الهند، وهي
بلاد الفخر الرازي؟ وابن قتيبة؟ وإمام الحرمين (الجويني) والبيروني والبدخشي
والفارابي وابن سناء والجورجاني.
نعم.. أنجبت أفغانستان إمامين جليلين من
أئمة الفقه هما (أبو حنيفة) (80هـ ـ150هـ) الذي ينتسب عن طريق جده إلى كابل، و(أحمد بن حنبل) (164 ـ 241هـ) الذي
ولد بمدينة (مرو).
كما برز فيها من المحدثين: أبو أيوب
السجستاني صاحب السنن الذي توفي سنة 275هـ إلى جانب كثير غيرهم من المفسرين
والمحدثين وأبو حامد الغزالي والسرخسي
والبيهقي والنيسابوري..
هل تندهش أيها القارئ لأن معظم المسلمين
لا يعلمون شيئا من ذلك..
حق لك أن تدهش.. فكل دهشة هي وصمة عار
في جبين التغريب في بلادنا وعمليات نشر الجهل والتفاهة لا العلم والثقافة.
***
وعندما
نقرأ في كتاب للتاريخ نفاجأ أن تاريخنا واحد.. وأننا كنا لفترات طويلة ولايات في
دولة واحدة..
تعتبر أفغانستان مهد الآريين الذين
نزحوا إليها من سهول تركستان الغربية وانتشروا بعد ذلك في فارس وشمالي العراق
وأوربا وشمال الهند، لذا عرفت في القديم باسم (إيريانا) وهم أول من أسس مدينة
(بلخ) التي كانت مركزاً لتعاليم الديانة (الزرادشتية) وقد غزا سيروس ملك الفرس
مدينة بلخ عام 540 ق.م، ثم غزاها الإسكندر المقدوني حوالي عام 330 ق.م وأسس مينتي
(هيرات وقندهار) وقد دام حكم الإغريق لأفغانستان حوالي مائتي عام، وفي القرن الأول
قبل الميلاد وقعت تحت احتلال امبراطورية
(كوشانية) ثم حكمها الساسانيون، فالهونيون البيض، ولما فتحها المسلمون كانت تحت
حكم الإمبراطورية الفارسية، وكانت أفغانستان الحالية جزءًا من (خراسان) ومعناها
(أرض الشمس)، وكان أهلها يعتنقون الديانة البوذية التي انتقلت إليها من الهند..[3] ومازالت منطقة (باميان) مزاراً
للبوذيين حيث يوجد فيها تمثال لبوذا منحوت في الصخر بارتفاع 55متراً[4].
الفتح الإسلامي:
في عام 18 هجرية (638م) أرسل الخليفة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قائده عياض بن غنم عام والصحابي الجليل حذيفة بن
اليمان صاحب سر الرسول صلى الله عليه و سلم حيث انتشر نور الإسلام، فلم يأت عام 24
(644م) إلا و قد خضع جنوب القوقاز كله للحكم الإسلامي وذلك خلال ست سنوات فقط من
الجهاد.. وفي طليعة الذين قدموا إلى خراسان: قُثَم بن العبّاس، وهو ابن عمّ النبيّ المرسل صلّى الله عليه وآله،
وكان له شبه كبير بالنبيّ صلّى الله عليه وآله في الشمائل، وقد شارك في فتح
أفغانستان الحالية ثم استشهد في مدينة سَمَرقَند.
ولما رأى آخر الأكاسرة انتصارات
المسلمين في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب فر إلى خراسان، فتابعه القائد
المسلم الأحنف بن قيس التميمي ففتح هراة ومرو عام (22هـ / 644م) ثم فتح (بلخ) عنوة
حيث هزم يزدجرد. وبعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه امتدت الفتوحات الإسلامية
إلى كابول ونيسابور وبهق، وفي العهد الأموي فتح محمد بن القاسم الثقفي بلاد السند،
وفي العهد العباسي ظهرت في هذه البلاد دويلات إسلامية كالصفاريين والغزنويين الذين
كان من أشهر ملوكهم (محمود الغزنوي) (365هـ ـ 387هـ) والذي اشتهر بفتوحاته في
الهند، وقد بلغ عدد حملاته عليها سبع عشرة حملة خلال سبعة وعشرين عاماً. وبعد أن
تعاقب بعده اثنا عشر سلطاناً انهار حكم الغزنويين على أيدي الأتراك السلاجقة ثم
(الغوريين).
ثم انضمت أفغانستان للدولة المغولية عام
1233م.
ويصدق على أفغانستان مقولة: "إنها
مقبرة الغزاة"؛ فعلى مدى تاريخها الطويل لم يستقر بها فاتح غير الإسلام بعدما
اعتنق أهلها الإسلام، فبريطانيا الكبرى لم تستطع أن تستقر بها إلا سنوات معدودات خاضت
فيها حروبًا شرسة ضد الأفغان، وخسرت في إحداها جيشًا كاملاً قوامه (16) ألف مقاتل،
ولم تجد سبيلاً أمامها إلا الاعتراف باستقلال أفغانستان، ويصف الأمير "شكيب
أرسلان" المسلمَ الأفغاني بقوله: "لا ينام على الثأر، ولا يقبل أن يطأ
الأجنبي وطنه، ولا يواطئ العدو على استقلال بلاده".
وبين الدب الروسي الجائع والمستعمر
النهم ، كانت أفغانستان هي الحديقة الخلفية التي تنازع عليها "السارقان"
: روسيا وبريطانيا، فاللص الروسي الطموح يرى في أفغانستان منفذه على القارة
الهندية ومياه الخليج الدافئة التي تجعل من أسطوله قوة مرعبة ، أما المستعمر
البريطاني المتمرس فقد كان يرى في سقوط ممر خيبر في أيدي
الروس بداية التسلل إلى المستعمرة الأهم في منظومة منهوباته العديدة (الهند)....
وحدها أفغانستان لقنت القوتين الظالمتين درساً قاسياً لكل مستعمر زنيم.. فلا
بريطانيا العظمى نجحت في تطبيق قانون الانتداب والاستعمار السائد في ذلك العصر على
هذه البقعة الاستراتيجية، ولا روسيا القيصرية ، بكل آمالها وطموحاتها حققت نجاحاً
يذكر في مغامرتها الأفغانية !.[5]
وقد استمر هذا الصراع مع تفتت العالم
الإسلامي حتى أبرمت هدنة بين الروس الذين
كانوا يواصلون استيلاءهم علي خراسان وبين الإنجليز الذين كانوا قد قضوا علي الدولة
الإسلامية في الهند، وكان ذلك عام 1290 هـ
– 1873 م حيث اتفق الطرفان علي أن يكون نهر جيجون حدا فاصلا.
