تركيب لغوي منضبط ، مكثف ، وقد تتكرر بعض الكلمات والجمل الاعتراضية ، وأحيانا يسهب الكاتب في إعطاء أكثر من مرادف لكلمة واحدة أو فكرة  واحدة ، مما يكسر من أحادية السرد ويسبغ ملمحا شعريا جديدا على وجه القصة القصيرة المعاصرة . يتم ذلك دون أن تنتفي متعة القص ، دون أن يرشح حبر  الكاتب مفسدا صمت هذه الشخوص ، لأننا بصدد قصة _ فكرة ، تحاول أن تقف وحيدة ، مستغنية عن مفاصل كثيرة في جسد القصة، وفي طموحها هذا يبدو لنا أننا نواجه عالما بلا حكاية بيد أنه عالم حكّاء ، عالم يتخلق  الآن ،هنا فقط ، في النصوص السبعة ، جراء هواية لا شفاء منها : الإنسان ، وعلى وجه الخصوص : التفاصيل الإنسانية في حروبها النبيلة ضد الإهمال ، ضد العموميات وضد ما هو كلي ، مكتمل وقاهر : واقعة بسيطة تكمن بطولتها في أنها لا تحاول فقط أن تكون ، لكن أن تتكون أيضا ، سطرا إثر سطر ، عبر طريقة حرة ، لا تعول كثيرا على ذاكرتنا المتخمة بالبداية ،الذروة ثم النهاية .

يبدو لي أنها كتابة في مجابهة القبح ، قبح السرد حين يتوسل الواقع ، وحين يكون ذاكرة بلا رؤية وانتقاء ، مثلما هي أيضا كتابة لتمجيد الجمال القابع في قاع الإهمال ، وإنشاد مبالاة مؤثر حين نصاب بفوضى العالم لأول مرة . نصوص يصعب التعرف على مراجعها ، لأن وراءها خبرة ومعرفة غير متعالية على التنقيح، النقد ، والمراجعة ، ومن ثم تمزيق المسودات . وراء كل نص : كتابة ليست غفل ، إنما قصة ،وفكرة معتنية بخطوها في الطريق ، أحيانا ذلك لدى آخرين يفسد الحكاية ، بينما عند القصاص ذلك هو لب الحكاية وله فيها تصاريف وتنويعات . فلنحاوره ، احتفاءً  بصدور كتابه القصصي الأول : لهذا الصمت صليل غيابك .

 * قليلا ما  تنعم القصة القصيرة بشاعر ؟

 - لو لم أكن كاتب قصة ، لكان الأرجح صيرورتي إلى شاعر ذي قصيدة مهمومة بالسرد ، على نحو ما تفعل قصيدة سليم بركات ، مثلا . فالشعر كان ، منذ بداهة تكوني  الوجداني – الأدبي ، هو الجنس الإبداعي الأكثر تمكنا مني . ولو عدنا إلى أول نص قصصي كتبته ، وهو " عفوا ، كنت أمارس فيك العشق"، لقالت لنا بذلك – بغض الطرف عن شعرية السرد – بعض المقاطع الشعرية التي أطلت منه ، أي تلك التي ناهضت إتيانها – في شعاب نص سردي – إلا بتلك الهوية الواضحة. ولعلي كتبت تلك القصة بنية القصيدة . وأعتقد أن احتفاء نفر من الأصدقاء بذلك النص ، باعتباره قصة ، حتى قبل أن تنشر وجهني نحو السرد القصصي ، لا سيما وأنني كنت – بالتوازي مع غواية الشعر : أضمر غواية السرد . فأمعنت فيه ، آخذا معي أهم ما يفعل الشعر :  خصوبة الروح والمخيلة . تلك الطاقة التي تمنحك حساسية لغة تنأى بك عن التماثل الأسلوبي إذ تلوح لك بقوس قزح . تبتعد بك عن جفاف الإنشاء ، فيما تضعك على أهبة الندى . تقيك من ركود الصورة ، وهي تهيؤك لاحتفال المشهد .

على أنه كان علىّ أن انتبه ، مبكرا جدا ، إلى أن تلك الطاقة الشعرية ، فيما هي تفعل كل ذلك ، وغيره من خصائص  تميّز النص السردي – القصصي ، كان بوسعها أيضا – عند الإفراط في استخدامها – أن تتسبب له في عرج ما . فالتواشج عير المتكافئ ، بين أجنحة الشعر وعناصر أخرى تنهض عليها بنية السرد القصصي ، من شأنه أن يولد اختلالا لن تنجح براعة الأسلوب وجاذبيته في مواراته . فمن المهم إدراك أن الشعر حضرة ، بينما القصة فكرة . لهذا تجدني أزعم أن سردي القصصي ليس ممسوسا بالشعر ، إنما به مس من الشعر .

 

التالى السابق