لم تظهر أفغانستان ككيان خاص منفصل عن الدولة الإسلامية الأم إلا
في عام 1737م، وفي عام 1739 استطاع (محمد نادر شاه) سلطان إيران أن يفتح
أفغانستان، ولكنه اغتيل على يد أحد ضباطه واسمه (أحمد شاه) الذي استلم السلطة
واتخذ من قندهار عاصمة له، وتسمى (دري دوران) أي ( درة العصر) وقد حكم من (1747م ـ
1773م) [6]، وخلفه ولده (تيمور شاه) الذي نقل العاصمة إلى
كابل، ولما مات عام 1793م تعرضت البلاد لمعارك داخلية انتهت بإعلان (دوست محمد)
أميراً على الأفغان عام 1835، بعد أن فر (شجاع الملك) إلى الهند حيث طلب العون من
بريطانيا لإعادته إلى عرشه فأرسلت بريطانيا جيشاً هندياً إلى قندهار وكابل استطاع
إعادة شجاع الملك إلى عرشه عام 1839م، ولكن الأفغان رفضوا الإنجليز المحتلين،
وقاموا بثورات واضطرابات أدت إلى قتل المعتمد البريطاني في كابل، وازدادت المتاعب
في وجه بريطانياً مما اضطرها إلى الانسحاب، وبينما كان جيشها منسحباً من كابل 1841 م كمن له (أكبر خان دوست خان) في أحد
الممرات الجبلية وهاجمه هجوماً عنيفاً أباده عن آخره. ولم ينج منه سوى ضابط طبيب
اسمه (برايدون) استطاع الهرب إلى (جلال آباد) حاملاً معه نبأ الفجيعة إلى الحامية
الإنجليزية فيها، وكان شجاع الملك قد توفي مما اضطر الإنجليز إلى التفاوض مع (دوست
محمد) والاعتراف به ملكاً على أفغانستان وبقي أولاده وأحفاده يتوارثون الإمارة،
ولكنهم عرفوا بولائهم لبريطانيا، وكان من أبرزهم (حبيب الله) الذي كان يستشير
الإنجليز في معظم أعماله، مما أثار عليه نقمة الوطنيين فاغتالوه، واعتلى العرش
بعده نجله الثالث (أمان الله خان) الذي اتخذ لنفسه لقب ملك أفغانستان في 28 شباط
(فبراير) 1919م. وكان رجلاً مغروراً بهره زيف المدنية الغربية فحاول نقلها إلى
البلاد وتطبيقها على المسلمين.، وحدث خلاف بينه وبين الإنجليز فسلطوا عليه الهند، فحقق الأفغان انتصارات
باهرة بقيادة السردار (محمد نادر خان) مما اضطر بريطانيا أن تعقد معاهدة في 21
تشرين الثاني (نوفمبر) 1921 تعترف فيها باستقلال أفغانستان التام.
وبقيام الثورة البلشفية عام 1917م، ورثت
الإمبراطورية السوفيتية القياصرة في إدارة المنطقة. لكن القوى الكبرى في ذلك الوقت
- مثل بريطانيا العظمى وألمانيا واليابان -- رمقت المنطقة باهتمام بالغ ولعبت
مشاريع السيطرة برؤوس قادتها. فقد أرسل هتلر - خلال الحرب العالمية الثانية - حملة
كبيرة من جيشه إلى منطقة قزوين للاستيلاء على حقول النفط؛ لكن الحملة منيت
بالإخفاق. ولم يلجم تلك الأطماع إلا ذلك
التحالف الذي انعقد بين السوفييت والإنجليز ضد الألمان؛ وهو الحلف الذي وضع – في
نفس الوقت – نهاية للمواجهات التي تفجرت بين الإنجليز والسوفييت صراعا على نفط
قزوين. وظل الاتحاد السوفييتي محكما قبضته على المنطقة؛ فقد ضم جميع دولها تحت
علمه وفي قبضته خلال فترة ازدهاره؛ فلم تتمكن أي من القوى الدولية من الولوج إليها.
وكان أمان الله خان كان يميل إلى
التفرنج وتقليد أتاتورك. ومحاربة الإسلام
مما جعل الشعب الأفغاني المسلم يحمل عليه،
فحدثت مقاومة شعبية تحولت إلى ثورة قادها حبيب الله المعروف بلقب (بجه سقا)
أي ابن السقاء الذي اجبر أمان الله على الفرار إلي بريطانيا 1929 ونصب نفسه ملكاً على العرش. إلا أن أيام
ابن السقاء لم تدم اكثر من تسعة شهور. إذ
سرعان ما حرض الإنكليز ودعم الهنود محمد نادر خان (سفير أمان الله في باريس) فسيطر
على العرش. وتولى السردار (محمد نادر) الحكم في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 1929 ،
وطيلة فترة حكمه التي دامت أربع سنوات كان الشغل الشاغل لنادر شاه هو تصفية
الإسلاميين وقادة الحركة الإسلامية جسدياً حتى انبرى له عبد الرحمن (احمد أبناء
الحركة الإسلامية) واغتاله في عام 1933. فتولى العرش من بعده ابنه محمد ظاهر شاه
وله من العمر 19 سنة. فتميز حكمه الذي دام أربعين عاماً بتغلغل وازدياد النفوذ
الشيوعي حتى انقلب عليه ابن عمه محمد داود عام 1973 عندما كان (جلالته) يستمتع
برحلة على الشواطئ الإيطالية!! وبذلك انتهت الحقبة الملكية الطويلة في البلاد وقام
على أنقاضها النظام الجمهوري الجديد.
اشتد الهجوم الرسمي على الإسلام في عهد
الملك محمد ظاهر شاه الموجود الآن في روما مشاركا في المؤامرة علي بلاده[7]، وقد أسفر منذ توليه الحكم عن
علمانيته، في فترة لم يكن المسلمون المستضعفون يجرءون علي المجاهرة بأن العلمانية
كفر، وكان شديد الإعجاب بكمال أتاتورك، وهو ، كوالده الذي اغتيل في النصف
الأول من الثلاثينيات، سعى إلى استبدال الحرف الأفغاني المكتوب بالعربية، بحرف
لاتيني، وقرر أن الحجاب ليس فرضا ، وأفتى بأن الخمر ليس حراماً، وينقل عنه بنو
قومه، انه في الخمسينيات، عمد إلى إقامة مآدب غداء في شهر رمضان عوضاً عن مآدب
الإفطار، تشجيعاً منه لتجاوز أفغانستان للإسلام.
كان عميلا لبريطانيا، وصديقا للولايات
المتحدة ، كما كان صديقا للهند، عدوا للباكستان، مقطوع الصلة بالعالم العربي،
ثقافته فرنسية، أما موقفه من الإسلام بالتعبير الأفغاني فهو: الطلاق.
***
ألغى محمد داود النظام الملكي الذي حل محله النظام الجمهوري وأظهر عداءه العلني للإسلام والمسلمين، فبدأ
حملة ضد الحركة الإسلامية في أفغانستان، واعتقل المئات من الشباب والشيوخ، وقتل
العشرات منهم، وأغلق مركز البحوث الإسلامية في الجامعة، ومنع الصحف والمجلات
الإسلامية من الصدور، وقلل عدد الحجاج الأفغان إلى الربع، وأصدر منشوراً يمنع
النهي عن المنكر، ويعتبر المساس بالشيوعية أو مهاجمتها جريمة يعاقب عليها القانون،
وفي نفس الوقت سمح للشيوعيين أن يمارسوا نشاطهم بكل قوة، وفتح أبواب أفغانستان
أمام الخبراء والمستشارين الروس الذين كانوا يضمون في صفوفهم أعدادا كبيرة من رجال
المخابرات الكي. جي. بي الذين اقتصرت مهمتهم على البحث عن افضل الطرق للوصول إلى
السلطة. ولكنه في نهاية المطاف أراد أن يغير سياسته تجاه موسكو ويحد من نفوذ الحزب
الشيوعي، إلا أن الوقت كان متأخراً لذلك بعد أن سيطر الشيوعيون على مؤسسات البلاد
ولا سيما العسكرية منها، فأوعزت موسكو إلى عملائها بتدبير انقلاب عسكري قاده
الجنرال عبد القادر في إبريل سنة (1978م) حيث
قام تراقي - مستشار داوود- بانقلاب عليه، وقتله مع أسرته جميعا، وأبقى دمه
على سجادة القصر ليراه الشعب ، وقتل في الأيام الأولى من حكمه خمسة عشر ألف مسلم،
وأصدر تراقي عدة قوانين مخالفة للإسلام
وصادر بعض الممتلكات، وأمر بوقف البرامج الإسلامية في الإذاعة، وحذف المواد
الدينية من المدارس والجامعات واستبدلها بالآراء الشيوعية والاشتراكية، وفرض على
الفلاحين والعمال والنساء دورات تربوية في الثقافة الاشتراكية.
بعد هذه الإجراءات أصدر العلماء فتوى
بتكفيره، ووجوب الجهاد لإسقاطه، ولفتوى العلماء وزن ثقيل في ميزان الشعب الأفغاني،
ولها أعمق الأثر في إثارته وتحريكه، فهبت بعض القبائل على أثر الفتوى وهجمت على
هرات واحتلتها ورفعت فوقها راية التوحيد، وتجمع أكثر من مائة ألف في مؤتمر شعبي في
هرات احتفالا بالنصر، وتصميما على مواصلة الزحف على مؤسسات الدولة، وعندها
وجه تراقي قواته الجوية والبرية، وسحقت بالصواريخ والمدفعية حوالي ثلاثين ألف مسلم
-على أقل التقديرات- في يوم واحد، وكانت حاادثة هرات مسمارا في نعش تراقي، إذ انفجرت المقاومة في أنحاء
كثيرة في أفغانستان، فأخذ تراقي يتصرف بجنون، فكان يحرق القرى بكاملها، ويكفي
مثالا على هذا قرية (كرهالة) التي جمع كل
شبابها البالغين (1116) شابا وقتلهم جميعا
. وراحت المقاومة تزداد يوما بعد يوم ضد
تراقي، وهبت القبائل بفطرتها الإسلامية تتصدى لنظام تراقي، وهو لا يدع وسيلة
بربرية أو وحشية إلا استعملها ضد الشعب، حتى وصل عدد الشهداء في زمانه حوالي مائتي
ألف شهيد، وكان حفيظ الله أمين أقوى رجل في حكومة تراقي، وفي مارس-آذار سنة (1979م) أصبح أمين رئيسا للوزراء،
وفي أوائل سبتمبر- أيلول سنة (1979م) ساءت العلاقات بينه وبين موسكو لرفضه
تعيين من أمرته بتعيينهم في حكومته، فأوعزت بقتله، فأخبره أحد الضباط بالمؤامرة
فنجا من خطة اغتيال. وسرعان ما تبعتها خطة أخري تم فيها إطلاق الرصاص عليه في
15-9-79 لكنه نجا و أمر بإعدام تراقي.
واستمرت الحرب مشتعلة أيام حفيظ الله أمين
الذي حكم ثلاثة أشهر فقط، فبدأت روسيا تستعد لاقتحام أفغانستان، وحشدت قواتها على
الحدود استعدادا للدخول، وعلم أمين بنية
روسيا للإطاحة به وحكم أفغانستان بجنودها الحمر مباشرة، فاتصل بباكستان ليقابل
رئيسها قبل دخولهم بأسبوع، وهو يرى المقصلة تنتظره على يد من نصبه حاكما على عرشه، إلا أن القدر لم يمهله، واقتحمت
أساطيل روسيا أرض أفغانستان حيث احتلتها في نصف يوم وقتلت أمين، ونصبت عميلا جديدا
اسمه بابراك كارمل، جاءت به من روسيا بعد يومين على طائرة هليكوبتر وأذاع
بيانه الأول من محطة موسكو وكابل. وكارمل هو زعيم الجناح الآخر للشيوعيين اسمه
(برشم) بينما كان تراقي وأمين من جناح (خلق).[8]
لقد أراد الاتحاد السوفيتي بالإضافة إلي أطماعه القديمة - أن تكون
أفغانستان عازلا بين الثورة الإسلامية في
إيران وبين الجمهوريات الإسلامية التابعة لها. لكن الله جعل تدميره في تدبيره.
1- الموقف الباكستاني
نظرت باكستان إلى الغزو السوفيتي
لأفغانستان باعتباره تهديدا لأمنها القومي وأنها الدولة الثانية المستهدفة بعدها،
ففتحت مطاراتها لاستقبال الوافدين إليها للقتال إلى جانب المجاهدين الأفغان.
2- الموقف السعودي
رأت السعودية أن الاتحاد السوفيتي يخطط
لتطويق أراضيها عبر قوس يمتد من اليمن الجنوبي في جنوب الجزيرة العربية والحبشة
بدعم الحكومة العسكرية اليسارية في الصراع على إقليم أوغادين ومحاربة المقاتلين في
إريتريا، فقامت بدور كبير في إرسال الراغبين في القتال بأفغانستان من مواطنيها
وغيرهم بتوفير تذاكر سفر وخطوط الطيران الدائم إلى بيشاور وإسلام آباد، كما دفعت
هيئات الإغاثة السعودية إلى العمل في بيشاور وأفغانستان لصالح العرب والأفغان.
3- الموقف المصري
قام الرئيس أنور السادات بإمداد
المجاهدين الأفغان بصواريخ صقر 20، وكان في هذا موافقة للرغبة الأميركية بعد طرد
الخبراء والمستشارين السوفيت من الجيش المصري عام 1972 والتوجه إلى الغرب
والولايات المتحدة. وكانت أمريكا قد أوكلت إلى السادات شراء الجهاد الأفغاني
لحسابها، فاستدعاهم فذهب بعض القادة، فوعدهم السادات بتكوين حكومة لهم في المنفى
وأن يمدهم بالسلاح والمال، واختلف المجاهدون في قبول العرض، وتمزق الاتحاد
الأفغاني للجهاد، ووصل التمزيق إلى الداخل
مما أدى إلى سفك دماء بعض المجاهدين بيد الآخرين. وبقي المجاهدون ممزقين حتى عادوا
وكونوا الاتحاد الإسلامي لمجاهدي أفغانستان، وذلك بسعي بعض الصادقين من العالم
الإسلامي، وعلى رأس هؤلاء الأستاذ كمال السنانيري الذي مكث فترة متفرغا في بيشاور، يحاول أن يرأب الصدع ويلم الشعث،
ولعل هذا كان سببا في قتله داخل سجون
مصر!!.[9]
4- الموقف الكويتي
لعبت الكويت كذلك دورا مهما إبان تلك
الفترة في مساعدة الجهاد الأفغاني وبخاصة فيما يتعلق بالجوانب الإغاثية، فأسست
المستشفيات والمدارس والمعاهد التي كان الأفغان العرب يستفيدون منها في تعليم
أبنائهم والعمل فيها أحيانا.
وقد سارعت كل هذه الدول إلى تقديم
مختلف أنواع الدعم للجهاد الأفغاني، فاعترفت بالحكومة المؤقتة للمجاهدين برئاسة
صبغة الله مجددي الذي استقبله الرئيس السادات أكثر من مرة هو والوفد المرافق له في
قريته بميت أبو الكوم وزودهم بالسلاح بالتنسيق مع المملكة العربية السعودية
والولايات المتحدة الأميركية، وأمر بتشكيل لجنة للتضامن مع الشعب الأفغاني برئاسة
هارون المجددي الأمين العام المساعد لجامعة الشعوب الإسلامية التي أعلنت مصر
إنشاءها عوضا عن الجامعة العربية التي انتقلت إلى تونس عقب توقيع معاهدة السلام
المصرية الإسرائيلية عام 1979.
وسارع الأزهر الشريف إلى إصدار فتوى تصف
من يتعاونون مع القوات الروسية على أرض أفغانستان بالخيانة وتصف كذلك كل حكومة
"تقوم لتمكين أقدام الروس في أرض أفغانستان بأنها حكومة غير شرعية".
5- رابطة العالم الإسلامي:
نشطت رابطة العالم الإسلامي في السعودية
ولجان وجمعيات العمل الخيري في الكويت والإمارات وقطر بافتتاح مراكز إغاثية وأخرى
صحية ساعدت في مجملها الوجود العربي على الاستمرار في القتال إلى جانب الأفغان.
6- الموقف الأمريكي:
طوال عقد الثمانينيات تدخلت الولايات
المتحدة لدعم المجاهدين الأفغان في مواجهة الاتحاد السوفيتي لاعتبارات استراتيجية،
فقد شهدت الأعوام من (1970-1980) تقدماً
شيوعياً في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، كان لا بد من وقفه من وجهة نظر
الإستراتيجية الأمريكية، ومن ثم دفع الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان في
استمرارية منطق الحرب الباردة، وفرض سباق التسلح، وأخذ يؤكد أهمية كسر التمدد
السوفيتي ولو في منطقة واحدة؛ تمهيداً لدفعه نحو التراجع، وكانت أفغانستان الساحة
الرئيسية للنزال، وعلى ذلك اتفقت المصالح
بين المجاهدين الأفغان والولايات المتحدة لاستنزاف الاتحاد السوفيتي، ومن
الصعب التكهن كيف كانت الولايات المتحدة تتوقع أن يتصرف المجاهدون بعد انتصارهم،
وهل تستطيع احتواءهم، وربما كانت تجربتها مع حكام العالمين العربي والإسلامي ترجح
هذا التصور، لكن حرصها من البداية على استمرار الفرقة بين المجاهدين يشير إلى
الهواجس التي كانت تنتابها. على أي حال
فقد أطلقت عليهم وسائل الإعلام الأمريكية في ذلك الوقت : "مقاتلو
الحرية" “The Afghan Freedom Fighters"،. وبدأ جهاز استخباراتها سي . أي. إيه)
في تقديم الدعم المالي والتسليحي عبر الجيش والاستخبارات الباكستانية إلى
المجاهدين والأفغان العرب، ويرى البعض أن
الدعم المادي السعودي للمجاهدين الأفغان كان أربعة أضعاف الدعم الأمريكي لكن
انتهاء الحرب الباردة أدى إلى تغيير الأولويات من الولايات المتحدة والقسم الأكبر
من التيارات المسلحة التي ساهمت في الجهاد الأفغاني[10].
نتيجة لهذا التشجيع السياسي على المستوى
الرسمي وما صاحبه من دعايات استندت إلى منطلقات دينية انتشرت فتاوى وجوب الجهاد ضد
القوات السوفيتية الغازية. ونشط بعض الدعاة الذين يتمتعون بالقدرة على تجييش
المشاعر الدينية مثل الدكتور عبد الله عزام الذي كان لتسجيلاته وزياراته الدعوية
وكتبه التي تتحدث عن انتصارات المجاهدين الأفغان والكرامات التي تحدث لهم مثل كتاب
"آيات الرحمن في جهاد الأفغان".. كان لهذا كله دور مهم في إقبال
المتطوعين العرب على باكستان وأفغانستان[11].
كذلك برز المليونير السعودي أسامة بن
لادن بإقامته معسكرات لاستقبال المتطوعين والإنفاق على إعاشتهم وتدريبهم خاصة
الشباب القادم من دول الخليج العربي، فأسهم في إنشاء مكتب الخدمات، وبيت الأنصار
الذي أصبح منطلق تنظيم القاعدة بعد ذلك.
ضحى الشعب الأفغانى بأكثر من مليون ونصف المليون من الشهداء، وخمسة
ملايين مهاجر، وأكثر من مليوني أرملة ويتيم ومعاق؛ أو من الأنصار الذين خرجوا
بأنفسهم وأموالهم فلم يرجعوا من ذلك بشيء، سُفكت دماؤهم، وأنفقت أموالهم ابتغاء
مرضاة الله والدفع عن إخوانهم المضطهدين في أفغانستان[12].
كان ثلث الجيش السوفيتي قد أصبح يحارب
في أفغانستان: من 350000- 400000 جندي وضابط
وبرغم الأساليب الوحشية التي اتبعها في تدمير أفغانستان بطريقة الأرض
المحروقة واستخدام آلاف الطائرات والدبابات فقد وجد أن بقاءه في أفغانستان ضرب من
المحال فقد تعدي قتلاه عشرات الألوف وكان يخسر يوميا أربعين إلى ستين مليون دولارا.
وفي إطار سياسة البيروسترويكا تم إقصاء
كارمل في 4 مايو 1986 وتنصيب نجيب الله رئيساً جديداً بدأ حكمه بسلسلة من
التنازلات والتستر خلف الشعارات الإسلامية واللعب على التناقضات القبلية لتثبيت
موقعه في السلطة. ورجحت كفة المعارك الجانب الأفغاني في مطلع 1987 حين بدأ انتشار صواريخ ستينجر
التي قدمتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي ايه إلى المقاومة وبسرعة فائقة
خسر السوفييت السيطرة على الأجواء الأفغانية فيما تراجعت قبضتهم على هذا البلد
الجبلي الوعر شيئا فشيئا حتى أعلنت موسكو عن سقوط 15ألف قتيل، وهذا هو الرقم
المعلن، أما الحقيقة فهى أعلى بكثير. وكان الاتحاد السوفيتي نفسه كان قد بدأ يتفكك
فانسحب آخر الجنود السوفييت من البلاد في 15 فبراير 1989 وجاء قرار الانسحاب ليؤكد
هزيمة فادحة على الأرض.
بعد أن يأست روسيا من البقاء وافقت مع
أمريكا أن تبحث عن البديل بعد الانسحاب، فحاولت أمريكا أولا أن ترجع الملك ظاهر شاه لأن روسيا اشترطت أن لا
يكون البديل (إسلاميا ) ولا مانع عند روسيا أن يكون البديل هو (الإسلام الأمريكي)
فليكن الملك هو البديل. وأرسلت أمريكا بعض ربائب الحكم الملكي ليفاوض الملك محمد
ظاهر شاه الذي يقبع في إيطاليا، فعقد الملك مؤتمرا صحفيا
وقال: أن المجاهدين دعونني لاستلام أفغانستان، فرد سياف وكان آنذاك
رئيسا للاتحاد الإسلامي لتحرير
أفغانستان بأن أصدر منشورا : (نرحب بالملك
لنقتله في المطار).
بعد ذلك حاول نجيب الله بدعم سوفييتي أن
يكافح لمجرد الاستمرار إلا انّه لم يستطع مواصلة الطريق فأعلن في 16 نيسان 1992
نهاية حكمه والشيوعية معاً ولجأ إلى مقر الأمم المتحدة ، ومن ثم قُتل .
يصف عبد الله أنس[13]
قصة الخروج الروسي من أفغانستان فيقول:
كان عام 1989 عام الأحداث الضخمة في
أفغانستان. ففي مطلعه، تحقق الانتصار. هُزم الجيش الأحمر وخرج ذليلاً يجر أذيال
الخيبة من المستنقع الأفغاني. خرج مُنبئاً ببدء انهيار الإمبراطورية السوفيتية
ومُحققاً ما يقوله الأفغان عن بلادهم إنها مقبرة الإمبراطوريات . وهكذا ما كادت
سنوات طويلة أن تمر، حتى تغيّر الطاقم الحاكم في الكرملين وجاء زعماء جدد بدءوا
بتصفية تركة أسلافهم.
ويوم 14شباط (فبراير) 1989 كان يوماً
للتاريخ. فيه أكمل الجيش الأحمر سحب قواته من أفغانستان بعدما غرق في رمالها
المتحركة طوال عشر سنوات. وكُنت شاهداً علي هذا الحدث. يومها كنت أقف علي مرتفع
بسيط في منطقة تقع بين بانشير وباروان. حملت منظاراً أراقب من خلاله آخر الدبابات
والعسكريين الروس يودعون الأراضي الأفغانية عائدين إلى بلادهم. كانت فرحتي لا
توصف. فهذا الجهاد الذي بدأ بالعصي والخناجر والحجارة، وصل إلى الحد الذي هزم فيه
أقوي قوي الأرض تسليحاً، وها أنت تراها بعينيك تجر أذيال الخيبة راجعة إلى الاتحاد
السوفيتي. ولا أزال أذكر أن الروس ودّعوا منطقة بانشير، وهم منسحبون، بقصف جوي
نفذته أسراب من طائراتهم. قصفوها حقداً. تجولت في المنطقة بعد انسحاب الروس. كنت
أينما تطلعت أري دبابات وشاحنات عسكرية روسية مدمرة أو محروقة. صرت أعدها. ظللت
أعدها طوال يوم كامل. دبابة، إثنتان، ثلاث... حتى وصل العدد إلى ألف دبابة وشاحنة
مدمرة في بانشير. وزار الشيخ عبد الله عزّام المنطقة بعدها. تجوّلت وإياه من أولها
إلى آخرها.
في العدد الأول من نشرة المرابطون التي
أصدرتها الجماعة الإسلامية من بيشاور تحدثت زوجة عزام (أم محمد) عن وقائع وملابسات
حادثة اغتيال زوجها فقالت: بعد خروج زوجي وأولادي من البيت بخمس دقائق فقط سمعت
صوت انفجار شديد فأحسست في قلبي شيئاً خرجت من المطبخ ودخلت الحجرة التي كانت تجلس
فيها إحدى الزائرات وزوجة ولدي محمد فسألتهن هل سمعن صوت الانفجار فأجبن بالنفي
وسألنني هل تعتقدين أن الانفجار في المسجد، قلت: لا أظن لأنه أبعد من المسجد فقلن
لي توكلي علي الله فخرجت من الحجرة ولكنني لم أستطع أن ارجع إلى المطبخ فتوجهت إلى
الحجرة الأخرى حيث يوجد الهاتف واتصلت بمكتب الخدمات فأجابوا انهم لا يعلمون شيئاً
فأغلقت الهاتف واتصلت بالمستشفي فقلت لهم ماذا حدث للدكتور عبد الله عزام فقالوا
لي لقد استشهد. قلت الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون، واتصلت مرة أخرى بمكتب
الخدمات وقلتُ لهم أرجو أن تخبروني بالتفصيل ماذا حصل ولا تخفوا عن شيئاً فنحن لها
وما جئنا من بلدنا إلا من أجلها فقال المتحدث: الشيخ في خطر، قلت له بل استشهد
ولكن أريد أن أعرف هل الانفجار في المسجد أم في السيارة فقال لي في السيارة فقلت
الحمد لله إذن الأولاد الثلاثة الكبار استشهدوا معه، فالحمد لله صبر جميل والله
المستعان. اللهم أجرني في مصيبتي وأبدلني خيراً منها.
وعندما سمعنني البنات وأنا أحمد واسترجع
قلن لي ما الخبر؟ ماذا حصل؟ أين أبانا؟ هل هو بخير؟ قلت لهن نعم إنه بخير عند ربه
فبكين. قمت إليهن وقلت لهن: قلن الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون. وقلن اللهم
أجرنا في مصيبتنا وأبدلنا خيراً منها وأخذت أهدئهن وأقول لهن: لماذا جئنا إلى هنا
لقد جئنا من اجلها، وبعد ذلك توضأت وصليت الظهر وجاء أبو الحسن أخذنا إلي بابي حيث
مقبرة الشهداء حتى نودعهم .
***
إذن، حمل العام 1989 انتصاراً عظيماً
للشعب الأفغاني الذي بذل تضحيات جساماً في سبيل تحقيقه. لكنه حمل أيضاً فاجعة
كبيرة للأفغان والعرب علي حد سواء، بفقدانهم الأب الروحي للقضية الأفغانية في
العالم الإسلامي الشيخ عبد الله عزّام.
***
من (جنين القسام) وتحديداً من قرية
(سيلة الحارثية) إحدى قرى جبل النار، وهي قرية (الشهيد يوسف أبو درة) أحد أفراد
الثورة الكبرى عام 1936م ولد عبد الله عزام في عام 1941م وقد قيل أن لكل اسم من مسماه نصيبا، وقد أقام
الحجة على كل مسلم، وعلم الجمع أن شجرة الإسلام لا ترتوي إلا بالدم الطاهر الزكي،
فقد كان درس استشهاده في 24/11/1998، وحديث دمه أبلغ ما ترك للجيل، عزام ظاهرة
فريدة، فهو العالم والمربي والمجاهد، إنه مدرسة قرآنية. لم يكن يخشي في الله لومة
لائم، فاعتلى صهوة الجهاد، ترك حياة الترف، وانتقل إلى قواعد (الشيوخ) في الأردن
والتي شنت هجمات عسكرية عدة على قوات الاحتلال الغاصب، حيث كان أميراً لقاعدة بيت
المقدس، وخاض عدة عمليات ومعارك ضد جيش الاحتلال، فكانت على سبيل المثال معركة الحزام
الأخضر، ومعركة 5 حزيران 1970، وكان عبد الله عزام قائد الوحدة
المنفذة، وقد استشهد فيها ثلاثة من الإخوان، ثم عملية سيد قطب. ولما أغلقت
أبواب الجهاد في فلسطين، وكان (د. عبد الله عزام) أستاذاً في الجامعة الأردنية
انتقل للعمل في الجامعة في المملكة العربية السعودية ثم في الجامعة الإسلامية في
باكستان، وهناك عاود رحلة الجهاد عبر جبال أفغانستان، ولم يكن ذلك يشغله عن
فلسطين، بل كان يرى أن إقامة دولة إسلامية حجر الأساس لتحرير فلسطين، فكان يقول لن
يهدأ لنا بال، ولن يقر لنا قرار حتى نعود للجهاد في فلسطين. بل أنه أجرى اتصالات
وساهم في إعادة تشكيل تنظيم المجاهدين، وتأسيس حركة المقاومة الإسلامية حماس،
وكتب كتابه (حماس الجذور التاريخية والميثاق)، وربما ساهم ذلك في اتخاذ قرار
اغتياله على مستوى عالمي، وفشلت محاولتان ونجحت الثالثة، وقد كانت الشهادة أسمى
أمانيه، ويهتف (أيها المسلمون حياتكم بالجهاد، وعزكم بالجهاد ووجودكم مرتبط
ارتباطاً مصيرياً بالجهاد، يا أيها الدعاة لا قيمة لكم تحت الشمس إلا إذا امتشقتم
أسلحتكم، يا مسلمين تقدموا لقيادة الجيل الراجع إلى ربه، ولا تركنوا إلى الدنيا،
وإياكم وموائد الطواغيت، فقد ضاعت بلاد المسلمين بقعة بقعة وتسلط على رقابنا
الطغاة، وانتشر في أرضنا البغاة ونحن ننتظر.. فهل تتحركون لإنقاذ الأمة … يا نساء
المسلمين إياكن والترف فهو عدو الجهاد، وربين أبنائكن على الخشونة والرجولة
والبطولة والجهاد، ولتكن بيوتكم عريناً للأسود وليست مزرعة للدجاج الذي يسمن
ليذبحه الطواغيت … ربين أبنائكن على نغمات القذائف ودوي المدافع وأزيز الرصاص،
وهدير الطائرات والدبابات، وإياكن وأنغام الناعمين وموسيقى المترفين)[14].
رحل الشهيد عبد الله عزام بعد أن أسس
مدرسة الجهاد والمقاومة، وأصبح معلماً بارزاً وركناً عتيداً في قلعة الجهاد
والاستشهاد.
***
انتهت الحرب الأفغانية وانقلب قادة
المجاهدين بعضهم علي بعضهم الآخر، ولم تكن الأصابع الأمريكية بعيدة عن هذه
الخلافات.
إننا لا ننكر مسئولية الفصائل
الأفغانية، بل وندينها بمنتهى القوة، لكننا في الوقت نفسه لا نغفل عن مسئولية
إمبراطورية الشيطان. و إذا رجعنا إلى جارودى وتشومسكى وعبد الوهاب المسيري بل
والعديدين من الفلاسفة الأمريكيين فسوف نكتشف مقولة هامة ترسخت في الفكر الفلسفي
في أمريكا منذ عقد الستينيات، هذه المقولة هي أن الولايات المتحدة حين فقدت
إيمانها بالله فقد فقدت معه إيمانها بالإنسان أيضا. تلك معلومة بديهية هناك،
يعرفها الجميع لكن لا يتحدث عنها أحد.
يترتب على هذه المعلومة البديهية أن
أمريكا، مع التطور التكنولوجي الهائل في العلوم قد طورت أيضا تقنيتها في العلوم اللاإنسانية
والشر. فراحت تغوص لتقتنص أحط ما في الإنسان من صفات.. وراحت تنميها.. وتساعد
عليها.. وتقمع في نفس الوقت كل صفة نبيلة بمنتهى القسوة والتوحش والعنف.
وعلى سبيل المثال فإن محمد حسنين هيكل
يورد واقعة موحية إذ يقول:
" إن وكالة المخابرات المركزية
الأميركية تورطت حتي الركب في أفغانستان وشطحت وشردت الي درجة أن فريق عمل من
رجالها قضي ستة شهور في وضع تقرير عن الشذوذ الجنسي لدي الزعماء الأفغان، وأهمية
استخدامه في تطويعهم! وكنموذج ميداني أشارت الوكالة الي معركة عنيفة طالت شهورا
بين زعيمين حول غرام كليهما بصبي اكتشفه أولهما، ثم خطفه الثاني.."..
نعم.. لقد استخرجت إمبراطورية الشيطان
أحط ما في البشر من غرائز وراحت تلعب بها وعليها.. إن لكل إنسان نقطة ضعف.. فإن لم
توجد خلقتها بالإغراء والغواية.. فإن لم تفلح سلطت إعلامها لينشر الافتراءات
والأكاذيب.
كان السادات واحدا ممن أدركوا هذه
اللعبة القذرة عندما قارن بين العذاب الذي عاش فيه جمال عبد الناصر لأنه عادى
أمريكا والرفاهية التي عاش فيها شاه إيران لأنه رضى أن يكون عميلا. لكن السادات
نفسه قد عاش ليدرك أن قذارة إمبراطورية الشيطان ليس لها حدود.. فقد تخلت عن شاه
إيران نفسه.
بهذه الخسة الشيطانية وبهذا الانحطاط
وبآليات بالغة التعقيد نجحت أمريكا في الحفاظ على جذوة الخلاف بين أحزاب المجاهدين
الأفغان منذ بداية الجهاد السوفيتى، ولنتذكر قتل السنانيري في بداية الجهاد كى
يمنعوا الاتفاق ثم قتل الدكتور عزام في نهايته حتى يفجروا البذور التي زرعوها.
مشكلتنا أنه حتى من لديهم حسن النية لا
يتاح لهم أن يقرءوا من سيناريو إمبراطورية الشيطان إلا صفحة واحدة من رواية من ألف
صفحة.. يقرءون تلك الصفحة ويطلقون أحكاما مطلقة دون بحث في الدوافع في الصفحة
السابقة والنتائج في الصفحة التالية..
لم تكن إمبراطورية الشيطان تهزل.. كان
لصمتها قصد ولصوتها مغزى.. ولقد نجحت..
وربما لهذه الأسباب كلها نجد أن أصدقاء
الولايات المتحدة في كل مكان في العالم.. أصدقاءها من الحكام والنخب.. يتسمون
بصفات بالغة البشاعة.. فلا يمنع أي واحد منهم من ارتكاب أي جريمة إلا لأن هذه
الجريمة غير متاحة له أو أنه لم يكلف بها.. نعم .. أمريكا منحطة.. و أصدقاؤها
كذلك.
وبهذا الانحطاط استطاعت أن تفعل في قادة
المجاهدين ما فعلت.. و أن تفعل بالمجاهدين العرب الأفاعيل.
إننى هنا أستطيع أن أتصور أن قصة
المجاهدين العرب في أفغانستان كانت مكتوبة في أضابير المخابرات الأمريكية منذ
بداية الغزو الروسي وحتى نهايتهم الفاجعة في قلعة جانجي وتورا بورا.. كانت الخطوط
الرئيسية موضوعة أما التفاصيل فهى متروكة
للظروف.. لتفاصيل سياسة الفعل ورد الفعل.. و أتصور على سبيل المثال أن شيطانا
مريدا في الـ CIA
قد جلس وفكر ثم تدبر فوضع الخطة لتفريغ العالم العربي من أفضل شبابه.. من
المتحمسين للجهاد.. والذين قد يعوقون مخططاته فيها ذات يوم.. إنه بداية بهذا
يعرفهم ويكشف أمر أولئك المستعدين للموت في سبيل الله.. ثم يضعهم في أفغانستان في
ظروف تؤدى إلى قتل الكثيرين منهم.. أما من يبقى فإنه يستطيع عن طريق الاختراق و
إغماض العينين أن يستغلهم لتأديب بعض عملائه الذين يتمردون أحيانا عليه.. ثم يستغل
هذا الوضع الأخير مرة أخري ليدفع هؤلاء العملاء إلى مطاردة أبناء أمتهم واتهامهم
بالإرهاب.. فيقتل هؤلاء أولئك ويقتل أولئك هؤلاء.. وعندما يطمئن إلى نجاح كل هذا..
و إلى تبنى معظم الحكام لتحريضه على الإرهابيين فإنه يطهر لهم المفاجأة الكبرى:
أنتم أيضا إرهابيون.. فالإرهاب أصل في دينكم.. ثم يختلق أزمة يبيد فيها من بقى من
المجاهدين وقد أمن أي تمرد من عملائه بعد أن بلغوا من التورط المدى الذي بلغوه..
نعم.. أظن أن الحكاية كانت هكذا.. منذ
البداية.
***
مع اشتعال القتال والتناحر بين
المجاهدين الأفغان السابقين وجد الأفغان العرب أنفسهم بين خيارين كلاهما مر: الأول
أن يقسموا أنفسهم بين فصائل المجاهدين الأفغان فيتقاتلوا ويتصارعوا ويصوبوا فوهات
مدافعهم وبنادقهم إلي بعضهم بعضاً، أو أن يرحلوا تاركين تلك الأرض التي رووها
بدمائهم وزُرعوا فيها وترعرعوا في صحرائها
وبين دروب جبالها. فاختار غالبيتهم الحل الثاني ورحل. ولكن بلادهم استقبلتهم أسوأ
استقبال.. وبدلا من أن يستقبلوا كأبطال استقبلوا كخونة، واضطر بعضهم إلى العودة
إلى أفغانستان مرة أخرى.
أما في أفغانستان فقد خيب الصراع بين الأحزاب الأفغانية آمال المسلمين في
العالم. وكانت كل القوى تعمق من هذا الصراع، وكانت أمريكا خلف كل هذه القوي.
***
خلال أوضاع الحرب بين الأحزاب أهملت
المحافظات وأصبحت نهباً للعصابات وقطاع الطرق، وأصبحت الفوضى وانعدام الأمن هي
السمة السائدة، وأصبح الناس لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم ولا على
أعراضهم، وارتفعت أسعار المواد الأساسية لكثرة الإتاوات التي تأخذها العصابات في
الطرق من التجار، والتي يدفعها في النهاية المواطن المسكين، وأصبحت الفرصة متاحة
لأصحاب الشر والفساد من الشيوعيين السابقين وغيرهم من المجرمين، فأصبحوا يسرحون
ويمرحون في البلاد من غير رقيب ولا حسيب، يبتزون الناس بأخذ أموالهم والعبث في
أعراضهم وإتلاف نفوسهم[15].
تجلى التغير في الموقف الأمريكي من
المجاهدين الأفغان سريعاً بعد خروج السوفيت من أفغانستان، ثم تدعم أثناء حرب
الخليج الثانية في مواجهة العراق، فبعد الانسحاب السوفيتي في عام 1989 حدث نزاع
بين أجهزة صنع السياسة الخارجية الأمريكية؛ في حين أيدت الخارجية التعاطي مع الملف
الأفغاني بالتنسيق والتشاور مع القيادة السوفيتية – قبل سقوط الاتحاد السوفيتي –
دعت الأجهزة العسكرية والاستخبارات إلى دعم الفصائل الأفغانية للقيام بعمل عسكري
حاسم لإسقاط حكم نجيب الله، وبالنسبة للمعونات حدث تخفيض في قيمة الدعم المقرر
للفصائل الأفغانية من 300 مليون دولار إلى 250 مليون دولار، ثم تقرر قطع هذه
المعونات كلياً بالاتفاق مع المملكة العربية السعودية عن الأحزاب التي أيدت غزو
العراق للكويت أو التي رفضت التدخل الأمريكي في الخليج، وقد صاحب هذا التغير
الأمريكي وتبعا له تغير سعودي وباكستاني انصب في اتجاه دعم أحزاب أفغانية ضد أخرى،
والمطالبة باعتقال قيادات الأفغان العرب.[16]
ولقد استطاع الدكتور عبد الله عزام
والشيخ أسامة بن لادن أن يكونا – بالقدوة والمثل – مجموعة من المجاهدين يصفهم
الجنرال الباكستاني المتقاعد أنور شيربعد
ذلك بقوله : "إن العرب هم أفضل المقاتلين لدي طالبان. ومن الممكن لمجموعة تضم
30 مقاتلا من العرب الأفغان أن تشتبك مع كتيبة قوامها ألف فرد ، وتقتل مائة من جانبهم
قبل أن يسقط من جانبها قتيل واحد ".
ولقد طرح منتصر الزيات، محامي الجماعات
الإسلامية مأساة الأفغان العرب مؤكدا أن
الولايات المتحدة كانت لها مصلحة أكيدة في استئصال الوجود الروسي (السوفيتي
سابقاً) من منطقة آسيا خصوصاً في هذه البقعة الاستراتيجية جغرافياً والغنية أيضاً
بالثروات الطبيعية التي تحيط بها. هذه المصلحة دفعت الولايات المتحدة إلي إبرام
تحالف مع عدد من الدول العربية والإسلامية من أجل السماح للحركات الإسلامية من
مختلف البلدان بالوصول إلي منطقة بيشاور التي كانت نقطة الانطلاق إلى داخل الأراضي
الأفغانية . وشملت أوجه المعاونة كل المراحل التي تقتضيها بدءاً بتوفير فرصة السفر
والوصول إلي بيشاور ومروراً بالاستقبال في معسكرات أقيمت خصيصاً لهذا الغرض في
بيشاور وكان من أبرزها معسكر القاعدة الذي أشرف علي تجهيزه أسامة بن لادن.
وكان الشيخ عبد الله عزام رحمه الله
رائداً في أداء هذا الدور وافتتاحه لمكاتب خدمات المجاهدين حتى داخل الولايات
المتحدة.
يضيف منتصر الزيات أنه قد زار شخصياً مكتب خدمات المجاهدين في نيويورك
(!!) في منطقة بروكلين[17] عام 1991.
كانت هذه المعسكرات فرصة سانحة للشباب
العربي الطيب الذي لبي نداء الجهاد ووفد من مختلف البلدان العربية والإسلامية في
التعارف والاندماج وتلاقي الأفكار وتقليبها. وتلاقت (مصلحة) الولايات المتحدة في
طرد الروس من هذه المنطقة المهمة مع (مصلحة) الجماعات الإسلامية في تفعيل الفريضة
الغائبة (الجهاد) والمشاركة من خلال الشعور الديني المتجذر داخلهم في دحر العدوان
الشيوعي علي بلد مسلم وما يتيحه ذلك لهم من التدرب علي كل فنون القتال.
وطوال الفترة من عام 1979 حتى 1992 لم
تكن هناك مشكلة تعكر صفو هذه العلاقة أو تهدد تلك المصالح المشتركة، لكن
وللموضوعية أيضاً كانت بدت المخاوف والشكوك تثور لدي الحكومات العربية من تصدير
عناصر تنتمي إلي تلك الجماعات المقاتلة في أفغانستان من أجل المشاركة في شن عمليات
عنف داخلها مواكبة للأزمات التي كانت برزت بين إسلاميين وحكومات عربية مثل مصر
والجزائر علي النحو الذي رددته بعض الدوائر بمناسبة اغتيال رئيس مجلس الشعب المصري
رفعت المحجوب عام 1990. علي كل حال لم تطرأ المشكلات التي تهدد هذه المصالح
المشتركة بين أميركا وحلفائها من العرب وبين الجماعات الإسلامية التي نوهنا إليها
إلا بعد تحرير العاصمة أو قبيل ذلك بقليل ودخول المجاهدين كابول وتولي أول حكومة
للمجاهدين بزعامة صبغة الله مجددي حين بدأ بعض الدول العربية يمارس ضغوطاً علي
حكومة المجاهدين من أجل ترحيل الأفغان العرب إليها وعدم منحهم حق الإقامة أو
الجنسية.
وخشي آلاف الشباب العربي من العودة إلي
بلدانهم في تلك الآونة مع تزايد المعلومات عن وجود تدابير أمنية مشددة تواجه كل
العائدين من أفغانستان. وعززت هذه المخاوف بقوة الإعلان في مصر عن تشكيل محكمة
عسكرية استثنائية لمحاكمة العائدين من أفغانستان وفي أقل من شهر صدرت أحكام بإعدام
عشرة متهمين منهم وأحكام أخري مشددة بالسجن علي باقي المتهمين.
ويضيف منتصر الزيات: وناشدنا الحكومة المصرية آنذاك بضرورة إصدار
قرارات تشريعية وتنفيذية تؤدي إلي العفو عن كل الشباب الذين شاركوا في الجهاد علي
أرض أفغانستان والعمل علي عودتهم إلى بلادهم لكن أحداً لم يسمع تلك النداءات
المخلصة.
وكان طبيعياً أيضاً أن تكون المعسكرات
المفتوحة داخل أفغانستان علي الحدود الباكستانية هي المكان المناسب لإيواء آلاف
المضطرين إلي البقاء فيها هرباً من مصير مجهول داخل بلدانهم ثم تنقلوا بين دول
البلقان نصرة للمسلمين المضطهدين فيها ومعاونتهم بما اكتسبوه من خبرات قتالية
أثناء فترة الجهاد الأفغاني ضد الروس فشاركوا في البوسنة وكوسوفو والشيشان.
ويختتم الزيات حديثه الفاجع عن عملية
الغدر التي تعرض لها الأفغان العرب بقوله: لم نقصد مما سردناه أن نقدم تبريرات
للأفغان العرب بقدر ما أردنا أن نقدم صورة تبرز تفاصيل وحقائق تتعلق بالظروف التي
أحاطت بوجودهم أولاً وأيضاً تلك التي أعاقت عودتهم إلي بلدانهم بطريقة اعتيادية،
وندلل علي أنهم لم يكونوا تجار حروب مرتزقة. نختلف أو نتفق مع بعض أفكارهم لكن كان
مهماً أن نلقي الضوء حول تداعيات الأحداث التي جعلت منهم إرهابيين بفعل الظروف
الدولية واصطناع أدلة وهمية ساقت بعضهم إلى أعواد المشانق حيناً ومغارات الجبال
وكهوفها الوعرة حيناً آخر..[18]
وفى مقال للكاتب فهمى هويدى نشره
الأهرام عام 1992 تتبدي مأساة الأفغان العرب، الذين انتهى الأمر بهم شهداء في قلعة
جانجى وتورا بورا و أماكن أخري. يقول هويدي :
تنتاب المرء حالة من الاكتئاب
والحزن، حين يقرأ في صحف الصباح أنه ألقى
القبض في أحد المطارات العربية على عدد من "المتطرفين" القادمين من
أفغانستان، وأنه حين جرى تفتيشهم عثر مع
بعضهم على كتب ومجموعة من أشرطة "الكاسيت"!
قبل أشهر ليست بعيدة، كان هؤلاء "مجاهدون" يحتفي بهم
في كل مكان، وتتناقل وسائل الإعلام
العالمية أنباء صمودهم وانتصارهم التي أزعجت الاتحاد السوفيتي، وأسهمت في زلزلة
قواعده حتى انتهى إلى ما نعرف0و حين كنا نزور باكستان في أي مناسبة، كانت الدعوة
إلى زيارة "بيشاور" ولقاء المجاهدين العرب ورجال الإغاثة هناك تضاف
تلقائيا إلى برنامج الزيارة لإتاحة الفرصة للباحثين العرب والمسلمين لكي يطلعوا
بأنفسهم على الصفحات المشرقة التي سجلها إخوانهم ممن استجابوا إلى داعي الجهاد
فتركوا متاع الدنيا ومضوا يبحثون عن الشهادة في سبيل الله0 اختلفت الريح واختلف
الخطاب، واقترنت كلمة "الأفغان" بالتطرف والإرهاب، بل وتحول المجاهدون إلى مشبوهين ومتهمين بحيث
غدت رحلتهم تلك دليلا يثبت التهمة بحقهم
ويبرر إدراج أسمائهم في السوداء بالمطارات وإلقاء القبض عليهم بمجرد
وصولهم ومصادرة المضبوطات التي يحملونها
حتى وإن كانت كتبا وأشرطة "كاسيت" ! . في مناسبات عديدة قلت إننا نرتكب
خطأ جسيما إذا ما عممنا الاتهام على الجميع،
وإن الكل ينبغي ألا يؤخذوا بجريرة الجزء إذا ما ثبت أن هؤلاء الأخيرين أتوا
أفعالا مما يعاقب عليها القانون، فذلك التعميم قد يصفى بعض الحسابات السياسية
الراهنة، لكن سهامه التي تطلق الآن تباعا، تصيب قيمة الجهاد ذاتها 0 ولو اعتبرنا
كل مجاهد مشبوها ومتهما وشاع ذلك الاعتقاد بين الناس، فمن يمكن أن يستجيب لداعي
الجهاد فيما بعد، إذا واجهت أمتنا ظرفا أستدعى استنفار شبابها واستنهاض همهم
للدفاع عن دين أو أرض أو عرض، وتهديد؟.. ذلك كله ليس افتراضا خياليا ولكنه احتمال
قائم، والبوسنة شاهد ملك على إمكانية حدوثه0 قلت أيضا إننا لا نملك ترف التفريط في
تلك الألوف من الشباب الشجعان، الذين ما أن وجدوا هدفا نبيلا يستحق أن يضحي من
أجله بالأرواح، حتى توافدوا من كل فج
متسابقين على الشهادة ، فمنهم من فاز بها،
ومنهم من لا يزال يتشوق إليها0كثيرا ما تساءلت أما من وسيلة لتوظيف طاقات هؤلاء
الإيمانية الجهادية لصالح هدف شريف من أهداف أمتنا؟ وهل يعقل أن يتوفر لنا ألوف
الشباب المستعد للموت ثم نعجز عن أن نستفيد منهم ونفشل في العثور على قضية واحدة
جديرة بأن يقدموا أرواحهم دفاعا عنها؟!.
***
كانت هذه هي قصة الأفغان العرب، فتية
آمنوا بربهم حرضتهم حكوماتهم على الجهاد
فلبوا النداء، وكانت تلك الحكومات نفسها
هي التي خانتهم بعد ذلك.
[1] - من الكتب التي تكشف بشاعة الفكر الأمريكي وكفر الحداثة كتاب بالغ القيمة للدكتور عبد الوهاب المسيري بعنوان رحلتي الفكرية- في البذور والجذور والثمر-الهيئة العامة لقصور الثقافة.
[2] - محمود
المستيري – أفغانستان-السياسة الغائبة السلام المسلح دار الجنوب للنشر ،تونس .
[3] -
أفغانستان – محمود شاكر- المكتب الإسلامي-بيروت..( وهو عالم في التاريخ، وليس
العلامة والمحقق المصري الشهير محمود شاكر).
[4] - وهو التمثال الذي هاج العالم علي أفغانستان عند
هد هدمه، نفس العالم الذي لم يتحرك عندما راحت الولايات المتحدة تهدم أفغانستان
كلها. هاجوا من أجل الحجر، ولم يتحركوا من أجل البشر.
[5] -أفغانستان درس في السياسة الدولية د. عبد الله عمر سلطان- مفكرة الإسلام.
[6] -ظلت
أفغانستان تحت حكم أسرة البشتون من 1747 حتى 1973 تاريخ الإطاحة بآخر ممثليها
الملك ظاهر شاه المنفي في روما حاليا
[7] -تعارض
الباكستان عودته للحكم فى أفغانستان لأنه لم يعترف بها عند إنشائها عام 1947 بسبب
اعتراضه على بريطانيا التي اقتطعت مساحات شاسعة من أفغانستان وضمتها للباكستان،
وتعارض إيران أيضا تواجده، لإدراكها أنه عميل و أن وجوده على حدودها خطر عليها،
يضاف ذلك إلى هواجس الكثيرين في إيران حول إمكانية أن تكرر واشنطن نفس اللعبة مع
نجل شاه إيران المقيم في الولايات المتحدة ، ويبث من خلال قناة تليفزيونية خاصة
العديد من النداءات والخطابات إلى الإيرانيين .
[8] - مجلة البيان- العدد 159.
[9] - مجلة
البيان- العدد 159.
[10] -مفكرة
الإسلام- الشبكة العالمية.
[11] - الدكتور
عبد الله عزام فلسطيني يحمل الجنسية الأردنية، وكان من أول من شاركوا في العمل المسلح ضد الكيان الصهيوني، وبعد
هزيمة 67 وتوقف العمل المسلح من الضفة الغربية حصل على الماجستير والدكتوراه من
جامعة الأزهر، ثم أبعد عن الأردن، فدرس في الجامعات السعودية، ومع الغزو السوفيتي
لأفغانستان انتقل إلى الباكستان، ويعد الأب الروحي للجهاد الأفغاني.
[12] - البيان-
العدد 165.
[13] - صحيفة الحياة
اللندنية- 5-11-2001.
[14] - رسالة
من موقع هداية 2000 على الشبكة العالمية.
[15] - مجلة
البيان- العدد 159.
[16] - مفكرة
الإسلام- الشبكة العالمية.
[17] - غاب عن
الكثيرين آنذاك أن ذلك ليس منة أمريكية تحمد عليها، فقد كان الهدف، جمع الأموال من
المسلمين والعرب في أمريكا، وكان لذلك أهداف متعددة، منها الرقابة على المتبرعين،
ومنها الإقلال من قوتهم الاقتصادية، وكانت الأموال التي تجمع هناك ستحسب –لأغراض
الدعاية على الأقل – على أنها أموال أمريكية.
[18] - إسلام
أون لاين نت.